تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 16 من 16

الموضوع: شرح الأسماء الحسنى

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي شرح الأسماء الحسنى

    - شرح الأسماء الحسنى (1)
    - المـقـدّمـة


    الكاتب: عبد الحليم توميات





    ( الثّمرات الزكيّة من الإيمان بأسماء وصفات ربّ البريّة )


    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

    فهذا موضوع عظيم وجيه، يدرك أهمّيته كلّ سنيّ نبيه، ولا يجهل شأنه إلاّ كلّ جافٍ سفيه، فربّ منكر للحقّ لعجزه عن إدراك مغزاه، وقديما قيل: " من جهل شيئا عاداه ". فإنّنا سمعنا ولا نزال نسمع من يُنكر على أهل السنّة تعظيمهم لباب الأسماء والصّفات، ويستقبح كثرة ما جاء فيه من المصنّفات، ويرون أهل السنّة في الحضيض وهم في قمّة الجوزاء، ولسان قالهم: هذا الميّت لا يستحقّ هذا العزاء ..

    فاعلم – رحمني الله وإيّاك – أنّ ثمرات إثبات أسماء الباري سبحانه كثيرة، نورد بعضها على وجه الاختصار، فمن ذلك:




    1- أنّ ذلك حقّ من حقوق الله تعالى.

    فما من صفة كمال إلاّ والله أولى بالاتّصاف بها، وما من صفة نقص إلاّ والله أولى بالتنزّه عنها، وما قولك فيمن نفى الكلام عنك ؟! وما قولك فيمن نفى القدرة عنك ؟! أما يكون قد وصفك بنقص، وعاملك ببخس..؟! كذلك صفات الكمال يجب أن تُثبت للحقّ تبارك وتعالى. والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمرنا بأن نُعطِي كلّ ذي حقّ حقّه، وأعظم الحقوق على الإطلاق: حقوق الواحد الخلاّق.

    2- أن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه.

    وهذه هي الغاية المطلوبة منهم، لأنّه – كما يقول ابن القيم رحمه الله في " الصّواعق المرسلة " –:

    " مفتاح دعوة الرّسل، وزبدة رسالتهم، معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تُبْنَى مطالب الرّسالة كلّها من أوّلها إلى آخرها " [" الصّواعق المرسلة " (1/150-151)].

    فالاشتغال بمعرفة الله، اشتغال بما خلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له، وليس معنى الإيمان هو التلفظ به فقط دون معرفة الله، لأنّ حقيقة الإيمان بالله أن يَعْرِف العبد ربّه الّذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة الله بأسمائه وصفاته، وبحسب معرفته بربه يزداد إيمانه.

    3- أن العلم بأسماء الله الحسنى أصل كل العلوم.

    يقول ابن القيم رحمه الله في "بدائع الفوائد": ( إنّ العلم بأسماء الله الحسنى أصل للعلم بكلّ معلوم، فإنّ هذه المعلومات سواه إمّا أن تكون خلقاً له تعالى أو أمراً، إمّا علم بما كوَّنه، أو علم بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه...) ["بدائع الفوائد" (1/163)].

    4- أن معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى من أعظم أسباب زيادة الإيمان.

    قال الشّيخ عبد الرّحمن بن ناصر السّعدي رحمه الله:

    " إنّ الإيمان بأسماء الله الحسنى ومعرفتها يتضمّن أنواع التّوحيد الثّلاثة: توحيد الرّبوبية، وتوحيد الإلهيّة، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي رُوح الإيمان ورَوحه [الروح: هو الفرح، والاستراحة من غمّ القلب]، وأصله وغايته، فكلّما زاد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه " [" التّوضيح والبيان لشجرة الإيمان " للسّعدي ص (41)"].

    5- لولا إثبات الصّفات لتعطّلت العبادة.

    فإنّ معرفة الله تعالى تدعو إلى محبّته وخشيته، وخوفه ورجائه، وإخلاص العمل له، وهذا هو عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله، إلاّ بمعرفة أسمائه الحسنى، والتفقّه في فهم معانيها:

    - فإذا آمن العبد بصفات ربّه الدالّة على سعة علمة وإحاطته كصفات العلم والسّمع والبصر والمعيّة وغيرها أورثه ذلك كلّه الخوف منه تعالى وتعظيمه.

    - وإذا آمن بصفة السّمع علم أنّ الله يسمعه فلا يقول إلاّ خيرا، وإذا آمن بصفة البصر والنّظر والعين والرّؤية علم أنّ الله يراه فلا يفعل إلاّ خيرا.. فما بالك بعبد يعلم أنّ الله يسمعه ويراه، وأنّه مطّلع على سرّه ونجواه ؟!

    - وإذا آمن العبد بصفات الله كاللّطف، والرّحمة، والعفو، والمغفرة، والتّوب، والسّتر فإنّه لا ييأس من روح الله، كما أنّه إذا آمن بصفة الغضب والمقت والأسف واللّعن والسّخط والكره لم يأمن مكر الله تعالى، وحينئذ يعبد العبد ربّه على جناحي الخوف والرّجاء، وهما جناحا طائر السّلامة.

    - وإذا آمن العبد بصفات الله الدالّة على قهره وقدرته وجبروته وهيمنته وسلطانه علم أنّ الله ما كان ليُعجزه شيء أبدا، فيحسن الظنّ به، ويعلم أنّه ما من شيء إلاّ ومن ورائه حكمة، لذلك يحسن بنا أن نتذكّر هذه الصّفات في أيّام محنتنا، وساعات كربتنا، حتى نحسِن الظنّ بربّنا، وأنّه تعالى عند وعده ولكنّ العبد ليس عند شرطه.

    - وإذا آمن العبد بصفات الله تعالى وأسمائه استصغر نفسه واحتقرها أمام كلّ صفة، فلا ينازع الله تعالى في صفات الهيمنة والتكبّر والجبروت، وإذا تأمّل صفة الغِنى وتمام الملك والعطاء استصغر نفسه أمامها فيظلّ مفتقرا إلى مولاه، لا معبود بحقّ سواه.

    - وإذا آمن العبد بصفة العزّة والغلبة والقوّة علم أنّ عزّته من عزّة الله فلا يخضع لأحد ولا يخنع لمخلوق.

    6- تعبّد الله بها.

    قال الله تعالى:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.. والدّعاء هنا هو دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أي: اسألوه بها، واعبدوه بها.

    فعلى العبد أن يسعى إلى الاقتباس من نور صفات الله على ما يليق به، ويعبّر عن ذلك الإمام ابن القيّم رحمه الله بـ ( تعبّد الله بها )، لا كما يقول بعضهم: يتخلّق بها.. ومن المعلوم لدى أرباب الفطر السّليمة والقلوب القويمة، أنّ المحبّ يحبّ أن يتّصف بصفات محبوبه، كما أنّ المحبوب يحبّ أن يتصف محِبّه بصفاته .. لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحثّ على الأحسن والأفضل ويذكّر النّاس أنّ الله يحبّها بقوله: (( إِنَّ اللهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ العَفْوَ )).. (( جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ )) .. (( طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً ))..

    7- التّسليم والانقياد.

    فإنّ صفات الله تعالى الخبريّة كـ( الوجه، واليدين، والأصابع، والسّاق، وغيرها ) تكون كالاختبار للعباد، فمن آمن بها على ما يليق بالله تعالى – دون تكييف أو تمثيل – وقال كما علمه ربّه:{ كُلٌٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }، فقد فاز فوزا عظيما، ومن قدّم عليها ذوقا أو عقلا، ولم يتّبع وحيا ولا نقلا، فقد خسر خسرانا مبينا .. فالإيمان بالأسماء والصّفات تمام التّسليم والتّوحيد ..

    8- أنّ إحصاءها سبب من أسباب دخول الجنّة.

    روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ )).

    ولنا مع هذا الحديث وقفتان:

    الوقفة الأولى: في بيان معنى الإحصاء: وقد اختلفوا في المراد بإحصائها:

    فقال البخاري وغيره من المحقّقين: معناه: حفظها، وهذا هو الأظهر; لأنّه جاء مفسرا في رواية أخرى عند مسلم: ( من حفظها ).

    وقيل: أحصاها: عدّها في الدّعاء بها.

    وقيل: أطاقها أي: أحسن المراعاة لها، والمحافظة على ما تقتضيه، وصدق بمعانيها، ويأتي الإحصاء بمعنى الإطاقة، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( اِسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ))، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ )).

    والصّواب ما ذكره ابن القيّم رحمه الله في "بدائع الفوائد" أنّ الإحصاء مراتب:

    "- المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وعددها.

    -المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها.

    -المرتبة الثالثة دعاؤه بها كما قال تعالى:{ وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف من:180]، وهو مرتبتان:

    إحداهما: دعاء ثناء وعبادة.

    والثّاني: دعاء طلب ومسألة "اهـ["بدائع الفوائد" (1/172)].

    الوقفة الثّانية: هل أسماؤه تعالى محصورة ؟

    قال الحافظ وهو يتكلّم عن حديث التّسعة والتّسعين اسما:" واتّفق العلماء على أنّ هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، فليس معناه: أنّه ليس له أسماء غير هذه التّسعة والتّسعين، وإنّما مقصود الحديث أنّ هذه التّسعة والتّسعين من أحصاها دخل الجنّة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنّة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في الحديث الآخر:" أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ ".

    وأمّا تعيين هذه الأسماء فقد جاء في الترمذي، وهو ضعيف، وفي بعض أسمائه خلاف.

    هذه بعض ثمرات إثبات أسماء الله وصفاته القلبيّة والسّلوكيّة، وهناك ثمرة عظيمة قلّ من يُنبّه عليها، ألا وهي:

    9- إغلاق باب التّأويل والتّحريف على الباطنيّة والفلاسفة والملاحدة.

    فقد ظهر الفلاسفة والطبعيّون، فأنكروا نصوص المعاد واليوم الآخر، وأوّلوها على غير وجهها، حتّى قالوا إفكا عظيما، وأنّ المقصود بها خلاف ظاهرها، كما ترى في " الرّسالة الأضحويّة " لابن سينا (ص 99)، فلمّا ردّ الأشاعرة عليهم، قال الفلاسفة: ما جئنا بجديد، إنّما اتّبعنا آثاركم في تأويا الصّفات، فأوّلنا نصوص المعاد.

    وقام الباطنيّة المتصوّفة فأنكروا نصوص الشّريعة، وقالوا نحن علماء الحقيقة، ولا يحرم علينا ما حرُم على غيرنا، ولا يجب علينا ما يجب على غيرنا، والمقصود بالصّلاة خلاف ظاهرها، وبالزّكاة خلاف ظاهرها، وقالوا: إنّما أوّلنا كما أوّلتم نصوص الصّفات..

    فأُلزم الأشاعرة بقولهم، ووقعوا في حبلهم، حتّى قال ابن رشد – رحمه الله وعفا عنه – في " فصل المقال " (ص 49):

    " يشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة – أي: المعاد – من العلماء معذورا، والمصيب مشكورا مأجورا "!!

    وأُفحم الغزالي حتّى قال:" إنّما نستدلّ على المعاد بالكشف !! [الإحياء: (1/104)].

    أمّا الّذين تشبّثوا بما كان عليه سلف الأمّة، وأثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه، لم يُلزِمهم الفلاسفة ولا الدّهريّون ولا الباطنيّون بشيء، لأنّهم من أوّل يوم أغلقوا باب التّأويل، وما على المحسنين من سبيل ..

    يقول ابن تيمية رحمه الله في " درء التّعارض " (5/10):

    " ونُلزِم كلّ من سلك سبيل التّأويل بلازم لا ينفكّ عنه إلاّ مكابرةً، وهو أنّ ما يسلكه المتكلّمون من الأشاعرة وغيرهم في تأويل الصّفات، هو بعينه ما يسلكه الملاحدة الدّهريّة في إنكار ما أخبر الله به عباده من أمور اليوم الآخر والمعاد كابن سينا في " الرّسالة الأضحويّة "، وينتج عن هذا أحد ثلاثة أمور:

    - إمّا الاعتراف بمنهج السّلف، والرّجوع إليه.

    - وإمّا الاعتراف بتأويل الدّهريّة ومنكري المعاد.

    - وإمّا الحيرة والشكّ كما وقع لكثير منهم " اهـ.

    وسوف نرى إن شاء الله أنّه ما من صفة من صفات الله تعالى إلاّ وللإيمان بها ثمرات عظيمة، وآثار كبيرة، { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا } والحمد لله أوّلا وآخرا، باطنا وظاهرا، وصلّ اللهمّ على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي

    شرح الأسماء الحسنى


    الكاتب: عبد الحليم توميات


    (2) لفظ الجلالة: الله عزّ وجلّ




    2- شرح : ( لفظ الجلالة: الله عزّ وجلّ )

    فأوّل الأسماء التي نشرع في شرحها هو لفظ الجلالة ( الله عزّ وجلّ )، فهو: ( عَلَمٌ على ربّنا الإله المستحقّ للعبادة سبحانه وتعالى ).

    ونتطرّق إلى هذا الاسم الكريم في مسائل:

    المسألة الأولى: معنى لفظ الجلالة وأصل اشتقاقه:




    اختلف العلماء في كون لفظ الجلالة مشتقّا أو جامدا على قولين:

    الأوّل: أنّه مشتقّ من الألوهيّة والإلهيّة، وهي العبوديّة، تقول العرب: أله الشّيءَ أي: عبده وذلّ له. فأصل كلمة ( الله ) كما قال الكسائي والفرّاء وأبو الهيثم: الإله، حذفوا الهمزة وأدخلوا الألف واللاّم، ثمّ أدغمت اللاّم في الأخرى.

    ونظيره كلمة ( الأُناس ): حذفوا الهمزة فقالوا: "النّاس".

    فالله من إله بمعنى مألوه أي: معبود، ككتاب بمعنى مكتوب، وفراش بمعنى مفروش، وبساط بمعنى مبسوط، وإمام بمعنى مأموم يقصده النّاس.

    وروى الطّبريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" هو الّذي يألهُه كلّ شيءٍ، ويعبده كلّ خلق "، وعن الضحّاك عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" الله ذو الألوهيّة والعبوديّة على خلقه أجمعين ".

    فإن قال قائل: وما الّذي يدلّ على أنّ الألوهية هي العبادة، وأنّ الإله هو المعبود ؟

    فالجواب هو: أنّ العرب نطقت بذلك في كلامها:

    قال ابن سيده: والإلاهة والألوهة والألوهية: العبادة، وقد قرأ ابن عبّاس: ( وَيَذَرَكَ وَإَلاَهَتَكَ ) – بكسر الهمزة – أي: وعبادتك.

    القول الثّاني: أنّ لفظ الجلالة جامد، ويُنقل القول بعدم اشتقاقه عن الخليل – كما في " لسان العرب " – وسيبويه – كما في " أوضح البرهان في تفسير أمّ القرآن " للمعصومي – وكثير من الأصوليّين، ولكنْ في نسبة ذلك إلى سيبويه نظر[1].

    وقال ابن القيّم في " بدائع الفوائد " (1/26):" زعم أبو القاسم السّهيلي وشيخه ابن العربي أنّ اسم الله غيرُ مشتقّ ".

    وأدلّتهم على ذلك:

    1-أنّ الاشتقاق يستلزم مادّةً يُشتقّ منها، واسمه تعالى قديم والقديم لا مادّة له فيستحيل الاشتقاق.

    2-لو كان مشتقّا لاشترك في معناه كثيرون ممّن يُعبد، وذلك لم يقع، حتّى إنّ فرعون قال:{أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} ولم يقل: أنا الله ! بل عندما ادّعى الألوهيّة قال:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: من الآية38].

    3-بقيّة أسماء الله تعالى، تقع صفات، كالرّحمن الرّحيم، وغيرها، وهو لم يقع صفة أبدا.

    4-كلّ أسمائه تعالى يمكن ترجمتها إلاّ لفظ الجلالة "الله".

    والجواب عن هذه الأدلّة ما يلي:

    - أمّا قولهم: إنّ الاشتقاق يستلزم مادّةً يُشتقّ منها، واسمه تعالى قديم والقديم لا مادّة له. فهذا مردود بأنّ سائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرّحيم والسّميع والبصير أسماء مشتقّة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، والقديم لا مادّة له، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله.

    - وقولهم: لو كان مشتقّا لأُطلِق على كثير من المعبودات، وأنّه لا يقع صفةً، وأنّه لا يمكن ترجمته، فهذا لا يدلّ على ذلك، فإنّ لفظ الجلالة اختصّ به سبحانه، كما اختصّ القرآن بأن أُطلِق على كتاب الله المنزّل على محمّد صلّى الله عليه وسلّم دون غيره من الكتب، مع كونها مقروءة، ولم يمكن ترجمته كما تُرجمت الأسماء الأخرى. والله أعلم.

    المسألة الثّانية: مكانة هذا الاسم.

    اسم " الله " جلّ جلاله هو الاسم الجامع، وعلم الأعلام، ولهذا كان له خصائص كثيرة، منها:

    1- أنّه علم اختصّ به، وحتّى أعتى الجبابرة لم يتسمّ به، كما مرّ معنا.

    2- تُضاف الأسماء إليه، ولا يُضاف إليها، فيقال: الرّحمن الرّحيم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرّحمن الرّحيم، حتّى إنّه قال:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180] وقال:{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر].

    3- أنّه لا يصحّ إسلام أحد من النّاس إلاّ بالنّطق به، فلو قال: لا إله إلاّ الرّحمن، لم يصحّ إسلامه عند جماهير العلماء.

    4- ولا تنعقد صلاة أحد من النّاس إلاّ بالتلفّظ به، فلو قال: الرّحمن أكبر ! لم تنعقد صلاته.

    5- وهل هو اسم الله الأعظم ؟.

    مسألة اسم الله الأعظم.

    قبل البحث في ذلك، فإنّه لا بدّ أن نعلم أنّ المقصود بالاسم هنا ليس بالضّرورة أن يكون كلمة واحدة أو لفظا واحدا، فإنّ ذلك من اصطلاح النّحويّين، وإنّما المقصود شيء تسمّى به، فقد يكون صفة مركّبة من اسمين فأكثر.

    وقد دلّت السنّة على أنّ لله تعالى اسما خصّه بما لو دُعِيَ به أجاب، وقد أنكره طائفة من أهل العلم، كأبي جعفر الطّبري وأبي الحسن الأشعري، وجماعة بعدهما كأبي حاتم ابن حبّان، والقاضي أبي بكر الباقلاني، فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض. وأوّلوا أحاديث الباب بأنّ المراد زيادة ثواب الدّاعي بها.

    والقول الرّاجح قول من أثبته، وأحاديث الباب حجّة على المنكرين.

    نعم، هناك أحاديث كثيرة في هذا الباب، فمنها الموضوع، ومنها الضّعيف، ولذلك كثُرت الأقوال فيها، وما صحّ منها فهو قليل.

    ويلحق بذلك في الضّعف من قال: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم، ولم يُطلِع عليه أحدا من خلقه.

    وأثبته آخرون معيّنا واضطربوا في ذلك، قال الحافظ ابن حجر:

    " وجملة ما وقفت عليه في ذلك أربعة عشر قولا "، وقال الشّوكانيّ رحمه الله في "تحفة الذّاكرين": " قد اختُلِف في تعيين الاسم الأعظم على نحو أربعين قولا، قد أفردها السّيوطي بالتّصنيف".

    فذكرها، ومنها:

    1-( الله ) لأنّه اسم لم يُطلَق على غيره، ولأنّه الأصل في الأسماء الحسنى، ومن ثَمَّ أُضيفت إليه.

    2-ومنها ( الرّحمن الرّحيم، الحيّ القيّوم ) بدليل ما رواه التّرمذي وابن ماجه والدّارميّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ:{اَلَم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.

    وهو الّذي رجّحه ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد".

    3-ومنها "الحيّ" و"القيّوم"، بدليل ما أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي سُوَرٍ ثَلَاثٍ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه )).

    وهذا القول لا يُخالف القول الذي قبله، وقد انتصر ابن القيّم لهذا كثيرا.

    4-ومنها: المنّان، بديع السّماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، الحيّ القيّوم، ودليله ما رواه النّسائي وابن ماجه وأحمد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْمَسْجِدَ وَرَجُلٌ قَدْ صَلَّى وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، ياَ حيُّ ياَ قَيُّومُ !" فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:

    (( أَتَدْرُونَ بِمَ دَعَا اللَّهَ ؟ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى )).

    وهذا في الحقيقة لا يعارض ما سبق، لأنّ لفظ الحي القيّوم ذُكِر.

    5- ومنها: الأحد الصّمد الّذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، دليل ذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلًا يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " قَالَ: فَقَالَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى )).

    قال الحافظ رحمه الله: وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك انتهى.

    6- منها: أنّه " اللّهمّ "، بدليل أنّه تكرّر في الأحاديث.

    وهذا ضعيف، لأنّه لم يتكرّر في حديث أسماء بنت يزيد، ثمّ إنّ هناك كثيرا من الأدعيةبل جلّ الأدعيةمبدوءة باللهمّ، ومع ذلك لم يقل عنها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها حوت الاسم الأعظم.

    ثمّ إنّ الدّعاء باللّهمّ كان معروفا قبل الإسلام، فيبعُدُ أن يكون هو الاسم الأعظم.


    الحاصل: أن يقال: إنّ اسم الله الأعظم جنس يشمل عدّة أسماء هي: الرّحمن الرّحيم، والحيّ القيّوم، والأحد الصّمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد.

    والله أعلم وأعزّ وأكرم






    [1]/ فقد نقل ابن سيده رحمه الله عنه أنّ أصله إله، وأنّ الألف واللاّم فيه خلفٌ من الهمزة. انظر "شرح مشكل المتنبّي" ص 45 تـحقيق: محمد رضوان الدّاية، أمّا الخليل فعنه روايتان كما ذكر ابن الجوزي في تفسيره.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي

    جزاكم الله خيرا اخى الفاضل
    بارك الله فيكم وفى جهدكم

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابو وليد البحيرى مشاهدة المشاركة
    جزاكم الله خيرا اخى الفاضل
    بارك الله فيكم وفى جهدكم

    آمين، وإياكم
    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي

    - شرح الأسماء الحُسنى (3)
    تابع: شرح لفظ الجلالة الله عزّ وجلّ


    الكاتب: عبد الحليم توميات


    المسألة الثّانية: ثمرات العلم بهذا الاسم.

    الثّمرة الأولى:
    من علم معنى لفظ الجلالة، وأنّه المستحقّ للعبادة دون من سواه، حقّق التّوحيد الذي جاءت به الرّسل، وأُنزلت لأجله الكتب، وهو توحيد العبادة، قال عزّ وجلّ:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النّحل: من الآية36]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وما افتتح الله قصّة نبيّ من الأنبياء إلاّ ذكر نداءه لقومه:{ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
    وغير ذلك من الآيات.
    وفي الصّحيحين عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ:
    (( يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ! ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
    (( يَا مُعَاذُ ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ! ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
    (( يَا مُعَاذُ ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ! قَالَ:
    (( هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ ))، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:
    (( حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ))، ثُمَّ سَارَ سَاعَة،ً ثُمَّ قَالَ:
    (( يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ! فَقَالَ:
    (( هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ ؟)) قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ! قَالَ:
    (( حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ )).
    فعلى المؤمن أن يحذر الوقوع في شيء ينقض صرح كلمة التّوحيد، والمعنى الّذي يدلّ عليه هذا الاسم المجيد، لأنّه:
    - أوّلاً: كثيرا ما حذّر الله تعالى من الإشراك به فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48].
    - ثانيا: أنّ من أوقع الآيات على القلوب المنفّرة من الشّرك بالله تعالى قوله تعالى بعد مدح أنبيائه وصفوة خلقه – وهم ثمانية عشر رسولا –: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: من الآية88]، وقال لسيّد الموحّدين محمّد صلّى الله عليه وسلّم:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
    - ثالثا: كان إبراهيم عليهم السلام يدعو ربّه متضرّعا قائلا:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: من الآية35]، قال بعض السّلف: ومن يأمن على نفسه الشّرك بعد إبراهيم ؟!
    - رابعا: وما من آية تنهى عن الشّرك إلاّ ويتوعّد الله صاحبه بما لا يتوعّد به غيره، كقوله تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: من الآية31]، وقوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: من الآية13]، وكقوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: من الآية72].
    لذلك روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ[1]، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: " أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي[2] ؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ ! إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (( إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ )) ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ ! مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ ؟ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ[3] مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ )).
    وفي الصّحيحين عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ: (( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: ( لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ ؟) قَالَ: نَعَمْ ! قَالَ: ( فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ ).
    - خامسا: أنّ الشّرك يبقى مهيمنا على نفوس بعض هذه الأمّة، وفي ذلك كثير من الأحاديث، منها:
    ما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِين َ وَحَتَّى يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي )).
    وفي البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ – وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ –)).
    وغيرها من الأحاديث.
    الثّمرة الثّانية:
    إذا علمنا معنى الإله، تحقّقت المحبّة، وهو غاية الإسلام، فكيف ذلك ؟
    ذلك لأنّ الله من الإله، بمعنى المعبود، والعبادة هي التذلّل، فإنّ الحبّ يملك على العبد قلبه حتّى يُذلّه له تعالى، قال ابن القيّم في "مدارج السّالكين" (3/26): " فإنّ الإله هو الّذي يأله العبادَ حبًّا وذلاًّ وخوفا ورجاءً وتعظيما وطاعة له، بمعنى مألوه، وهو الّذي تألهه القلوب أي: تحبّه وتذلّ له.
    وأصل التألّه التعبّد، والتعبّد آخر مراتب الحبّ، يقال عبَّدَه الحبّ وتيّمه، إذا ملكه وأذلّه لمحبوبه، فالمحبّة حقيقة العبوديّة، وهل تمكن الإنابة دون المحبّة والرّضى والحمد والشّكر والخوف والرّجاء ؟ وهل الصّبر في الحقيقة إلاّ صبر المحبّين ؟
    وكذلك الزّهد في الحقيقة هو زهد المحبّين، فإنّهم يزهدون في محبّة ما سوى محبوبهم لمحبّته.
    وكذلك الحياء في الحقيقة، إنّما هو حياء المحبّين، فإنّه يتولّد من بين الحبّ والتّعظيم، وأمّا مالا يكون عن محبة فذلك خوف محض.
    وكذلك مقام الفقر، فإنّه في الحقيقة فقر الأرواح إلى محبوبها، وهو أعلى أنواع الفقر، فإنّه لا فقر أتمّ من فقر القلب إلى من يحبّه.
    وكذلك الغنى هو غنى القلب بحصول محبوبه وكذلك الشوق إلى الله تعالى ولقائه فإنه لب المحبة وسرّها.
    فمنكر هذه المسألة ومعطلها من القلوب معطل لذلك كلّه، وحجابه أكثف الحجب، وقلبه أقسى القلوب وأبعدها عن الله وهو منكر لخلّة إبراهيم u فإنّ الخلّة كمال المحبّة ".
    أروح وقد ختــمــت عـلـى فــؤادي بحُبِّـك أن يحـلّ به سـواكــــا
    فلو أنّي استطعت غضضت طرفي فلـم أنظر بـــه حــتّـى أراكـــا
    أحـبّـك لا بـبـعـضـي بـل بكلّـــــي وإن لم يُـبقِ حبُّـك لي حـراكا
    لذلك روى التّرمذي وأحمد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ في حديث اختصام الملأ الأعلى، وفيه: قَالَ الله له: قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا )).
    وكان ابن عمر يدعو في حجّه: " اللهمّ اجعلني ممّن يُحبّك، ويحبّ ملائكتك، ويحبّ رسلك، ويحبّ عبادك الصّالحين ".
    وكان حكيم بن حزام يطوف بالبيت ويقول:" لا إله إلاّ الله، نِعْم الربّ والإله، أحبّه وأخشاه ".
    وهذا العبّاس بن عبد المطّلب وقد حضرته الوفاة يوصي ابنه عبد الله:" إنّي موصيك بحبّ الله وحبّ طاعته، وخوف الله وخوف معصيته، وإنّك إذا كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك ".
    وجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم علامة الإيمان الكامل حبّ الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ففي الصّحيحن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ )).
    والله الموفّق لما يحبّه ويرضاه، لا معبود بحقّ سواه.



    [1]/ القترة: ما يعلو الوجه من الكرب، والغبرة: ما يعلوه من الغبار، فالأوّل معنويّ والآخر حسّي.
    [2]/ يقصد قوله تعالى عن إبراهيم عليه السّلام:{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} (مريم:43)].
    [3]/ الذيخ: الذّكر من الضباع الكثير الشعر، والجمع أذياخ و ذيوخ، وأراد بالتلطخ التلطخ برجيعه أو بالطين كما قال في حديث آخر: ( بذيخ أمدر ) أي متلطخ بالمدر.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي

    - شرح الأسماء الحُسنى (4)

    الأوّل، والآخر والظّاهر والباطن


    الكاتب: عبد الحليم توميات



    هذه الأسماء كثيرا ما ترد مقترنة بعضها ببعض، أو يذكر الأوّل مع الآخر، أو الظّاهر مع الباطن، قال الله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]..
    وفي الحديث الذي رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَأْمُرُنَا إِذَا أَخَذْنَا مَضْجَعَنَا أَنْ نَقُولَ:
    (( اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ )).

    فما معنى هذه الأسماء الكريمة ؟
    معنى"الأوّل": هو الذي ليس قبله شيء، فكلّ ما سواه حادث مخلوق.
    وفي الحديث: (( كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ..)) [رواه البخاري].
    وفي رواية له أيضا قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ))، وفي رواية : (( وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ)).
    ويعبّر عنه بعضهم بالقديم، بل إنّ أهل الكلام جعلوه من أسمائه، ومن المقرّر أنّ أسماء الله توقيفيّة، ولا يقاس عليها، وإنّما استعمل علماء أهل السنّة صفة القِدم في باب الأخبار، قال الإمام الطّحاوي رحمه الله:" قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء ".
    وذكره ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه، وذلك للبيان، قال ابن أبي العزّ الحنفي رحمه الله في "شرح العقيدة الطّحاويّة" (112):
    " وقد أدخل المتكلّمون في أسماء الله تعالى (القديموليس هو من الأسماء الحُسنى، فإنّ القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدّم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلاّ في المتقدّم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يـس:39]، والعرجون القديم الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثّاني، فإذا وُجد الجديد قيل للأوّل قديم، وقال تعالى:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: من الآية11]، أي: متقدّم في الزّمان .. وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف منهم ابن حزم .. والله تعالى له الأسماء الحسنى، لا الحسنة "اهـ.
    ومنهم من يقول " الأزليّ "، والأزل مقابل للأبد، فالأزل للماضي غير المحدود الذي لا بداية له، والأبد الذي لا نهاية له.
    معنى"الآخر":
    هو الذي ليس بعده شيء، فهو يدلّ على دوام بقائه سبحانه وتعالى، كما قال:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} وقال:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: من الآية88].
    والمقصود بدوامه وبقائه أنّه باقٍ بذاته سبحانه وتعالى، بخلاف المخلوقات الّتي لا تفنى ولا تبيد كالجنّة والنّار والعرش والكرسيّ والقلم وما قام الدّليل على دوامه، فهي لا تدوم بذاتها ولكن بإذن الله ومشيئته.
    معنى"الظّاهر":
    هو الّذي ليس فوقه شيء كما في الحديث السّابق، فالمراد بالظّهور هنا: العلوّ، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أي: يعلوه، ومنه ظهر الشّيء لأنّه أعلاه، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أًمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ )) أي: عالين قاهرين.
    معنى"الباطن":
    هو الّذي ليس دونه شيء، أي لا شيء أقرب إلى العبد منه تعالى، كما قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: من الآية16] {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طـه:7].
    ثمرات معرفة هذه الأسماء:
    الثمّرة الأولى: إنّ معرفة أوّليته وآخريّته تدلّ على غناه المطلق، فهو غنيّ عن العباد، كما قال تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَة} [الأنعام: من الآية13]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، وقال:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: من الآية97]، وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: من الآية7]، وقال: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: من الآية6]، وغير ذلك من الآيات.
    فهو بخلقه للعباد ملائكتهم، وإنسهم، وجنّهم، وجمادهم، فإنّما هو ليُعبد، لا لأنّه مفتقر إلى العباد.
    الثمّرة الثّانية: أنّ العلم بهذه الصّفات الأربعة يغرس في النّفس تعظيم المولى تبارك وتعالى، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسّر لنا كلّ اسم من هذه الأسماء، ونفى عنه ما يضادّه وينافيه، فتدبّر هذه المعاني الجليلة الدالّة على تفرّد الله بصفات الكمال المطلق، فترى:
    أ*) الإحاطة الزّمانيّة في قوله (( الأوّل والآخر )).
    ب*) والإحاطة المكانيّة في قوله (( الظّاهر والباطن )).
    فالأوّل: يدلّ على أنّ كلّ ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن.
    والآخر: يدلّ على أنّه سبحانه وتعالى الغاية والمنتهى والمقصد الذي تريده جميع المخلوقات، فلا تبتغي إلاّ رضاه، ولا تريد إلاّ إيّاه.
    والظّاهر: يدلّ على عظمته وزوال كلّ عظمة أمام عظمته، لعلوّه شأنا وقهرا وذاتا.
    والباطن: يدلّ على كمال قربه من العباد واطّلاعه على الخبايا والسّرائر، وعلمه بالنيّات والضّمائر.
    قال ابن القيّم رحمه الله في "طريق الهجرتين" (46):
    " هذه الأسماء الأربعة: الأوّل، والآخر، والظّاهر، والباطن، هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلُغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قُواه وفهمُه. واعلم أنّ لك أنتَ أوّلا وآخرا، وظاهرا وباطنا، بل كلّ شيءٍ فله أوّل وآخر، وظاهر وباطن، حتّى الخَطْرَة واللّحظة والنّفَس وأدنى من ذلك وأكثر.
    فأوّلية الله عزّ وجل سابقة على أوّلية كلّ ما سواه، وآخريّته ثابتة بعد آخريّة كلّ ما سواه: فأوّليته سبقُه لكلّ شيء ، وآخريّته بقاؤه بعد كلّ شيء.
    وظاهريّته سبحانه فوقيّته وعلوّه على كلّ شيء، ومعنى الظّهور يقتضي العلوّ، وظاهر الشّيء هو ما علا منه، وأحاط بباطنه ، وبطونه سبحانه إحاطته بكلّ شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه.
    فسبق كلّ شيء بأوّليته، وبقي بعد كلّ شيء بآخريّته، وعلا على كلّ شيء بظهوره، ودنا من كلّ شيء ببطونه، فلا تُواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضًا، ولا يحجُب عنه ظاهرٌ باطنًا، بل الباطنُ له تعالى ظاهرٌ، والغيبُ عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسرّ عنده علانية.
    فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التّوحيد، فهو الأوّل في آخريّته، والآخر في أوّليته، والظّاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أوّلا وآخرا، وظاهرا وباطنا.
    لذلك قال ابن أبي العزّ الحنفي رحمه الله: " فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزليّة الربّ سبحانه وتعالى وأبديّته، واسمان لعلوّه وقربه ". وسوف نعود إلى الكلام عن الإحاطة عند الحديث عن اسم الله "المحيط".
    الثمّرة الثّالثة: ذكرها ابن القيّم، وهي التعبّد بهذه الأسماء: وهو رتبتان:
    المرتبة الأولى: أن تشهد الأوّلية منه تعالى في كلّ شيء، والآخريّة بعد كلّ شيء، والعلوّ والفوقيّة فوق كلّ شيء، والقرب والدنوّ دون كلّ شيء. فالمخلوق يحجُبُه مثلُه عمّا هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والربّ جلّ جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه.
    وهذا ما سنفصّل القول فيه عند الحديث عن اسم "الرّقيب".
    والمرتبة الثّانية: من التعبد أن يعامل كلّ اسم بمقتضاه:
    فيعامل سبقه تعالى بأوّليته لكلّ شيء وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها، وعدم الالتفات إلى غيره، وعدم الوثوق بسواه والتوكل على غيره.
    ثم تعبّد له باسمه الآخر: بأن تجعلَه وحدَه غايتَك الَّتي لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءه، فكما انتهت إليه الأواخر، وكان بعد كل آخر، فكذلك اجعل نهايتك إليه، فإنّ إلى ربك المنتهى، إليه انتهت الأسباب والغايات، فليس وراءه مرمى ينتهي إليه.
    ثمّ التعبد باسمه الظاهر: فإذا تحقّق العبد من علوّ الله المطلق على كلّ شيء بذاته، وأنّه ليس فوقه شيءٌ ألبتّة، وأنّه قاهر فوق عباده، يدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض ثمّ يعرج إليه، وإليه يصعد الكلم الطيّب، والعمل الصّالح يرفعه، صار لقلبه جهةٌ يقصدها، وربٌّ يعبده، وإله يتوجّه إليه، بخلاف من لا يدري أين ربّه ؟ فإنّه ضائع مشتت القلب، ليس لقلبه قبلة يتوجّه نحوها، ولا معبودَ يتوجّه إليه قصدُه، وصاحب هذه الحال إذا سلك وتألّه وتعبّد طلب قلبُه إلاها يسكن إليه، ويتوجّه إليه، وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إلاّ العدم، وأنّه ليس فوق العالم إله يُعبَد، ويصلّى له ويسجد، وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب ولا يرفع إليه العمل الصالح جال قلبه في الوجود جميعه فوقع في الاتّحاد ولا بدّ، وتعلّق قلبه بالوجود المطلق، فاتّخذ إلهه من دون إله الحقّ، وظنّ أنّه قد وصل إلى عين الحقيقة، وإنّما تألّه وتعبّد لمخلوق مثلِه، ولخيال نحته بفكره.
    فإذا استقرّ ذلك في قلبه، وعرف ربّه باسمه الظّاهر، استقامت له عبوديّته، وصار له معقِل وموئل يلجأ إليه ويهرب إليه، ويفرّ كلّ وقت إليه.
    وأمّا التعبّد باسمه الباطن: فإذا شهدْتَ إحاطته بالعوالم وقرب العبيد منه، وظهور البواطن له، وبدوّ السرائر، وأنّه لا شيء بينه وبينها، فعامِلْه بمقتضى هذا الشّهود، وطهِّر له سريرتك، فإنّها عنده علانية، وأصلح له غيبك، فإنّه عنده شهادة، وزكِّ له باطنك فإنّه عنده ظاهر.
    الثمّرة الرّابعة: أنّ معرفة أوّليته تدلّ على أنّه ليس في كلّ مكان كما يقول الجهميّ، قال ابن القيّم رحمه الله في "اجتماع الجيوش الإسلاميّة"(127):

    " قال الإمام أحمد: " وإذا أردت أن تعلم أنّ الجهميّ كاذب على الله سبحانه وتعالى حين زعم أنّه في كلّ مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل له: أليس كان الله ولا شيء ؟ فيقول: نعم !
    فقل له: فحين خلق الشّيء خلقه في نفسه، أو خارجا عن نفسه ؟ فإنّه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل:
    إن زعم أنّ الله تعالى خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أنّ الجنّ والإنس والشّياطين وإبليس في نفسه.
    وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثمّ دخل فيهم، كفر أيضا حين زعم أنّه دخل في كلّ مكان وحش وقذر.
    وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه، ثمّ لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كلّه أجمع، وهو قول أهل السنّة".






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي

    شرح الأسماء الحُسنى (5):العليّ، والأعلى، والمتعالي


    الكاتب: عبد الحليم توميات



    فقد تطرّقنا في الحلقة السّابقة إلى اسمي الظّاهر والباطن، وذكرنا هناك أنّهما يدلاّن على معاني كثير من أسماء الله عزّ وجلّ، فمن هذه الأسماء الّتي يدلّ عليها اسم الظّاهر:
    6- العلـيّ 7- الأعلـى 8- المتعالـي.
    أمّا ( العليّ ): فهو صفة على صيغة المبالغة من العلوّ، فيقال ( عليّ ) مبالغةً لـ:عالٍ، كما يقال قدير مبالغة لقادر.

    وذلك لأنّ كثيرا من المخلوقات توصف بالعلوّ، ولكنّه تعالى له كمال العلوّ، قال تعالى:{وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: من الآية255] وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: من الآية12]..
    وأمّا ( الأعلى ): فهو على وزن " أفعل التّفضيل "، فمهما علا الشّيء فالله أعلى، قال تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1]، وقال: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [اللّيل:20]..
    وأمّا ( المتعالي ): فقال الطّبري رحمه الله:" المتعال: المستعلي على كلّ شيء بقدرته، وهو المتفاعل من العلوّ مثل المتقارب من القرب".
    فنلاحظ أنّ العليّ أبلغ؛ لأنّها تثبت العلوّ له مطلقا سواء وُجِد من يتعالى أو لا، في حين أنّ الأعلى والمتعالي تشير إلى أنّه أعلى من غيره.
    وكلّ هذه الأسماء تثبت للمولى تبارك وتعالى صفة العلوّ بجميع معانيه، الذي هو مستقرّ في الفطر، وهو أنواع:
    1-علوّ القدر: وهو علوّ صفاته وعظمتها، فلا يماثله مخلوق، بل لو اجتمع الخلق كلّهم لما استطاعوا أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته سبحانه، قال عزّ وجلّ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}.
    2-علوّ القهر: كما قال تعالى:{وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ}، الذي قهر بعزّته وعلوّه الخلق كلّهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا يمانعه ممانع، وليس لأمره من دافع.
    3-علوّ الذّات: فهو فوق جميع مخلوقاته في سمائه، عاليا على خلقه، بائنا منهم، ويعلم حركاتهم وسكناتهم وأعمالهم وأقوالهم، لا تخفى عليه خافية.
    قال تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي} [آل عمران: من الآية55]، وقال تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ}، وقال:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:18]، وقال سبحانه:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النّحل:50]، وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه} [فاطر: من الآية10]، وقال: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}، وقال:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]..وقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]..وغيرها من الآيات..
    وصفة العلوّ صفة ذات تدلّ عليها الفطرة، أي: فُطِرت النّفوس على إثباتها، وجبلت القلوب على معرفتها، بل إنّ أعتى مخلوق وأكفرهم كان يعتقد ذلك، فقد قال الله تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً (37)} [غافر]..
    ولا يجد المرء من نفسه حال الدّعاء إلاّ أن يرفع يديه وبصره ويتّجه بقلبه إلى السّماء، وقد نقل ابن تيمية رحمه الله تعالى إجماع الملل على ذلك.
    ومن الأحاديث في ذلك الكثير والكثير:
    - ما رواه البخاري ومسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً )).
    - ما رواه التّرمذي وأبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ )).
    - حديث عروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى ربّه.
    - ما رواه مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قال - وذلك بعدما ضرب جاريته وندم-: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَفَلَا أُعْتِقُهَا ؟ قَالَ: (( ائْتِنِي بِهَا !)) فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: (( أَيْنَ اللَّهُ ؟ )) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: (( مَنْ أَنَا ؟)) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: (( أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ )).
    - ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم تَقُولُ :"زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ".
    - ما رواه أحمد قال: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال لعائشة حين دخل عليها وهي تحتضر: وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ جَاءَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ فَأَصْبَحَ لَيْسَ لِلَّهِ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ إِلَّا يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ".

    وغير ذلك من الأحاديث التي أيّدت الفطرة السّليمة البعيدة عن القواعد الفلسفيّة السّقيمة.
    وعلى هذا سار الصّحابة والتّابعون كلّهم، وعنهم آثار يصعب حصرها، وقد جمع الكثير منها العلاّمة الذّهبي في كتابه " العلوّ للعليّ القهّار " واختصره العلاّمة الألباني رحمه الله، ولابن قدامة أيضا كتاب في " إثبات صفة العلوّ" حقّقه بدر البدر، كما جمعها أسامة القصّاص رحمه الله في كتابه " إثبات علوّ الله على خلقه والردّ على المخالفين "، وهو أحسن ما ألِّف، ولموسى الدّويش كتاب " علوّ الله على خلقه " وهو نافع ومفيد.
    أمّا صفة الاستواء فهي صفة جاء بها السّمع والنّقل، وهذا هو الفارق بين صفة العلوّ والاستواء، فالعلوّ ثابت بالفطرة، والاستواء على العرش ثابت بالنّقل.و
    في القرآن الكريم سبع آيات تذكر استواء الله على عرشه: في سورة الأعراف 54، ويونس 3، الرّعد 2، وطه 5، والفرقان 59، والسّجدة 4، والحديد 4.
    والجدير بالتّنبيه عليه أنّها جاءت في سياق إثبات قدرة الله تعالى على الخلق كقوله:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2]، وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59].. ممّا يدلّ على أنّها صفة كمال وعظمة، لاصفة نقص.
    ( تنبيه مهمّ ): قول المسلم:" الله في السّماء " قول مطابق لما في الكتاب والسنّة، ولا يرِد علينا قول المخالف: كيف يكون الله الخالق في السّماء المخلوقة ؟ فالجواب أن يقال: إنّ معنى ( في ) يحتمل أحد أمرين:
    - الأوّل: أنّها بمعنى ( على )، فإنّه من المقرّر في لغة العرب أنّ ( في ) تأتي للاستعلاء، ومنه قوله تعالى: { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }.
    - الثّاني: أنّها على أصلها وهو الظّرفية، ويكون معنى ( السّماء ) حينئذ ( العلوّ) لا هذا الجرم المخلوق، والعرب تُطلق على العلوّ لفظ السّماء، فالطّائر بحلّق في السّماء، وتقول: رمى بالحجر في السّماء، ونحوه كثير.
    فصل في الجواب عن شبه المخالف.
    فإنّه قد جرى النّاس على الاسترسال وراء الشّبهات حتّى صارت من القطعيّات، وإنّ كثيرا ممّن وقع في أوحال التّأويل راح يلتمس الأدلة التي يظنّها ناهضة، وهي ليست سوى شبهات داحضة، منها:
    -الشّبهة الأولى: إثبات الله تعالى معيّته لعباده، كقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} [الحديد: من الآية4]، وبقوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: من الآية7].
    والحقّ أنّ المعيّةنوعان: معيّة عامّة، ومعيّة خاصّة.
    - فالعامّة: أنّه مع عباده بعلمه وسمعه وبصره لا يغيب عنه من أفعالهم وأقوالهم شيء{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] وهذا ما تقرّره الآيتان المذكورتان في شبهتهم، ألا ترى سياقها وسباقها ؟ فهو يبيّن لعباده سعة علمه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].. وانظر إلى قوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
    ولله المثل الأعلى، فإنّ الله خلق الشّمس والقمر مكانهما السّماء ونورهما يصاحب العباد.
    - أمّا المعيّة الخاصّة، فهي ثابتة للمؤمنين الصّالحين، قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:من الآية123]، وقال عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: من الآية153]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، وقال:{قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طـه:46]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النّحل:128]..
    ويمكن أن يقال: إنّ هناك معيّة أخصّ، وهي: أنّه تعالى يكون مع عباده يوم القيامة يكلّمهم ويكلّمونه، يحدّثهم ويحدّثونه. نسأل الله النّظر إلى وجهه الكريم.
    الشّبهة الثّانية: تفسيرهم "استوى" بمعنى "استولى"، ويستشهدون ببيت من الشّعر:
    قد استـوى بِشْـر على العـراق من غيـر سيـف ولا دم مـهـراق
    وبيان بطلان هذه الشّبهة من وجوه:
    1-الوجه الأوّل: أنّ (استوى) لا تأتي في لغة العرب بمعنى استولى، وغاية معاني الاستواء أنّه يأتي بمعنى:
    أ)علا، كما في قوله تعالى:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13].
    ب)بمعنى انتصب قائما، كقوله تعالى:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: من الآية29].
    ج)بمعنى المساواة، فتقول العرب: استوى هذا وذاك.
    د)بمعنى التّمام والكمال، ومنه على أحد الأقوال قوله تعالى:{ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6]، ومنه السويّ.
    2- الوجه الثّاني: لقد فرّ المعطّلة من صفة العلوّ التي هي صفة كمال إلى صفة نقص، لأنّ الاستيلاء لا يكون إلاّ بعد فقد الشّيء، !
    وما أجمل ما ذكره ابن منظور رحمه الله وغيره قال:" قال داود بن علي الأصبهاني: كنت عند ابن الأعرابيّ، فأتاه رجل فقال: ما معنى قول الله عزّ وجلّ:{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} ؟ فقال ابن الأعرابيّ: هو على عرشه كما أخبر. فقال: يا أبا عبد الله ! إنّما معناه (استولى). فقال ابن الأعرابيّ: ما يدريك ؟ العرب لا تقول:"استولى" على الشّيء حتّى يكون له مضادّ، فأيّهما غلب فقد استولى ".
    قال ابن القيّم رحمه الله في "اجتماع الجيوش الإسلاميّة" (192):
    " ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه كما قال الشّاعر: (قد استوى بشر على العراق)، لأنّ الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه "اهـ.
    3-الوجه الثّالث: لقد فرّوا من العلوّ لأنّ فيه مشابهة للمخلوقين - على حدّ زعمهم -، وفرّوا إلى صفة من صفات المخلوقين أيضا وهو الاستيلاء، ولو أنّهم فقهوا معنى قوله عزّ وجلّ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: من الآية11] لأراحوا واستراحوا.
    فالقول في بعض الصّفات كالقول في بعضها الآخر، كما هو مقررّ في قواعد إثبات أسماء الله وصفاته.
    4- الوجه الرّابع: ثمّ اعجب من استدلالهم بهذا البيت وهو لا يُعرف قائله، وهل هو ممّن يُحتجّ بلسانه ؟ وقد رأيناهم ينكرون الاحتجاج بالأحاديث الصّحيحة المرويّة آحادا ! فهل هذا إلاّ كيل بمكيالين، ولعب على الحبلين ؟!
    5- الوجه الخامس: ثمّ إنّنا نقول لو فرضنا ثبوت هذا البيت عن قائل معروف يُحتجّ بلسانه، فإنّه لا يُنافي العلوّ، لأنّ العلوّ مع الاعتدال والتمكّن هو الاستواء، فكذلك الملك فإنّه يعلو على عرش مملكته.
    فإنّ المراد بالبيت ( بشر بن مروان بن الحكم )، واستواؤه على العراق أي على كرسيّ ملكها، ولم يُرِد الشّاعر بذلك مجرّد الاستيلاء، بل استواء منه عليها، إذ لو كان كذلك لكان عبد الملك الذي هو الخليفة قد استوى أيضا على العراق، وعلى سائر مملكة الإسلام، ولكان عمر بن الخطّاب قد استوى على العراق وخراسان والشّام ومصر وسائر ما فتحه، ولكان رسول الله قد استوى على اليمن وغيرها ممّا فتحه، ومعلوم أنّه لم يوجد في كلامهم استعمال الاستواء في شيء من هذا، وإنما قيل فيمن استوى بنفسه على بلد فإنّه مستوٍ على سرير ملكه، كما يقال: جلس فلان على السّرير، وقعد على التّخت، ومنه قوله تعالى:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدا} [يوسف: من الآية100] وقوله:{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23].
    [انظر "شرح قصيدة ابن القيّم" (2/31)].
    أمّا ثمرات هذه الأسماء المباركة فهي نفسها ثمرات الاسم الكريم ( الظّاهر ).
    والله أعلم





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح الأسماء الحسنى



    شَرْحُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى (6): القـريـب


    الكاتب: عبد الحليم توميات




    فقد رأينا في الحلقة السّابقة ثلاثة من أسماء الله الحسنى لها ارتباط تامّ باسم ( الظّاهر )، ألا وهي: العليّ، والأعلى، والمتعالي، وفي هذه الحلقة نتطرّق إلى اسم من أسمائه عزّ وجلّ له معنى ( الباطن )، ألا وهو:
    9- القريب.
    ويثبت بهذا الاسم صفتان، هما: القرب، والدنوّ، والنّصوص على ذلك كثيرة منها:

    - قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: من الآية 186]، وعلى لسان نبيّ الله صالح قال:{فَاسْتَغْفِرُوه ُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: من الآية 61].
    - وروى مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً )).
    - وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
    (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ! فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ )).
    - وروى مسلم عن عَائِشَة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ )).
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - كما في " المجموع " (5/466)-:
    " أمّا دنوّه نفسُه وتقرّبه من بعض عباده، فهذا يُثبته من يُثبت قيام الأفعال الاختياريّة بنفسه كمجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستوائه على عرشه، وهذا مذهب أئمّة السلف، وأئمّة الإسلام المشهورين وأهل الحديث والنّقل عنهم بذلك متواتر ".
    وكلّ قُرْب يُفهَمُ بحسب النّص الوارد فيه، قال شيخ الإسلام – كما في " المجموع " (6/14)-:
    " ..ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كلّ موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، ويُنظر في النصّ الوارد، فإن دلّ على هذا حُمل عليه، وإن دلّ على هذا حُمل عليه ".اهـ
    فيقال في صفة القرب ما قيل في صفة المعيّة:
    1- فالقرب العامّ: يكون بسمعه وبصره وعلمه، كقوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} [ق:16] وقوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85] على قول بعض المفسّرين كابن عطية رحمه الله (13/539)، قال أبو عمرو الطلمنكي: ومن سأل عن قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} فاعلم أنّ ذلك كلّه على معنى العلم به والقدرة عليه، والدّليل من ذلك صدر الآية، فقال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ}
    [انظر: " مجموع الفتاوى " (5/501)].
    واختار الإمام الطّبري رحمه الله (13/209)، وابن كثير (6/91) أنّ المراد بذلك الملائكة، وأيّدوا قولَهم بما سبق من قوله تعالى:{ إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَان ِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ }، قالوا: فهذا دليل على أنّ المراد به قرب الملكين.
    2- والقرب الخاصّ: يكون من عبده بنصره وتأييده وإجابته، كقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}.
    3- والقرب الأخصّ: فيكون بذاته سبحانه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، فيدنو سبحانه وتعالى من أهل الموقف عشيّة عرفة، ومن القائمين بالثّلث الأخير من اللّيل.
    روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
    (( إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ )).
    فمذهب الصّحابة والتّابعين والأئمّة المتَّبعين أنّ المراد أنّ الله ينزل بذاته العليّة من عباده كدنوّه منهم عشيّة عرفة، وإنّما اختلفوا: هل هذا الدنّو خاصّ بمن يقوم اللّيل ومن هو واقف بعرفة أو هو عامّ فيدنو من الخلق كلّهم ؟
    قال شيخ الإسلام - كما في " مجموع الفتاوى " (5/131) -:
    " ثمّ إنّ هذا النّزول هل هو كدنوّه عشيّة عرفة، لا يحصل لغير الحاجّ فى سائر البلاد، إذ ليس بها وقوف مشروع ولا مباهاة الملائكة، وكما أن تفتيح أبواب الجنّة وتغليق أبواب النّار وتصفيد الشّياطين إذا دخل شهر رمضان إنّما هو للمسلمين الذين يصومون رمضان لا الكفار الذين لا يرون له حرمة، وكذلك اطّلاعه يوم بدر وقوله لهم: اعملوا ما شئتم، كان مختصا بأولئك ؟ أم هو عام ؟ فيه كلام ..".
    ثمرات معرفة اسم الله " القريب ".
    - الثّمرة الأولى: تعظيم المولى تبارك وتعالى:
    إنّ من ثمرات الإيمان بهذا الاسم الكريم أن يعلم العبد أنّ الله - وهو على عرشه المجيد - أقرب إليه من حبل الوريد، وبذلك يزداد تعظيمه لربّه، وإكباره له في قلبه، وانظر إلى ما رواه البخاري ومسلم والنّسائي واللّفظ له عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ:
    الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ ! لَقَدْ جَاءَتْ خَوْلَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا، فَكَانَ يَخْفَى عَلَيَّ، كَلَامُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ... }الْآيَةَ.
    - الثّمرة الثّانية: معرفة الله كما يجب:
    بمعرفة القرب الإلهيّ العام والخاصّ، وبالإيمان أنّ العام هو إحاطة علمه بجميع الأشياء، والخاصّ هو قربه من الدّاعين والعابدين والمحبّين، فمن فهم وعلم ذلك كلّه لم يفهم ما فهمه أهل الحلول والاتّحاد، والزّيغ والإلحاد، الذين قالوا إنّ الله حلّ في مخلوقاته - تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا -.
    - الثّمرة الثّالثة: مناجاة الله تعالى:
    فمن الثّمرات العظيمة مناجاة الله في الخلوات، وخاصّة في الصّلاة، فإنّ المسلم عليه أن يستحضر أنّ الله قريب من عبده ودعواه، ويسمع نجواه وشكواه، فيُكثر من الدّعاء في صلاته، روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ )).
    كما أنّ على العبد أن يُحسِن الوقوف بين يدي ربّه في صلاته، روى النّسائي عن أَبِي ذَرّ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَا يَزَالُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ )).
    - الثّمرة الرّابعة:ترك رفع الصّوت بالدّعاء:
    من ثمرات معرفة اسم الله ( القريب ) عدم رفع الصّوت بالدّعاء وقراءة القرآن إلاّ فيما استثناه الشّرع.
    روى أبو داود وغيره عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ: (( أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ )).
    - الثّمرة الخامسة: إدراك معاني الأسماء الحُسنى الأخرى:
    فمن أهمّ ثمرات فهم معنى هذا الاسم الكريم، هو الوصول إلى فهم معاني الأسماء الحسنى الأخرى، ومنها: الرّقيب، والشّهيد، وهو ما سوف نتطرّق إليه في الحلقة القابلة إن شاء الله تعالى.
    والحمد لله ربّ العالمين.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح الأسماء الحسنى

    شَرْحُ الأَسْمَاءِ الحُسنَى (7) الرّقيب والشّهيد


    الكاتب: عبد الحليم توميات



    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
    فمن الأسماء الحسنى المتّصلة باسم الله ( القريب ) الّذي تطرّقنا إليه في حلقتنا الأخيرة:
    10-الرّقيب و11-الشّهيد.
    والنّصوص في إثبات هذين الاسمين كثيرة.

    * أمّا الرّقيب: فقد قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النّساء: من الآية1] وقال:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} [الأحزاب: من الآية:52].
    قال ابن عبّاس: ( رَقِيباً ) أي حفيظا، وقال مجاهد وابن زيد: عليما.
    واشتقاقه من رقبتُ الشّيء أرقبه إذا كنت أحيط به العلم، ومنه: المَرْقَب، وهو المكان العالي المشرف يقف عليه الرّقيب، ومنه المراقبة.

    قال ابن منظور في "لسان العرب": " ورقيب بمعنى حفيظ وحافظ ".
    وقال ابن الأثير الجزري في "جامع الأصول" (4/179) في شرحه لهذا الاسم الكريم:
    " الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء "، والمقصود بالحفظ هنا: حفظ الأعمال والأقوال والحركات والسّكنات، فلا يغيب عنه شيء.
    وقال السّعدي رحمه الله:" الرّقيب: المطّلع على ما أكنّته الصّدور، القائم على كلّ نفس بما كسبت، الّذي حفظ المخلوقات، وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير ".
    وقال القرطبي في " الكتاب الأسنى "- نقلا عن " النّهج الأسنى "(1/378)- عن هذه الصّفة إنّها:
    " راجعة إلى العلم والسّمع والبصر، فإنّ الله تعالى رقيب على الأشياء بعلمه المقدّس عن النّسيان، ورقيب للمُبصَرات ببصره الّذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، ورقيب للمسموعات بسمعه المدرِكِ لكلّ حركة وكلام، فهو سبحانه رقيب عليها بهذه الصّفات، تحت رِقبته الكلّيات والجزئيّات، وجميع الخفيّات في الأرضين والسّماوات، ولا خفيّ عنده، بل جميع الموجودات كلّها على نمطٍ واحد، في أنّها تحت رِقبته التي هي صفته "اهـ.
    قال ابن القيّم رحمه الله:
    ( وهو الرّقيب على الخواطر واللّوا ـحظ كيف بالأفعال بالأركان ؟! )
    * وأمّا الشّهيد: فقد قال تعالى:{وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: من الآية98]، وقوله:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: من الآية 19] {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: من الآية:17].
    والدّليل على أنّه يقتضي حفظ الأعمال والأقوال قوله تعالى:{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
    * الرّقيب والشّهيد بمعنى واحد:


    فإنّ مراقبة الشّيء تقتضي الشّهادة والحضور، لذلك فسّر بعض السّلف اسم الرّقيب بـ ( الشّهيد ).
    قال الشّيخ السّعدي رحمه الله في شرح " القصيدة النّونية " (ص89):
    " ومن أسمائه الحسنى ( الرّقيب )، وهو واسمه ( الشّهيد ) مترادفان، كلاهما يدلّ على حضوره مع خلقه، يسمع ما يتناجون به، ويرى ما يخوضون فيه، ويعلم حركات خواطرهم، وهواجس ضمائرهم، وتقلّب لواحظهم، لا يغيب عنه من أمرهم شيء يقولونه أو يفعلونه، كما قال تعالى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61]، وقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]".اهـ.
    وانظر كيف جمع عيسى عليه السّلام بين هذين الاسمين الكريمين حيث قال:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117].
    * ثمرات هذين الاسمين:
    - الثّمرة الأولى: تعظيم الربّ سبحانه، ومعرفة حقّ قدره:
    فلا شكّ أنّ هذين الاسمين الكريمين فيهما من العظمة والمهابة ما لا يخفى، فهما يدلاّن على علم الله الشّامل وإحاطته الكاملة.
    والآيات في إثبات ذلك أكثر من أن تُحصى كقوله تعالى:{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِه} [فصلت: من الآية:47]، وقوله:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: من الآية59].
    - الثّمرة الثّانية: معرفة الله على الوجه الصّحيح:
    فإنّ صفة المراقبة قد يدركها العبد بفطرته، ولكنّ مراقبتَه لكلّ صغير وكبير ممّا قد يخفى العبد، وتأمّل معي ما رواه البخاري ومسلم عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ؟ قُلْنَا بَلَى، قَالَتْ:
    لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا.
    فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ.
    فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً ؟! )) قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ. قَالَ: (( لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )).
    قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: (( فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي ؟! )) قُلْتُ: نَعَمْ.
    فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: (( أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ ؟!)) قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ؟! نَعَمْ.
    قَالَ: (( فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ )).
    قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: (( قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِين َ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِ رِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ )).
    -الثّمرة الثّالثة: إدراك رحمة الله بالعباد، وعدله بينهم:
    وذلك بأنّ الله له أن يُحاسِب العبادَ بمقتضى علمه وإحاطته، ومع ذلك فقد أقام على العباد حجّته بأمور كثيرة:
    أوّلها: كتابة الأعمال بوساطة الملائكة، قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11)} مع أنّه لا يخفى عليه شيء. فقد قال تعالى على لسان الملائكة:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم:64].
    ثانيها: قراءة كتاب الأعمال، قال تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]، ويقول تعالى:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14].
    ثالثها: وضع الميزان حتّى يرى بنفسه أنّه مستحقّ للثّواب والعقاب، قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وقال:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8) } [الزلزلة].
    -الثّمرة الرّابعة: تعبّد الله بهذين الاسمين:
    ولهذا كانت المراقبة من أجلّ أعمال العباد، وجعلها الله ممّا يرفعهم إلى مرتبة الإحسان، ففي الحديث: (( الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ )).
    وها هي وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه، بقوله: (( اِتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ))، فإنّ العبد إذا استحضر في غالب أحواله أنّ حركاته وسكناته الظّاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها، فلا شكّ أنّه سيصلح حاله، ويحسن مآله.
    - ذكر الذّهبي رحمه الله في كتابه " العلوّ للعليّ العظيم " بسند صحيح - كما قال الشّيخ الألباني رحمه الله في " مختصر العلوّ " - عن زيد بن أسلم قال:
    " مرّ ابن عمر رضي الله عنه براعٍ، فقال: هَلْ مِنْ جَزْرَةٍ ؟[1] فقال: ليس هاهنا ربّها.
    قال ابن عمر رضي الله عنه: تقول له أكلها الذّئب. قال: فرفع الرّاعي رأسه إلى السّماء، وقال: فأين الله ؟
    فقال ابن عمر: أنا – والله أحقّ – أن أقول: أين الله ؟ واشترى الرّاعيَ والغنمَ فأعتقه، وأعطاه الغنم ".
    - ومن محاسن الصّور التّربوية، أنّ أحد المعلّمين المربّين قال لصِبْية لديه: ليذهبْ كلّ منكم ويختبئْ في مكان لا يراه فيه أحد، وله جائزة.

    فذهب جميع الأطفال إلاّ طفلا واحدا، ظلّ قابعا في مكانه، فسأله الأستاذ عن ذلك ؟ فقال: لا يوجد مكان لا يرانا فيه أحد، فأينما ذهبنا رآنا الله !
    فكانت تلك هي فائدة المسابقة، أن يعلم المسلم أنّه حيثما كان فإنّ الله مطّلع عليه وعلى أقواله وأعماله.
    فاللّهمّ أصلح أمرنا في السرّ والعلن، ووفِّقنا لمحبّتك ورضاك إنّك سميع قريب مجيب.



    [1] الجَزَر: كلّ شيء مباح للذّبح، والواحد جَزَرَةٌ، وإِذا قلت: أَعطيته جَزَرَةً، فهي شاة ذكراً كان أَو أُنثى، لأَنّ الشّاة ليست إِلاَّ للذّبح خاصة، ولا تقع الجَزَرَةُ على الناقة والجمل.[انظر " لسان العرب "].




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح الأسماء الحسنى

    شَرْحُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى (8) الحفيظ.


    الكاتب: عبد الحليم توميات






    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

    فقد كان آخر ما تطرّقنا إليه من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى اسمَيْ: الرّقيب والشّهيد. ولماّ كان من مدلولات ومقتضيات هذين الاسمين الكريمين الحفظ، رأينا أن نشرح في هذه الحلقة اسم الله تعالى ذكره:

    12- الحفيظ

    وما أحوج الأمّة إلى معرفة معاني هذا الاسم العظيم، وأن تتعبّد ربّها بهذا الاسم الكريم، وتعيش تحت ظلال اسم الله الحفيظ !




    ترى الكثيرين يضعون ثقتهم في كلّ شيء، وبكلّ شيء، ونسوا أنّ الله هو الحفيظ !

    لا يصِيب الأمّة من بأس إلاّ اهتزّت قلوبهم، واضطربت أفئدتهم، وارتعدت فرائصهم، وما أيقنوا أنّ الله هو الحفيظ !

    يقعد أحدهم عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، خشية أن يتأذّى أو يتضّرر، ولا يعي أو يتذكّر: بأنّ الله هو الحفيظ !

    فتعال بنا – أخي الفضيل - لنتدارس شرح هذا الاسم الجليل، وذلك في نقاط أربع، أوّلها:

    * أدلّة ثبوت الاسم:

    والدّليل على أنّ ( الحفيظ ) من أسمائه عزّ وجلّ قوله تعالى على لسان هود عليه السّلام:{إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: من الآية57] {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سـبأ: من الآية21] وغير ذلك من الآيات.

    * معاني الاسم الكريم:

    ولاسمه ( الحفيظ ) معنيان:

    1- أحدهما:أنّه يحفظ على العباد ما عملوه من خير وشرّ، ومعروف ومنكر وطاعة ومعصية، فإنّ علْمَه سبحانه محيط بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها.

    وقد كتب ذلك في اللّوح المحفوظ وسمّاه حفيظا فقال:{وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: من الآية4].

    ووكّل بعباده ملائكة كراما كاتبين ووصفهم بالحفظ {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10]..

    فما من شيء، وما من حركة أو سكنة إلاّ وهي محفوظة عند الله تعالى، قال عزّ وجلّ:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} [القمر].

    2- الثّاني: أنّه الحافظ لعباده من المكاره والمساوئ.

    فلا عاصم من السيّئات التي هي معايب إلاّ هو عزّ وجلّ، ولا حافظ من السيّئات التي هي مصائب إلاّ هو سبحانه.

    ومن حفظه أن سخّر رسلا من الملائكة ومن النّاس، فوصف بعض ملائكته بالحفظة فقال:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه} [الرّعد: من الآية11]، ووصف رسله بالحفظ فقال يوسف عليه السّلام:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم يحفظ الله بهم أمور الدّين والدّنيا بإذنه سبحانه وحوله وقوّته.

    * أنواع حفظ الله تعالى لعباده: حفظ الله لعباده نوعان:

    - حفظ عامّ لجميع مخلوقاته، إنسها وجنّها، حيّها وجامدها، مؤمنها وكافرها، برّها وفاجرها.

    وذلك بتيسيره تعالى ما يقيها ويحفظها، وبما تهتدي به إلى مصالحها {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طـه: من الآية50]..{قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: من الآية42] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63].

    - حفظ خاصّ بأوليائه وأصفيائه.

    يحفظهم عمّا يضرّ إيمانهم، أو يزلزل إيقانهم، من فتن الشّبهات، أو فتن الشّهوات، من كيد أعداء الجنّ والإنس.

    ومن سعة رحمته تعالى أنّه يشملهم حفظه لهم إلى يوم خروجهم من هذه الدّنيا:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

    ويبقى حفظه لهم إلى يوم لقائه:{لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُم ُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]..

    لذلك ثبت عن السّلف قولان في تفسر الحفيظ:

    - الأوّل: الرّقيب، قاله ابن عبّاس رضي الله عنه، وهذا يقتضي حفظ العباد.

    والثّاني: المحاسب، قاله السدّي وابن قتيبة، وهذا يقتضي حفظ الأعمال والأقوال.

    وقد أشار ابن القيّم رحمه الله في "النّونيّة" (2/83) إلى كلا المعنيين، فقال:

    ( وَهُوَ الحَفِيظُ عَلَيْهِمُ وَهُوَ الكَفِيـ ـلُ بِحِفْظِهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍٍ عَانِ )

    فحفظ الشّيء يقتضي مراقبته ومحاسبته.

    * ثمرات معرفة هذا الاسم.

    - الثّمرة الأولى: تحقيق عناية الله وحفظه:

    إنّ ثمرات معرفة هذا الاسم العظيم كثيرة وعظيمة جدّا، وقد رأينا بعضها في شرح اسم ( الرّقيب )، وذلك هو أحد معنيي هذا الاسم، فمن تعبّده باسم الحفيظ بمعنى الرّقيب، فراقب الله في أقواله وأفعاله، أكرمه الله تعالى بالحفظ من المكاره والمساوئ، جزاء وِفاقا، والجزاء من جنس العمل.

    قال جلّ ذكره عن جزاء من يراقب الله تعالى في أعماله وأقواله، في سرّه وعلانيته:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32]، أي حفظه من أعظم مكروه على الإطلاق بسبب حفظه لربّه عزّ وجلّ، حيث وصفه الله من قبل:{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ}..

    ومن السنّة ما رواه التّرمذي وأحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمًا فَقَالَ: (( يَا غُلَامُ ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ.. ))..

    قال ابن القيّم رحمه الله تعالى وهو يبيّن أسباب التخلّص من كيد العدوّ الحاسد:

    " السّبب الثّاني: تقوى الله وحفظُه عند أمره ونهيه، فمن اتّقى الله تولّى الله حفظه، ولم يكِله إلى غيره، قال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: من الآية120].

    وقال النبّي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن عبّاس رضي الله عنه: (( اِحْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ )) فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجّه، ومن كان الله حافظَه وأمامه فممَّن يخاف ؟ ومن يحذر ؟ "اهـ.

    - الثّمرة الثّانية: تحصيل اليقين في الله:

    فمن ثمرات معرفة هذا الاسم أنّ المؤمن يتيقّن من حفظ الله تعالى لدينه وشريعته، كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].

    ومقتضى هذا أنّ الله يحفظ حَمَلَتَه إن هم حفظوه، فكم من ضربة وجّهت من قديم الزّمان على مرّ هذه القرون من جميع الأعداء ولم يُسقِطوا حرفا واحدا من القرآن، ولا ضاعت سنّة من سنن النبيّ العدنان صلّى الله عليه وسلّم..

    - الثّمرة الثّالثة: حفظ السنّة من الضّياع:

    فقد حفظ الله الصّحابة رضي الله عنه لأنّهم حفظوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حفظوه في ذاته وأقواله وأفعاله.

    روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ:

    بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ - أي:انتصف - وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ، فَنَعَسَ، فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ - أي: ذهب أكثره - مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ مَالَ مَيْلَةً هِيَ أَشَدُّ مِنْ الْمَيْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ - أي:يسقط - فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:

    (( مَنْ هَذَا ؟ )) قُلْتُ: أَبُو قَتَادَةَ. قَالَ:

    (( مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي ؟ )) قُلْتُ: مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ. قَالَ:

    (( حَفِظَكَاللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ )).

    واستجاب الله دعاء نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فحُفِظت مكانة أبي قتادة حتّى صارت الأمّة كلّها تلقّبه بفارس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعاش حتّى شهِد المشاهد كلّها، وتوفّي عام أربعين.

    فما بالكم بمن أحيا سنن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وحفظها من الضّياع، وميّزها عن مظاهر الابتداع ؟ فلا شكّ أنّ الله حافظه.

    وكيف لا يكون الله تعالى على كلّ أمر شهيدا، وعلى كلّ شيء رقيبا وحفيظا: ومن أسمائه وصفاته: السّميع والبصير والخبير ؟

    وهذا ما سنتطرّق إليه لاحقا إن شاء الله.

    سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أننت، أستغفرك وأتوب إليك.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح الأسماء الحسنى

    شرح الأسماء الحُسنَى (9)السّميع، والبصير، والعليم، والخبير


    عبد الحليم توميات






    هذه الأسماء الجليلة الأربعة غالبا ما يذكر بعضها مع بعض، فيقول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: من الآية58] {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: من الآية134] {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء: من الآية148] {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء: من الآية17] {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء: من الآية30] {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء: من الآية35] {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء: من الآية148]، {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحجّ: من الآية61] {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: من الآية34] {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشّورى: من الآية27] {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التّحريم: من الآية3] وغيرها من الآيات.



    13- السّـمــيــــع عزّ وجلّ.

    * المعنى اللّغوي:

    ( السّميع ) هو من السّمع، ويستعمل في كلام العرب على ثلاثة أوجه:

    1- بمعنى إدراك الصّوت، وهو الغالب في استعمالهم.

    2- ويأتي بمعنى الفهم وإدراك العلم، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] أي لأفهمهم، ولو أفهمهم لتولّوا، فجمعوا بين صفتي الجهل والكِبر.

    ومنه أيضا قوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].

    3- والاستعمال الثّالث هو بمعنى الإجابة والاتّباع، كقوله تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: من الآية41) {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: من الآية42] {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].

    * معنى اسم الله تعالى ( السّميع ):

    هو سبحانه الّذي أحاط سمعه بجميع المسموعات.

    فكلّ ما في العالم العلوي والسّفلي من الأصوات يسمع سرّها وعلنها، وكأنّها لديه صوت واحد، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللّغات، والقريب منها والبعيد، والسرّ والعلانية عنده سواء، قال تعالى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] وقال:{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرّعد:10].

    * أنواع سمعه عزّ وجلّ: إنّ سمعه جلّ ذكره نوعان:

    1-سمع عامّ: وهو يعمّ جميع الأصوات الظّاهرة والباطنة، الخفيّة والجليّة، وإحاطته التامّة بها.

    قال الله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1].

    روى البخاري وابن ماجه – واللّفظ له – عن عائشة رضي الله عنها قالت:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتْ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}".

    2-سمع خاصّ: وهو إجابته السّائلين والدّاعين والعابدين، فالسّائل والدّاعي يجيبه، والعابد يُثيبه.

    قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السّلام:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]، أي: مجيب، ويقول المصلّي عند الرّفع من الرّكوع: "سمع الله لمن حمده"، أي: استجاب.

    وقد يكون خاصّا بأهل عقوبته للدّلالة على شدّة غضبه وسخطه، كقوله تعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181].

    ومثله ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في قصّة رجوعه صلّى الله عليه وسلّم من الطّائف، حيث قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عليه السّلام فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ )).

    14- البصير.

    فهو الّذي أحاط بصره بجميع المبصَرات في أقطار الأرض والسّماوات، فلا يغيب عنه شيء، ويرى كلّ شيء وكأنّه شيء واحد، لا تختلط عليه المتشابهات، ولا تتشابه عليه المختلطات.

    قال الله تبارك وتعالى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61].. لذلك قال تعالى:{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: من الآية26]، أي: ما أبصره ! وما أسمعه !

    15- العليم.

    فهو المحيط علمه بكلّ شيء، فلا يخفى عليه شيء، يعلم الموجودات كلّها، والمعدومات لو كانت كيف تكون.

    قال عزّ وجلّ:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية29] {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية231] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: من الآية12]، {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: من الآية80].

    16- الخبير.

    فمصدره الخُبر، كما قال تعالى:{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:68] {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} [الكهف:91]..

    ومعنى الخبير هو:" العالم بما كان وما سيكون "، قاله ابن منظور رحمه الله، وعليه فلا فرق بينه وبين العلم.

    وأحسن منه قول الخطّابي رحمه الله في " شأن الدّعاء " (ص63):" هو العالم بكنه الشّيء، المطّلع على حقيقته ".

    وقال أبو هلال العسكري في " الفروق " (ص74):" الفرق بين العلم والخُبر: أنّ الخبر هو العلم بكنه المعلومات على حقائقها، ففيه معنى زائد على العلم ".

    ثمرات معرفة هذه الأسماء الجليلة.

    - الثّمرة الأولى: إثبات ما أثبته الله لنفسه سبحانه:

    فإنّ صفة السّمع والبصر صفتا كمال وتعظيم للمولى تبارك وتعالى، وقد أنكر الله على المشركين الّذين يعبدون ما لا سمع له ولا بصر، فدلّ ذلك أنّ لله سمعا وبصرا يليق بجلاله.

    قال تعالى:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42]، وقال:{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، وقال:{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} [الأعراف:195]..

    وقد روى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَمِيعًا بَصِيرًا} قَالَ:" رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ ".

    قال أبو داود رحمه الله:" وهذا ردّ على الجهميّة ".

    - الثّمرة الثّانية: تعظيم المولى تبارك وتعالى:

    فهو القائل:{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}، فيسمع ويرى دبيب النّملة السّوداء في اللّيلة الظّلماء على الحجرة الصمّاء.

    بل يرى ويسمع ما هو دون ذلك من أحقر وأصغر الكائنات، فيرى جميع أعضائها الباطنة والظّاهرة، وسريان القوت في أوصالها، على اختلاف أنواعها وصغرها ودقّتها، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار أصولها وفروعها..

    يا مـــن يرى مد البعوض جـنــاحــها في ظـلــمــــة اللّيل البهـيـــم الأليل

    ويــرى مــناط عـروقــها فــي نحــرها والمـــخ مــن تــلــك العظــام النُـحَّـل

    ويــرى خــريـــر الـدم فـي أوداجــهــا مــتنقــلا مـــن مفصل في مفــصـــل

    ويـرى وصـول غذى الجنيـن ببـطنها في ظــلمــة الأحشــاء بغير تـمــقّـل

    ويـرى مكــان الوطء من أقـــدامـــهـا في سـيـرها وحـثـيثـها المستـعجـل

    ويـرى ويـسمـع حِسَّ ما هــو دونـها فــي قــــاع بــحــر مـظــلــم متـهــول

    فسبحان من تحيّرت العقول في جلاله ! وانحنت الجباه والجبال لكماله ! الذي يرى خيانات الأعين وتقلّبات الأجفان، وحركات الجَنان !

    - الثّمرة الثّالثة: اليقين بسماع الدّعاء:

    إنّ الله الّذي من شأنه أنّه يسمع دبيب النّمل، فلا شكّ أنّه يسمع دعاء أوليائه وأحبّائه.

    ولكي يُغرس هذا الاعتقاد في القلوب غرسا، ذكر الله عزّ وجلّ صفة ( سماع الدّعاء والنّداء ) ضمن الأمور التي تحيلها العادة، حتّى يستحضر العبد قرب ربّه منه أكثر من قرب نفسه إليه.

    فقال تعالى:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]..

    فالّذي سمع دعاء العقيم بأن يصير ولودا لا شكّ أنّه يسمع دعاء من ضاق عليه الرّزق، وعظم عليه الهمّ، وضاقت عليه الأرض.

    ألا ترى أنّ العادة جرت ألاّ يناهض أحدٌ فِرعون، فذكّر الله نبيّيه موسى وهارون بهذه الصّفة ( سماع الدّعاء )، وأنّ حالهما وحال عدوّهما لا يخفى عليه تعالى، فقال:{قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طـه:46]..

    قال ابن القيّم رحمه الله في " البدائع " (2/238):

    " وتأمّل حكمة القرآن الكريم:

    كيف جاء في الاستعاذة من الشّيطان الّذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ: ( السّميع العليم ) في الأعراف والسّجدة.

    وجاءت الاستعاذة من شرّ الإنس الّذين يؤنَسون ويُرَون بالإبصار بلفظ ( السّميع البصير ) في سورة حم المؤمن، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56]؛ لأنّ أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر، وأمّا نزغ الشّيطان فوساوس، وخطرات يلقيها في القلب يتعلّق بها العلم.

    فأمر بالاستعاذة بالسّميع العليم فيها، وأمر بالاستعاذة بالسّميع البصير في باب ما يُرى بالبصر ويدرَك بالرؤية، والله أعلم ".

    - الثّمرة الرّابعة: مراعاة الإخلاص.

    فإنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، فلا ينبغي أن يكون باطن العبد مخالفا لظاهره، وهذا أشدّ أنواع المجاهدة.

    روى الإمام أحمد عن أبي عليّ - رجلٍ من بني كاهل - قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه فَقَالَ:

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ ! اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. فَقَامَ إِلَيْهِ رجلان فَقَالَا: وَاللَّهِ لَتَخْرُجَنَّ مِمَّا قُلْتَ، أَوْ لَنَأْتِيَنَّ عُمَرَ مَأْذُونٌ لَنَا أَوْ غَيْرُ مَأْذُونٍ قَالَ: بَلْ أَخْرُجُ مِمَّا قُلْتُ، خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ:

    (( أَيُّهَا النَّاسُ ! اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ )).

    فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! قَالَ:

    (( قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك َ لِمَا لَا نَعْلَمُ )).

    - الثّمرة الخامسة: التأدّب في الدّعاء:

    فلا ينبغي للعبد وهو يعلم أنّ له ربّا سميعا بصرا، عليما خبيرا، أن يجهر بالذّكر والدّعاء إلاّ فيما جاء الدّليل على استحباب الجهر فيه.

    روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:

    (( أَيُّهَا النَّاسُ ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ! فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا )).

    - الثّمرة السّادسة: نسبة العلم إلى الله دائما.

    فقد قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية216]، وقال:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية76]، وقال:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].

    وقد روى البخاري ومسلم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:

    (( بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ ؟ قَالَ مُوسَى: لَا ! فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ ... فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ )).

    وكذلك لا يستحي من أن يقول للشّيء لا يعلمه: لا أعلم، فهو العلم كلّه، ولم تستح الملائكة أن قالت:{قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]..

    - الثّمرة السّابعة: التّسليم والانقياد لأمره حاضرا ومستقبلا.

    فإنّه سبحانه عليم بأمره، وخبير بالمأمور، لذلك قال:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. فلا يُخالف أمره خلقه أبدا، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: من الآية54].

    (تنبيه):

    أثبت بعض أهل العلم لله تعالى اسمين آخرين يقتضيان العلم، وهما: العالم، والعلاّم.

    - أمّا العالم: فاستدلّوا له بما ذكره البخاري في " كتاب التّفسير" فقال:" الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اسْمَانِ مِنْ الرَّحْمَةِ، الرَّحِيمُ وَالرَّاحِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالْعَلِيمِ وَالْعَالِمِ "اهـ.

    وبعضهم يرى أنّه صفة وليس اسما، وأنّه لا يستعمل إلاّ مضافا، كقوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: من الآية73]، وقوله:{ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعَْلُونَ} [التوبة: من الآية94]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9] {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فاطر:38]،وقوله:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22].

    بخلاف غيره من الأسماء؛ استُعمل مجرّدا من الإضافة: الرّحمن الرّحيم، القدير، السميع البصير، وغيرها.

    - أمّا العلاّم: فاستدلّوا له بقوله تعالى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: من الآية116] وقوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة:78] وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سـبأ:48].

    وبما رواه البخاري في حديث الاستخارة من قوله: (( وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )).

    وأجاب من لم يُثبته بمثل ما أجاب به في ( العالم )، أنّه لم يُستعمل إلاّ مضافا.

    والله أعلم وأعزّ وأكرم، وهو الهادي للّتي هي أقوم.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح الأسماء الحسنى

    شرح الأسماء الحُسنَى (10) اللّطــيــف

    عبد الحليم توميات
    رأينا في الحلقة السّابقة أسماء الله تعالى الجليلة ( السّميع، والبصير، والعليم، والخبير)، وأنّها تدلّ على علم الله الكامل الشّامل، ومن أجل ذلك اتّصف الله تعالى بصفة اللّطف، وتسمّى بـ:


    17-اللّطيف عزّ وجلّ.

    و(اللّطيف): اسم وصفة ثابتان بالكتاب والسنّة.

    قال تعالى:{لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] وقال:{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وقال:{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: من الآية100]، وقال:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى:19].
    وروى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت في قصّتها يوم تبعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلا: فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقَالَ: (( مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً ؟ )) قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ. قَالَ: (( لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )).

    فمن خلال هذه النصوص يتبيّن لنا أنّ اللّطيف له معنيان، يقتضي أحدهما الآخر:

    - المعنى الأوّل: من اللّطف بمعنى الرّفق.

    قال في "لسان العرب":" ومعناه - والله أعلم -: الرّفيق بعباده، قال أبو عمرو: اللّطيف الذي يُوصِل إليك أَرْبك في رفق، و"اللّطف" من الله تعالى: التّوفيق والعصمة.. والّلطف: البرّ والتكرمة والتحفّي، لطف به لطفا ولطافة.

    وممّا جاء في استعمال اللّطف بمعنى (الرّفق والرّأفة): ما رواه أبو داود والنّسائي عن ابن عبّاس رضي الله عنه:

    أَنَّ أَعْمَى كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا ابْنَانِ، وَكَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقِيعَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ! وَتَسُبُّهُ !

    فيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي.

    فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ذَكَرْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فَوَقَعَتْ فِيهِ، قال: فَلَمْ أَصْبِرْ أَنْ قُمْتُ إِلَى الْمِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا، فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهَا، فَأَصْبَحَتْ قَتِيلًا.

    فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَجَمَعَ النَّاسَ، وَقَالَ:

    (( أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا لِي عَلَيْهِ حَقٌّ فَعَلَ مَافَعَلَ إِلَّا قَامَ )).

    فَأَقْبَلَ الْأَعْمَى يَتَدَلْدَلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ أُمَّ وَلَدِي وَكَانَتْ بِي لَطِيفَةً رَفِيقَةً، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْ نِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تُكْثِرُ الْوَقِيعَةَ فِيكَ وَتَشْتُمُكَ فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ فَلَمَّا كَانَتْ الْبَارِحَةُ ذَكَرْتُكَ فَوَقَعَتْ فِيكَ فَقُمْتُ إِلَى الْمِغْوَلِ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا فَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا.

    فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ)).

    ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري في قصّة الإفك قالت عائشة رضي الله عنها: فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: (( كَيْفَ تِيكُمْ ؟)).

    - المعنى الثّاني: العلم بدقائق الأشياء.

    قال ابن الأثير رحمه الله:" اللّطيف هو الذي اجتمع له الرّفق في الفعل، والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه، يقال لطَف به وله-بالفتح- يلطُف لُطْفًا إذا رفق به.


    فأمّا لطُف - بالضمّ - يلطُف فمعناه صغُر ودقًّ، واللّطيف من الكلام ما غمض معناه وخفي، وكلّ جسم خفيّ يسمّى لطيف ".

    وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]..

    ومنه ما رواه البخاري تعليقا - ووصله ابن أبي حاتم - عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال في تفسير قوله تعالى:{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: من الآية47] قال: حفيّا: لطيفا.


    ومرّة روى عنه أنّه فسّر ( البَرّ ) بـ ( اللّطيف ).
    وبهذين المعنيين يوصف الله تبارك وتعالى:
    قال الشّيخ السّعدي رحمه الله في "تفسيره" إنّه:" اللّطيف بعباده المؤمنين، الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه من طرق لا يشعرون بها، فهو بمعنى الخبير وبمعنى الرّؤوف".

    وقال في موضع آخر:" الّذي أحاط علمه بالسّرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن، والأمور الدّقيقة ".

    قال ابن القيّم رحمه الله في "النّونية" (2/85):

    وهـو اللّطيف بعبده ولعبده واللّـطـــف في أوصـافــه نــوعـــان

    إدراك أسـرار الأمـور بخبـرة واللُّـطــف عنـد مواقــع الإحســان

    فيريك عزّته ويُبـدي لُطـفــه والعبد في الغفلات عن ذا الشّان

    * ثمرات الإيمان بهذا الاسم الكريم:

    ثمرات معرفة هذا الاسم هي نفسها الّتي يجنيها المؤمن من معرفة اسم الله ( الخبير )، ولكنّ هناك أمرا زائدا:

    أنّ الله رفيق بأوليائه في ابتلائه:

    فهو يريد أن يُتِمَّ عليه إحسانه، ويشمله بكرمه، فييسّره لليسرى، ويجنّبه العُسرى، ويُجري عليه من أنواع المحن، وأصناف الفتن الّتي يكرهها وتشقّ عليه، وهي عين صلاحه، والطّريق إلى سعادته.

    لا يختلف حال المؤمن الصّالح عن حال الّذين امتحنهم الله من الأنبياء بأذى قومهم، وبالجهاد في سبيله.

    لذلك ختم يوسف عليه السّلام محنته بقوله:{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: من الآية100]، فكلّ ما حدث كانت نتيجته أن قال فيه الله:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية76]، وكانت العاقبة:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف: من الآية100]..

    فكم لله من لطف وكرم لا تدركه الأفهام، ولا تتصوّره الأوهام !


    وكماستشرف العبد على مطلوب من مطالب الدّنيا من ولاية، أو رئاسة، أو سبب من الأسباب المحبوبة، فيصرفه الله عنها، ويصرفها عنه، رحمةً به لئلاّ تضرّه في دينه!

    فيظلّ العبد حزينا من جهله وعدم معرفته بربّه، ولو علم ما ذُخر له في الغيب لحمد الله وشكره على ذلك، فإنّ الله رؤوف بعباده، لطيف بأوليائه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)} [سورة الطّلاق]..

    وهذه الصّفات الثّابتة بهذه الأسماء تدلّ عليها أسماء أخرى، سوف نراها إن شاء الله لاحقا.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح الأسماء الحسنى

    شرح الأسماء الحُسنى (11) الـمـحـيـط والواسع
    الكاتب: عبد الحليم توميات

    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
    18- المُـحِـيـط عزّ وجلّ

    اسم من أسماء الله تعالى، وصفة من صفاته، حيث قال تعالى:{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية19]، وقال:{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20]، وقال:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: من الآية12].
    قال قوّام السنّة الأصبهاني في "الحجّة في بيان المحجّة" (1/163-164):
    " المحيط هو: الذّي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الّذي أحاط بكلّ شيء علما، وأحصى كلّ شيء عددا ".

    وقال البيهقي في "الاعتقاد" (ص68):" المحيط هو الّذي أحاطت قدرته بجميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع المعلومات ".
    ونلاحظ أنّ هذه الصّفة قد قصروها على القدرة والسّمع والبصر، وغيرهم عمّم وهو الأولى.
    فقد قال السّعدي في "تفسيره":
    " وهو الّذي أحاط بكلّ شيء علما، وقدرة، ورحمة، وقهرا، وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المُبْصَرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفدت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسّماوات، وقهر بعزّته كلّ مخلوق، ودانت له جميع الأشياء ".
    * ثمرات الإيمان بهذا الاسم:
    1- لا شكّ أنّ هذا الاسم يؤكّد ثبوت الكمال المطلق لله تعالى في: العلم، والسّمع، والبصر، والقدرة، والرّحمة، فإذا استحضر العبد معناه الشّامل تحصّل لديه ما يحصّله من فهم معاني الأسماء الأخر.
    2- إنّ هذا الاسم الكريم يربّي في قلب العبد من المهابة لله ما لا يخفى، ففيه التّرغيب في التوكّل عليه والوثوق به، والتّرهيب من عصيان أمره، والغفلة عن ذكره.
    ألا ترى أنّ الله تعالى غالبا ما يختم آيات الوعد والوعيد بهذا الاسم الكريم ؟
    قال عزّ وجلّ بعد ذكر العصاة والمذنبين:{إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: من الآية120].
    وقال مؤنّسا أولياءه:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: من الآية60] وتفاسير السّلف لهذه الآية كلّها في هذا المعنى.
    قال ابن عبّاس رضي الله عنه: النّاس هنا أهل مكّة، وإحاطته بهم إهلاكُهُ إيّاهم.
    أي: إنّ الله سيهلكهم، وإنّما ذكره الله بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه. وعنى بهذا الإهلاك الموعود: ما جرى يوم بدر ويوم الفتح.
    وقال مجاهد وابن أبي نجيح: معنى أحاط بالنّاس: أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته، لا يقدرون على الخروج من مشيئته.
    وقال الحسن وعروة وقتادة: المراد عصمة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم من النّاس أن يقتلوه، حتّى يبلِّغ رسالة ربّه، أي: وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التّبليغ، فبلِّغ، فإنّا نعصمك منهم، فقدرتنا محيطة بهم.
    3- وعلى العبد أن يستيقن أنّه بين يدي الله، يتصرّف في قلبه، وفي جسده كما شاء بما شاء، فعليه أن يُحسن أقواله وأفعاله، فهو به محيط، وأنّه لا مفرّ منه طرفة عين ولا أقلّ من ذلك.
    19-الواسـع عزّ وجلّ.

    اسم من أسمائه تبارك وتعالى، ويوصف بأنّه: ( واسع ) و( مُوسِع ).
    قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية115] وتكرّرت مرارا.
    ويوصف بأنّه موسٍع لقوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذّاريات:47]، ولما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَالَ:- في حديث أوّل من تُسعّر بهم النّار -:
    (( وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا )).
    ولما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَسَأَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ؟ فَقَالَ: (( أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ )) ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: ( إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا ).
    ومثله ما جاء في دعاء الجنازة، روى مسلم عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ )).
    وقد عرّف العلماء صفة السّعة وشرحوا اسم الواسع بعبارات مختلفة.
    - فقال قوّام السنّة الأصبهانيّ في "الحجّة" (1/150):" الواسع: وسعت رحمته الخلق أجمعين، وقيل: وسِع رزقه الخلق أجمعين، لا تجد أحدا إلاّ وهو يأكل رزقه ".
    وقال البيهقيّ رحمه الله في "الاعتقاد" (ص60):" الواسع هو العالم، فيرجع معناه إلى صفة العلم، وقيل الغنيّ الّذي وسِع غِناه مفاقر الخلق ".
    والأولى أن يعمّم معنى السّعة.
    - قال ابن قتيبة رحمه الله في "تفسير غريب القرآن" (ص15):" ومن صفاته "الواسع" وهو الغنيّ، والسّعة الغِنى ".
    فيكون غنيّ الرّحمة، والقدرة، والمغفرة، والعلم، وغير ذلك من نعوت الجلال وصفات الكمال.
    - وقال الرّاغب في "المفردات":" هي عبارة عن سعة قدرته، وعلمه، ورحمته، وأفضاله ".
    وقال الشّيخ السّعدي في "تفسيره" (5/ 305):
    " الواسع الصّفات والنّعوت، ومتعلّقاتها، حيث لا يُحصي أحدٌ ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه: واسعالعظمة والسّلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم ".
    ويدلّ على هذا العموم:
    قوله تعالى في العلم:{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: من الآية80]، و:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طـه:98].
    وقوله تعالى في الرّحمة:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: من الآية156]، و:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النّجم: من الآية32].
    وقوله في سعة رزقه:{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية247]، و:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
    وقوله في بيان سعته سبحانه بمعنى إحاطته بالكون:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115].
    وإذا علم المؤمن معنى هذا الاسم أدرك السرّ في سبب اقتران الواسع بالعليم، وذلك لأسباب كثيرة منها:
    الأوّل: أنّ سعته سبحانه ليست كسعة الخلق، الّذين يذهلون ويغفلون لكثرة ممتلكاتهم، فهو مع سعة ملكه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء.
    الثّاني: أنّ الله إذا وعد العبد شيئا كمضاعفته الأجور، والرّزق ينبغي له أن لا يستبعد ذلك، ولا يضيِّق صدره، ومع ذلك فهو يعلم من هو أجدر بهذه المضاعفة، فيضع فضله مواضعه لحكمة بالغة له سبحانه.
    الثّالث: أنّ على العبد أن لا يُضيّق رحمة الله ومغفرته لعباده، لأنّه لا يعلم بِمَ سيُختم لهم، والله عليم بذلك، وإلاّ وقع في شرّ التألّي عليه سبحانه.
    روى مسلم عَنْ جُنْدَبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم حَدَّثَ:
    (( أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ ! وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ )).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح الأسماء الحسنى

    شرح الأسماء الحُسنى (12) الحـكـيـم عزّ وجلّ
    الكاتب: عبد الحليم توميات


    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
    فإنّ آخر ما تطرّقنا إليه من أسماء الله عزّ وجلّ الجليلة ( الواسع)، و( المحيط)، وإنّه سبحانه وتعالى لسعة علمه وقدرته، ولإحاطته بكلّ شيء، اتّصف بالحكمة، وكان من أسمائه عزّ وجلّ:
    20- الحـكـيـمعزّ وجل.
    اسم وصفة ثابتان لله تبارك وتعالى في الكتاب والسنّة، قال تعالى:{قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاإِن َّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: من الآية32]، وقال:{وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: من الآية73]، وغير ذلك من الآيات الّتي لا تُحصى.



    والسنّة زاخرة بإثبات هذا الاسم الكريم.
    *معنى اسم الله ( الحكيم ):
    اشتُقّ الاسم الكريم من ( الحكمة )، ولها معانٍ:
    - الأوّل: وضع الشّيء في محلّه وموضعه وإتقان العمل. قال في "لسان العرب":
    " قيل: الحكيم ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يُحسِن دقائق الصّناعات ويتقنها (حكيم)".
    - الثّاني: الحُكْم. قال في "لسان العرب":
    " وهو: الحكيم له الحكم سبحانه وتعالى، قال الأزهريّ: من صفات الله الحَكَم والحكيم والحاكم، ومعاني هذه الأسماء متقاربة.
    وهذا له أصل في اللّغة لأنّ الحكم هو: المنع والقضاء، وسمّي القاضي حاكما لأنّه يمنع كلاّ من المتخاصمين من الاعتداء، ومنه حَكَمَة اللِّجام.
    لذلك جمع ابن الأثير بين المعنين فقال:" في أسماء الله تعالى الحَكَم، والحَكِيم، وهما بمعنى الحاكم، وهو القاضي. فهو فعيل بمعنى فاعل، مثل قدير بمعنى قادر، وعليم بمعنى عالم، أو هو: الّذي يُحكِم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مُفْعِل "اهـ.
    - الثّالث: العلم. قال الجوهريّ رحمه الله:
    " الحكمة من العلم، والحكيم: العالم وصاحب الحكمة، وقد حكم أي: صار حكيما، قال النّمر بن تولب:

    وأَبْغِضْ بَغِيضَكَ بُغْضًا رُوَيْدًا إِذَا أَنْتَ حَاوَلْتَ أَنْ تَحْكُمَا

    أي: إذا حاولت أن تكون حكيما، والحكم: العلم والفقه، قال الله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا}.
    وكلّ هذه المعاني لا شكّ أنّها ثابتة لله تبارك وتعالى، فهو العليم، وواضع الأشياء في مواطنها، والحاكم لا معقّب لحكمه.
    قال الشّيخ خليل هرّاس رحمه الله في " شرح النّونية " (2/75):
    " ومن أسمائه الحسنى سبحانه ( الحكيم )، وهو إمّا:
    فعيل بمعنى فاعل، أي: ذو الحكم، وهو القضاء على الشّيء بأنّه كذا أو ليس كذا.
    أو فعيل بمعنى مُفعِل، وهو الّذي يُحكم الأشياء ويُتقنها "اهـ.
    قال ابن القيّم رحمه الله في " النّونيّة ":
    وهو الحكيم، وذاك من أوصافه *** نوعان أيضا ما هما عدمان

    حُكم وإحكـام فكلّ منهـما *** نوعـان أيضا ثابتا البرهان
    ويقصد بقوله " الإحكام نوعان أيضا "، ما ذكره السّعدي رحمه الله فقال:
    " وحكمته عزّ وجلّ نوعان:
    أحدهما: الحكمة في خلقه: فإنّه خلق الخلق بالحقّ، وكان غايته والمقصود به الحقّ، خلق المخلوقات كلّها بأحسن نظام، ورتّبها أكمل ترتيب، وأعطى كلّ مخلوق خلقه اللاّئق به، بل أعطى كلّ جزء من أجزاء المخلوقات، وكلّ عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته، فلا يرى أحد من خلقه خللا ولا نقصا ولا فطورا.
    فلو اجتمعت عقول الخلق من أوّلهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرّحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن والانتظام والإتقان لم يقدروا، وأنّى لهم القدرة على شيء من ذلك..
    وقد تحدّى عباده أن ينظروا ويكرّروا النّظر والتأمّل هل يجدون في خلقه خللا أو نقصا ؟ وأنّه لا بدّ أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته[1].
    النّوع الثّاني: الحكمة في شرعه وأمره: فإنّه تعالى شرع الشّرائع وأنزل الكتب، فهل هناك كرم أعظم من هذا ؟!
    فإنّ معرفته تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وحمده وشكره والثّناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق .. كما أنّها هي السّبب الوحيد للوصول إلى السّعادة الأبديّة والنّعيم الدّائم، فلو لم يكن في شرعه، وأمره إلاّ هذه الحكمة العظيمة الّتي هي أصل الخيرات وأكمل اللّذّات لكانت كافية شافية.
    هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كلّ خير، فأخباره تملأ القلوب علما ويقينا وإيمانا وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب، ويزول انحرافها، وتُثمر كلّ خُلُق جميل، وعمل صالح وهدى ورشد.
    ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصّلاح والإصلاح للدّين والدّنيا، فإنّه لا يأمر إلاّ بما فيه مصلحته خالصة أو راجحة، ولاينهى إلاّ عمّا مضرّته خالصة أو راجحة ".اهـ.
    قال ابن القيّم رحمه الله:
    والحكمة العُليا على نوعين أيـ *** ـضا حُصّلا بقواطع البُرهـان
    إحكام هذا الخلـق إذ إيجـاده *** في غـاية الإحكام والإتـقـان
    والحكمة الأخرى فحكمة شرعه *** أيضـا وفيـها ذانك الوصـفان
    ثمرات الإيمان ومعرفة هذا الاسم الكريم.
    1-معرفة معنى الحكمة الحقيقي، وأنّها وضع الشّيء موضعه:
    وليس معناها الرّفق كما يُفهم من كلام أكثر النّاس، بل إنّ من الحكمة التشدّد وقت الشدّة، والرّفق وقت الرّفق، لذلك قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]، فكانت الغلظة مع هؤلاء هي عين الحكمة. وقد قال الشّاعر:
    ووضع النّدى في موضع السّيف بالعُلا *** مُضرّ، كوضع السّيف في موضع النّدى
    إن أنت أكرمت الكريـم ملكتـه *** وإن أنت أكرمـت اللّئيم تـمـرّدا
    2- الانقياد لشرع الله تعالى:
    وذلك لأنّ أفعاله وأقواله، وأوامره ونواهيه كلّها خير، وإن جهل العبد الحكمة من ذلك كلّه، فالواجب على العبدِ أن يطمئنَّ إلى كلّ أمر أمره الله به، وينتهي عن كلّ ما نهى الله عنه، لأنّه من أمر ونهي حكيم خبير، فلا يقدّم العبد على شرع الله تعالى عقلا، ولا واقعا، ولا رأيا، ولا تجربة، ولا ذوقا.
    3- أنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة:
    فالظّلم وضع الشّيء في غير موضعه، لذلك عَدَّ الله الشّرك ظلما، لأنّه عبادة ليست في موضعها.
    وقد حرّم سبحانه الظّلم على نفسه، فقال:{إِنَّاللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النّساء:40] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
    لذلك كان على العبد أن لا يظنّ أنّ في أوامر الشّرع ونواهيه وقدره بخسا ونقصا، وإلاّ كان قد اتّهم الله تعالى بالجهل والظّلم.
    4- إنّ إثبات الحكمة لله تعالى فيه إثبات للقياس في الشّريعة:
    ومن نفى الحكمة أنكر القياس كابن حزم رحمه الله، ومن نفى الحكمة وأثبت القياس كان متناقضا كالأشاعرة.
    فمن الظّلم لله نفي الحكمة عنه، ومن الظّلم للشّريعة نفي القياس عنها، قال ابن القيّم رحمه الله في "أعلام الموقّعين"(1/131):
    " قال تعالى:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ}، فالقياس في ضرب الأمثال من خاصّة العقل، وقد ركّز الله في فِطَر النَّاس وعقولهم التّسويةَ بين المتماثلين وإنكار التّفريق بينهما، والفرقَ بين المختلفين وإنكار الجميع بينهما، ومدار الاستدلال جميعِه على التّسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين "اهـ.
    وقال في (1/195): " وأمّا أحكامُه الأمريّة الشّرعية فكلّها هكذا، تجدها مشتملة على التّسوية بين المتماثلين وإلحاق النّظير بنظيره، واعتبار الشّيء بمثله، والتّفريق بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما بالآخر، وشريعته سبحانه منزّهة من أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه، ثمّ تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها، أو أزيَدَ منها.
    فمن جوّز ذلك على الشّريعة فما عرفها حقّ معرفتها، ولا قدَرها حقّ قدرها، وكيف يُظنّ بالشّريعة أنّها تبيح شيئا لحاجة المكلّف إليه ومصلحته ثمّ تحرّم ما هو أحوج إليه، والمصلحة في إباحته أظهر ؟ وهذا من أمحل المحال "اهـ.
    5- في إثبات الحكمة إغلاقٌ لباب "الحيل":
    والّذي يحتال على الشّرع يطعن في حكمة الله تعالى، لذلك كان جزاؤه اللّعنة، والمسخ الحسّي والمعنوي، لأنّه قلب حقائق الأمور، فقلب الله خلقته، والصّحابة ومن تبعهم بإحسان على إبطال الحيل:
    واحكـم لكلّ عامـل بنيّته *** واسدُد على المحتال بـاب حيلته
    فإنّما الأعـمـال بالنيّـات *** كما جـاء فـي خبـر الثّقـات
    واستمع إلى قوله تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] حتّى قال:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166]. وجاء الشّرع بالحكم بذلك على كلّ محتال:
    روى أصحاب السّنن الأربعة عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ )).
    وروى ابن ماجه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ: (( هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ )). فانظر كيف مسخ الله صورته المعنويّة فشبّهه بالتّيس ؟!
    ومنه الاحتيال على أكل الرّبا، وذلك ببيع العينة.
    ومنه الاحتيال على أكل الحرام في البيع، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: (( قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ )).
    قال ابن القيّم رحمه الله في (1/196):
    "ولذلك كان من المستحيل أن يشرّع الله ورسوله من الحيل ما يسقط به ما أوجبه أو يبيح به ما حرّمه، ولعن فاعلَه، وآذنه بحربه وحرب رسوله وشدّد فيه الوعيد، لما تضمّنه من المفسدة في الدّنيا والدّين، ثمّ بعد ذلك يُسوّغ التوصّل إليه بأدنى حيلة، ولو أنّ المريض اعتمد هذا فيما يحميه منه الطّبيب، ويمنعه منه لكان مُعِينًا على نفسه، ساعيا في ضرره، وعُدّ سفيها مفرطا "اهـ.
    6- الجزاء من جنس العمل.
    من تمام حكمة الله تعالى أنّه أجرى سنّته من باب الجزاء من جنس العمل، قال ابن القيّم رحمه الله:
    (( لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشرّ، فمن ستر مسلما ستره الله، ومنيسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة، ومننفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومنأقال نادما[2]أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومنتتبّع عورة أخيه تتبّع الله عورته، ومن ضارّ مسلما ضارّ الله به، ومنشاقّ شاقّ الله عليه، ومنخذل مسلما في موضع يحبّ نصرته فيه خذله الله في موضع يحبّ نصرته فيه، ومنسمح سمح الله له، والرّاحمونيرحمهم الرّحمن، وإنّما يرحم الله من عباده الرّحماء، ومن أنفق أنفق عليه، ومنأوعى أوعى عليه، ومنعفا عن حقّه عفا الله له عن حقّه، ومنجاوز تجاوز الله عنه، ومناستقصى استقصى الله عليه.
    فهذا شرع الله، وقدره، ووحيه، وثوابه، وعقابه، كلّه قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النّظير بالنّظير، واعتبار المثل بالمثل ))اهـ.
    ولمّا كانت الحكمة معناها وضع الحكم في موضعه، ناسب أن نتحدّث عن اسم: الحكم، وذلك في حلقة مقبلة إن شاء الله.




    [1] يشير إلى قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْفُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}.

    [2] قوله (نادما) أي: مسلما ندم في شرائه أو بيعه، قال في " عون المعبود ":

    " ( من أقال مسلما ) أي بيعه ( أقاله الله عثرته ) أي غفر زلته وخطيئته. قال في "إنجاح الحاجة": صورة إقالة البيع إذا اشترى أحد شيئا من رجل، ثمّ ندم على اشترائه، إمّا لظهور الغبن فيه، أو لزوال حاجته إليه، أو لانعدام الثّمن، فردّ المبيع على البائع وقبل البائع ردّه، أزال الله مشقّته وعثرته يوم القيامة، لأنّه إحسان منه على المشتري، لأنّ البيع كان قد بُتَّ فلا يستطيع المشتري فسخه انتهى ".






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: شرح الأسماء الحسنى



    شرح الأسماء الحُسنى (13)الحَـكَـمُ عزّ وجلّ.



    عبد الحليم توميات


    الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

    فقد تطرّقنا فيما سبق إلى اسم الله ( الحكيمورأينا ثمرات الإيمان بهذا الاسم العظيم.

    ولمّا كانت الحكمة معناها وضع الحكم في موضعه، ناسب أن نتحدّث عن اسم الله:

    21- الحَـكَـمعزّ وجلّ.

    فهو اسم من أسماء الله الحُسنى، وصفة من صفاته العلى، دلّ عليهما الكتاب، والسنّة، والفطرة.



    - أمّا من القرآن: فقال الله تعالى:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام: من الآية114]، وقال:{فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُالْحَاكِمِينَ} [الأعراف: من الآية87].


    - أمّا من السنّة: فما رواه أبو داود والنّسائي بسند صحيح عَنْ هَانِئٍ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ:

    (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ ؟)) فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ.

    فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((مَا أَحْسَنَ هَذَا ! فَمَا لَكَ مِنْ الْوَلَدِ ؟ )) قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ.

    قَالَ: (( فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟)) قُلْتُ: شُرَيْحٌ.

    قَالَ: (( فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ))[1].

    وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ( إنّ الله هو الحكم وإليه الحكم ): أي منه يبتدأ الحكم، وإليه ينتهي الحكم.

    * معنى الحـكـم.

    جاء في " شرح السنّة " أنّ: الحَكَم: هو الحاكم الّذي إذا حكم لا يُردّ حكمه، وهذه الصّفة لا تليق بغير الله تعالى، ومن أسمائه الحكم ".

    وقد ذكره جمع من أهل العلم ممّن جمعوا أسماء الله وصفاته: كالخطّابي، وابن منده، والحليمي، والبيهقيّ، وابن العربي، والقرطبي، وابن القيّم، وابن الوزير، وابن حجر، والسّعدي، وغيرهم.

    والحكم، والحاكم بمعنى واحد، إلاّ أنّ الحكم أبلغ من الحاكم، من وجهين:

    الوجه الأوّل: أنّه يدلّ على العدل، لذلك كان هذا الاسم يقتضي اتّصافه عزّ وجلّ بأنّه حاكم عدل[2].

    لذلك قال الطّبري رحمه الله في قوله تعالى:{أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} (8/7):" قل: فليس لي أن أتعدّى حكمه وأتجاوزه؛ لأنّه لا حكم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه ".

    الوجه الثّاني: أنّ حكمه لا يُردّ. ولذلك استنبط العلماء من قوله تعالى:{ فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } أنّ حُكم الحَكَمين في شقاق الزّوجين: ملزِمٌ وليس فتوى.

    * ثمرات معرفة هذا الاسم والإيمان به.

    فمن أهمّ الثّمرات:

    1- إثبات صفة (العدل): فهو العدل عزّ وجلّ، ولا عدل أكثر من عدله.

    وفي الصّحيحين يوم قسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غنائم حُنينٍ: " قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا ! وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ ! فبلغ ذلك النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال:

    (( فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟! رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْأُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ )).

    فالله تعالى هو الّذي يحكم بين عباده في الدّنيا والآخرة بعدله وقسطه، فلا يظلم مثقال ذرّة، ولا يُحمّل أحدا وزر أحد، ولا يُجازي العبد بأكثر من ذنبه، ولا يدع صاحب حقّ إلاّ أخذه؛ فهو العدل في أمره ونهيه وتقديره وتدبيره وأقواله وأفعاله وشؤونه كلّها:{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].

    لذلك علّمنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن نسأله سبحانه لرفع الهمّ والحزن فقال: (( مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ:

    اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَأَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَحُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي )).

    فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَلَا نَتَعَلَّمُهَا ؟ فَقَالَ: (( بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا )).

    قال ابن القيّم رحمه الله في " الفوائد " (ص 23):" تضمّن هذا الكلام أمرين:





    أحدهما: مضاء حكمه في عبده. والثّاني: يتضمّن حمده وعدله.

    وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وهذا معنى قول نبيّه هود عليه السّلام:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: من الآية56]، أي: مع كونه مالكا قاهرا متصرّفا في عباده، نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم، وهو العدل الّذي يتصرّف به فيهم.

    فهو على صراط مستقيم في قوله، وفعله، وقضائه، وقدره، وأمره، ونهيه، وثوابه، وعقابه، فخبره كلّه صدق، وقضاؤه كلّه عدل، وأمره كلّه مصلحة، والّذي نهى عنه كلّه مفسدة، وثوابه لمن يستحقّ الثّواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحقّ العقاب بعدله وحكمته..

    ولمّا كان القضاء هو الإتمام والإكمال، وذلك إنّما يكون بعد مضيّه ونفوذه، قال: (( عدل فِيَّ قضاؤك )) أي: الحكم الّذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه.

    وقوله: (( عدل فِيّ قضاؤك )) يتضمّن جميع أقضيته في عبده من كلّ الوجوه: من صحّة، وسقم، وغنى، وفقر، ولذّة، وألم، وحياة، وموت، وعقوبة، وتجاوز، وغير ذلك، فكلّ ما يقضى على العبد فهو عدلفيه ". اهـ

    وقال ابن الأنباري رحمه الله:" لمّا قال تعالى:{إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} كان في معنى: لا تخرج عن قبضته، قاهر بعظيم سلطانه كلّ دابّة، أتبع ذلك قوله:{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، أي: إنّه على الحقّ.

    قال ابن القيّم رحمه الله في "النّونية" (2/98):

    والعـدل من أوصـافه فـي فعـلـه *** ومـقـالـه والحـكم في المـيـزان

    ومن الثّمرات أيضا:

    2- الانقياد والقبول لجميع أحكام اللهتعالى:

    قال عزّ وجلّ:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].

    وسبب نزول هذه الآية هو: ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ رضي اللهعنه عِنْدَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ ! فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لِلزُّبَيْرِ:

    (( أَسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ )) فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ ؟!

    فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ثُمَّ قَالَ:

    (( اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ )) فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}[3].

    وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36]. لذلك جعل الفارق بين الجاهليّة والإسلام هو التّحاكم إليه سبحانه وتعالى، فقال:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].


    3- إثبات اسم وصفة الحَكَم له وحده سبحانه:

    فالحكم له وحده لا شريك له في حكمه، كما أنّه لا شريك له في عبادته، قال عزّ وجلّ:{وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف: من الآية26] كما قال:{وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: من الآية110]. وقال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: من الآية40]، وقال:{أَلا لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام: من الآية62] وقال:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: من الآية10].

    ولذلك من الخطأ الشّائع تسمية غير الله بالحكم، بل يقال الحاكم كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ )) [رواه البخاري ومسلم عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه].

    وقد يُطلق هذا الوصف منكّرا فيمن يُرجى منه العدل، كقوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: من الآية35].

    4- خطر منازعة الله هذه الصّفة: وذلك بالحكم بغير ما أنزل الله.

    قال الشّنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (7/162):

    " وبذلك تعلم أنّ الحلال هو ما أحلّه الله، والحرام ما حرّمه الله، والدّين هو ما شرعه الله، فكلّ تشريع من غيره باطل، والعمل به بدلَ تشريع الله عند من يعتقد أنّه مثله أو خير منه: كفرٌ بواحٌ لا نزاع فيه "اهـ.

    وهناك كلام رائق قاله هذا الإمام مفاده أنّ الله عزّ وجلّ بصفاته العظيمة يستحقّ أن يكون له الحكم، فهل من البشر من له مثل صفات خالقه ليشارك ربّه في الحكم ؟! قال رحمه الله:

    " اعلم أنّ الله تعالى بيّن في آيات كثيرة صفاتِ من يستحقّ أن يكون له الحكم، فعلى كلّ عاقل أن يتأمّل الصّفات المذكورة الّتي سنوضّحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرِّعين للقوانين الوضعيّة، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التّشريع، سبحان الله وتعالى عن ذلك !

    فإن كانت تنطبق عليهم - ولن تكون - فليتّبع تشريعهم.

    وإن ظهر يقينا أنّها أحقر وأخسّ وأذلّ وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدّهم، ولا يُجاوزه بهم إلى مقام الرّبوبيّة. سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه ! ..." اهـ

    5- لا يقال: هذا حكم الله في الأمور الاجتهاديّة:

    وقد أطال ابن القيّم رحمه الله الكلام في بيان هذا في "أعلام الموقّعين" (1/39).

    6- أنّ الحكمة كلّها في الوحي:

    إذا آمنّا بحكمة الله تعالى بمعنييها الكاملين: الحُكم والإحكام، فينبغي أن نؤمن أنّ كلامه كذلك، فهو حكيم محكم، قال تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] وقال:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1]..

    فالقرآن حاكم، كما سبق بيانه، وحكيم في أسلوبه، وحكيم في هدايته ورحمته، وحكيم في إيضاحه وبيانه، وحكيم في ترغيبه وترهيبه، ووعده ووعيده، وفي كلّ ما اشتمل عليه.

    وكذلك سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فينبغي لكلّ من تكلّم أن ينطلق من القرآن والسنّة، فهما جامعان لكلّ خير.

    إذا تقرّر هذا فكلّ نصّ رغّب في الحكمة فينبغي أن يراد منه ويفهم منه أوّلاالقرآن الكريم وسنّة النبيّصلّى الله عليه وسلّم، والعلم بالقرآن الحكيم والسنّة، كما في قوله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269]، وفي قوله:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النّساء: من الآية113].

    وكذا في الحديث الّذي رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:

    (( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا )).

    7- ومن آثار هذين الاسمين والصّفتين اتّصف سبحانه وتعالى وتسمّى بـ: ( المقدّم والمؤخّر ).

    وهذا ما نراه لاحقا إن شاء الله، والحمد لله ربّ العالمين.






    [1] ( فأنت أبو شريح): أي رعاية للأكبر سنّا، وفيه أنّ الأولى أن يكنّى الرّجل بأكبر بنيه.




    [2]أمّا اعتبار بعضهم العدلَ صفة من صفاته تعالى فليس عليه دليل، وممّن اعتبره اسما ابنُ القيّم رحمه الله حيث قال في "شفاء العليل" (1/276):" وقد تسمّى سبحانه بالحكم العدل ".




    [3]قوله: ( أنّ رجلا من الأنصار ) زاد في رواية: " قد شهد بدرا ".

    وهي زيادة تردّ قول الدّاودي والزجّاج وغيرهما أنّ خصم الزّبير كان منافقا. ولكنّه مؤمن صدر ذلك منه خطأً كما وقع لغيره ممّن صحّت توبته، وقوّى هذا شارح " المصابيح " التوربشتي ووهّى ما عداه، وقال:" لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النّصرة الّتي هي المدح، ولو شاركهم في النّسب، قال: بل هي زلّة من الشّيطان تمكّن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة " ا هـ. لذلك قال ابن التين رحمه الله:" إن كان بدريّا فمعني قوله:{ لاَ يُؤْمِنُونَ }: لا يستكملون الإيمان "، والله أعلم.




    قوله صلّى الله عليه وسلّم: (سرّح): أي أطلقه. وإنمّا قال له ذلك لأنّ الماء كان يمرّ بأرض الزّبير رضي الله عنه قبل أرض الأنصاريّ، فيحبسه لإكمال سقي أرضه ثمّ يرسله إلى أرض جاره، فالتمس منه الأنصاري تعجيل ذلك فامتنع.







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •