تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: قواعد ومسائل في حوادث السير

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي قواعد ومسائل في حوادث السير








    قواعد ومسائل في حوادث السير
    [1]

    القاضي محمد تقي العثماني



    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
    وبعد، فإن موضوع "حوادث السير" من الموضوعات الفقهية التي تحتاج إلى دراسة متقنة ودقيقة، بالنظر إلى الظروف المعاصرة التي تنوعت فيها صور الحوادث وجزيئاتها، وكثرت واقعاتها للتوسع في استخدام الوسائل الجديدة السريعة السير، وبالرغم من قواعد المرور المنضبطة والمطبقة في أكثر البلاد.
    وإن الشريعة الإسلامية التي تضمن العدل والسلامة في أحكامها لم تغفل هذا الجانب المهم، بل وضعت لها أصولا وقواعد نستطيع أن نعرف في ضوئها أحكام هذه الحوادث الجديدة. وإن فقهاءنا المتقدمين قد تحدثوا عن أحكام هذه الحوادث في ضوء القرآن والسنة في باب الديات، وذكروا فيه أصولا وفروعا تدل على مدى توسعهم في تصوير الحوادث وتعمقهم في الفرق بين حادثة وأخرى. والذي يبدو من دراسة المذاهب الفقهية المختلفة أن هذا الباب من الأحكام الفقهية من أقل ما وقع فيها الاختلاف بين الفقهاء. ويشاهد الباحث خلال دراسته لمختلف جزئياته في كتب المذاهب المختلفة أن جميعها قد خرجت من مشكاة واحدة، ونسجت على منوال واحد، والخلاف بينها في ذلك قليل.
    ولكن من الطبيعي أن العصر الذي دون فيه الفقهاء هذه المسائل لم يكن يعرف هذه المراكب السريعة من السيارات والقطر والطائرات وهذا النظام الجديد للمرور. ولذا فإنهم إنما تكلموا عن المراكب المعروفة في عهدهم من الدواب والعجلات والسفن ووسائل السير التي كانت تستخدم في البيئة التي يعيشون فيها. ولكن كلامهم المبني على مآخذ الشريعة الأصلية من القرآن والسنة والإجماع والقياس قد أوضح لنا أصولا عامة يمكن تطبيقها على كل ما وجد، أو سيوجد، من الوسائل الجديدة للسير. فمهمة الفقيه المعاصر اليوم هي أن يعرف هذه الأصول العامة ويطبقها على الحياة المعاصرة، مع الاعتناء بالفوارق في نظام السير الجديد التي تميزه عن النظام القديم، ويشرح جزيئاته على ذلك الأساس شرحا واضحا، ليتبين حكم كل جزئية من حوادث السير على حدة من غيرها.
    وبما أن الموضوع لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث في كتابات العلماء المعاصرين، فإنه جدير بالاهتمام، وإن بحثي هذا يهدف إلى مساهمة متواضعة في الجهود التي يقوم بها مجمع الفقه الإسلامي لسد هذا الفراغ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني للحق والصواب، ويبعدني عن الزلل والخطل، وهو المستعان وعليه التكلان.
    الضرر وضمانه في الشريعة الإسلامية:
    الأصل في الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز لأحد أن يفعل فعلا يضر بآخر، فإن أضر بفعله أحدًا، فالأصل أنه ضامن، إلا في حالات سيجيء تفصيلها وإن هذا الأصل ثابت بنصوص القرآن والسنة .
    فأما القرآن الكريم، فأوضح ما يستدل به على ذلك قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79].
    النفش: هو الرعي بالليل. وروى ابن جرير في تفسيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الحرث المذكور كان كرما قد أنبت عناقيده، فافسدته الغنم. فقضى داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم، يعني قضى بتمليكه الغنم تعويضا عما أتلفه له، ونقل القرطبي في تفسيره أن سيدنا داود عليه السلام رأى قيمة الغنم تقارب قيمة الغلة التي أفسدت، وذهب سليمان عليه السلام إلى رأي آخر، فقال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها.
    وقد أشارت الآية الكريمة إلى أنه قد اختلف نظر كل من داود وسليمان عليهما السلام في وجه الحكم في هذه القضية، دون أن يذكر القرآن الكريم تفصيل حكمهما، وقد صرح باستحسان رأي سليمان عليه السلام.
    ويستفاد من التفاسير أن المقصود في رأي كل من داود وسليمان عليهما السلام هو تضمين الذي أضر بالكرم بما يقع به التعادل بين الضرر والعوض، ثم اختلفت أنظارهما في صورة هذا التعادل، ومع قطع النظر عن خصوص صورة التعادل، فإن القصة التي ذكرتها الآية الكريمة تنبئ عن مبدأ عام، وهو أن الذي يحدث ضررا بنفس الآخر أو بماله، فإنه يضمن له ذلك الضرر.
    وأما السنة النبوية، على صاحبها السلام، فإن أصرح ما ورد في هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه ابن ماجة[2] وأحمد في مسنده[3] ، وأخرجه مالك في موطئه مرسلا[4] ، وقال البوصيري[5] : إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع لأن إسحاق بن الوليد قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت - ا هـ، ونحوه في مجمع الزوائد[6] ، ولكنّ للحديث طرقا أخر سوى ما تقدم كما في المقاصد الحسنة للسخاوي[7].
    وإن هذا الحديث الشريف قد قرر مبدأ هاما من مبادئ الشريعة الإسلامية من نفي الضرر وحرمة ما يسببه. وإن الحديث إذا تأملنا فيه، لا يكتفي بتحريم إضرار الغير فقط، بل يشير إلى وجوب الضمان على من سببه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين هذا الأصل بصيغة النهي الذي يدل على التحريم فقط، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره بصيغة نفي الجنس، وفيه إشارة لطيفة إلى أنه كما يجب على الإنسان أن يجتنب من إضرار غيره، كذلك يجب عليه، إن صدر منه شيء من ذلك، أن ينفي عن المضرور الضرر الذي أصابه، إما برده إلى الحالة الأصلية إن أمكن، وإما بتعويضه عن الضرر وأداء الضمان إليه، ليكون عوضا عما فاته.
    ومما يدل على وجوب تعويض المصاب أحكام الديات المبسوطة في الكتاب والسنة، ومن جملتها فيما يخص موضوعنا: ما أخرجه مالك في الأقضية من موطئه[8] عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها.
    وإن هذا الحديث من أصرح الأدلة على أن من سبب ضررا لآخر، فإنه ضامن لما أصابه، وكذلك أخرج الدارقطني في سننه[9] عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل، فهو ضامن" . وهذا الحديث، وإن كان في إسناده كلام، لضعف سري بين إسماعيل الهمداني الكوفي[10] ولكن مضمونه مما اتفق عليه جمهور الفقهاء قديما وحديثا.
    وعلى أساس هذه المبادئ حكم فقهاء الصحابة والتابعين وقضاتهم بالضمان على من أضر الآخر بفعله، وإن أقضيتهم وفتاواهم في هذا الباب كثيرة يمكن مراجعتها في كتب الحديث.
    وفي ضوء هذه المبادئ والأقضية والفتاوى، استخلص الفقهاء المتأخرون قواعد فقهية في هذا الباب، وأرى من المناسب أن أذكر هذه القواعد بشيء من شرحها، وكيفية تطبيقها على حوادث المرور.
    قواعد فقهية تتعلق بالضرر والضمان
    القاعدة الأولى: المرور في طريق العامة مباح بشرط السلامة :
    هذه القاعدة ذكرها غير واحد من الفقهاء. وحاصلها أن السير في طريق العامة حق لكل إنسان ولكن استعمال هذا الحق مقيد بأن لا يحدث ضررا بغيره فيما يمكن التحرز عنه. وقال العلامة خالد الأتاسي رحمه الله:
    "والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح بشرط السلامة، بمنزلة المشي؛ لأن الحق في الطريق مشترك بين الناس، فهو يتصرف في حقه من وجه، وفي حق غيره من وجه، فالإباحة مقيدة بالسلامة.
    وإنما تقيدت بها فيما يمكن التحرز عنه، دون ما لا يمكن التحرز عنه، لأنا لو شرطنا عليه السلام عما لا يمكن التحرز عنه، يتعذر عليه استيفاء حقه، لأنه يمتنع عن المشي والسير مخافة أن يبتلى بما لا يمكن التحرز عنه. والتحرز عن الوطء والإصابة باليد أو الرجل، والكدم، وهو العض بمقدم الأسنان، والخبط وهو الضرب باليد، والصدم، وهو الضرب بنفس الدابة وما أشبه ذلك في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك، وأما ما لا يمكن التحرز عنه كما إذا نفحت برجلها، يعني ضربت بحافرها أو ذنبها، فلا تضمن"[11].
    القاعد الثانية: المباشر ضامن، وإن لم يكن متعديا :
    وحاصل هذه القاعدة أن من باشر الإضرار بالغير، فهو ضامن للضرر الذي أصابه بالمضرور بفعله، وإن لم يكن المباشر متعديا، بمعني أنه لم يكن فعله محظورا في نفسه، وهذا كالنائم الذي انقلب على آخر فقتله، فإنه قد باشر القتل، مع أن نومه لم يكن محظورا في نفسه، ولذلك يضمن دية المقتول.
    وإن هذه القاعدة قد ذكرها الفقهاء بعبارات متقاربة، واتفقوا على مضمونها، وهي من أهم القواعد المتبعة في مسئلة ضمان الضرر، ولكن ربما وقع هناك اشتباه في فهمها وخطأ في تطبيقها على بعض الجزئيات، فيجب أن تدرس القاعدة بدقة في مفهومها الصحيح.
    1- فالاشتباه الأول إنما وقع من جهة أن بعض الفقهاء ذكروا القاعدة بلفظ " المباشر ضامن، وإن لم يتعمد " وقد وقعت القاعدة بهذه اللفظ في "مجلة الأحكام العدلية" (مادة 92) وشرحها بعض العلماء بأنه لا يشترط لتضمين المباشر أن يكون متعمدا، ولكن بشرط أن يكون متعديا، فقال الشيخ أحمد الزرقاء[12]: "المباشر للفعل… ضامن لما تلف بفعله، إذا كان متعديا فيه" وهذا ظاهر في أنه يشترط لتضمين المباشر أن يكون متعديا، مع أن معظم الفقهاء ذكروا أنه لا يشترط التعدي لتضمين المباشر، فمثلا قال الزيلعي[13]: "وغيره تسبيب، وفيه يشترط التعدي، فصار كحفر البئر في ملكه وفي المباشرة لا يشترط".
    وقال ابن غانم البغدادي رحمه الله[14]: "المباشر ضامن، وإن لم يتعمد، ولم يتعد، والمتسبب لا يضمن إلا أن يتعدي".
    وقد رفع فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء حفظه الله تعالى هذا التعارض[15] بما حاصله أن التعدي يستعمل في معنيين يجب التمييز بينهما:
    فالمعني الأول للتعدي: هو المجاوزة الفعلية إلى حق الغير أو ملكه المعصوم.
    والمعني الثاني: هو العمل المحظور في ذاته شرعا، بقطع النظر عن كونه متجاوزا على حدود الغير أو لا. فالتعدي بالمعني الأول يشترط لتضمين المباشر أيضا. أما التعدي بالمعني الثاني، فلا يشترط في تضمين المباشر. فمن أكل طعام غيره في حالة المخمصة بدون إذنه لدفع الهلاك عن نفسه فإن فعله جائز، بل واجب، فلم يصدر منه التعدي بالمعني الثاني، ولكن حصل التعدي من حيث أنه تصرف في ملك الغير، فوجب عليه الضمان، وكذلك لو زلق إنسان أو أغمي عليه، فوقع على مال غيره فأتلفه، فإنه ضامن، وإن لم يأت عملا محظورا.
    وإن هذا التمييز الذي ذكره الشيخ مصطفى الزرقاء حفظه الله تعالى جيد وواضح، وبه يرتفع التعارض بين من اشترط التعدي لضمان المباشر ومن لم يشترطه، والحاصل إذن: أن المباشر كلما أحدث ضررا في نفس معصوم، أو في بدنه أو في ماله فإنه ضامن، ولو صدر ذلك منه عند مباشرة فعل مباح في نفسه بدون تعمد.
    2- والاشتباه الآخر الذي ربما يقع في فهم هذه القاعدة، هو أن بعض الفقهاء ذكروا قاعدة أخرى ربما تبدو معارضة لقاعدة " المباشر ضامن وإن لم يكن متعديا " وهي قاعدة "الجواز الشرعي ينافي الضمان" وهي مذكورة في المادة 91 من قواعد المجلة.
    وظاهر هذه القاعدة معارض لتضمين المباشر إذا أضر أحدا بفعل مباح، ولكن هذه القاعدة إنما تعمل في ممارسة حق من الحقوق المطلقة التي لا تتقيد بوصف السلامة، أما الحقوق التي تتقيد بوصف السلامة، كحق المرور في الطريق، فمجرد كون الفعل جائزا في نفسه لا ينفي الضمان، وقد ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى هذا الفرق في مسألة من قعد في المسجد فحدث به ضرر لآخر، قال رحمه الله:
    "و إذا قعد الرجل في مسجد لحديث، أو نام فيه في غير صلاة، أو مر فيه فهو ضامن لما أصاب، كما يضمن في الطريق الأعظم في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف و محمد: لا ضمان عليه، لأنه لو كان مصليا في هذه البقعة لم يضمن ما يعطب به، فكذلك إذا كان جالسا فيه لغير الصلاة، بمنزلة الجالس في ملكه فيكون ذلك مباحا مطلقا، والمباح المطلق لا يكون سببا لوجوب الضمان على الحر. وأبو حنيفة يقول: المسجد معد للصلاة، والقعود والنوم فيه لغير الصلاة مقيد بشرط السلامة ….. وإن كان ذلك مباحا أو مندوبا إليه"[16].
    ما هي المباشرة ؟
    وبعد إيضاح هاتين النقطتين، لا يشترط لتضمين المباشر إلا أن تتحقق منه مباشرة الإضرار في محل معصوم، سواء كان بفعل مباح في نفسه، أو بفعل محظور.
    ولكن لا بد ههنا من التنبه لنقطة مهمة أخرى، وهي أنه يجب لتطبيق هذه القاعدة أن تتحقق المباشرة بمفهومها الصحيح، فيجب أن نفهم معني المباشرة، وقد عرفها الفقهاء بما يلي[17]:
    "حد المباشر أن يحصل التلف بفعله من غير أن يتخلل بين فعله والتلف فعل مختار".
    فلا يضمن المرء إذا صح نسبة الضرر أو التلف إلى فعله، دون أن يتخلل بينه وبين التلف فعل مختار. فإن تخلل، لم تتحقق المباشرة فلا يضمن، وإن ذلك يتضح بعدة فروع ذكرها الفقهاء في باب الجنايات :
    1- قال العلامة خالد الأتاسي رحمه الله في شرح المجلة[18]:
    "إن الدابة إذا وطئت بيدها أو رجلها، وهو راكبها يضمن ولو في ملكه؛ لأن هذا مباشرة يضاف التلف إلى تسييره وعدم ضبطه، إلا إذا جمحت بحيث ليس في إمكانه ردها".
    وأصل هذه المسائلة ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات ، قال[19]:
    "سئل الإمام أبو الفضل الكرماني: سكران جمح فرسه فاصطدم إنسانا فمات، أجاب: إن كان لا يقدر على منعه فليس بمسير له، فلا يضاف سيره إليه، فلا يضمن.
    قال: وكذا غير السكران إذا لم يقدر على المنع".
    وذكر ابن مفلح من الحنابلة[20]:
    "إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن".
    وذكره المرداوي[21] فقال: "جزم به في الترغيب، والوجيز، والحاوي الصغير". وقال الكاساني من الحنفية[22]:
    "ولو نفرت الدابة من الرجل أو انفلتت منه، فما أصابت في فورها ذلك فلا ضمان عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "العجماء جبار" ، أي البهيمة جرحها جبار، لأنه لا صنع له في نفارها أو انفلاتها، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها، فالمتولد منه لا يكون مضمونا".
    وفي مذهب الشافعية في هذه المسألة قولان، ذكرهما النووي رحمه الله تعالى، قال[23]:
    "ولو غلبتهما الدابتان، فجرى الاصطدام والراكبان مغلوبان، فالمذهب أن المغلوب كغير المغلوب كما سبق. وفي قول أنكره جماعة أن هلاكهما وهلاك الدابتين هدر، إذ لا صنع لهما ولا اختيار، فصار كالهلاك بآفة سماوية، ويجري الخلاف فيما لو غلبت الدابة راكبها أو سائقها".
    ونرى في هذه الجزئية أن راكب الدابة لا يضمن بما وطئته دابته، لأنها بعد الجموح والانفلات صارت مستقلة في سيرها، فلا يمكن أن تنسب المباشرة إلى الراكب.
    2- وكذلك ذكر الفقهاء أنه إذا نخس الدابة رجل غير الراكب، فالضمان على الناخس، دون الراكب، قال صاحب الهداية[24]:
    ومن سار على دابة في الطريق، فضربها رجل أو نخسها،فنفحت رجلا، أو ضربته بيدها، أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب وهو المروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولان الراكب والمركب مدفوعان بدفع الناخس، فأضيف فعل الدابة إليه، كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعد في تسبيبه، والراكب في فعله غير متعد، فيترجح جانبه في التغريم للتعدي حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين لأنه متعد في الإيقاف أيضا (وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا) لأنه بمنزلة الجاني على نفسه … (ولو وثبت بنخسة على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) لما بيناه.
    وقد ورد فيه أثر لابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه[25]، قال: "أقبل رجل بجارية من القادسية ، فمر على رجل واقف على دابة، فنخس الرجل الدابة، فرفعت رجلها، فلم تخطئ عين الجارية، فرفع إلى سلمان بن ربيعة الباهلي، فضمن الراكب، فبلغ ذلك ابن مسعود، فقال: على الرجل، إنما يضمن الناخس" وأخرجه أيضا عبد الرزاق في مصنفه[26] ، وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن شريح والشعبي، وراجع نصب الراية للزيلعي[27] والمسألة هي هي عند الشافعية أيضا[28] .
    ففي هذه المسألة أيضا لم يضمن الراكب؛ لأن ما فعلته دابته لا ينسب إليه فلم تتحقق منه مباشرة الإتلاف.
    3- وكذلك قال البغدادي رحمه الله في مجمع الضمانات[29]:
    "جاء راعي أحمر ليعبرها (أي النهر) وجاء من جانب آخر صبي غير بالغ مع العجلة، فقال له الراعي: أمسك الثور مع العجلة حتى تمر الأحمرة، فلم يمكنه إمساكه، فمضي ووقع الحمار في النهر لم يضمن، وكذا الراعي إذا لم يمكنه إمساكه الحمار، وإلا يضمن".
    وهنا أيضا لم يضمن الصبي ما حصل من عجلته من وقوع الحمار في النهر لأنه بالرغم من كونه راكبا، لا تصح نسبة رمي الحمار إليه، فلم تتحقق المباشرة".
    4- وكذلك ذكر الفقهاء أنه إذا سقطت الدابة المركوبة ميتة فتلف بسقوطها شخص أو شيء، فلا ضمان على الراكب، قال الشربيني الخطيب رحمه الله[30]:
    "لو سقطت الدابة ميتة، فتلف بها شيء لم يضمنه، وكذا لو سقط هو ميتا على شيء وأتلفه، لا ضمان عليه. قال الزركشي: وينبغي أن يلحق بسقوطها ميتة سقوطها بمرض أو عارض شديد ونحوه".
    وهنا لم يضمن الراكب لأن موت الدابة أو موت نفسه ليس فيه صنع لفعله، ولا اختيار، فلم تتحقق منه مباشرة الإتلاف. وكذلك إذا حصل السقوط بآفة سماوية كالمرض أو الريح الشديدة كما قال الزركشى.

    5- وكذلك ذكر الفقهاء مسألة اصطدام السفينتين، وأنه كاصطدام الراكبين في أن على كل واحد منهما ضمان الآخر، لكن قال الشربيني الخطيب رحمه الله[31]:
    "محل هذا التفصيل إذا كان الاصطدام بفعلهما، أو لم يكن وقصرا في الضبط، أو سيرا في ريح شديد، فإن حصل الاصطدام لغلبة الريح فلا ضمان على الأظهر ، بخلاف غلبة الدابة (أي على أحد قولي الشافعية) فإن الضبط ثم ممكن باللجام ونحوه … وإن تعمد أحدهما أو فرط دون الآخر، فلكل حكمه".
    والمسالة المذكورة أيضا في كتاب الأم[32] ، وروضة الطالبين[33] ، وتحفة المحتاج[34] ، وجاء في الإنصاف للمرداوي[35] :
    "إن اصطدمت سفينتان فغرقتا، ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر وما فيها ، هكذا أطلق كثير من الأصحاب قال المصنف وغيره : محله إذا فرط. قال الحارثي: إن فرط ضمن كل واحد سفينة الآخر وما فيها، وإن لم يفرط فلا ضمان على واحد منهما … وإن كانت إحداهما منحدِرة، فعلى صاحبها ضمان المصعَدة إلا أن يكون غلبه ريح، فلم يقدر على ضبطها… وقال في المغني: إن فرط المصعد، فإن أمكنه العدول بسفينته، والمنحدر غير قادر ولا مفرط، فالضمان على المصعد؛ لأنه المفرط".
    وراجع أيضا الشرح الكبير لابن قدامة مع المغني[36].
    ومحصل المسألة عند المالكية ما ذكره الحطاب رحمه الله تعالى، قال[37] :
    "قال أبو الحسن: مسألة السفينة والفرس على ثلاثة أوجه: إن علم أن ذلك من الريح في السفينة، وفي الفرس من غير راكبه، فهذا لا ضمان عليهم، أو يعلم أن ذلك من سبب النواتية في السفينة، ومن سبب الراكب في الفرس، فلا إشكال أنهم ضامنون، وإن أشكل الأمر حمل في السفينة على أن ذلك من الريح، وفي الفرس أنه من سبب راكبه".
    فاتفق هؤلاء الفقهاء على أن ملاح السفينة لا يضمن ما تلف بسفينته إذا لم يفرط في ضبطها؛ لأن السفينة الشراعية لا تتمحض مقدورة بيد الملاح، بل للرياح دور كبير في تسييرها، فلو غلبتها الرياح، فإن الإتلاف لا ينسب إلى الملاح، فلا تتحقق منه المباشرة .
    وإن هذه النصوص الفقهية تدل على مدى تعمق الفقهاء في التثبت من تحقق المباشرة، وإن هذه النقطة مهمة جدا، وسوف تفيد في عدة مسائل من حوادث السيارات وغيرها ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي

    قواعد ومسائل في حوادث السير
    [1]

    القاضي محمد تقي العثماني









    القاعدة الثالثة: المسبب ضامن إن كان متعديا :



    وإن هذه القاعدة ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات[38] بقوله "المتسبب لا يضمن إلا أن يتعدى" وقد ذكرنا عبارة الزيلعي في تبيين الحقائق عند الكلام على القاعدة الثانية.



    وتعريف المسبب ما ذكره الحموي رحمه الله[39]:



    "حد المسبب هو الذي حصل التلف بفعله ، وتخلل بين فعله والتلف فعل مختار".



    ومثاله: من حفر بئرا، فسقط فيها رجل، فالحافر مسبب لسقوطه، فيضمن أن كان متعديا في الحفر، وإن لم يكن متعديا، فلا ضمان عليه.



    وقد وقع ههنا تسامح في التعبير في مجلة الأحكام العدلية، حيث ذكرت هذه القاعدة في المادة (93) بلفظ: " المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد " وهذا خلاف ما ذكره جمهور الفقهاء، فإن تعمد الإضرار ليس بشرط لتضمين المسبب، ولذلك من حفر بئرا في غير ملكه، وسقط فيها رجل، فإن الحافر ضامن، ولو لم يحفرها بنية أن يتردى فيها رجل. فالصحيح من عبارة هذه القاعدة ما ذكرنا من أن المسبب لا يضمن إلا بالتعدي، ولو لم يكن متعمدا بالضرر أو بالتعدي.



    وقد نبّه على هذا الخطأ في تعبير المجلة فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء[40] ، حفظه الله تعالى، وذكر أن التعبير الصحيح هو أن المسبب لا يضمن إلا بالتعدي، وهو موافق لسائر الكتب الفقهية، وقد ذكرت عند الكلام على القاعدة الثانية أنه، حفظه الله ، قد فرق بين معنيين للتعدي بتمييز دقيق، وأن كلامه في موضوع المباشرة موفق قد أزاح كثيرا من الإشكالات، فجزاه الله تعالى خيرا، ولكن لي مآخذ جوهرية على ما ذكره في موضوع التسبيب، فإنه حفظه الله تعالى ذكر أن التعدي الذي يشترط لتضمين المسبب هو عين التعدي الذي يشترط لتضمين المباشر، وهو التعدي بمعنى المجاوزة إلى ملك الغير أو حقه، سواء كان بفعل مباح في نفسه.



    والواقع أنه على ما ذكره الشيخ الزرقاء، حفظه الله تعالى،لا يبقى هناك أي فرق بين المباشر والمسبب، مع أن الفقهاء قاطبة، فرقوا بينهما بأن المباشر يضمن وإن لم يتعد، والمسبب لا يضمن إلا بالتعدي، فالصحيح الذي يتبلور من كلام الفقهاء أن التعدي الذي يشترط لتضمين المسبب هو التعدي بالمعنى الثاني، وهو أن يكون فعله المسبب للضرر محظورا في نفسه، وإن التعدي بهذا المعنى لا يشترط في تضمين المباشر.



    القاعدة الرابعة: إذا اجتمع المباشر والمسبب، أضيف الحكم إلى المباشر :



    هذه القاعدة ذكرها ابن نجيم[41] بهذا اللفظ وقد أخذت في مجلة الأحكام العدلية (مادة 90) من الأشباه وشرحها ابن نجيم بقوله:



    "فلا ضمان على حافر البئر تعديا بما أتلف بإلقاء غيره".



    فهنا حافر البئر مسبب، والذي ألقى الشيء فيها مباشر، فيقدم المباشر على المسبب ويضاف الإتلاف إليه، فيصير ضامنا.



    ولكن هذه القاعدة لها مستثنيات كثيرة، وتتلخص في نقطتين فيما يتعلق بموضوعنا:



    النقطة الأولى: إذا كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر أضيف الحكم إلى المسبب، وهذه القاعدة ليست مذكورة بهذا اللفظ في كتب القواعد الفقهية، ولكنها تستخلص من عدة جزئيات ذكرها الفقهاء في مستثنيات القاعدة الرابعة. فيقول العلامة علي حيدر رحمه الله في شرحه للمجلة[42]:



    "أما إذا كان السبب مما يفضي مباشرة إلى التلف، فيترتب الحكم على المتسبب، مثال ذلك لو تماسك شخصان، فأمسك أحدهما بلباس الآخر، فسقط منه شيء، كساعة مثلا، فكسرت، فيترتب الضمان على الشخص الذي أمسك بلباس الرجل رغما من كونه متسببا، والرجل الذي سقطت منه الساعة مباشر. لأن المسبب هنا قد أفضى إلى التلف مباشرة، دون أن يتوسط بينهما فعل فاعل آخر".



    والمثال الأوضح لذلك ما ذكره الفقهاء الحنفية من أن من أكره إنسانا على قتل الآخر إكراها ملجأ، فالقصاص على المكره (بكسر الراء) دون المكره (بفتح الراء)، قال الكاساني[43] رحمه الله :



    " فأما المكرَه على القتل فإن كان الإكراه تاما، فلا قصاص عليه عند أبي حنيفة ومحمد ، ولكن يعزر، ويجب على المكرِه " .



    وظاهر أن المكره (بالفتح) هو المباشر للقتل، والمكرِه لا يعدو من أن يكون مسببا، ولكن الضمان هنا على المسبب دون المباشر، وذلك لأن تأثير فعل المسبب أقوى من تأثير المباشر، لكونه أصبح آلة في يد المكرِه .



    وكذلك قدمنا أن من نخس دابة مركوبة فوطئت رجلا، فإن الضمان على الناخس، دون الراكب، مع أن الناخس مسبب، والراكب مباشر في الظاهر، ولكن تأثير الناخس أقوى من تأثير الراكب في القتل، ولذلك قدم المسبب على المباشر.



    إن هذه الجزئيات تبدو خارجة عن القاعدة الرابعة، ولكننا إذا تأملناها في ضوء ما قدمنا في القاعدة الثانية من تفسير المباشرة، وأن تحقق المباشرة بمفهومها الصحيح شرط للتضمين بدون التعدي، ربما يتبين أن الذي أطلق عليه لفظ " المباشر" في الأمثلة الثلاثة المذكورة، ليس مباشرا في الحقيقة، بحيث تصح نسبة الإتلاف إليه بوجه معقول، وإنه لم يضمن الإتلاف من هذه الجهة، لا من حيث أن المسبب مقدم على المباشر.



    فإن من سقطت ساعته بإمساك الآخر ثوبه، لا يصح أن يسمى مباشرا لإسقاط الساعة؛ لأن المباشرة تقتضي عملا، وهذا الرجل لم يعمل شيئا، فيبقى الممسك سببا للإسقاط بدون مزاحم، وربما أنه متعد في الإمساك، فلا يبرأ من الضمان. وكذلك المكره (بفتح الراء) وإن كان مباشرا للقتل، ولكنه بحكم كونه ملجئًا من قبل المكره (بالكسر) وآلة محضة في يد المكرِه، لم تعتبر مباشرته في إيجاب الضمان، وإن كان مباشرا لغويًّا.



    ومثل ذلك يقال في الناخس، فإنه هو الذي سبب ركض الدابة التي خرجت عن قدرة الراكب، وصار الراكب لا فعل له ولا اختيار، فلا يصح أن يسمى مباشرا، فبقي المسبب بدون مزاحم، فنسب التلف إليه، وصار ضامنا.



    ثم رأيت للعلامة خالد الأتاسي رحمه الله تعالى بحثا نفيسا في الموضوع يؤيد ما قلنا، فنورده بلفظه[44]:



    "المباشر: هو الذي حصل التلف مثلا بفعله بلا واسطة، فكان هو صاحب العلة يضاف إليه التلف - والمتسبب : ما حصل التلف لا بمباشرته وفعله، بل بواسطة هي العلة، لحصول المعلول، وهو فعل فاعل مختار، وأما فعله فلا تأثير له سوى أنه مفض إليه. فإن اجتمعا فكما صرحت المادة يضاف الحكم إلى المباشر، لأنه صاحب العلة، وهي أقوى…. واعلم أنه متى كان المتوسط بين السبب والمعلول صالحا لإضافة المعلول إليه، يكون السبب حينئذ سببا حقيقيا، أي سببا محضا، بمعنى أنه لا مزية له سوى الإفضاء إلى حصوله - وعرفوه بأنه ما توسط بينه وبين الحكم علة، وذلك المتوسط هو العلة، وهذا هو المبحوث عنه في القاعدة. ومتى كان المتوسط غير صالح لذلك، فالحكم يضاف إلى السبب، ويكون حينئذ في معنى العلة، ومعرفة هذا الضابط ينفعك في كثير من الوقائع.



    وصورة اجتماعهما ما ذكر في المادة: فإن ملقي الحيوان مباشر تلفه بالذات، وحافر البئر متسبب؛ لأن حفره أفضى إلى التلف، فالضمان على المباشر …… وإذا انفرد السبب - وذلك فيما لو كان الحائل المتوسط بينه وبين الحكم ، أعني المعلول، غير صالح لإضافة الحكم إليه - يكون في معنى العلة المؤثرة، فيضاف الحكم إليه، ويكون المتسبب ضامنا - كسوق الدابة، فإنه غير موضوع للتلف، ولا هو مؤثر فيه، بل طريق للوصول إليه، والعلة للتلف التوسط بينه وبين السوق ، وهو وطء الدابة إنسانا أو مالا بقوائمها وثقلها، ولكن لما لم يكن هذا المتوسط فعل فاعل مختار أضيف الحكم إلى السبب، وهو السوق الواقع من السائق، فكأنه دافع للدابة على ما وطئت عليه، فيضمن، لأنه سبب فيه معنى العلة".



    النقطة الثانية: إذا كان المسبب متعديا، والمباشر غير متعد:



    والنقطة الثانية في مستثنيات القاعدة الرابعة التي ذكرها بعض الفقهاء هي أنه إذا كان المسبب متعديا، والمباشر غير متعد في فعله، فالحكم يضاف إلى المسبب المتعدي ، وإن هذه القاعدة ذكرها صاحب الهداية في مسألة من نخس دابة فقتلت رجلا، فإن الضمان على الناخس دون الراكب، وقد ذكرنا عبارته في القاعدة الثانية بتمامها، وفيها[45]:



    "ولأن الناخس متعد في تسبيبه، والراكب في فعله غير متعد، فيترجح جانبه في التغريم للتعدي".



    وقد اعترض عليه صاحب العناية بأن كون المباشر غير متعد لا يبرئه من الضمان، فهذا التعليل الذي ذكره صاحب الهداية غير صحيح فيما إذا وطئت الدابة أحدا، ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن المباشر يضمن، وإن لم يكن متعديا فيما إذا كانت مباشرته هي السبب الوحيد في التلف. أما إذا كان هناك مسبب آخر، وهو متعد في تسبيبه، والمباشر غير متعد في فعله، فحينئذ يقدم المسبب على المباشر. نعم، إن كان كل من المباشر والمسبب متعديًا، فالمباشر مقدم على المسبب. وربما يتأيد هذا بمسألة أخرى ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات، قال[46]:



    "قصار أوقف دابة في الطريق، وعليها ثياب، فصدمها راكب ومزق بعض الثياب التي كانت على الدابة، قال الشيخ أبو بكر البلخي : إن رأى الراكب الدابة الواقفة ضمن، وإن لم يبصر لم يضمن. ولو مر رجل على ثوب موضوع في الطريق وهو لا يبصره فتخرق، لا يضمن".



    فالقصار الذي أوقف دابته في الطريق مسبب لتخرق الثياب، وهو متعد، لأنه أوقف دابته في الطريق، وراكب الدابة الأخرى مباشر، فلو لم يبصر الدابة الواقفة لم يكن متعديا، فلا ضمان عليه، وينسب التمزيق إلى المسبب وهو القصار، فكأنه مزق ثيابه بنفسه، فلا يضمنه أحد. أما إذا أبصر الراكب الدابة الواقفة، ومع ذلك صدمها فإنه متعد، ومتى اجتمع تعدي المسبب وتعدي المباشر، فالمباشر أولى بالضمان ، ولذلك ضمن الثياب للقصار، وكذلك من وضع ثوبا في الطريق، فإنه مسبب لتخرقه، وهو متعد من حيث إن الطريق غير موضوع لوضع الثياب، والرجل المار مباشر لتمزيق الثياب، فإن كان قد أبصر الثياب، فإنه متعد، فيضمن، وإن لم يكن أبصرها، فليس متعديا فلا يضمن.



    وكذلك ذكر البغدادي مسألة أخرى، قال[47]:



    "مر بحمار عليه حطب، وهو يقول: إليك إليك، إلا أن المخاطب لم يسمع ذلك حتى أصاب ثوبه وتخرق يضمن، وإن سمع إلا أنه لم يتهيأ له التنحي بطول المدة فكذلك. وأما إذا أمكنه ولم يتنح لا يضمن"



    فصاحب الحمار هنا مباشر على قول من يعد السائق والقائد مباشرا، وهو غير متعد، إذ نادى " إليك إليك " فصار ضامنا عند عدم سماع المخاطب، وكذلك إذا لم يجد المخاطب فرصة للتنحي، أما إذا لم ينتح وقد أمكنه ذلك، فهو المسبب المتعدي فأضيف التلف إليه.



    فبناء على قول صاحب الهداية، ونظرا إلى هذه الجزيئات، تتحصل صور آتية :



    1- إذا كان المباشر هو السبب الوحيد في الإتلاف، فهو ضامن، سواء كان متعديا، أو غير متعد، بمعنى أنه لم يفعل فعلا محظورا في نفسه.



    2- إذا اجتمع المباشر والمسبب، وليس أحد منهما متعديا (بالمعنى المذكور) فالضمان على المباشر.



    3- إذا اجتمع المباشر والمسبب، والمباشر متعد والمسبب غير متعد، فالضمان على المباشر.



    4- إذا اجتمع المباشر والمسبب، وكل واحد منهما متعد، فالضمان على المباشر أيضا.



    5- إذا اجتمع المباشر والمسبب، والمسبب متعد، والمباشر غير متعد ، فالضمان على المسبب.



    هذا ما تنقح لي من ضوابط الضمان المتعلقة بحوادث السير مستخلصة من كتب الفقهاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.



    حوادث السيارات



    وبعد تمهيد هذه القواعد وشرحها، نرجع إلى أحكام حوادث السيارات، ونذكرها في ضوء ما شرحنا من القواعد والجزئيات الفقهية المتعلقة بها:



    مدى مسؤولية السائق بسيارته:



    الأصل: أن سائق السيارة مسؤول عن كل ما يحدث بسيارته خلال تسييره إياها، وذلك لأن السيارة آلة في يده، وهو يقدر على ضبطها، فكل ما ينشأ عن السيارة، فإنه مسؤول عنه. والذي يظهر لي أن هناك فرقا كبيرا بين الدابة والسيارة من حيث إن الدابة متحركة بنفسها بخلاف السيارة، فإنها لا تتحرك إلا بفعل من السائق. ومن هذه الجهة أرى أن ما ذكره الفقهاء من الفرق بين ما أصابته الدابة بفمها أو يدها وبين ما نفحته برجلها أو بذنبها، لا يتأتى في السيارة، فإنهم ضمنوا الراكب في الحالة الأولى، ولم يضمنوه في الحالة الثانية؛ لأن راكب الدابة لا يمكنه التحرز عما تفعله الدابة برجلها أو بذنبها .



    أما السيارة، فلا تتحرك بنفسها، فجميع السيارة آلة للراكب، وهو يقدر على ضبط جميع أجزائها؛ لأن أجزاءها متماسكة بعضها مع بعض، ليس لجزء منها حركة مستقلة عن حركة الآخر، ولذا فيجب أن يضمن سائق السيارة لكل ضرر ينشأ عنها، سواء نشأ ذلك الضرر من أجزاء السيارة المتقدمة، أو من أجزائها المؤخرة، أو من أحد جانبيها. لأن كل ذلك تحت تصرف السائق، وليس شيء منها يتحرك بنفسه.



    إذن، فالأصل أن سائق السيارة ضامن لكل ضرر ينشأ من عجلاتها، أو من مقدمها، أو من خلفها، أو من أحد جانبيها؛ لأن السيارة آلة محضة في يد السائق، فتنسب مباشرة الإضرار إليه.



    فإن كان سائق السيارة متعديا في سيره بمخالفة قواعد المرور، مثل أن يسوق السيارة بسرعة غير معتادة في مثل ذلك المكان، أو لم يلتزم بخطه في الشارع، وما إلى ذلك من قواعد المرور الأخرى، فلا خفاء في كونه ضامنا؛ لأن الضرر إنما نشأ بتعديه، والمتعدي ضامن في كل حال.



    أما إذا لم يكن متعديا في السير، بأن ساق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، فهل يضمن الضرر الذي أصاب رجلا آخر بسيارته في هذه الحالة؟ قد اختلف فيها أنظار العلماء في عصرنا، فمنهم من يقول: إنه يضمن لكونه مباشرا، والمباشر يضمن ولو لم يكن متعديا. ومنهم من يقول: لا يضمن لأن ما يحدث بعد الالتزام بقواعد المرور حادثة سماوية لا يمكن الاحتراز عنها، والمباشر إنما يضمن فيما يمكن الاحتراز منه، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه.



    والذي يظهر لي في ضوء القواعد والجزئيات الفقهية التي ذكرتها فيما قبل - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن السائق يضمن الضرر الذي باشره، وإن لم يكن متعديا لأنه قد تقرر بإجماع الفقهاء أن المباشر لا يشترط لتضمينه أن يكون متعديا، ولكن يجب أن تتحقق منه مباشرة الضمان على الوجه الذي ذكرناه في تفسير القاعدة الثانية، فيجب لتضمينه أن تصح نسبة المباشرة إليه بدون مزاحم على وجه معقول. وعلى هذا الأساس لا يضمن في الصور الآتية:



    1- إذا كان السائق يسوق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، ولكن دفع شخص رجلا آخر أمام سيارته فجأة بحيث لم يمكن له أن يوقف السيارة قبل أن تدهسه، فدهسته السيارة. فهنا لا يضمن السائق، وإنما يضمنه الدافع، وهذا كما نخس أحد دابة فقتلت رجلا، فالضمان على الناخس دون الراكب؛ لأن نسبة المباشرة لا تصح إلى سائق السيارة في هذه الصورة؛ لأن تأثير الدافع ههنا أقوى من تأثير الراكب، أو كما قال صاحب الهداية: الدافع متعد، والسائق غير متعد.



    2- إذا أوقف السائق سيارته أمام إشارة المرور منتظرا إشارة فتح الطريق فصدمته سيارة من خلفه ودفعتها إلى الإمام فصدمت سيارته أحدا، فليس الضمان على سائق السيارة الأمامية، بل الضمان على سائق السيارة التي صدمتها من خلفها ؛ لأنه لا تصح نسبة المباشرة إلى السيارة الأمامية، فإنها مدفوعة بمنزلة الآلة للسيارة الخلفية. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية في قراراتها المنشورة في مجلة البحوث الإسلامية[48].



    وإن هذه الصورة منطبقة تماما على ما ذكره الفقهاء فيما إذا نخس أحد دابة فأصابت أحدا، فإن الضمان على الناخس دون الراكب. ومما يؤيده أيضا ما ذكره البغدادي رحمه الله في مجمع الضمانات، قال[49]:



    "فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فمات، كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به ، لأنه مدفوع في هذه الحالة، والمدفوع كالآلة" .



    فالظاهر في هذا المثال أن الرجل الذي وقع على آخر، هو المباشر للإهلاك، ولكن وقع الضمان على المسبب لكونه متعديا ولكون تأثيره أقوى بحيث لم يبق للرجل الواقع صنع ولا اختيار، فلم تنسب المباشرة إليه. فكذا في مسألتنا.



    3- إذا كانت السيارة سليمة قبل السير بها، وكان السائق يتعهدها تعهدا معروفا، ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها، حتى خرجت السيارة من قدرة السائق ومكنته من ضبطها، فصدمت إنسانا فقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية ، بأنه لا ضمان على السائق، وكذلك لو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف ، فلا ضمان عليه.



    ويمكن أن تخرج هذه الفتوى على ما قدمنا في القاعدة الثانية من نص الفقهاء على أن الدابة إن جمحت وخرجت من قدرة الراكب، فلا ضمان عليه. وذلك لأن ما حصل بالسيارة بعد خروجها من ضبط السائق بحادثة حدثت بجهاز من أجهزتها لا تصح نسبتها إلى السائق، ولا يقال: إن السائق مباشر للإتلاف، وغاية ما يقال فيه: إنه مسبب للهلاك، فإنه هو الذي سير السيارة في مبدأ الأمر، وبما أنه مسبب، فيشترط لتضمينه التعدي. فإن كان يتعهد السيارة تعهدا معروفا، ويسيرها ملتزما بقواعد المرور سيرا عاديا، فلا ضمان عليه لعدم التعدي، نعم ! إن أخل بشرط من هذه الشروط، مثل عدم تعهده للسيارة أو تسييرها مع خلل ظاهر في جهاز من أجهزتها، أو سوقها سوقا عنيفا، فإنه يضمن في كل ذلك، وإن خرجت السيارة من ضبطه، لأنه مسبب لانفلات السيارة بتعديه.



    وربما تشهد لهذه الفتوى جزئية ذكرها الكاساني رحمه الله في البدائع، قال[50]:



    "وكذلك (يضمن) إذا كان مشى في الطريق حاملا سيفا، أو حجرا، أو لبنة، أو خشبة، فسقط من يده فقتله، لوجود معنى الخطأ فيه، وحصوله على سبيل المباشرة، لوصول الآلة لبشرة المقتول، ولو كان لابسا سيفا، فسقط على غيره فقتله، أو سقط عنه ثوبه، أو رداؤه، أو طيلسانه، أو عمامته وهو لابسه، على إنسان فتعقل به فتلف، فلا ضمان عليه أصلا ؛ لأن في اللبس ضرورة ، إذ الناس يحتاجون إلى لبس هذه ، والتحرز عن السقوط ليس في وسعهم، فكانت البلية فيه عامة ، فتعذر التضمين، ولا ضرورة في الحمل، والاحتراز عن سقوط المحمول ممكن أيضا. وإن كان الذي لبسه مما لا يلبس عادة فهو ضامن".



    ويؤيده أيضا ما ذكرنا في القاعدة الثانية أنه لو سقطت الدابة ميتة أو بمرض أو عارض ريح شديد ونحوه، وتلف بسقوطها شيء لم يضمنه الراكب[51].



    4- إذا ساق إنسان سيارة في شارع عام ملتزما السرعة المقررة، ومتبعا خط السير حسب النظام، ومتبصرا في سوقه حسب قواعد المرور، فقفز رجل أمامه فجأة، فصدمته السيارة رغم قيام السائق بما وجب عليه من الفرملة ونحوها، فإن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية أبدت في هذه الصورة احتمالات مختلفة ولم تبت فيها بشيء، ونص قرارها في هذه الصورة كما يلي[52]:



    "أمكن أن يقال بتضمين السائق من مات بالصدم أو كسر مثلا بناء على ما تقدم من تضمين الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت الدابة بيديها. وقد يناقش بأن كبح الدابة وضبطها أيسر من ضبط السيارة، ويمكن أن يقال بضمان كل منهما ما تلف عند الآخر من نفس ومال بناء على ما تقدم من الحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم في تضمين المتصادمين. ويمكن أن يقال بضمان السائق ما تلف من نصف الدية أو نصف الكسور، لتفريطه بعدم احتياطه بالنظر لما أمامه من بعيد، وبضمان المصدوم نصف ذلك باعتدائه بالمرور فجأة أمام السيارة دون الاحتياط لنفسه، بناء على ما ذكره الشافعي وزفر وعثمان البتي ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويحتمل أن يقال: إنه هدر، لانفراده بالتعدي".



    والذي يظهر لي في هذه الصورة - والله سبحانه أعلم - أن الرجل الذي قفز أمام السيارة إن قفز بقرب منها بحيث لا يمكن للسيارة في سيرها المعتاد في مثل ذلك المكان أن تتوقف بالفرملة، وكان قفزه فجأة لا يتوقع مسبقا لدى سائق متبصر محتاط، فإن هلاكه أو ضرره في مثل هذه الصورة لا ينسب إلى سائق السيارة، ولا يقال : إنه باشر الإتلاف، فلا يضمن السائق، ويصير القافز مسببا لهلاك نفسه، وذلك لوجوه:



    أولا: لو قلنا بضمان السائق في هذه الصورة، لزم منه أنه لو عزم رجل على قتل نفسه، فقفز أمام سيارة أو قطار بقصد إهلاك نفسه، فإن السائق يضمنه، وهذا مخالف للبداهة.



    ثانيا: قد قررنا في القاعدة الثانية أنه يجب لتضمين المباشر أن تتحقق منه مباشرة الإتلاف بدون شك. وحيث كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر، أو انعدم اختيار المباشر بفعل رجل آخر، كما في مسألة نخس الدابة، فإنه لا يعد مباشرا للإتلاف، فلا يجب عليه الضمان .



    ثالثا: إذا كان المباشر ملجأ من قبل الآخر، كما في صورة الإكراه، فإنه لا يعد مباشرا حقيقيا للقتل والإتلاف، وإنما ينسب الإتلاف إلى من أكرهه على ذلك، فصار كما إذا أكره رجل آخر على قتل نفسه، فقتله المكرَه في حالة الإكراه الملجئ، فلا ضمان على القاتل المكرَه، لأنه لا ينسب مباشرة القتل إلى المكره (بالفتح) بل لا تنسب مباشرة الإتلاف إلى السائق في مسألتنا بالطريق الأولى؛ لأن الإكراه لا يعدم القدرة على التحرز من الفعل الذي وقع الإكراه عليه، فيمكن للمكرَه أن يتحرز عن القتل على قيمة نفسه، ولذلك يستحق التعزير على قتله.



    بخلاف السائق في صورتنا، فإنه لم يبق له اختيار ولا قدرة على صيانة القافز من صدم السيارة.



    رابعا: قدمنا عن صاحب الهداية أنه لو كان المسبب متعديا والمباشر غير متعد، فالمسبب أولى بالضمان من المباشر، ولا شك في تعدي القافز في مسالتنا، وعدم تعدي السائق، فليكن القافز هو المسئول عن فعل نفسه .



    خامسا: لا أقل من أنه قد وقع الشك في كون السائق مباشرا للإتلاف وفي كونه ضامنا، ومن أكبر الشواهد على ذلك أن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء السابق ذكرها قد ترددت في ضمان السائق، وفي صورة الشك لا يجب الضمان، قال البغدادي في مجمع الضمانات[53]:



    "رجل حفر بئرا في الطريق، فسقط فيها إنسان ومات، فقال الحافر: إنه ألقى نفسه فيها، وكذبته الورثة في ذلك، كان القول قول الحافر في قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد ؛ لأن الظاهر أن البصير يرى موضع قدمه، وإن كان الظاهر أن الإنسان لا يوقع نفسه، وإذا وقع الشك ، لا يجب الضمان بالشك " .



    وربما يستدل على تضمين السائق في هذه الصورة بما يأتي:



    أ- اتفق الفقهاء على تضمين راكب الدابة ما وطئته خلال سيرها، ولم يستثنوا من ذلك صورة قفز الرجل أمام الدابة، فهذا يدل على أنهم يقولون بتضمينه في هذه الصورة أيضا.



    وهذا الدليل ليس بصحيح؛ لأن الفقهاء لم يذكروا هذه الصورة لا نفيا للتضمين فيها ولا إثباتا لها، ومجرد سكوتهم عن ذلك لا يدل على التضمين، لأنه لا ينسب لساكت قول، وخاصة حينما ذكروا أصولا في ضمن جزئيات أخرى تدل على عدم التضمين في هذه الصورة، ولعلهم لم يذكروها من جهة أن ذلك كان نادرا في عهدهم؛ لأن ضبط الدابة أيسر من ضبط السيارة، ولأن الدابة متحركة بنفسها، فربما تتنحى في سيرها بنفسها برؤية من يعرض لها في الطريق، بخلاف السيارة، ولأن الطرق المدنية في ذلك الزمان كانت موضوعة في الأصل للمشاة، فلم تكن الدواب تسرع فيها المشي ، بخلاف السيارات فإنها تسير على طرق معبدة وضعت في الأصل للمراكب السريعة.



    ب- وقد يقال: إن النائم الذي ينقلب على الرجل الآخر يضمن ما أصابه من ضرر، وبالرغم من أن النائم لا تكليف عليه فإنه حكم عليه الفقهاء بالضمان إجماعا، فتبين أن المباشر يضمن، ولو صدر منه الفعل بغير اختياره، فينبغي أن يضمن السائق أيضا، ولو صدر منه الإهلاك بدون اختياره .



    والجواب عن ذلك: أن المباشر لو كان هو السبب الوحيد في هلاك شخص، فإنه يضمن الهلاك، ولو صدر منه ذلك بدون اختيار (ويستثنى منه ما لا يمكن الاحتراز منه، وما عمت به البلوى، كما قدمنا عن البدائع أنه لو سقط السيف عن لابسه، فإنه لا يضمن) ولكن إذا كان هناك شخص آخر مختار يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، وتأثير فعله أقوى من تأثير المباشر، فإن الهلاك يضاف إلى ذلك الشخص الآخر، كما قدمنا في غير واحد من الأمثلة، ولا سيما في مسألة الناخس، وفي مسألة من وقع على غيره بعثرة حصلت له بوضع حجر في الطريق، فإنه لا يضمن، بل يضمن واضع الحجر.



    ففي مسألة النائم، ليس هناك من يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، بخلاف مسألتنا في السيارة، فإن القافز هنا يزاحم السائق في نسبة الإهلاك إليه، وهو أولى بهذه النسبة لتعديه من السائق الملتزم الذي لا اختيار له.



    ولذلك لو رأى زيد مثلا أن عمرا نائم، هو على وشك أن ينقلب فوضع صبيا تحته حتى انقلب النائم عليه فأهلكه، فلا شك أن الضمان في هذه الصورة ليس على النائم، بل على الرجل الذي وضع الصبي تحته، مع أن النائم هو المباشر في الظاهر، وذلك لأن واضع الصبي يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، وتأثير فعله أقوى من تأثير فعل النائم، لأنه مختار ومعتد، بخلاف النائم، فكذا في مسألتنا.



    وإلى هنا قد ذكرت بتوفيق الله سبحانه وتعالى المسائل المهمة التي قد يقع فيها الاشتباه في عصرنا في حوادث المرور، والقواعد التي تنبني عليها مثل هذه المسائل، ويمكن على هذا الأساس أن تستخرج المسائل الأخرى في هذا الباب، وما تمكنت في هذه العجالة من استقصاء الجزئيات التي تتصور في عهدنا من حوادث المرور على الرغم من رغبتي لذلك، وذلك لضيق الوقت وارتباطي بالمهام الأخرى، ولكن أرجو أن ما ذكر في هذه العجالة سيكون عونا بإذن الله تعالى لاستخراج أحكام الصور الأخرى .



    والله سبحانه وتعالى أعلم وعلمه أتم وأحكم.









    [1] إعداد القاضي محمد تقي العثماني القاضي بالمحكمة العليا بكراتشي وعضو المجمع




    [2] كتاب الأحكام رقم (2340)




    [3] المسند 5 / 327




    [4] الموطأ، باب القضاء في المرفق، 2 / 122، مع تنوير الحوالك




    [5] الزوائد، 3 / 48




    [6] مجمع الزوائد 4 / 205




    [7] المقاصد الحسنة، ص 468، رقم (1310)




    [8] الموطأ، ص (664)




    [9] سنن الدارقطني، كتاب الحدود والديات: 3 / 179، حديث (285)




    [10] راجع التهذيب 3 / 459




    [11] شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي: 3 / 494، مادة (932)




    [12] في كتابه القيم "شرح القواعد الفقهية" ص (385)، قاعدة (92)




    [13] تبيين الحقائق للزيلعي: 6 / 149




    [14] مجمع الضمانات، ص (165)، باب (12)، فصل (1)




    [15] في كتابه القيم "الفعل الضار والضمان فيه" ص (78 و79)




    [16] شرح الأشباه والنظائر للحموي: 1 / 196




    [17] مبسوط السرخسي: 27 / 25، باب ما يحدث في المسجد والسوق




    [18] شرح المجلة للأتاسي: 1 / 260، مادة (94)




    [19] مجمع الضمانات للبغدادي، ص (189)، باب (2)، فصل (5)




    [20] الفروع لابن مفلح: 6 / 6




    [21] الإنصاف 10 / 36




    [22] بدائع الصنائع للكاساني: 7 / 273




    [23] روضة الطالبين للنووي رحمه الله: 9 / 331




    [24] الهداية مع فتح القدير: 9 / 267




    [25] مصنف ابن أبي شيبة: 9 / 429




    [26] مصنف عبد الرزاق: 9 / 423




    [27] نصب الراية للزيلعي: 4 / 388 - 389




    [28] مغني المحتاج 4 /204




    [29] مجمع الضمانات للبغدادي، ص (148)




    [30] مغني المحتاج للشربيني: 4 / 204 و405




    [31] مجمع الضمانات، ص (165)




    [32] الأم 6 /86




    [33] روضة الطالبين 9 / 336




    [34] تحفة المحتاج 9 / 22




    [35] الإنصاف للمرداوي: 6 / 244، كتاب الغضب




    [36] الشرح الكبير لابن قدامة مع المغني: 5 / 456




    [37] مغني المحتاج للشربيني: 4 / 204 و405




    [38] مجمع الضمانات، ص (165)




    [39] شرح الأشباه والنظائر 1 / 196




    [40] شرح الأشباه والنظائر 1 / 196




    [41] الأشباه والنظائر لابن نجيم: 1 / 196، قاعدة (19)




    [42] درر الحكام لعلي حيدر: 1 / 81




    [43] بدائع الصنائع 7 / 179




    [44] شرح المجلة (1 / 249 - 250، رقم المادة (90)




    [45] الهداية مع فتح القدير 9 / 267




    [46] ص 154




    [47] مجمع الضمانات (ص 154)




    [48] مجلة البحوث الإسلامية، عدد (26) 1409 و1410 هـ




    [49] مجمع الضمانات (ص 176)، باب (12)، فصل (2)




    [50] بدائع الصنائع الكاساني: 7 / 271




    [51] مغني المحتاج للشربيني: 4 / 204 - 205




    [52] مجلة البحوث الإسلامية، عدد (26)، 1409 و1410 هـ




    [53] مجمع الضمانات للبغدادي (ص 180)، باب (17)، فصل (2)







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    بارك الله فيك.
    موضوع مهم.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي

    جزاكم الله خيرا استاذنا الفاضل
    اسعدنى مروركم الكريم

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابو وليد البحيرى مشاهدة المشاركة
    حوادث السيارات

    وبعد تمهيد هذه القواعد وشرحها، نرجع إلى أحكام حوادث السيارات، ونذكرها في ضوء ما شرحنا من القواعد والجزئيات الفقهية المتعلقة بها:



    مدى مسؤولية السائق بسيارته:



    الأصل: أن سائق السيارة مسؤول عن كل ما يحدث بسيارته خلال تسييره إياها، وذلك لأن السيارة آلة في يده، وهو يقدر على ضبطها، فكل ما ينشأ عن السيارة، فإنه مسؤول عنه. والذي يظهر لي أن هناك فرقا كبيرا بين الدابة والسيارة من حيث إن الدابة متحركة بنفسها بخلاف السيارة، فإنها لا تتحرك إلا بفعل من السائق. ومن هذه الجهة أرى أن ما ذكره الفقهاء من الفرق بين ما أصابته الدابة بفمها أو يدها وبين ما نفحته برجلها أو بذنبها، لا يتأتى في السيارة، فإنهم ضمنوا الراكب في الحالة الأولى، ولم يضمنوه في الحالة الثانية؛ لأن راكب الدابة لا يمكنه التحرز عما تفعله الدابة برجلها أو بذنبها .



    أما السيارة، فلا تتحرك بنفسها، فجميع السيارة آلة للراكب، وهو يقدر على ضبط جميع أجزائها؛ لأن أجزاءها متماسكة بعضها مع بعض، ليس لجزء منها حركة مستقلة عن حركة الآخر، ولذا فيجب أن يضمن سائق السيارة لكل ضرر ينشأ عنها، سواء نشأ ذلك الضرر من أجزاء السيارة المتقدمة، أو من أجزائها المؤخرة، أو من أحد جانبيها. لأن كل ذلك تحت تصرف السائق، وليس شيء منها يتحرك بنفسه.



    إذن، فالأصل أن سائق السيارة ضامن لكل ضرر ينشأ من عجلاتها، أو من مقدمها، أو من خلفها، أو من أحد جانبيها؛ لأن السيارة آلة محضة في يد السائق، فتنسب مباشرة الإضرار إليه.



    فإن كان سائق السيارة متعديا في سيره بمخالفة قواعد المرور، مثل أن يسوق السيارة بسرعة غير معتادة في مثل ذلك المكان، أو لم يلتزم بخطه في الشارع، وما إلى ذلك من قواعد المرور الأخرى، فلا خفاء في كونه ضامنا؛ لأن الضرر إنما نشأ بتعديه، والمتعدي ضامن في كل حال.



    أما إذا لم يكن متعديا في السير، بأن ساق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، فهل يضمن الضرر الذي أصاب رجلا آخر بسيارته في هذه الحالة؟ قد اختلف فيها أنظار العلماء في عصرنا، فمنهم من يقول: إنه يضمن لكونه مباشرا، والمباشر يضمن ولو لم يكن متعديا. ومنهم من يقول: لا يضمن لأن ما يحدث بعد الالتزام بقواعد المرور حادثة سماوية لا يمكن الاحتراز عنها، والمباشر إنما يضمن فيما يمكن الاحتراز منه، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه.



    والذي يظهر لي في ضوء القواعد والجزئيات الفقهية التي ذكرتها فيما قبل - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن السائق يضمن الضرر الذي باشره، وإن لم يكن متعديا لأنه قد تقرر بإجماع الفقهاء أن المباشر لا يشترط لتضمينه أن يكون متعديا، ولكن يجب أن تتحقق منه مباشرة الضمان على الوجه الذي ذكرناه في تفسير القاعدة الثانية، فيجب لتضمينه أن تصح نسبة المباشرة إليه بدون مزاحم على وجه معقول. وعلى هذا الأساس لا يضمن في الصور الآتية:



    1- إذا كان السائق يسوق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، ولكن دفع شخص رجلا آخر أمام سيارته فجأة بحيث لم يمكن له أن يوقف السيارة قبل أن تدهسه، فدهسته السيارة. فهنا لا يضمن السائق، وإنما يضمنه الدافع، وهذا كما نخس أحد دابة فقتلت رجلا، فالضمان على الناخس دون الراكب؛ لأن نسبة المباشرة لا تصح إلى سائق السيارة في هذه الصورة؛ لأن تأثير الدافع ههنا أقوى من تأثير الراكب، أو كما قال صاحب الهداية: الدافع متعد، والسائق غير متعد.



    2- إذا أوقف السائق سيارته أمام إشارة المرور منتظرا إشارة فتح الطريق فصدمته سيارة من خلفه ودفعتها إلى الإمام فصدمت سيارته أحدا، فليس الضمان على سائق السيارة الأمامية، بل الضمان على سائق السيارة التي صدمتها من خلفها ؛ لأنه لا تصح نسبة المباشرة إلى السيارة الأمامية، فإنها مدفوعة بمنزلة الآلة للسيارة الخلفية. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية في قراراتها المنشورة في مجلة البحوث الإسلامية[48].



    وإن هذه الصورة منطبقة تماما على ما ذكره الفقهاء فيما إذا نخس أحد دابة فأصابت أحدا، فإن الضمان على الناخس دون الراكب. ومما يؤيده أيضا ما ذكره البغدادي رحمه الله في مجمع الضمانات، قال[49]:



    "فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فمات، كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به ، لأنه مدفوع في هذه الحالة، والمدفوع كالآلة" .



    فالظاهر في هذا المثال أن الرجل الذي وقع على آخر، هو المباشر للإهلاك، ولكن وقع الضمان على المسبب لكونه متعديا ولكون تأثيره أقوى بحيث لم يبق للرجل الواقع صنع ولا اختيار، فلم تنسب المباشرة إليه. فكذا في مسألتنا.



    3- إذا كانت السيارة سليمة قبل السير بها، وكان السائق يتعهدها تعهدا معروفا، ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها، حتى خرجت السيارة من قدرة السائق ومكنته من ضبطها، فصدمت إنسانا فقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية ، بأنه لا ضمان على السائق، وكذلك لو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف ، فلا ضمان عليه.



    ويمكن أن تخرج هذه الفتوى على ما قدمنا في القاعدة الثانية من نص الفقهاء على أن الدابة إن جمحت وخرجت من قدرة الراكب، فلا ضمان عليه. وذلك لأن ما حصل بالسيارة بعد خروجها من ضبط السائق بحادثة حدثت بجهاز من أجهزتها لا تصح نسبتها إلى السائق، ولا يقال: إن السائق مباشر للإتلاف، وغاية ما يقال فيه: إنه مسبب للهلاك، فإنه هو الذي سير السيارة في مبدأ الأمر، وبما أنه مسبب، فيشترط لتضمينه التعدي. فإن كان يتعهد السيارة تعهدا معروفا، ويسيرها ملتزما بقواعد المرور سيرا عاديا، فلا ضمان عليه لعدم التعدي، نعم ! إن أخل بشرط من هذه الشروط، مثل عدم تعهده للسيارة أو تسييرها مع خلل ظاهر في جهاز من أجهزتها، أو سوقها سوقا عنيفا، فإنه يضمن في كل ذلك، وإن خرجت السيارة من ضبطه، لأنه مسبب لانفلات السيارة بتعديه.

    جزاكم الله خيرا
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Oct 2017
    المشاركات
    70

    افتراضي

    مقال مفيد..
    جزاكم الله خيرا..

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •