دور الخلفية المعرفية لعبدالحميد بن باديس في توجيه منهجه الإصلاحي
أ.د. محمد وقيع الله
ملامح منهجه الدعوي الإصلاحي:
في غضون الفترة التي قضاها الشيخ ابن باديس بالمدينة المنورة، جاءت الفكرة التي مثلت الخطوة الأولى في منهجه الإصلاحي الذي أخذ يتبلور شيئاً فشيئاً، وتتضح معالمه رويداً رويداً.
فقد التقى هناك زميليه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ الطيب العقبي، وتدارس معهما ما ينبغي أن يقوما به تجاه وطنهما المحتل. وسجل الشيخ الإبراهيمي ذلك بقوله: ”وأشْهِدُ الله على أن تلك الليالي من عام 1913م هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين، والتي لم تبرز للوجود إلا عام 1931م”.
وهكذا ظهرت الفكرة قبل أن يبدأ تنفيذها بنحو عقدين من الزمان. وكانت فترة كافية لتدارس الفكرة، وتقليب أوجه النظر فيها، ونقدها، وإبرام خطها الكلي الأصيل.
وأول ما يلاحظ على منهج الإصلاح الذي قام عليه ابن باديس أنه كان منهجاً إصلاحياً سلفياً كلياً، وأنه نادراً ما انجر إلى قضايا الفروع الخلافية الكثيرة التي أدمن بعض العلماء على الانشغال بها.
وعوضاً عن ذلك اتجه الشيخ ليركز على القضايا التأسيسية الكبرى، وهي قضايا الاعتقاد، وأخذ يصحح ما شاب عقيدة التوحيد عند العامة والخاصة من الأوشاب، ثم يقرر الثوابت الوطنية والحضارية للأمة، حتى لا تنجر إلى فخ التبعية والاستغلال الاقتصادي والسياسي، والذوبان في تيار الفرنسة والتغريب، ثم قدم للنشء الجزائري قسطاً من التعليم الديني ومن تعليم العربية والتعليم المهني.
إصلاح العقائد:
منذ أن كان الشيخ يافعاً يطلب العلم بالزيتونة بتونس، كان متشرباً بمذهب السلف في الاعتقاد، وكما يقول عنه زميله الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، فقد: ”كان ينكر بذوقه ما كان يبني عليه مشايخه من تربية تلاميذهم على طريقة المتكلمين في العقائد الإسلامية، ويتمنى أن يخرجهم على الطريقة القرآنية السلفية في العقائد يوم يصبح معلماً”[9].
كما أنكر الشيخ ابن باديس الشطح الباطني، وشنّ حملة نقد شديدة على أتباع عقيدة وحدة الوجود وأنصارها، وهي العقيدة التي روجها الحلاج وأمثاله، وحاول المستشرقون الفرنسيون أن يرسخوها عميقاً في الضمير الشعبي والنخبوي الجزائري.
تفسير القرآن:
وبدلاً من تقرير العقائد الإسلامية استمداداً من كتب المتكلمين والمناطقة والفلاسفة وأرباب الفرق الخلافية الكثيرة التي انتشرت في التراث الإسلامي، اعتمد ابن باديس اعتماداً كبيراً على منهج القرآن الكريم في تناول أمور العقيدة والشريعة والأخلاق.
واهتم كثيراً بتفسير القرآن الكريم على منهج سلفي رصين، حيث كان يفسر القرآن بالقرآن وما صحّ من الحديث وأقوال الصحابة والتابعين والسلف الصالح، وكان يكثر من قوله: ”ما أحسن التفسير عندما تعضده الأحاديث الصحاح”.
وقد حدثنا الشيخ عن منهجه في التفسير في مقدمة تفسيره الذي نشر بعد وفاته بعنوان (تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كتاب الحكيم الخبير)، قائلاً: ”لقد عدنا والحمد لله تعالى إلى مجالس التذكير من دروس التفسير... على عادتنا في تفسير الألفاظ بأرجح معانيها اللغوية، وجعل التراكيب على أبلغ أساليبها البيانية، وربط الآيات لوجود المناسبات، معتمداً في ذلك على صحيح المنقول وسديد المعقول مما جلاه أئمة السلف المتقدمون، وغاص عليه علماء الخلف المتأخرون... وعمدتنا فيما نرجع إليه من كتب الأئمة تفسير ابن جرير الطبري، الذي يمتاز بالتفاسير النقلية السلفية بأسلوبه الترسلي البليغ في بيان معنى الآية القرآنية، وبترجيحاته لأولى الأقوال عنده بالصواب. وتفسير الكشّاف الذي يمتاز بذوقه البياني في الأسلوب القرآني، وتطبيقه فنون البلاغة على آيات الكتاب، وبالتنظير لها من كلام العرب، واستعمالها في أفانين الكلام. وتفسير ابن حيّان الأندلسي، الذي يمتاز بتحقيقاته النحوية واللغوية، وتوجيهه للقراءات. وتفسير الرازي، الذي يمتاز ببحوثه في العلوم الكونية مما يتعلق بالجماد والنبات والحيوان والإنسان، وفي العلوم الكلامية ومقالات الفرق والمناظرة والحجاج في ذلك”[10].
وقد كان ابن باديس يطّلع على كل ذلك التراث الطيب من كتب التفسير القديمة وينتقي منه أوضحه وأبسطه وأشده ملاءمة لتلبية دواعي الإصلاح العقدي.
إصلاح التعليم:
وقبل أن يكتب ابن باديس تفسيره كان يلقيه في دروسه الكثيرة بالمساجد والمدارس، التي ظل يعمل بالتعليم فيها لأكثر من قرابة ربع قرن، وفي هذا يقول: ”أما بدء تعليمي (بالجامع الخضر بقسطنطينة) فكان في عام 1913م، وكان ذلك بمسعى من سيدي أبي لدى الحكومة، فأذنت لي بالتعليم فيه بعدما منعني من التعليم بالجامع الكبير بسعي من المفتي في ذلك العهد... وقد يسر الله لنا بفضله التعليم فيه إلى اليوم (1938م)”[11]. وقد تولى الشيخ التعليم بمساجد ومدارس كثيرة غيره في أنحاء كثيرة من الجزائر حتى قبل أربعة أيام من وفاته.
وقد وصفت لنا بعض المراجع صفحة من يوميات الشيخ التعليمية، فذكرت أن دروسه كانت: ”تستغرق معظم النهار، فمن صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء لا ينقطع عن التدريس إلا لراحة قصيرة أو عمل في مكتبه بجريدة أو مجلة (الشهاب)، يعلّم الصغار الذين لم يجدوا مكاناً في المدارس الفرنسية صباحاً، ويعلم طلبة المدارس الفرنسية عصراً بعد خروجهم من المدرسة ليربطهم بعقيدتهم وتراثهم الحضاري”[12].
وكان منهجه في هذه الدروس يقوم على التبسيط، أي تبسيط العلم بعد هضمه وتمثله، وتقديمه في شكل أقرب إلى الوعظ والتذكير، ولذلك لم يكن عجباً أن سمى تفسيره مجالس التذكير، فهي مجالس العلم التي كان يبث فيها علمه بنفَسٍ دعوي إحيائي نهضوي.
ولم يكن من منهجه أن يتعمق المسائل بأكثر مما يلزم، ولذلك لم يكتب كتباً مطولة بغرض البحث العلمي المحض، وإنما أنجز تكوين رسائل دعوية موجزة بهدف التعليم والتوجيه والتكوين.
وقد التزم الشيخ ابن باديس بهذا النهج من يومه الأول إلى الأخير، وقد قال صديقه وصفيه الشيخ الإبراهيمي وهو يشرح هذا النهج: ”كانت الطريقة اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة المنورة سنة 1913م في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم، إنما نربيه على فكرة صحيحة، ولو مع قليل من العلم. فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا”[13].
مقاومة التغريب:
وقد كان الشيخ على أتم اليقظة والوعي بفقه الولاء للأمة العربية الإسلامية، والبراء من خصومها الحضاريين من الغربيين وبخاصة الفرنسيين.
وقد مارس الشيخ كل ذلك بنهج حكيم متوازن بعيد عن التنطع والغلواء. وما فتئ يردد قوله إنه لا يقف ضد المدنية أو الحضارة العصرية الغربية، لكنه يدعو إلى أن يتمدن الجزائريون بشروطهم هم لا بشروط فرنسا، وأن يتمتعوا بحريتهم واستقلالهم وأن تتوقف فرنسا عن استقلالهم.
وعندما بلغت الدسائس الفرنسية ذروتها في بدايات أيام الحرب العالمية الثانية، التي اتجهت فيها فرنسا إلى تجنيد الجزائريين في جيشها ليخوضوا معاركها ضد الألمان؛ وقف الشيخ ابن باديس وقفة قوية صارمة، وانتقد علماء الدين الذين أجازوا للمواطنين الجزائريين ذلك الصنيع. وحينها فاه ابن باديس بكلمته المشهورة: ”لو طلبت مني فرنسا أن أقول لا إله إلا الله لما قلتها”![14].
وبرر ذلك بأنه يردد لفظ الشهادة كل يوم طوع نفسه ومراده، ولا يردد أي شعار انسياقاً مع فرنسا، حيث كان يرى في الفرْنسـة والاندماج في فرنسا خصماً للصفة الإسلامية، ونقيضاً لها، فالمرء لا يتفرنس إلا إذا دفع إسلامه ثمناً لذلك.
وحارب الشيخ في معظم سني جهاده دعوات التغريب ودعوة الاندماج مع فرنسا، وهي الدعوة التي كان يقودها داخل الجزائر فرحات عباس، الذي كتب مقالاً مشهوراً يقول فيه (أنا فرنسا)، وقد رد الشيخ على مقاله بمقال شاف ذكر فيه أن الجزائر لا تستطيع أن تكون فرنسا حتى ولو أرادت ذلك.
وأذاع قصيدته المشهورة التي أصبحت نشيداً للثورة الجزائرية، وفيها أكد هوية الجزائر الحقيقية، وهي التي مستهلها:
شعبُ الجزائرِ مسلمٌ وإلى العروبةِ ينتسـب
وعقد ابن باديس العزم على مناهضة التغريب والفرنسة في ذروتها بإحياء وتجديد فكر السلف.
واستخدم وسائل العصر الحديث لإنجاز ذلك الغرض، فأنشأ مجلة متميزة هي مجلة (المنتقد) التي سرعان ما أغلقتها الإدارة الفرنسية بدعوى مناصرتها للثورة في المغرب. وأنشأ إثر ذلك مجلة (الشِّهاب) التي اجتهدت في إنهاض وتجديد الفكر الاسلامي بصـورة خلابـة، إلى أن أغلقت هي الأخرى مع نشوب الحرب العالمية الثانية.
وانتظم في حلقات تعليمية راقية فتح بها باب الاجتهاد الشرعي، ونبه عقول طلابه وحثهم في الوقت ذاته على اكتساب المعارف الحديثة. وسرعان ما أخذت مدرسته تخرّج نوابغ نابهين يقارعون الفرنسة بتفوق، شأن الشيخ الطيب العقبي، ومحمد البشير الإبراهيمي، ومبارك الميلي، وأحمد توفيق المدني، وغيرهم من العلماء الذين أصبحوا في النهاية يشكلون الرموز الفكرية الحقيقية للثورة الجزائرية التي أنهت ليل الاستعمار الطويل.
الخاتمة
لقد أثرت التجربة المعرفية التي خاضها الشيخ عبد الحميد بن باديس منذ صباه، أثراً كبيراً على أعماله التعليمية الإصلاحية التي نهض بها خلال عمره القصير، والتي تمكّن بها من توجيه بلاده نحو استعادة أصالتها العربية الإسلامية.
وقد استمد الشيخ مفاهيمه الإصلاحية التجديدية الأساسية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومن تراث الحركات الإصلاحية السلفية، لا سيما تراثها التيمي/ القيمي، وإن لم يشأ أن يفصح عن ذلك جهاراً؛ خشية من سطوة الاستعمار الفرنسي الذي كان يتعقب آثار شيخ الإسلام ابن تيمية ويخضعها للفحص والبحث الشديدين على أيدي أساطين المستشرقين، ليتعرف إلى أسرارها واقتدارها على تصحيح عقائد المسلمين، والحيلولة دون ذوبانهم في الأمم الأخرى، وتحريضهم على مقاومة المحتلين.
وقد ساعدت الشيخ في مساعيه الإصلاحية معارفه الفرنسية التي مكّنته من مخاطبة البيئة الثقافية التغريبية التي واجهها في الوسط الجزائري الذي عايشه، فخاطبهم بلسانهم الثقافي الذي سلطته فرنسا عليهم، وتمكن بذلك من التأثير فيهم، واستنقاذهم من سطوة التغريب، واستقطاب أفذاذ منهم لمعاونته وخلافته في عمله الإصلاحي العظيم.
[1] عبد الحميد بن باديس.. شيخ الإسلام بتونس، (البصائر)، 2 صفر 1355هـ، ص 3.
[2] عبد الكريم أبو صفصاف، حركة محمد عبده وعبد الحميد بن باديس وأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007م، ص240.
[3] عبد الحميد بن باديس، تدشين دار الحديث بتلمسان، (الشهاب)، 13 أكتوبر 1937م، ص 10.
[4] أخرجه الترمذي وحسنه.
وأخرج أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة يعني ابن زيد بن ثابت قال: قال زيد بن ثابت: أمرني رسول الله فتعلمت له كتاب يهود، وقال إني والله ما آمن يهود على كتابي، فتعلمته فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له إذا كتب إليه.
[5] محمد وقيع الله أحمد، قمم وسفوح في النقد الأدبي الإسلامي، هيئة الأعمال الفكرية، الخرطوم، 2007م، ص 184-185.
[6] عبد الحميد بن باديس، سياسة الوخز بالكلمات، (الشهاب)، مارس 1936م.
[7] المرجع السابق.
[8] عبد الحميد بن باديس، (الشهاب)، 11 أكتوبر 1935م.
[9] من مقدمة محمد البشير الإبراهيمي لكتاب العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لعبد الحميد بن باديس، دار البعث، قسطنطينة، 1406هـ، ص60-61.
[10] عبد الحميد بن باديس، مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، دار البعث، قسطنطينة، 1402 هـ، ص53-54.
[11] نقلاً عن: عبد الكريم أبي صفصاف، حركة محمد عبده وعبد الحميد بن باديس وأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية، مرجع سابق، ص262-263.
[12] أحمد شريف الرفاعي، مقالات في الدعوة إلى النهضة الإسلامية في الجزائر، دار البعث، 1981م، قسطنطينة، ص 28.
[13] محمد البشير الإبراهيمي، (مجلة مجمع اللغة العربية)، العدد 21 لعام 1964م. نقلاً عن: عبد الكريم أبي صفصاف، حركة محمد عبده وعبد الحميد بن باديس وأبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية، مرجع سابق، ص 434.
[14] بخصوص الظرف التاريخي الخاص الذي ذكر فيه ابن باديس هذه العبارة راجع: محمد الميلي، ابن باديس وعروبة الجزائر، مرجع سابق، ص 63-65.