أطوار الاجتهاد الفقهي (3-3)
د.عبد الله الزايد
توطئة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه, ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن نزغات الشياطين, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد, فإنه لمن دواعي رغبتي في الكتابة أن أتقدم ببحثي هذا إلى مجلة البحوث الإسلامية التي تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد, فلها قيمتها العلمية الخاصة بين طلاب العلم ومحبي المعرفة ورواد البحث, أو أنه يجب أن تكون لها هذه المنزلة لديهم, وأرجو أن يكون هذا البحث مما يجدر أن تضمه هذه المجلة الرائدة.
وقد اشتمل البحث على أطوار الاجتهاد من عهد الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى ما بعد عهود التابعين - رحمهم الله - وقد راعيت فيه أن يكون متمشياً مع كل الأطوار التي استدعت ما يناسبها من الاجتهاد، وقد حاولت أن يستنتج القارئ بنفسه في كثير من فصول البحث، الفرق بين أطوار الاجتهاد, وسيجد ذلك واضحاً في الفرق بين اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم, وبين اجتهاد من جاء بعدهم, وهكذا الفرق بين اجتهاد التابعين وبين اجتهادات غيرهم.
وإلى جانب ذلك سيجد القارئ الكريم تراجم للأعلام الذين جاء ذكرهم في البحث أو أكثرهم.
وأرجو أن يمنَّ الله بفرصة أستطيع أن أواصل فيها البحث عن أهم أبواب الأصول, وأكثرها صلة بحياة الناس، وإفادة الباحثين وطلاب المعرفة, والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه في البدء وفي الانتهاء وسلم. وهذا هو الجزء الثالث من البحث:
الطور الثالث للاجتهاد الفقهي من أول القرن الثاني إلى الآن
أ- الربط بين هذا الدور والذي قبله:
ظلَّ الصحابة - رضي الله عنهم - بعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، ملتزمين بالمنهج الذي تركهم عليه هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الفتوى والقضاء والإجابة عن الأسئلة التي كانت تعرض إليهم, حتى كان واقعهم رضي الله عنهم بمثابة العرض الأمين لما كان عليه الحال في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، سواء في ذلك ما يتصل بشؤون العباد في حياتهم اليومية على وجه يزيل الحرج ويضمن المصلحة التي جاء بها هذا الدين.
ولقد اتسعت الدولة وامتد الفتح وتعددت الأفعال وتنوعت التصرفات, ومع ذلك فقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا عرضت الوقائع عليهم أفتوا فيها بمعاني النصوص, وبمقتضى الإشارات والإيماءات والاقتضاءات والضرورات, وبطريق القياس والاستحسان والمصالح وسد الذرائع, والأخذ بالقرائن والاهتداء بالأمارات, وبما وقر في نفوسهم من الثقة بالمروي, وبما شرطه أحدهم في الحديث من شروط؛ خوفاً من الكذب والغلط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء مخصصاً أو مقيداً أو مفسراً, وقد انعكست هذه الطرق على الكيفيات والصور, وغطت الاجتهادات أفعال الناس بالأحكام.
وهكذا استمد العلم بالمعاني اللغوية والعربية والمعاني الشرعية المفهومة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعلومة من النصوص في قلوب التابعين بعد الصحابة, فامتلأت هذه القلوب بعلم الاجتهاد, وبقي اللسان العربي سليماً فصيحاً يفهم المعاني, وتقدم الحقيقة على التجوز ودلالة النص على الفهم بالرأي, والمحكم والمفسر على المحتمل الظاهر.
ب - بدء نشوء مدرستي الظاهر والرأي:
وأخذ التابعون من قصة بني قريظة علماً بجواز سلوك طريق ظاهر النص, وجواز البحث عن المقاصد والأسرار, فوجد بذلك طريقان أو مدرستان:
مدرسة غلب على أهلها تقديم النصوص وكثرة الاعتماد في الاستنباط على أصلها لعدم الحاجة إلى الرأي بسبب قلة الحوادث وكثرة النصوص, والثقة بصدقها؛ لعدم الكاذبين الضالين هناك, وأهل هذه المدرسة هم أهل الحديث أو أهل المدينة, كما سلفت الإشارة إلى ذلك.
ثانياً: تكثر من الاجتهاد بالرأي وتشترط شروطاً كثيرة وشديدة لقبول الحديث, لا يسلم معها إلا القليل.
وينجم هذا من حال البلد الذي يعيش فيه هذا العالم, وحال الصحابي الذي اختار هذا البلد مسكناً له حين هاجر من الحجاز, وما عليه أهل البلد من أعراف في شؤونهم المختلفة.
وبذلك تأسست المدارس الفقهية الإسلامية.
وفي كل مصر كان علماء من الصحابة والتابعين وأئمة بعدهم لهم لغتهم وعلمهم وروايتهم وآراؤهم وتلاميذهم, ومع هذا وسعت مبادئ الشريعة والاجتهادات والآراء حتى عمَّت رحمتها وعدالتها كل الناس.
ولا ريب أنه كلما كان العهد قريباً بحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته ومعاني التنزيل حتى شرحها والفتاوى والأحكام التي صدرت منه, كانت الأحكام التي تؤسس على هذا المنهج على كمالها: علماً وحفظاً وفهماً وسنة وعربية, وخشية من الله عز وجل, هي النبراس الذي يضيء الطريق, والهادي الأمين إلى الحياة الشرعية التي يريد الله تعالى أن يكون عليها البشر في هذه الدار.
جـ- التغيرات التي طرأت على الاجتهاد الفقهي في هذا الدور وأسبابها:
وقد حدثت في هذا الدور الذي نكتب فيه تغيرات طرأت على الاجتهاد الفقهي, نلخص بعضاً من ظواهرها فيما يلي:
أولاً: عناية الخلفاء العباسيين بالفقه والفقهاء
فقد كانوا لا يقصرون همهم على النواحي السياسية وحسب، كما كان الشأن في العهد الأموي, بل كان اهتمامهم بالفقه والفقهاء يتخذ أشكالاً متعددة, فمنهم من يدني الفقهاء ويؤثرهم بخاصته كأبي جعفر المنصور, ومنهم من يتعقب الزنادقة ويشتد في تعذيبهم, حتى أنشأ دائرة متخصصة للبحث عنهم, والتنكيل بهم (ضحى الإسلام لأحمد أمين 163).
وكان الرشيد يخص أبا يوسف بالصحبة والملازمة, والمأمون يشاطر العلماء الجدل العلمي, ويستنهض همهم إلى النقاش الحاد, ويثير القول بخلق القرآن, تلك الفتنة العمياء التي كانت نكتة داكنة في تاريخ المأمون لن تنسى مهما كانت محاسنه. وامتحن فيها علماء سلف الأمة وأئمتها, وكان أشدهم أذى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - حيث عذب عذاباً لم ينله أحد قبله, وكان صابراً محتسباً ثابتاً على الحق.
وقد كان لهذه العناية من الخلفاء الأثر الواضح في التشريع، إذ اتسع مجال الفقه، وغدا المحور الذي تدور عليه وحوله شؤون الدولة في جميع المجالات, فكتاب الخراج لأبي يوسف من ثمار هذا النشاط, وقد عالج أبو يوسف فيه كل ما يتعلق بجباية الأموال.
بل إنَّ الأمر تجاوز معالجة واقع الناس إلى افتراض المسائل وتقدير أحكام لها حتى تضخم الفقه, ونما نمواً عظيماً, شاهده ما حفلت به المدونات الفقهية في ذلك العصر.
ثانياً: اتساع الجدل وشيوع الخلاف
لقد امتازت هذه الفترة ببلوغ الجدل فيه أشده, واتساع مداه؛ لكثرة العلماء وانفراج الحياة الاجتماعية عما كانت عليه من قبل والتوسع في الرأي, والاعتماد عليه في القياس واستمداد أساليب الجدل من المنطق. وكان الجدل بين العلماء يدور حول تحديد معاني الألفاظ اللغوية, وحمل الكلام على الحقيقة أو المجاز حول الكتاب بالسنة والعكس, وعمل الصحابي أهو حجة أم لا؟ والقياس ومداه ومتى يصح ومتى لا يصح, إلى غير ذلك مما يعتمد عليه الفقيه في الاستنباط واستخراج الأحكام.
ومما يؤكد لنا شغف القوم بالجدل والمناظرة أن كل مكان يلتقي فيه العلماء تدور بينهم المناقشات الجدلية والنظرية، سواء في حلقات الدروس, أو المنازل أو في المساجد أو في مواسم الحج أو غيرها بالمكاتبة أو المشافهة، واقرأ من أوثق المدونات في أوائل هذا العصر: الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي والرسالة كذلك، تجد أثر هذا الأسلوب جلياً واضحاً في تأليفهما, واقرأ ما شئت سواهما من كتب هذا العهد، التي زخرت بتلك المناظرات, حتى كانت مرآة صافية تعكس عقلية أولئك العلماء وقوة ذهنهم وقدرتهم على التركيز؛ لما يفهمونه من الأحكام, وحتى ساعدت المتأخرين على معرفة وجه الرأي بين أسلافهم, وهدتهم إلى مآخذ الحكم عند كل فريق. وكان غذاء للروح العلمي فيما بعد, غير أن تلك المناظرات لم تنقل كلها إلينا على حقيقتها، بل تناولها المتأخرون بالتحوير والتحريف, بل ربما اختلقوا مناظرات ونسبوها إلى الأولين ترويجاً لمذهبهم واستجابة لداعي العصبية المذهبية.
من سيئات الجدل في هذا الدور
بعد أن كان الجدل يقصده العلماء للوصول إلى الحق فحسب، أصبح في هذا الدور يستخدم كثيراً؛ لمجرد التغلب على الخصم, وتزييف مذهب المخالف حتى انحرف عن السنن, وحشد فيه ما لا يتصل بجوهر الموضوعات, ولذلك نرى كثيراً مما وصل إلينا غريباً على العلم, وزائداً عن الحاجة.
نموذج للمناظرات التي كانت تجري بين العلماء في هذا الدور
روى الفخر الرازي (هو محمد بن عمر بن الحسن بن علي التميمي البكري الطبرستاني الرازي, الملقب بفخر الدين, المكنى بأبي عبد الله, المعروف بابن الخطيب الفقيه الشافعي الأصولي المتكلم المفسر الأديب الفيلسوف, صاحب المكان المختار بين الأمراء والعلماء. ولد بالري سنة 544 هـ وأصله من طبرستان, تفقه على والده وعليه تلقى أصول الفقه, وبعد موته تلقى العلم على جهابذة عصره, وقد رحل إلى كثير من البلاد؛ لنشر العلم, والذود عن الدين, ثم استقر في هراة, وكان درسه حافلاً بالأفاضل من الملوك والعلماء, وكان أينما ذهب لقي التعظيم والإجلال, وبنيت له المدارس؛ ليلقي فيها دروسه. وكان رحمه الله شديد الوطأة على الخوارج والطوائف المارقة من الدين. أقبلت عليه الدنيا بمصاهرة طبيب ثري من أطباء الري, وباتصاله بالملوك والأمراء, وكان يعظ باللسانين العربي والعجمي, فهدى الله به كثيراً من الطوائف الزائغة, وقد اشتهرت مؤلفاته في الآفاق، فانصرف بها الناس عن كتب المتقدمين, وهي إن دعاها العد فلن يحصيها الحد. ومنها: محصل إنكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين. ومعالم الأصول. ومفاتيح الغيب وهو المشهور بالتفسير الكبير, ومنها المحصول في أصول الفقه. توفي - رحمه الله - سنة 606 هـ بمدينة هراة. الفتح المبين ج 2 ص47): " أن محمد بن الحسن (محمد بن الحسن الشيباني الفقيه الأصولي, ويكنى بأبي عبد الله ولد بواسط بالعراق, ونشأ بالكوفة فحفظ القرآن الكريم وأجاد تلاوته ثم سمع الحديث على أئمته وحضر دروس الإمام أبي حنيفة, ثم لازم أبا يوسف وتفقه عليه, وسمع من مالك والشافعي والأوزاعي والثوري, واشتهر بالتبحر في الفقه والأصول حتى صار مرجع أهل الرأي في العراق, تولى قضاء الرقة ثم لازم الرشيد حتى مات رحمه الله, وقد صنف في الفقه والأصول الكتب الكثيرة النادرة منها: الجامع الكبير والجامع الصغير والمبسوط والزيادات والآثار, وله في الأصول كتب: الصلاة والزكاة والمناسك ونوادر الصلاة, توفي سنة 186 بقرية من قرى الري.. الفتح المبين ج 1 ص 110). (صاحب أبي حنيفة) قال للشافعي يوماً: بلغني أنك تخالفنا في مسائل الغصب (خلاصة مذهب الحنفية في الغصب إذا غيره الغاصب بزيادة فيه, كأن غصب ثوباً فصبغه أن المالك يخير, فإن شاء رد قيمة الزيادة واسترد العين المغصوبة, وإن شاء ضمن الغاصب قيمة المغصوب وتركه له, ومذهب الشافعي تخيير المالك بين قيمة المغصوب وتركه للغاصب, وبين إزالة الزيادة - ورد العين إليه, وهناك تفصيلات في الموضوع لا محل لذكرها هنا. ضحى الإسلام ص 168). قال الشافعي: أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة, قال: فناظرني... قال محمد: ما تقول في رجل غصب ساحة وبنى عليها جداراً وأنفق عليها ألف دينار فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟
فقال الشافعي: أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضي - وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه.
قال محمد بن الحسن: فما تقول في رجل غصب لوحاً من خشب فأدخله في سفينة, ووصلت السفينة إلى لجة البحر فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين, أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ قال: لا. قال ( محمد ): الله أكبر تركت قولك. ثم قال (محمد): ما تقول في رجل غصب خيطاً من إبريسم فمزق بطنه, فخاط بذلك الإبريسم تلك الجراحة, فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب، أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ قال: لا. قال (محمد): الله أكبر تركت قولك. وقال أصحابه أيضا: تركت قولك.
قال الشافعي: فقلت: لا تعجلوا, أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه, ثم أراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر, أمباح له ذلك أم محرم عليه؟ قال: يحرم عليه. قلت: أرأيت لو كان الخيط خيط نفسه, وأراد أن ينزعه من بطنه, ويقتل نفسه, أمباح له ذلك أم محرم؟ قال: بل محرم, قلت: أرأيت لو جاء مالك الساحة, وأراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟ قال: بل يباح. قال الشافعي: فكيف تقيس مباحاً على محرم؟ قال محمد: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ قلت: آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل, ثم أقول له: انزع اللوح وادفعه إليه. فقال محمد بن الحسن: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (سنن ابن ماجة الأحكام (2340), مسند أحمد بن حنبل (5/327) فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه. ثم قال الشافعي: ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة, ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادة أشراف خطباء, فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة له, ماذا تعمل؟ قال محمد: أحكم بأن أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل. قال الشافعي: أنشدك الله أي هذين أعظم ضرراً؟ أن تقلع الساحة وتردها إلى مالكها, أو تحكم برق هؤلاء الأولاد؟ فانقطع محمد بن الحسن.
هذه المحاورة بين هذين الإمامين أنموذج حي لما كان يجري من مجالس علمية, تمتحن فيها أصول كل إمام بما يقرر من جزئيات, فهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول لمحمد بن الحسن (.. فكيف تقيس مباحاً على محرم؟ ) ويقول أيضا لما قال له محمد بن الحسن رحمه الله : فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ وأجابه: فقال محمد بن الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (سنن ابن ماجة الأحكام (2340), مسند أحمد بن حنبل (5/327). أي: وأمر صاحب السفينة بتسييرها إلى الساحل؛ لنزع اللوح المغصوب ضرر عليه. فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه. فبين أن هذا الحكم مستثنى من قاعدة: لا ضرر ولا ضرار. ثم أجرى موازنة بين مفسدة استرقاق الأحرار العشرة الذين ولدتهم الزنجية المغصوبة وبين مفسدة هدم الجدار المقام على الأرض المغصوبة, وأن المفسدة الأولى أعظم من المفسدة الثانية باتفاق, ولهذا انقطع محمد بن الحسن رحمهما الله.
هذه المناظرة واحدة من عديد المناظرات التي تجري بين العلماء في ذلك العصر, وإن حكاها كل جماعة بما يتفق وعصبيته المذهبية وسعت دائرة الاجتهاد الفقهي والحركة الفقهية, وتكون منها آراء قانونية لها قيمتها, وحملت الكثيرين من الفقهاء على أن يتسلحوا بأسلحة مناظريهم, فالقياسيون يتسلحون بالحديث, والمحدثون يتسلحون بالرأي, وقربت كثيراً من أوجه النظر المتباعدة, وربما كان أقرب مثال لذلك الشافعي ومحمد بن الحسن في النموذج المتقدم آنفاً, فكلاهما اطلع على الناحيتين وتسلح بالسلاحين. هذا ولم يقتصر الأمر على المناظرات الشفوية بل تجاوزها إلى المكاتبة, فهذا الليث بن سعد (الإمام الحجة فقيه مصر وعالمها كان من الموالي على أصح الأقوال, وهو أصبهاني الأصل مصري الدار, ولد بقلقشندة قرية بمصر سنة 94 هـ، وقد رحل إلى كثير من البلدان؛ لأخذ العلم, فرحل إلى مكة وبيت المقدس وبغداد, ولقي تسعة وخمسين تابعياً حدث عنهم, وكان له اتصال بالإمام مالك في المدينة, يكاتبه في مسائل التشريع ويحاجه, وكان ذا منزلة رفيعة في علمه وفضله وعقله ونبله, ولذا كان الولاة والقضاة يستشيرونه في عظام الأمور وأخطرها, بل قيل كان نائب مصر وقاضيها تحت أمره وتصرفه, وقد عرض عليه المنصور أن يكون والياً على مصر فأبى, ألف الحافظ ابن حجر جزءاً في ترجمته وفضائله, وقال النووي في تهذيبه: أجمع العلماء على جلالته وأمانته وعلو مرتبته في الحديث والفقه. توفي بمصر سنة 175 هـ. تاريخ التشريع الإسلامي 293). يكتب من مصر إلى مالك بالمدينة يجادله في حجية عمل أهل المدينة, ويرد عليه مالك (جواب الليث على رد مالك ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين 3 \ 83).
ثالثاً: اتساع الدولة وكثرة الوقائع
ضمت الدولة الإسلامية في هذا العهد شعوباً وأمماً مختلفة في الدين والحضارات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية وطرق المعيشة, وفي أنواع كثيرة من المعاملات, ففي العراق سادت العادات الفارسية والقبطية وغيرها, فمن دخل في الإسلام, عرض ما قد كان عليه قبل الإسلام على أبي حنيفة مثلاً, وفي الشام عرضت الأوضاع الرومانية ونظم القضاء الروماني وقضاياه على الأوزاعي (هو الإمام أبو عمرو, عبد الرحمن بن عمرو الشامي. كان يسكن دمشق ثم تحول إلى بيروت فسكنها إلى أن توفي بها. والأوزاع قرية بدمشق - أو بطن في اليمن - كان قد نزل فيهم فنسب إليهم. روى عنه أكابر المحدثين. وقد أخذ عن مالك كما أخذ مالك عنه. وكانت إليه فتوى أهل الشام؛ لسعة علمه وكمال فضله, حتى قيل: إنه أفتى في سبعين ألف مسألة. قال الحكم: الأوزاعي إمام عصره عموماً, وإمام أهل الشام خصوصاً. وكان من رجال الحديث الذين يكرهون القياس. وهو من الأئمة المجتهدين الذين لهم مذاهب خاصة. وكان أهل الشام يعملون بمذهبه، وقد عمل به أيضا أهل الأندلس؛ لكثرة الداخلين إليها من الشام. ثم اضمحل أمام مذهب الشافعي في الشام, وأمام مذهب مالك في الأندلس, وذلك في منتصف القرن الثالث, ولم يبق من مذهبه إلا ما يوجد في كتب الخلاف, ولد سنة 88 هـ وتوفي سنة 157هـ. تاريخ التشريع الإسلامي للسايس وزميله ص 290) وفي مصر عرضت العادات المصرية والرومانية والإغريقية على الليث بن سعد.
وقد عمل هؤلاء الفقهاء وغيرهم على تمحيص ما عرض عليهم, فأقروا بعضه وعدلوا بعضه, وأنكروا بعضه في ضوء ما عندهم من علم شرعي, حتى غدت الحياة العامة في كل إقليم ومصر مصطبغة بالصبغة الإسلامية.
ومما ساعد على تقريب وجهات النظر بين المجتهدين في هذا العصر أن كل قطر من الأقطار المفتوحة وجدت فيه أحكام لم تكن موجودة في غيره؛ نظراً لاختلاف البيئات والفوارق الإقليمية, فلقد أحس العلماء في كل إقليم بحاجتهم إلى التعرف على ما في الإقليم الآخر من اجتهادات فقهية, فنشأت الرحلات العلمية, فالشافعي رحل إلى المدينة والعراق ومصر. وربيعة الرأي رحل إلى العراق, ورحل محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة إلى المدينة, ورحل أحمد بن حنبل إلى الحجاز وإلى اليمن, فآتت هذه الرحلات ثمراتها في إزالة كثير من أوجه الخلاف, وأشعرت كلا بحاجته إلى ما عند غيره من العلم والفقه.
رابعاً: نمو الحركة العلمية
كان بدء هذه الحركة في أواخر الدور السابق, لكنها في هذا الدور نمت نمواً عظيماً بوصول المدنيات القديمة إلى رؤوس المفكرين من علماء المسلمين, وقد ساعد على وصول هذه المدنيات عوامل أهمها:
أ- ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى لغة العرب, ولم تبلغ الترجمة شأوها إلا في عهد المأمون بن الرشيد في القرن الثالث من الهجرة، إذ كان مغرماًبالآداب اليونانية وبآراء أرسطوطاليس على وجه خاص, ولقد انتشرت هذه الكتب انتشاراً هائلاً, فكانت العامل المهم في تكوين معلومات أهل الكلام.
ب- الموالي فقد دخلوا في الإسلام بأعداد عظيمة من الفرس والروم والمصريين. فمنهم من أسر صغيراً, وتربى تحت كنف سادته من المسلمين, فورثوا ما عندهم من العلوم الإسلامية التي أساسها الكتاب والسنة, فحملوا عنهم شيئاً كثيراً, وكان منهم القراء الكبار والمحدثون بجانب إخوانهم من العرب.
ومنهم من دخل في الإسلام وهو كبير, فكان من نتيجة ذلك تلاحم الأفكار وإنضاج العقول.
خامساً: التدوين
(انظر في هذا الشريعة الإسلامية 81. تأليف بدران أبو العينين رحمه الله \ ط دار النجاح للطباعة, في الإسكندرية بمصر 1392 هـ).
سوف نعني هاهنا بما يتصل بالتدوين لأصول الفقه، إذ هو الموضوع الذي عقدت هذه الدراسة التاريخية من أجله.
أما التدوين من حيث هو، فحسبنا أن نشير إلى أن عمر بن عبد العزيز (عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي, ويكنى بأبي حفص, ويلقب بأشج بني أمية؛ لأنه وقع فوق فرس فشجت جبهته. ولد بحلوان مصر سنة 60 هـ, وكان والده أميراً بها, ولما شب بعثه والده إلى المدينة؛ ليتأدب بآداب أهلها, وكان معروفاً بالعلم والفتيا متمكناً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, روى منه الكثير عن أنس بن مالك وغيره, فصار إماماً فقيهاً مجتهداً ثبتاً حجة حافظاً. وقد ضرب المثل بصلاحه وعدله وزهده, وقد تولى الخلافة سنة 99 هـ بعهد من سليمان بن عبد الملك, وعرضت عليه مراكب الخلافة فرفضها قائلاً: دابتي أوفق لي. وكان أول ما عمل أن أبطل سب علي بن أبي طالب, ووضع في خطبته مكان سبه: }إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ{ [ الآية (90) من سورة النحل]. توفي رضي الله عنه مسموماً سنة 101 هـ ودس له السم بعض بني أمية تخلصاً من شدته التي لم يألفوها - كما قيل - الفتح المبين 1 \ 94). الخليفة الأموي رضي الله عنه كتب قبل موته بسنة إلى عامله على المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سنته فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (الحديث في صحيح مسلم كما ذكره في الهدي الساري مقدمة فتح الباري ص 6, وقال النووي على شرح مسلم: ''وجاء في الحديث النهي عن كتب الحديث وجاء الإذن فيه, فقيل: كان النهي لمن خيف اتكاله على الكتاب وتفريطه في الحفظ مع تمكنه منه, والإذن لمن لا يتمكن من الحفظ. وقيل: كان النهي أولاً خيف اختلاطه بالقرآن, والإذن بعده لَمّا أُمِن ذلك, وكان بين السلف من الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث. ثم أجمعت الأمة على جوازها واستحبابها. 1 \ 207 النووي).
كما أن التدوين من حيث هو تدوين بصرف النظر عن ترتيبه وتنظيمه والاهتمام به على النحو الذي وصل إليه في عهد التدوين الزاهي - كان موجوداً على حياة رسول - صلى الله عليه وسلم - فقد خرج أحمد في مسنده, «عن عبد الله بن عمرو بن العاص حين نهته قريش عن كتابة كل ما يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضا, فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: اكتبه, فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق» (سنن أبو داود العلم (3646), مسند أحمد بن حنبل (2/162), سنن الدارمي المقدمة (484).
وقد جمع العلماء بين نهيه (عن تاريخ التشريع الإسلامي للسبكي وزميله ص 212) صلى الله عليه وسلم عن الكتابة, وأمره ثانياً بها: بأن النهي كان قبل أن يميز الصحابة بين ما هو قرآن وبين غيره من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم, فلما تميز عندهم زال المحذور, فأذن عليه الصلاة والسلام بالكتابة عنه.
وأرى من المفيد أن نمر بالقارئ على موجز ما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله (أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، المولود في مصر العتيقة سنة 773 هـ طلب العلم, وَجَدَّ في طلبه, ورحل إلى كثير من الأقطار, واجتمع بفحول الرجال, ومنحه الله ذاكرة قوية وحافظة واعية, وُفّق في دراساته العلمية والحديثية منها بنوع خاص. وله مؤلفات كثيرة قيمة منها كتاب: '' تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير, ومنها فتح الباري شرح البخاري, والإصابة في أحوال الصحابة, والدرر الكامنة وغيرها, توفي رحمه الله سنة 852 هـ ودفن بتربة بني الحزوبي بين تربة الشافعي ومسلم السلمي.
(مقدمة تلخيص الحببر للسيد عبد الله هاشم اليماني المدني) ضمن صفحة 4 شركة الطباعة الفنية المتحدة). حيث ذكر أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة, وعلل ذلك بأمور ثلاثة:
1 - نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
2 - سعة حفظهم وسيلان أذهانهم.
3 - ولأن أكثرهم لا يعرفون الكتابة (هذا الثالث غير واضح فيما أحسب, إذ إن قلة الكاتبين إن لم يكن مبرراً للإذن بالكتابة؛ لئلا يهلك هذا القليل من الكتبة فلا يجد المسلمون من يكتب لهم الآثار وقت الحاجة إلى الكتابة، فلا أقل من ألا تكون قلتهم مانعة من الإذن فيها).
ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار وعلل ذلك:
1 - بانتشار العلماء في الأمصار.
2 - ظهور فرق المبتدعة من الخوارج والروافض والمعتزلة.
ويبين أن أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح (مجاهد صالح توفي غازياً في بحر السند سنة 160 هـ). وسعيد بن أبي عروبة (وفاته سنة 156 هـ ولهما ترجمة في تهذيب التهذيب. محب الدين الخطيب حاشية الهدي الساري ص 6). وغيرهما.
وكانوا يصنفون كل باب على حدة. إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة ( وأهل هذه الطبقة هي التي اصطلحنا على إدماجها ضمن فئات الدور الرابع من أدوار الاجتهاد الفقهي) فدونوا الأحكام. فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز, ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم.
وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة, وأبو عمر وأبو عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي بالشام, وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري (هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي, وقيل له الثوري نسبة إلى ثور بن عبد مناة أحد أجداده. وهو من تابعي التابعين ولد سنة 97 هـ, وروى عن أعلام التابعين, وروى عنه من التابعين الأعمش وابن عجلان, ومن أقرانه شعبة ومالك والأوزاعي وغيرهم. قال غير واحد من العلماء: ''سفيان أمير المؤمنين في الحديث'' وقال مالك: ''كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب, ثم صارت تجيش علينا بالعلم منذ جاء سفيان''. وقال ابن المبارك: ''كتبت عن ألف ومائة شيخ, ما كتبت عن أفضل من سفيان''. وكان لا يسمع شيئاً إلا حفظه, عهد له الخليفة المهدي بقضاء الكوفة فأخذ العهد وخرج, ورمى به في دجلة وهرب, وطُلِب في كل بلد فلم يوجد, وقد عاصر أبا حنيفة بالكوفة, وهو من أرباب المذاهب المقلَّدة, وكان له أتباع يفتون بمذهبه. خرج من الكوفة سنة 150 هـ ولم يعد إليها. ومات بالبصرة سنة 161 هـ. تاريخ التشريع الإسلامي للسايس وزميله ص 291). بالكوفة وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة ... إلخ (تاريخ التشريع الإسلامي للسايس وزميله ص 291).
هذه إشارات عابرة إلى بداية التدوين وتطوره, أرجو أن يطلع منها القارئ على ما يهديه إلى نشأة هذا النشاط واهتمام السلف الصالح به.