المشروعات: مصلحية وعبادية.. معقولة وغير معقولة
ما هي المصالح باختصار؟. "المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها" هذا ما يقوله العز بن عبد السلام. وقال غيره: "إنها (المصلحة) جلب نفع، أو دفع ضر؛ لأن قوام الإنسان في دينه ودنياه، وفي معاشه ومعاده بحصول الخير واندفاع الشر، وإن شئت قلت: بحصول الملائم واندفاع المنافي".[1]
ويقول العز ابن عبد السلام: "الطاعات ضربان: أحدهما ما هو مصلحة في الآخرة كالصوم والصلاة والنسك والاعتكاف، والضرب الثاني ما هو مصلحة في الآخرة لباذله، وفي الدنيا لآخذيه، كالزكاة والصدقات والضحايا والهدايا والأوقاف والصلات".[2]
ويوازي هذا التقسيم للطاعات تقسيم ثنائي آخر لكل ما شرعه الشارع الحكيم من معقول المعنى أو غير معقول المعنى (التعبدي)، وعبر العز عن ذلك بقوله: "المشروعات ضربان: أحدهما: ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة، أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمصلحة، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى. الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد، وفي التعبد من الطواعية والإذعان فيما لم تعرف حكمته ولا تعرف علته: ما ليس فيما ظهرت علته وفُهمت حكمته؛ فإن مُلابسه قد يفعله لأجل تحصيل حكمته وفائدته، والمتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالا للرب وانقيادا إلى طاعته، ويجوز أن تتجرد التعبدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ثم يقع الثواب عليها بناء على الطاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب".[3]
أما ابن رشد فسماه بـ"العبادي" في مقابل "المصلحي" حيث قال: "والمصالح المعقولة لا يمنع أن تكون أساسا للعبادات المفروضة حيث يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحياً، ومعنى عبادياً، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس".[4]
ولكن هذا لا يعني كون التعبديات عَرِية عن المصالح؛ فإن الشريعة كلها مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، لكن منها ما ظهرت حكمته للعقول فسمي بمعقول المعنى، ومنها ما خفيت -مع الجزم بوجود حكمة ومصلحة- وهو التعبدي. هذا ما ذكره خليل في توضيحه دون تجويز تجردها عن المصالح الذي أشار له ابن عبد السلام.
وقال الشاطبي وهو يتحدث عما سماه بـ"قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء": "إن وضع الشريعة إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا، وليس هذا موضعَ ذلك، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، ولما اضطر (الرازي) في علم الأصول إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية: أثبت ذلك على أنه يعلل (وتكون العلل بمعنى العلامات، وذلك للأحكام خاصة) ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة.
والمعتمد أنا استقرينا في الشريعة أنها وُضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره؛
* فإن الله تعالى يقول في بعثه للرسل - وهو الأصل -: }رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل{، }وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{، وقال في أصل الخلقة: }وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا{، }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون{، }الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا{.
* وأما التعليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسُنة فأكثر من أن تُحصى؛ كقوله تعالى في آية الوضوء: }ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهرَكم وليتم نعمته عليكم{.
وقال في الصيام: }كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون{. وفي الصلاة: }إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر{. وقال في القبلة: }فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة{.
وفي الجهاد: }أُذِنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا{. وفي القصاص: }ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب{. وفي التقرير على التوحيد: }ألست بِرَبكُم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين{، والمقصود التنبيه.
وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم؛ فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة.[5]





[1] شرح مختصر الروضة للطوفي 3 /204.
[2] قواعد الأحكام لابن عبد السلام، ص 18.
[3] نفس المرجع، ص19.
[4] بداية المجتهد بحاشيتها الهداية للغماري 1 /162.
[5] الموافقات 3 /5 -6 -7، وتوسع الشاطبي في ذلك في كتاب الاجتهاد، في المسألة العاشرة المتعلقة بالنظر في مآلات الأفعال 4 /194 وما بعدها.