نحو نظام إقتصادي عادل (أولاً: الإنتاج)



ماهر كبابجي


يقصد بالإنتاج الأنشطة الخاصة بإعداد منتجات أو إضافة قيمة لمنتجات موجودة أو نقلها إلى مكان أو زمان مختلف. وتشمل المنتجات جميع السلع والخدمات والأصول الثابتة والمنقولة. فالمصنع ينتج سلعاً وأصولاً منقولة والتاجر يسوق المنتجات والطبيب يقدم خدمة والمقاول يبني أصولاً ثابتة. وقد ينتفع بالمنتجات فوراً باستهلاكها كالغذاء والكساء، أو تعتبر منتجات تنموية تعد لاستعمالها لاحقاً كوسيلة إنتاج مثل الآليات أو للاستهلاك على مدى طويل كالمباني.مشروعية الإنتاجيستمد الإنتاج مشروعيته من نصوص آيات القرآن الكريم؛ }إلا أن تكون تجارةً عن تراض منكم{ [النساء: 29]، }وأحل الله البيع وحرم الربا{ [البقرة: 282]تجدر الإشارة إلى أن معنى كلمة "التجارة" في القرآن الكريم يمتد ليشمل جميع أوجه النشاط الإنتاجي، كما ويمتد مفهوم كلمة "البيع" ليعبر عن المرحلة الأخيرة من النشاط الإنتاجي والتي عندها يتحقق الربح أو الخسارة حيث أن الربح أو الخسارة، يتحقق بتنازل المستثمر عن حق من حقوق الملكية للمستهلك لقاء بدل مسمى. وتشمل حقوق الملكية حق البيع مقابل ثمن آجل أو ثمن يتم قبضه لاحقاً وكذلك حق الانتفاع مقابل إيجار أو رسم معين. ويشمل تشريع الإنتاج المنتجات الاستهلاكية وأيضاً التنموية: }يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً{ [البقرة: 168]، }واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً{ [الأعراف: 74].عوامل الإنتاجيستند تحليل عوامل الإنتاج وعوائدها على أسس من العقيدة الإسلامية:§ الله الخالق: }هل من خالق غيرُ الله{ [فاطر: 3]، فالله سبحانه خلق الموارد البشرية }يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساءاً { [النساء: 1]، وكذلك فهو جل شأنه خالق الموارد الطبيعية }هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً{ [البقرة: 29]، }وأنزلنا الحديدَ فيه بأس شديدٌ ومنافعُ للناس{ [الحديد: 25]§ الله المالك: }لله ملك السماوات والأرض وما فيهن{ [المائدة: 120]، فالملكية المطلقة حق لله وحده جل شأنه.§ الناس مستخلفون: }وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه{ [الحديد: 7]، الاستخلاف تفويض بالانتفاع بالموارد الطبيعية وليس تمليك، ويفهم من ذلك أن حق الملكية في الدنيا حق مؤقت غايته تنظيم شؤون الحياة.§ الجزاء مقابل السعي: }وأن ليس للإنسان إلا ما سعى{ [النجم: 39]، يتحقق للإنسان الجزاء مقابل السعي للانتفاع بالموارد وليس مقابل تملكها المؤقت. ويستنتج من ذلك أن الربح ليس عائد ملكية المال وإنما عائد المخاطرة بالمال لما يترتب على المخاطرة من شقاء ومعاناة وقلق. تمثل الموارد الطبيعية والبشرية العوامل الأولية للإنتاج، ولكنه لا يمكن أن تستغل جميعها في الإنتاج. من الموارد الطبيعية يمكن أن يستفاد من المواد التي تستخرج وتعد للإنتاج، كما يمكن توظيف القوة العاملة من الموارد البشرية في المجال الإنتاجي. فالعملية الإنتاجية تتطلب توفر المواد والعمالة معاً، ولكنه لا يمكن المباشرة في الإنتاج ما لم يقترن توفرهما بأن يتحمل المستثمر مخاطر الاستثمار.وعليه يمكن حصر عوامل الإنتاج وعوائدها كالتالي:1- المواد: تشمل المواد جميع المنتجات التي يتم إعدادها للمشاركة في العملية الإنتاجية، مثل المباني والطرق والمعدات والأدوات والوقود والبذور والمواد الخام،}ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معاش قليلاً ما تشكرون{ [الأعراف: 10]وفي مقابل حصوله على المواد، يلتزم المستثمر بأن يدفع للموردين أثمانها، }يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود{ [المائدة 5: 1]2- العمل:يعبر العمل عن جميع الجهود العضلية والذهنية التي يتم توجيهها للمشاركة في العملية الإنتاجية:}ويصنعُ الفلك{ [هود: 38]}قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم{ [يوسف: 55]وفي مقابل العمل، يترتب على المستثمر تأدية الأجور نقداً أو عيناً.}قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا{ [القصص: 25]}قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج{ [القصص: 27]3- المخاطرة:تمثل مخاطر الاستثمار أصلاً حسياً يتسبب في الشعور بالقلق ويترتب عليه معاناة المستثمر.في مقابل تحمله مخاطر الاستثمار، يستحق المستثمر الربح. يمثل الربح الفرق بين القيمة المقبوضة من المستهلك ثمناً للمنتج النهائي والقيمة المدفوعة من المستثمر للحصول على المواد ومقابل العمل. والربح جزاء المشاركة في العملية الإنتاجية وحافز للاستثمار.}يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراض منكم{ [النساء: 29]وتجدر ملاحظة أن الآية الكريمة قد أجازت الربح استثناءاً من أكل المال بالباطل، فالبيع بالتكلفة لا يؤثر في قيمة ثروة أي من المتعاقدين وإن كان يغير مكونات ثروة كل منهما، أما البيع بقيمة تختلف عن مجموع تكلفة المواد والأجور فيترتب عليه زيادة ثروة أحد المتعاقدين بمقدار الفرق على حساب نقصان ثروة المتعاقد الآخر بنفس المقدار. نماء رأس الماليترتب على العملية الإنتاجية زيادة رأس المال. تستمد مشروعية العمل على نماء رأس المال من إقرار الآية الكريمة التالية بحب الناس للمال وزيادته: }وتحبون المال حباً جما {[الفجر: 20]تحمل كلمة "رأس المال" في الحياة العملية عدة معان، فتارة يقصد بها النقود المستثمرة في النشاط الإنتاجي، وتارة تشير إلى حقوق الملكية، وأحياناً تدل على مجموع الموجودات المملوكة. ومنعاً للالتباس يستوجب الأمر تحديد مفهوم كل من رأس المال والمصطلحات الاقتصادية ذات العلاقة في بحث نماء رأس المال.الممتلكات: Propertiesتشمل الممتلكات جميع الموجودات العينية مثل العقارات والملابس والغذاء، وجميع الأشياء المملوكة مثل النقود والحقوق القانونية كحق النشر والتوزيع، وكذلك المؤهلات الذاتية مثل المهارات المهنية والمقدرات الخاصة. الثروة: Wealthتشمل الثروة جميع الممتلكات باستثناء النقود. تقاس ثروة الدولة بما لديها من طرق ومستشفيات ومدارس ومباني ومهارات ومعرفة لدى أفرادها وغير ذلك من موجودات، وليس بما لديها أو لدى مصارفها من نقود.النقود: Moneyالنقود وسيط للتبادل يقيم بها المنتجات. فهي ليست ثروة وليست رأسمال أو أحد عوامل الإنتاج. وحيث يتم الحصول على النقود بغرض تحويلها إلى منتجات أو عوامل إنتاج، فهي تعد ضمن الموجودات بحكم سرعة تحولها إلى منتجات أو عوامل إنتاج وليس بوصفها نقود. الموجودات: Assetsتشمل الموجودات الممتلكات العينية، وكذلك النقود بوصفها منتجات أو عوامل إنتاج مستقبلية. ويشار إلى الموجودات في القرآن الكريم بكلمة "الأموال"}خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم{ [التوبة: 103]الالتزامات: Liabilitiesتمثل الالتزامات إجمالي الديون للغير. الدائن ليس له حق ملكية، وإنما له حق مطالبة بالدين قد يكون معززاً بضمانات على موجودات المدين أو الكفيل. ويشار إلى الالتزامات في القرآن الكريم بكلمة "الدين"}يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه{ [البقرة: 282]رأس المال: Capitalيقصد برأس المال صافي الموجودات، ويمثل رأس المال الفرق بين الموجودات والالتزامات. وفي العملية الإنتاجية يعبر رأس المال عن صافي قيمة المنتجات المتمثل في مجموع كلفة المواد والعمل. ويشير القرآن الكريم إلى رأسمال الدين باعتباره صافي (أصل) قيمته.}وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم{ [البقرة 2: 279]الربح: Profitالربح نماء رأس المال أي زيادته. ويعبر معدل الربح عن معدل نماء رأس المال. مما سبق يكون نماء رأس المال نتيجة للاسترباح مقابل تحمل مخاطر الاستثمار في نشاط إنتاجي.الإنتاج في النظم الاقتصادية الوضعيةفي تصنيفهم لعوامل الإنتاج وعوائدها يضع الاقتصاديون مفاهيم خاصة لكل منها:1- الأرض: ويقصد بالأرض الموارد الطبيعية مثل التربة والرياح والأنهار، ويعتبر الإيجار عائداً مقابل الأرض.2- العمل: يشير العمل إلى الجهود العضلية والعقلية التي توجه للإنتاج، وتدفع الأجور مقابل العمل.3- المنشأة: ويقصد بها ما يقدم من التخطيط والإدارة والتنظيم واتخاذ القرارات. ويخصص الربح عائداً للمنشأة مقابل ذلك.4- رأس المال: يشمل رأس المال الموجودات المشاركة في العملية الإنتاجية من أدوات إنتاج ومعدات وطرق وموانئ ومهارات فنية ومباني وبذور ووقود ومواد خام. وتعتبر الفائدة عائداً مقابل رأس المال.من استعراض عوامل الإنتاج في النظم الاقتصادية الوضعية يلاحظ ما يلي:§ اعتبار الفائدة عائداً على رأس المال يتناقض مع تعريف الاقتصاديين لرأس المال بأنه ثروة مخصصة لإنتاج ثروة مستقبلية وإقرارهم بأن النقود ليست ثروة. وفي الواقع العملي، الفائدة عائد إقراض المال وليست عائد المعدات والطرق والمواد والبذور.§ اعتبار الإيجار عائداَ مقابل الأرض يتناقض مع مفهوم الأرض بأنها تمثل الموارد الطبيعية، فالموارد الطبيعية هبة من الله سبحانه، والهبة لا يخصص لها عائد. ومن ناحية أخرى فإن بعض مكونات رأس المال يستحق إيجاراً مثل المعدات.§ باستبعاد دور العمل في وظيفة المنشأة بسبب استحقاق العمل للأجر، فإن نماء رأس المال يتحقق بنتيجة جني المستثمر للربح والفائدة معاً.من الواضح أن قد ترتب على إعطاء المصطلحات في الاقتصاد الوضعي مفاهيم متداخلة ومغايرة لاستعمالاتها المعتادة في العلوم الاجتماعية الأخرى، أن تستخلص نتائج مبنية على مغالطات تستغل لتشريع الفائدة وزيادة عائد المستثمر وفتح المجال لحوارات عقيمة حول مفهوم النقود وقيمتها.