كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، هي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها أمر الله جميع العباد، فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته، التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنة؛ فإذا عرفت هذا، فاعلم:- أن لا إله إلا الله، لا تنفع قائلها، إلا بعد معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، وأنها لا تنفعه إلا بعد الصدق، والإخلاص، واليقين؛ لأن كثيراً ممن يقولها، في الدرك الأسفل من النار.
فلابد في شهادة: ألا إله إلا الله، من اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان؛ فإن اختل نوع من هذه الأنواع، لم يكن الرجل مسلماً؛فإذا كان الرجل مسلماً، وعاملاً بالأركان، ثم حدث منه قول، أو فعل، أو اعتقاد،يناقض ذلك، لم ينفعه قول: لا إله إلا الله؛ وأدلة ذلك في الكتاب والسنة، وكلام أئمة الإسلام، أكثر من أن تحصر.
وقد أخرج البخاري في صحيحه، بسنده عن قتادة، قال
حدثنا: أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ، رضي الله عنه، رديفه على الرحل – قال: " يا معاذ " قال: لبيك يا رسول الله، وسعديك، قال: " يا معاذ " قال لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثاً، قال: " ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، صدقاً من قلبه، إلا حرم الله تعالى عليه النار " قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا ؟ قال: " إذا يتكلوا " فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.
قال شيخ الإسلام، وغيره، في هذا الحديث، ونحوه: أنه فيمن قالها، ومات عليها، كما جاءت مقيدة، لقوله: " خالصاً من قلبه " غير شاك فيها، بصدق ويقين، فإن حقيقة التوحيد: انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة؛ فمن شهد: أن لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه، دخل الجنة؛ لأن الإخلاص، هو انجذاب القلب إلى الله تعالى، بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً، فإذا مات على تلك الحالة نال ذلك.
فإنه قد تواترت الأحاديث: بأنه يخرج من النار، من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت: بأن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله، يدخل النار، ثم يخرج منها؛ وتواترت: بأن الله حرم على النار، أن تأكل أثر السجود من ابن آدم؛ فهؤلاء كانوا يصلون، ويسجدون لله؛ وتواترت: بأنه يحرم على النار من قال، لا إله إلا الله، وشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً
رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال وأكثر من يقولها، لا يعرف الإخلاص؛ وأكثر من يقولها، تقليداً وعادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه؛ وغالب من يفتن عند الموت، وفي القبور، أمثال هؤلاء، كما في الحديث " سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " وغالب أعمال هؤلاء، إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس، من قوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)
وحينئذ: فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص، ويقين تام، لم يكن في هذا الحال مصراً على ذنب أصلاً؛ فإن كمال إخلاصه ويقينه، يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان، وهذا الإخلاص، وهذه التوبة، وهذه المحبة، وهذا اليقين:لا تترك له ذنباً إلا محي عنه، كما يمحوا الليل النهار.
فإذا قالها على وجه الكمال، المانع من الشرك الأكبر، والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له، ويحرم على النار،وإن قالها على وجه، خلص به من الشرك الأكبر، دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة، بقدر ذنوبه -وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته، ومات مصراً على ذلك، فإنه يستوجب النار، وإن قال لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات، رجحت على حسنة توحيده؛ فإنه في حال قولها كان مخلصاً، لكنه أتى بذنوب أوهنت لك التوحيد والإخلاص، فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته، ولا يكون مصراً على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة.
وإنما يخاف على المخلص: أن يأتى بسيئة راجحة،فيضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر، بقى معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات؛ فإن السيئات: تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذى، أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن، من غير ذوق طعم وحلاوة.
فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك، بل يقولونها من غير يقين وصدق، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة، تمنعهم من دخول الجنة، فإذا كثرت الذنوب، ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث، ومخالطة أهل الباطل وكره مخالطة أهل الحق.
فمثل هذا:إذا قالها، قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله، قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلى، ولا بالتمنى، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال؛ فمن قال خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه؛وقال أبو بكر بن عبد الله المزنى: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشئ وقر في قلبه.
فمن قال لا إله إلا الله، ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوباً، وكان صادقاً في قولها، موقناً بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملى، فرجحت هذه السيئات، على هذه الحسنة، ومات مصراً على الذنوب،بخلاف من يقولها، بيقين، وصدق ثابت، فإنه لا يموت مصراً على الذنوب؛ إما: إلا يكون مصراً على سيئة أصلاً؛ أو يكون توحيده، المتضمن لصدقه ويقينه، رجح حسناته.
والذي يدخل النار، ممن يقولها؛ إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام، المنافيين للسيئات، أو لرجحانها، أو قالوها، واكتسبوا بعد ذلك سيئات، رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولها بعد ذلك، بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق، واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء: لا يقوى على محو السيآت، فترجح سيآتهم على حسناتهم، انتهى ملخصاً.
وقال الوزير، أبو المظفر، في الإفصاح:قوله " شهادة أن لا إله إلا الله " يقتضى: أن يكون الشاهد عالماًُ بلا إله إلا الله، كما قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) قال: واسم (الله) مرتفع بعد (إلا) من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال:وجملة الفائدة في ذلك، أن تعلم أن هذه الكلمة: مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله سبحانه، كنت ممن كفر بالطاغوت، وآمن بالله.
وقال في: البدائع،رداً لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المنفي، قال بل هو مخرج من النفي وحكمه، فلا يكون داخلاً في المنفي، إذ لو كان كذلك، لم يدخل الرجل في الإسلام، بقوله: " لا إله إلا الله " لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، وهذه أعظم كلمة: تضمنت لنفي الإلهية عما سوى الله تعالى، وإثباتها له بوصف الاختصاص؛ فدلالتها على إثبات الإلهية: أعظم من دلالة، قولنا: الله إله؛ ولا يستريب أحد في هذا البتة، انتهى بمعناه.
وقال: أبو عبد الله القرطبى، في تفسير، " لا إله إلا الله " أى: لا معبود إلا هو، وقال الزمخشرى: الإله: من أسماء الأجناس، كالرجل، والفرس، يقع على كل معبود بحق، أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق.
قال شيخ الإسلام: الإله، هو المعبود المطاع؛ فإن الإله، هو المألوه؛ والمألوه، هو الذي يستحق أن يعبد؛ وكونه يستحق أن يعبد، هو بما اتصف به من الصفات، التى تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع؛ قال: فإن الإله، هو المحبوب، المعبود، الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها؛ وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده.
ولهذا: كانت " لا إله إلا الله " أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال، وذوق،فإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال ابن القيم: الإله الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً، وإنابة وإكراماً وتعظيماً، وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاء، وتوكلاً.
وقال ابن رجب: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاء، وتوكلا عليه وسؤالاً منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عزَّ وجلَّ؛ فمن أشرك مخلوقاً في شئ من هذه الأمور التى هى من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعى:لا إله إلا الله، أى انتفى انتفاء عظيماً أن يكون معبوداً بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علماً إذا كان نافعاً، وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة، أى: عبد عبادة؛ قال: الشارح، وهذا كثير في كلام العلماء، وإجماع منهم؛ فدلت: " لا إله إلا الله " على نفى الإلهية، عن كل ما سوى الله تعالى، كائنا من كان، وإثبات الإلهية لله وحده، دون كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد، الذي دعت إليه الرسل، ودل عليه القرآن، من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: (قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً، يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) [الجن: 1، 2].
فلا إله إلا الله، لا تنفع إلا من عرف مدلولها، نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك، وقبله، وعمل به؛ وأما من قالها، من غير علم، واعتقاد، وعمل فقد تقدم في كلام العلماء: أن هذا جهل صرف، فهى حجة عليه بلا ريب، فقوله في الحديث: " وحده لا شريك له " أكيد، وبيان لمضمون معناها؛ وقد أوضح عن ذلك وبينه، في قصص الأنبياء والمرسلين، في كتابه المبين.
فما أجهل عباد القبور بحالهم، وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك، المنافى لكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله؛ فإن مشركى، العرب، ونحوهم، جحدوا:لا إله إلا الله، لفظاً، ومعنى،وهؤلاء المشركون، أقروا بها، لفظاً، وجحدوها معنى، كالحب، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتوكل، والدعاء، وغير ذلك، من أنواع لعبادة.
بل زاد شركهم، على شرك العرب، بمراتب؛ فإن أحدهم إذا وقع في شدة، أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله، بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد، فإنهم يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)
فبهذا:تبين أن مشركى هذه الأزمان، أجهل بالله، وبتوحيده، من مشركى العرب، ومن قبلهم؛ انتهى من فتح المجيد، فهذا بعض ما ذكره بعض العلماء، في معنى: لاإله إلا الله
وفيه كفاية: (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) [الدرر السنية- الجزء الثانى - العقائد-رساله للشيخ سليمان بن سحمان]