تقنين الفتوى.. هل يقضي على الفوضى؟
د. عطية فياض





تقنين الفتوى.. هل يقضي على الفوضى؟
تحتل الفتوى الشرعية موقع الصدارة في اهتمامات وتتبع الوسائل الإعلامية المختلفة من فضائيات وصحف ومواقع نت وغيرها حتى من غير المختصة في هذا الجانب، ولا ينصرف هذا الاهتمام فقط للفتاوى الصادرة من المجامع الفقهية ودور الفتوى المعتبرة إنما توجد متابعة دقيقة لكل ما يصدر من رأي منسوب للشرع أيا كان قائله وموقعه الشرعي وخاصة إذا كانت تلك الفتوى من النوع المثير للجدل أو التندر أو التفكه أو تعارض توجها اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا لنظام دولة ما،
وقد اشتهر في الآونة الأخيرة من الفتاوى التي يتندر بها فتاوى: رضاع الكبير، وقتل ميكي ماوس، وتحريم الزلابية رغم وجود توضيحات وتصحيحات وتراجعات لهذه الفتاوى لكن لم يلتفت لها، ومن الفتاوى التي لا تزال تحتل مساحة كبيرة من الجدل فتاوى: ربا البنوك، تولي المرأة القضاء، ورئاسة الدولة، السلام مع العدو الغاصب الصهيوني وغيرها.
وإذا كان النوع الأول أثار موجة من الغضب تجاه من أصدروا هذه الفتاوى فضلا عن التعليقات المهينة للفتوى ولأهلها وللإسلام ككل، فإن النوع الثاني شهد قدرا كبيرا من الحدة في الخلاف واستقوى البعض بالمنصب والإعلام، وغاب عن المعظم فقه الخلاف وآدابه.
وقد ظهرت كثير من المصطلحات للتعبير عن هذه الظاهرة، فقيل "ظاهرة فوضى الفتاوى" و"صراع الفتاوى" و"قطار الفتاوى الجامحة" و"تضارب الفتاوى" وغير ذلك.
والحق أن كثيرا مما ذكر في هذه الفتاوى هو تهييج إعلامي وتحريف للكلم عن مواضعه، وفي بعض الأحيان تصفية حسابات إعلامية أو سياسية أو شخصية مع هذا الاتجاه أو ذاك.
ولسنا الآن في مناقشة الجانب الموضوعي للفتوى أو مناقشة طريقة التناول الإعلامي لكل ما يصدر متعلقا بالدين إنما نناقش ردة الفعل من المختصين في الفتوى حيث يكثر الحديث في هذه الآونة عن وجوب تنظيم الفتوى وضبطها إما بإقامة جهاز لمراقبة الفتاوى وضبطها وهو المقترح الذي ظهر تعليقا على ما ذكر في قتل ميكي ماوس وتحريم الزلابية[1]، أو بسن قانون يقصر الفتوى على نفر معين مرخص لهم رسميا بالإفتاء من قبل الدول التي يقيمون فيها.
وقد تبلور هذا المطلب بشكل عملي في صورة قانون أصدرته الأردن فيما عرف بقانون الإفتاء لسنة 2006 والمتضمن عددا من المواد تنظم شئون الفتوى، وقد حظرت المادة 12 من القانون المذكور على غير المعينين في وظيفة الإفتاء التصدي للفتوى بل وحظرت التشكيك في الفتاوى الصادرة من هذه الهيئة، ونصها كما يلي
"أ- لا يجوز لأي شخص أو جهة التصدي لإصدار الفتاوى الشرعية في القضايا العامة خلافا لأحكام هذا القانون.
ب- يحظر على أي شخص أو جهة الطعن والتشكيك في الفتاوى الصادرة عن المجلس والمفتي العام بهدف الإساءة والتجريح " وتسعى كثير من الدول الإسلامية لأن تحذو حذو الأردن في خطوتها هذه غير المسبوقة".
وفي نفس الاتجاه وإن كان أقل منه حدة مطالبة كثير من المهتمين بإنشاء مواقع وقنوات فضائية للفتوى، وتفعيل دور الإفتاء الرسمية في كل بلد للتواصل المباشر مع الجمهور، وتيسير الحصول على الفتوى من المصادر الرسمية بالاستفتاء المباشر أو بمطالعة الفتاوى السابقة، وقد تيسر إنجاز الكثير من هذه المشروعات في الفترة الأخيرة.
وبعيدا عن البحث في مقاصد هذه التوجهات والأفكار، فإن مسألة ضبط الفتوى، والاطمئنان إلى توافر شروطها وضوابطها أمر مطلوب شرعا؛ لأن القائم بالفتوى كما يقول ابن القيم - رحمه الله - موقع عن الله رب العالمين "فخطر المفتي عظيم, فإنه موقع عن الله ورسوله, زاعم أن الله أمر بكذا وحرم كذا أو أوجب كذا"[2]، ولذلك يجب أن يكون أهلا للتوقيع عن الله ولا يكون مزورا ولا كاذبا فلا ينسب إلى الله ورسوله ما لم يقله.
وفي التنزيل {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } [النحل: 116]، وعند الدارمي وغيره عن عبيد الله بن أبي جعفر مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار".
ولذلك كان السلف من هذه الأمة يتورعون عن الفتوى، ولا يتورعون عن قول "لا أدري" وكان كل واحد منهم يتمنى لو أن أخاه كفاه المسألة.
وقد روي أن الإمام مالك سئل في أربعين مسألة فأجاب في أربعة وقال في ست وثلاثين "لا أدري" بل لم يكن يتورع أحدهم أن يبعث مناديا ينادي بغلطه في فتوى معينة.
قال ابن قدامة رحمه الله: "ما من إمام إلا وقد توقف في مسائل. وقيل: من يجيب في كل مسألة فهو مجنون, وإذا ترك العالم: لا أدري. أصيبت مقاتله وحكي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة, فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري. ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدا."[3]
لكن لنا مع الظاهرة والعلاج وقفتان: الأولى: مع تحديد مفهوم ظاهرة ما يسمى بفوضى الفتاوى، والثانية: مع العلاج "سن قانون لضبط الفتوى أو مركز لمراقبة الفتاوى"
الوقفة الأولى: في تحديد مفهوم "فوضى الفتاوى أو صراع الفتاوى"
ما يظهر من مصطلح "فوضى الفتاوى" أن هناك تكالبا بين نفر من غير المختصين أو من المختصين على إصدار الفتاوى وتضارب أقوالهم في المسألة الواحدة، ومزايدة بعضهم على بعض، والعمل على نشر فتاوى شاذة بين الناس؛ مما يثير البلبلة والشك ويقلل من هيبة الدين والشرع في نفوس الناس بل وتدعو على التطاول على الدين من غير المسلمين أو من العلمانيين ونحوهم الذين يريدون إقصاء الدين من الحياة، وقد ساعد على ذلك كثرة المواقع والقنوات الفضائية وتنافسها فيما بينها لاسترضاء جمهورها.
وبشيء من الهدوء والتروي ينبغي النظر في هذه الظاهرة من جانبين:
§ الأول: تعدد الأقوال في المسألة الواحدة.
جانب كبير من هذه الظاهرة يتمثل في تعدد الأقوال في المسألة الواحدة، ومن الأمثلة على ذلك: هذا التعدد للأقوال في مسألة رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة حيث وجد اتجاهان: الأول: يرى المنع إتباعا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: يرى الجواز ؛ منعا للمفاسد المترتبة على التزاحم، وأنه لا يوجد ما يدل على المنع، وهناك آلاف المسائل مثل هذه المسألة المذكورة في العبادات، والمعاملات، والأمور الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية.
فهل يكون المطلوب: كبت أحد الاتجاهين لمصلحة الاتجاه الآخر؟ ومن ثم نفتح الباب لسؤال أعم: هل يعتبر تعدد الأقوال في أي مسألة مشكلة تستدعي التدخل بقانون ونحوه لإلزام الناس برأي واحد، وهل يعتبر هذا التعدد للأقوال فوضى أو صراع؟؟
قسم العلماء مسائل الشريعة إلى قسمين: الأول: قطعيات وهذه لا اجتهاد فيها ولا خلاف، وهي محددة، والثاني: مجتهدات، والأصل فيها عدم إلزام الناس بقول واحد فيها؛ إذ يؤدي ذلك إلى فتن ومفاسد وتضييق على الناس وحرج عليهم، وقد زخرت كتب الفروع والفتاوى بآراء متعددة في المسألة الواحدة في المذهب الواحد بل ومن فقيه واحد، ولم يكن يمثل ذلك صراعا أو اضطرابا أو فوضى، وإنما كان ذلك من باب الثراء والسعة والمرونة في الشريعة الإسلامية.
وكم وصفت آراء وأقوال في وقتها بالشذوذ وحورب أصحابها عليها وأوذوا من أجلها وإذ بها بعد قرون تمثل مخرجا وفرجا وحلا لكثير من معضلات الأمور والمسائل في عصرنا الحاضر ومن ذلك اجتهاد ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى في الطلاق المعلق، والطلاق الثلاث بلفظ واحد، وطواف الحائض للضرورة وغيرها، وفي عصر الصحابة رضوان الله عليهم كان الخلاف موجودا بينهم واشتهر من بينهم مدرسة رخص ابن عباس، ومدرسة عزائم ابن عمر، وبعد عصر الصحابة تبلور الخلاف إلى وجود مدرستين إحداهما للرأي في العراق والثانية مدرسة الأثر في المدينة.
وقد قامت على أساسهما المذاهب الفقهية فيما بعد والتي تكونت في عصر يسميه من بحثوا في تاريخ التشريع الإسلامي بأنه عصر الكمال والحيوية للتشريع الإسلامي إذ فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، حتى خالف التلميذ أستاذه في الفروع والأصول معا ولم يكن ذلك بعيب ولا منتقد ولا مستهجن، مع الأخذ في الاعتبار أنه وجدت أقوال وصفت بالشذوذ والخروج على ثوابت الدين وكثير من هذه الأقوال لا يزال مبثوثا في بطون الكتب ولم يحجم الاجتهاد ولم تقلص مساحته أو احتكرته فئة معينة لوجود هذا الشذوذ من الأقوال.
ويكاد يتفق كثير من الباحثين والمختصين أن المرحلة التي وصفت بمرحلة الجمود والتقليد وتراجع الاجتهاد الفقهي إن لم يكن توقفه وأعلن عن غلق باب الاجتهاد كانت تستهدف سد الباب على أنصاف العلماء ومنتجي الفتوى بالطلب والمقاس، وقد جرت هذه الدعوة مع نبل مقصدها في الجملة على الشريعة الكثير من المفاسد والويلات لا تزال تعاني الأمة من آثارها إلى اليوم.
وكان من سمات هذه المرحلة: إلغاء الآخر، وتقديس آراء اجتهادية ورفعها لمرتبة النصوص القطعية التي لا يجوز أن تخالف ولا اجتهاد معها، واحتكار الصواب، ورأي فلان صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيره خطأ لا يحتمل الصواب، وتوقف الفقه الإسلامي عن معالجة مشكلات الحياة حتى زاحمته ونافسته القوانين الوضعية وأخيرا تغلبت عليه.
ولذلك فإن حصر الفتوى في نفر معين وأشخاص معينين والقضاء على تعدد وجهات النظر في المسألة الواحدة وفرض قول واحد على الناس سيغذي ظاهرة التعصب، ويحرم الأمة من تلاقح الأفكار وتعدد وجهات النظر، ويضيق على الناس ما وسعته عليهم الشريعة، ويلحق بهم الحرج الذي رفعه الشرع عنهم فالمفتي الذي يتبوأ مكانة الإفتاء مهما كان علمه واجتهاده سيقدم وجهة نظره ورؤيته الفكرية والفقهية ويطغى عليه مذهبه وقناعاته وهذا فيه حرج كبير إن وقع، وخاصة مع تجريم التعليق على فتاوى المفتي ونقده.
وإذا كان حصر الفتوى في نفر معين أمر غير مقبول فقها وشرعا، فهل هو ممكن واقعا؟
الجواب بكل يسر: أنه أمر شبه مستحيل ؛ لأن القانون ماذا يفعل أمام المسائل الاجتهادية، وتعدد المذاهب الفقهية، هل يعين مفتيا لكل مذهب؟ أم يلزم المسلمين بمذهب المفتي؟ أم يكون قول المفتي هو المذهب الرسمي للدولة؟ وهل يكون ذلك في مسائل العبادات والمعاملات وغيرها أم في جانب دون جانب؟؟كل ذلك لن يكون، ويستحيل وقوعه ولو حدث فمضاره أعظم من نفعه.
§ الثاني: دخول غير المختصين في مجال الفتوى.
لا يختلف أحد في وجوب منع من لا تتوافر فيه أهلية الإفتاء من الفتوى، ومنعهم واجب شرعي؛ لأن الفتوى يجب صدورها من ذي أهلية، لكن قبل تثبيت هذا الحكم.
هناك سؤال مفترض: من المؤهل للفتوى؟ هل المعيار في ذلك توافر شروط الإفتاء التي نص عليها علماء الأصول في شروط المجتهد؟ أم المعيار الحصول على الشهادات والمؤهلات الجامعية في علوم الشريعة حتى وإن اختلت فيه شروط الاجتهاد المنصوص عليها؟ وهل الفتوى وظيفة يرقى إليها حسب قواعد الترقية الإدارية، أم درجة ورتبة علمية؟ وهل يشترط شرعا لمزاولة الفتوى الترخيص الرسمي من الدولة للمؤهلين حتى وإن كانت الفتوى في الهموم والمشكلات اليومية للمسلم العادي في عباداته ومعاملاته وأحواله الشخصية؟ وهنا كيف تتحقق الجهة المانحة للترخيص الفتوى بالمختص من غيره؟ هل يكون المعول عليه الشهادة الجامعية، أم توافر صفات وشروط المفتي فيه، أم موافقة جهات نظامية أخرى على الترخيص كما يحدث في ترخيص الإمامة والخطابة في المساجد؟ وهل إذا سئل غير مرخص له بالفتوى من قبل الجهة المانحة عن مسألة يعرف حكم الشرع فيها يمتنع عن الجواب طاعة لولي الأمر حتى وإن كتم علما وشق على المستفتي وأوقعه في حرج شرعي بامتناعه عن الجواب؟
أطرح هذه الأسئلة وأعلم أنه من الصعب أن تسير الأمور سيرا طبيعيا، وتضبط الفتوى لحق الشرع والأمة.
الوقفة الثانية: جدوى إصدار قوانين لضبط الفتوى.
إن محاولة تنظيم الفتوى في صورة قانون يجرم صدور الفتوى من غير المرخص لهم بذلك هي محاولة غير واقعية وليست بذي جدوى ولن تؤتي ثمارها؛ لأمرين:
أ - لا يمكن لأي دولة مهما كان نظامها أن تفرض علي مواطنيها من يستفتونه في أمور دينهم؛ لأن هذا الأمر مبناه الثقة والطمأنينة وسيؤدي حتما إلى وجود منافذ موازية للفتاوى الرسمية، وفتاوى خفية لها من التأثير ما ليس للفتاوى المرخص بها، قد تكون في بعض الأحيان أشبه بالسوق السوداء والبضاعة الممنوعة المرغوبة.
ب - إن مثل هذه القوانين في حالة تعميمها ستكون في النهاية حبرا على ورق، واستنفاذ طاقة الأمة في جدل عقيم، فالفرد الذي نخشى عليه من تأثير الفتاوى المغشوشة لن نتمكن من السيطرة عليه فنحن في عصر الفضاءات المفتوحة، والقرية الكونية وسهولة الاتصالات، فهل تمنع مثل هذه القوانين دخول الأفراد على مواقع للفتوى في بلد آخر لها مذهب فقهي مختلف، ولعلماء هذا البلد خياراتهم الفقهية الخاصة بهم؟ أم تحجب تلك المواقع عن الأفراد؟ أم يمنع الناس من استفتاء غير المرخص لهم في بلده؟ أم يسعى الساسة على مستوى دول منظمة المؤتمر الإسلامي لسن قانون أو اتفاقية دولية بينهم لقصر الفتوى على نفر معين؟
ولذلك فإن المحاولات التي قامت بها كثير من دور الإفتاء الرسمية في البلاد العربية والإسلامية في إنشاء مواقع فاعلة ونشطة في التواصل مع الناس، وجمع الفتاوى الصادرة عن الدار في الموقع وتيسير الاطلاع عليها، وكذلك انتشار صفحات للفتوى في مواقع إسلامية متميزة فمع التأكيد على أهميتها ودورها الفاعل في تيسير الحصول على الفتوى، لكن الحاصل أن كثيرا من المسائل قد وقع فيها الخلاف بين دور الفتوى الرسمية فضلا عن مواقع النت.
وعلى سبيل المثال: لو قمنا بمراجعة يسيرة لفتاوى دار الإفتاء المصرية وفتاوى الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية سنجد اختلافا كبيرا: انظر فتاوى: إخراج زكاة الفطر نقدا، وثبوت دخول الشهور الهجرية، وكثير من مفسدات الصيام، ومواقيت رمي الجمار...
فهل نعتبر هذا الاختلاف اضطرابا ومفسدة نسعى لإزالته بتوحيد الفتوى ولو بتشكيل مجلس أعلى للفتوى في جميع أنحاء العالم الإسلامي، أم نفهم الفرد العادي أن هذا الاختلاف في مسائل اجتهادية لكل قول حظه من الصواب، وننشر في الأمة فقه الخلاف وكيفية التعامل مع المسائل الاجتهادية؟
ج ـ يخشى من افتقاد من تعينهم الدولة وتختارهم للفتوى الهيبة والمنزلة اللازمة للاعتداد بأقوالهم، وتصنيفهم على أنهم علماء سلطة يعملون لهوى الحكام وإسباغ المشروعية على سياساتهم وقراراتهم، فيؤدي مثل هذا الإلزام لو حدث إلى الانتقاص من أقدار هؤلاء العلماء، وثانيا: انصراف الناس عنهم وعن أقوالهم، ولا يكون أمام الناس إلا الرجوع إلى من يخشى من الرجوع إليه وسيجدونه.
مقترحات للعلاج:
أولا: التواجد الفاعل للعلماء المؤهلين والمختصين في العلم الشرعي والذين يجمعون بين فقه الشرع وفقه الواقع، وإعلان موقف الشرع الصحيح في كافة ما يواجه الأمة من مشكلات، والصدع بالحق، فالعملة الجيدة تطرد العملة الرديئة، ولن يعذر أحد في هذه المرحلة لعدم وجود وسيلة تنشر له، أو بسبب ورع ونحو ذلك من المعاذير التي يجب على أصحابها مراجعة أنفسهم فيها، حتى لا يكونوا ممن يكتمون العلم، أو أن يكونوا سببا في انتشار فتوى أو قول يتعارض مع صحيح الشرع.
ثانيا: إدراك العلماء والمختصين في العلم الشرعي أن أنفاسهم محسوبة عليهم فضلا عن أقوالهم وتصرفاتهم؛ ومن ثم يجب أخذ الحذر والتحوط في كل عبارة وكل قول يتحدثون به ؛ لأن هناك من يتلقف الشاردة والواردة ولا يفرق بين مثال يضرب لتوضيح مسألة أو ظاهرة وبين الحكم الذي يقصد العالم إظهاره، إما بسبب عدم اختصاص الإعلاميين في المسائل الشرعية أو لحاجة في أنفسهم...
ثالثا: نشر ثقافة فقه الخلاف وقواعده بين عامة المسلمين فضلا عن طلبة العلم الشرعي والمشتغلين به.
رابعا: التذكير بتقوى الله تعالى في هذا الدين، وألا يؤتى من قبل علمائه أو الغيورين عليه، وألا يكونوا سببا في الانتقاص منه أو رميه بما ليس فيه ؛ وذلك بإظهار أو نشر فتاوى أو أقوال لا يراعى فيها الضوابط الشرعية للفتوى إنما يحرص أصحابها إما على الشهرة أو الانتصار لمذهب أو توجه فكري معين دون النظر في عواقب الأمور ومآلات أقوالهم، وهذه الأخيرة مما اعتبرها الفقهاء ضابطا من ضوابط الفتوى، فقد يكون القول صحيحا لكن لا يصح أن ينشر إعلاميا ؛ لما يترتب عليه من فتنة أو إثارة أو أن يتلقفه صبية أو أصحاب مصالح معينة فيفهمونه على غير وجهه، ويرمون الشريعة بما ليس فيها.
قال الإمام الشاطبي: "النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول فى الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة".[4]
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.