ماذا بعد رمضان؟!


الشيخ د. : ناصر بن محمد الأحمد





عناصر الخطبة
1/ العبرة من مرور الليالي والأيام 2/ مبادرة من أساء في رمضان بالتوبة 3/ أحوال الناس في رمضان وبعده 4/ رب رمضان هو رب سائر الشهور 5/ مواسم الخير أدلة على إمكانية التغيير 6/ التزام أدب الإسلام في الاحتفال بالعيد 7/ استحباب صيام ستة أيام من شوال



إن الشهورَ واللياليَ والأعوام مقاديرٌ للآجال ومواقيتٌ للأعمال، تنقضي حثيثًا وتمضي جميعًا، والموت يطوف بالليل والنهار، لا يؤخّر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا)، ينادي ربكم: “يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه).







إن الحمد لله…
أما بعد:
أيها المسلمون: إن في كرِّ الأيام والليالي لعبرة، والأيام تمر مرَّ السحاب، عشيةٌ تمضي، وتأتي غيرها، وحساب يأتي على مثقال الذرة، والناس منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير، ألا وإن سرعة حركة الليل والنهار لتؤكِّد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة كما صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا كله -عباد الله- يُعدُّ فرصةً عظمى لإيقاظ ذوي العقول، لفعل الخير والتوبة النصوح، وإسداء المعروف وترك ما يشين: (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) [الفرقان: 62].
أيها المسلمون: إن الشهورَ واللياليَ والأعوام مقاديرٌ للآجال ومواقيتٌ للأعمال، تنقضي حثيثًا وتمضي جميعًا، والموت يطوف بالليل والنهار، لا يؤخّر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) [آل عمران: 30]، ينادي ربكم: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه" رواه مسلم.
لقد رحل شهركم بأعمالكم، وخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئًا فليبادر بالتوبة والحسنى قبل غلق الباب وطيِّ الكتاب، ومن كان في شهره إلى ربه منيبًا وفي عمله مصيبًا فليُحكِم البناءَ ويشكر المنعمَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثًا، وما أجملَ الطاعة تعقبها الطاعات، وما أبهى الحسنة تُجمع إليها الحسنات، وأكرِم بأعمال البر في ترادف الحلقات، إنها الباقيات الصالحات التي ندب الله إليها ورغَّب فيها، وكونوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، فالله لا يتقبل إلا من المتقين، وما أقبح فعل السيئة بعد الحسنة، ولئن كانت الحسنات يُذهبن السيئات فإن السيئات قد يحبطن الأعمال الصالحات.
أيها المسلمون: لقد ظل المسلمون جميعًا شهرًا كاملاً ينالون من نفحات ربهم، متقلِّبين في ذلك بين دعاء وصلاة وذكر وصدقة وتلاوةٍ للقرآن، ولكن سرعان ما انقضت الأيام، وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر، أو بلابل دوح قد هدأ تغريدها، وإلى الله المصير.
إن من يقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العجبُ من لبِّه كلَّ مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأنَّ لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله سبحانه هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزود وترويض على الطاعة والمصابرة عليها، إلى حين بلوغ رمضان الآخر، ولا غرْو في ذلك عباد الله، فالله -جل وعلا- أتبع فرض الصيام على عباده بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، ومن هنا كان لزامًا علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات وآثارها، لا إلى صورها ورسومها؛ إذ كم من مجهد نفسه كان حظه من صيامه الجوعَ والعطش، وكم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه فيه التعب والسهر، وآكد ما يدل على ذلك حينما يُسائِل الناس أنفسَهم: كم مرة قرؤوا القرآن في رمضان؟! وكم سمعوا فيه من حِكَم ومواعظ وعبر؟! ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد؟! ألم يقرؤوا صيحة عاد، وصاعقة ثمود، وخسف قوم لوط؟! ألم يقرؤوا الحاقة والزلزلة والقارعة وإذا الشمس كورت؟! فسبحان الله، ما هذا الران الذي على القلوب؟! (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَـافاً كَثِيراً) [النساء: 82].
ألا فليت شعري، أين القلب الذي يخشع والعين التي تدمع؟! فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعًا، وللأُنس خرابًا بلقعًا، وحينئذ لا الشاب منا ينتهي عن الصبوَة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوَة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجلوَة، وصار بيننا وبين الصفاء أبعد ما بين المروة والصفا، فلا حول ولا قوة إلا بالله: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَـارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) [محمد: 24، 25].
إن من وقع في التقصير بعد التمام، أو تمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها، لهو أبعد ما يكون عن الفوز بالطاعة، ولو غشَّ نفسه بعبادات موسمية إلا أنها لا تبرح مكانها، بل لربما وجد معها خفيّ العقوبة، وهو سلب لذة المناجاة وحلاوة التعبد، إلا رجالٌ مؤمنون ونساء مؤمنات من عبَّاد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شوالهم كرمضانهم، هؤلاء -هم ولا شك- ممن يسيرون على هدي المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في المداومة على الطاعة.
نعم لرمضان ميزة وخصوصية في العبادة ليست في غيره من الشهور، بيْد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب، ولذلك كان النبي –صلى الله عليه وسلم- جوادًا في كل حياته غير أنه يزداد جوده إذا حلَّ رمضان، ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله فيما صح عنه: "وأعوذ بك من الحور بعد الكور"، والله -جل وعلا- يقول: (وَلاَ تَكُونُواْ كَلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـاثًا) [النحل: 92]، ويؤكد ذلك ما قاله –صلى الله عليه وسلم- في دعائه المشهور: "واجعل الحياة زيادة لي في كل خير"؛ إذ لم يُقصر الخير على شهر رمضان فحسب، بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه -جل وعلا- بقوله: (وَعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت. أسأل الله -جل وتعالى- أن يحسن لي ولكم الختام.
أيها المسلمون: إن مما لا شك فيه أن هناك ضَعفًا في البشر لا يملكون أن يتخلصوا منه، وليس مطلوبًا منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، غير أن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافةً وأسرة وإعلامًا من الثوابت التي لا تتغير، ولا تخدَع بها النفس في موسمٍ ما دون غيره، كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه -بإذن الله- من التساقط والتهالك، وتحرسهم من الفترة بعد الشرَّة مهما قلَّت مادامت هي على الدوام، فرسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا أيها الناس: خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل". رواه البخاري ومسلم.
ولأجل هذا -أيها المسلمون- فإن هناك عبادات هي من الثوابت التي لا تتغير بعد رمضان، كالصلاة والزكاة والصدقة، وكذا الدعاء لنفسك ولإخوانك في الملة والدين من المعوزين والمستضعفين والمجاهدين، فضلاً عن ثابت التوبة المطلوبة في كل حين وآن، والتي أمرنا الله بها في قوله: (وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، وكان يتأولها النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة".
إذا عرفت -يا عبد الله- هذه الأمور كلها، فما عليك إلا أن تلزم، ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع أو علم، ولقد ذقت طعم العبادة في رمضان ولذة القرب من الله، فلا تعكرنّ هذا الصفو بالكدر، والهناء بالشقاء، والقرب بالبعد.
أيها المسلمون: كم هي الأوقات التي تمضي سدى، مع أن العبد يوم القيامة يتمنى لو أضاف إلى رصيده خيرًا مهما قل مقداره، وتدنّى أجره؛ ليدرأ عن نفسه عقوبة أو ليرتفع بها درجة!!
إن هذه المواسم المباركة تثبت للعبد أن بإمكانه أن يغير من حاله متى ما أخذ نفسه بمأخذ الجد، وقوّى استعانته وصلته بالله -عز وجل- بدليل أنه فعل! والتجربة خير برهان، والواقع أكبر دليل، والملهيات والعوائق التي تجاوزها في موسم الخير يمكنه تجاوزها في غيره كما تجاوزها فيه، والدافع الذي مكّنه من تجاوزها ما زال موجودًا؛ إذ الرب سبحانه بالمرصاد، والجنة والنار مخلوقتان، ولكل منهما أهلون.
أيها المسلمون: وبعد موسم رمضان العظيم شرع الله تعالى لعباده العيد ليكون راحة للقلوب ولذة للنفوس وذكرًا لله تعالى وشكرًا له على إتمام النعمة: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا ْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]، وإن مما يدمي القلوب ويفطر الأكباد أن تتحول أعياد المسلمين من ذكر ودعاء واستغفار وشكر لله تعالى إلى إظهار للمنكر وإعلان للمعصية مما يُخشى معه من حلول النقم وزوال النعم ورفع العافية عن الأمة، فما من أمة كثر فيها الفساد وظهر، إلا حلّت عليها أنواع العقوبات الإلهية، يقولُ اللهُ تعالى في كتابهِ الكريم: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [النحل: 112، 113].
ففي هاتين الآيتين الكريمتين يعرضُ القرآنُ الكريم مثلاً مضروبًا مسوقًا للعظةِ والعبرة لقريةٍ من القرى كانت تنعمُ بأمنٍ واستقرار وطمأنينةٍ ورغدٍ من العيش، يأتيها رزقُها من كل مكان، لا يَعرفُ أهلُها الجوعَ والخوف ولا الفاقةَ والحرمان، فهم في أوجِ لذاتِهم وغايةِ سعادتهِم، لكنَّ أهلَ القريةِ المغفلين ظنوا أنَّ ذلك بسببِ حسبهِم ونسبهِم ومكانتهِم عند الله تعالى، وأنهم يستحقون ذلك لفضلهِم وتميزهِم عند الناس، فتجرأَ المغفلون، تجرؤوا على انتهاكِ محارمِ الله وتجاوزِ حدودهِ سبحانه، مغترينَ بإمهالِ اللهِ لهم وصبرِه على انحرافهِم وظلمهِم وبغيهِم، فبدلاً من أنْ يشكروا ربهم ويعترفوا بإحسانِه إليهِم وتفضلِه عليهِم ويلتزموا حدودَه ويعرفوا حقوقَه، إذا بهم يتنكرون للمنعِم العظيم، ويتجرؤون في سفهٍ وغرور على العزيزِ الحكيم، الذي يقول: (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: 16]، ويقول: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة: 40]، فماذا كانتْ النتيجة وما هي النهايةُ والعاقبة بعد ذلك الإمهالِ والصبرِ الجميل؟! إنَّ القرآنَ الكريم يختصرُ العقوبةَ المدمّرة والنهايةَ الموجعة في كلمتين اثنتين: (أَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ).
إذًا فرغدُ العيش وسعةُ الرزق يتحولان في طرفةِ عين ولمحةِ بصر جوعًا يَذهبُ بالعقول، وتتصدعُ له القلوبُ والأكباد، وإذا البطونُ الملأى والأمعاءُ المتخمة يتضورُ أصحابُها جوعًا ويصطلون حسرةً وحرمانًا، وإذا الأمنُ الذي كانوا يفاخرون به الدنيا وينسونَ في عجبٍ وغرور المتفضلَ به سبحانه، والمنعمَ به -جل جلاله-، إذا به ينقلبُ رعبًا وهلعًا لا يأمن المرءُ على نفسِه وعرضِه فضلاً عن مالهِ وملكه، فانتشر المجرمون والقتلة يسفكونَ دماءَ الناس وينتهكونَ أعراضَهم ويحوزونَ أموالهَم وحواصلَهم، وأصبح باطنُ الأرض خيرًا من ظاهِرها في تلك القريةِ البائسةِ المشؤومة.
والقرآنُ الكريم حين يعرضُ بوضوحٍ وجلاء مآلَ تلكَ القريةِ الظالمِ أهلُها، ويقررُ أنَّ ما أصابهَم هو بسببِ ما اقترفتُه أيديهِم من التمردِ والجحود ونكران الجميل، حين يعرضُ القرآنُ ذلكَ كلَّه فهو إنما يخاطبُنا -نحن الحاضرين- ويخاطبُ غيَرنا حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، يحذرُنا أن نقعَ في ذاتِ الخطأ الذي وقعوا فيه، فنؤولُ لذاتِ المآلِ الذي آلوا إليه.
إن ما يفعله كثير من الناس في هذه الأزمنة من احتفالات ومظاهر في أيام الأعياد، إضافة إلى أنها معصية ومخالفة لما يجب أن يكون عليه العبد بعد رمضان من دعاء الله تعالى أن يقبل منه عمله ويشكر سعيه، إنما هي مشابهة تامة لما يفعله الكفار في أعيادهم الباطلة.
ألا فلنلتزم حدود ما أبيح لنا في أعيادنا من لهو ولعب يسير، بعيدًا عن الاختلاط، بعيدًا عن الغناء المحرم، بعيدًا عن المسرحيات الهزلية، بعيدًا عن الإسراف والترف، فإن فيه الكفاية لما نتطلع إليه من مرح، وفيه الملجأ مما نخشاه من آثار وعواقب وخيمة، وليحافظ كل واحد منا على ما عمله طيلة شهر كامل من الأعمال الصالحة والطاعة النافعة، وليحافظ على أهله وولده، وليحرص على أن يبعدهم عن أسباب الوقوع في الفتن، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.
تذكر أن بنتك أو زوجتك ستوقفك أمام الله تعالى وتقول: يا رب: هذا الذي ذهب بي إلى أماكن الاختلاط والفساد، هذا الذي سمح لي أن أذهب مع السائق للمنتزهات والشاليهات التي فيها الفساد، هذا الذي أذن لي أن أذهب إلى أماكن المهرجانات والحفلات المختلطة، فماذا أنت قائل؟! أعد للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، ولا تغتر بكثرة الهالكين، فما أكثر الناس -ولو حرصت- بمؤمنين، والسعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ غيره به.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه…




الخطبة الثانية:


الحمد لله على إحسانه…
أما بعد:
أيها المسلمون: اعلموا أن الشارع الحكيم قد سنّ لكم صيام الست من شوال، وجعل ذلك من متابعة الإحسان بالإحسان، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر كله". رواه مسلم. والأفضل في صيام هذه الست أن تكون على الفور بعد يوم العيد، وأن تكون متتالية، ومن فرق بينها فلا بأس، ومن أخرها إلى وسط الشهر أو آخره فلا بأس، وهي ليست واجبة، ولا صحَّة لما يظنه بعض العوام من أن من صامها سَنَةً وجبت عليه في السنين الأخرى، بل هي سُنّة، من فعلها أثيب عليها، ومن تركها فلا شيء عليه، ومن كان مواظبًا عليها في كل عام ثم مرض أو سافر في عام آخر فإنها تكتب له وإن لم يصمها؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "إذا مرض الإنسان أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا".

كما أنه لا يجوز تقديم صيام الست على أيام القضاء من رمضان؛ لأن من شروط حصول أجر الست من شوال أن يكون المرء قد صام رمضان بأكمله. ومن أراد الزيادة ومضاعفة الأجر فليحافظ على صيام أيام البيض من كل شهر، وهي يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر؛ فلقد صح في السنن أن النبي –صلى الله عليه وسلم- جعل صيامها كصيام الدهر، أي كسنة كاملة: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
أيها المسلمون: ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أن الله ينـزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، والمغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرم رحمةَ الله.
احرِصوا على الخير الذي قدَّمتموه، والفضلِ الذي نِلتموه بالمداومة على العمل الصالح، فمن علامة قَبول التوبة والأعمال أن يكونَ العبد أحسنَ حالاً بعد الطاعة عما قبل، ومن علامة القبول التوفيق بعد العمل إلى عملٍ صالح، قال بعض السلف: جزاءُ الحسنة حسنةٌ بعدها، وجزاءُ السيئة سيئةٌ بعدها. فالأعمال الصالحات يستجرّ بعضُها بعضًا، والأعمالُ السيئة يسوق بعضها بعضًا، قال بعضُ السلف: من وجَد ثمرةَ عملِه عاجلاً فهو دليل على وجودِ القبول آجلاً.
المداومةُ على الأعمال الصالحة تدلّ على اتّصال القلب بخالقه، ما يعطيه قوة وثباتًا وتعلقًا بالله -عز وجل-.
المداومةُ على الأعمال الصالحةِ من أحبِّ الأعمال إلى الله، كما في الحديث القدسي: "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ ممّا افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتّى أحبَّه. أخرجه البخاري.
ومن هدي الرسول –صلى الله عليه وسلم- المداومةُ على الأعمال الصالحة؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إذا عمل عملاً أثبتَه، وكان إذا نام من الليل أو مرِض صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة. أخرجه مسلم.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك…