في توحيد الفتوى
د. حمزة بن محمد السالم








لم يقنع الفاروق عمر بقول عمار في تيمم الجنب فقال: ''اتق الله يا عمار!".. فقال: "يا أمير المؤمنين إن شئت لم أذكره".. قال: "لا و لكن نوليك من ذلك ما توليت''.. إن الدعوة إلى اجتماع السلطة الدينية على رأي واحد والتشنيع على المخالف هو قول قديم بقدم اختلاف الناس على أديانهم، سواء أكانت من أديان أهل الكتاب أو من غيرها، فهي نابعة من فطر إنسانية متعددة كفطرة الحرص على الشيء والخوف عليه، سواء امتزج هذا الحرص والخوف بالحب المفرط أو بفطرة حب النفوذ والتسلط المتأصلة في النفس البشرية أو كليهما وهو الغالب، فالظلم من جبلة البشر قال تعالى في وصف الإنسان: }إنه كان ظلوما جهولا{، وقد قيل ''والظلم من شيم النفوس وإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم".



والمناداة بالتقليد والدعوة إلى توحيد الفتوى أمر قديم كذلك في الإسلام، وأول رفض له من جانب العلماء يمثله قول عبد الله بن عباس: ''أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر''، وأول محاولة لفرضها بقوة السلطان كانت، والله أعلم، لهارون الرشيد الذي استحسن هذا الرأي فأراد حمل الناس على الموطأ وتعليقه في الكعبة فصده إمام دار الهجرة، الإمام مالك الذي تشرب الهدي النبوي وأدرك الذين اكتحلت أعينهم برؤية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتذى حذوهم، فلم يلن أو يهادن متأولا لشهوة من نفوذ أو شهرة والرشيد يريد حمل الناس على مذهبه وكتابه، فقال راداً على الرشيد رأيه ''أما تعليق الموطأ فإن الصحابة اختلفوا في الفروع وتفرقوا، وكل عند نفسه مصيب''.



وما زال العلماء الربانيون منذ عبد الله بن عباس إلى يومنا هذا يتصدون لمثل هذه النداءات التي لم تفتأ تظهر من حين إلى آخر سواء من ولاة أمر أو من علماء أو من خاصة القوم وعامتهم.. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ''إذا نزلت بالمسلم نازلة فإنّه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم - في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم- في أمته وهذا تبديل للدين''.



وقال ابن القيم: ''ولا يلزم أحد قط أن يتمذهب رجلٌ من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره، وهذه بدعة قبيحةٌ حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام وهم أعلى رتبة وأجل قدراً وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك، وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد من قول من قال يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة'' انتهى. وأقوال العلماء في النهي عن توحيد الفتوى والتقليد أكثر من يحصيها كتاب أو مؤلف.



وقد تنادى فضلاء في هذه الأيام بتوحيد الفتوى تصدياً لمن يفتي بغير علم في القنوات الفضائية والإعلامية وأن هذا الزمن زمن الفتن والمصائب، والصحيح أن كل يرى أن زمانه هو أعظم الأزمنة فتنة، وكل فئة ترى أنها على حق وغيرها على باطل.



والقول الفصل في ذلك أن الحق ليس في حاجة إلى أن تُحجر العقول عليه وتُمنع دون أن تتفكر فيه فهو الفطرة، ولكن الجهل والضلال والفكر المعوج هو الذي في حاجة إلى حماية له تمنع الناس عن التفكير فيه وتبيين فساده ومن ثم الاختلاف عليه.. ومنهجنا في ديننا حق والحق أبلج، والحق هو وعد ربنا فحق على الله أن لا يُمكن في الأرض إلا وعده.. أين أئمة الخوارج؟ أين جلادو أحمد بن حنبل وابن تيمية؟ أين المأمون ومعتزلته والقاهر وقرامطته؟ وأين الفرق الباطنية على شتى أنواعها؟ بادوا وهلكوا وعليهم من الله ومن العباد اللعنات والدعوات، وما آيات الله في قم إلا من نتاج اختزال فهم الدين في شخص أو أشخاص.



والذي يقود إليه المنطق الصريح والفكر الصحيح عند تأمل النقل ونتائج التطبيق هو أن تفرد أي جهة بالفتوى، ما عدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كائنا من كانت هذه الجهة ومهما بلغت من العلم والتقوى والصلاح، لهو من دواعي الفتنة ومواطن الزلل.



وشاهد ذلك ما نقله جامع الدرر السنية 14- (375-376) : '' يقول العلماء: حسن بن حسين، وسعد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكل آل الشيخ في خطابهم:



( ... ولا ينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ رحمة الله عليهم، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين؛ فإنه الصراط المستقيم، الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم. وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى، لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه، واستمرت عليه الفتوى منهم. فمن خالف في شيء من ذلك، واتخذ سبيلاً يخالف ما كان معلومًا عندهم، ومفتىً به عندهم، ومستقرة به الفتوى بينهم، فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله)''.



وإمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - لا يسره ذلك ولا يرتضي نسب الدين وحجر فهمه عليه وعلى أبنائه، ولكنها الدعوى إلى توحيد الفتوى، فهي طريق منتهاها الغلو في الأئمة، وطريقة آل الشيخ - رحمهم الله - في أصول الدين المذكورة هنا هي ما ندين الله بها، لا لأن آل الشيخ - رحمهم الله - قد أتوا بها ولكن لأنها طريقة أصحاب رسول الله والسلف الصالح والتي هي أسلم وأحكم وأعلم طرق العبودية لله، ولكننا مع ذلك ندين الله بأن غالب الأمة على خير وليسوا من أصحاب الجحيم والله أعلم بنا وبهم، وأما مسائل الأحكام والفتاوى، فهم - رحمهم الله- رجال قد أفتوا بما فهموه من كتاب الله وسنة نبيه بما يناسب زمانهم وحالهم، وعلمائنا وعلماء الأمة رجال يفتون بما فهموه من كتاب الله وسنة نبيه بما يناسب زماننا وحالنا.




وقد يرد على ما سبق أنه كان خاصاً بزمن معين وأهل منطقة معينة.. وهذا إيراد صحيح وفي محله ولكنه في الواقع شاهد على أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، فلا يحملن أحد الناس على فتاوى زالت حيثياتها وتغيرت معطياتها.



وثقافتنا بشكل عام تشهد بأن الاستئثار بالرأي والطريقة والتشنيع على المخالف وقمعه ثقافة موروثة كانت وما زالت تُحجر الفكر وتُضيق الفهم وتستنكر الجديد وتتوسع في التأويل وتتهم النوايا وتستهين بالعقول وتستخف بالآخرين فالله الله فقد رُوي عن سفيان بن عيينة أنه قال: ''بكى ربيعة، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: رياء ظاهر، وشهوة خفية؛ والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نُهوا عنه انتهوا، وما أمروا به ائتمروا''.



وأختم بشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال ''إنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما.. إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس مرجح لذلك، وما تنازع فيه العلماء رُد إلى هذه الأصول.. ومن الناس من يكون قد نشأ على مذهب إمام معين أو استفتى فقيها معيناً أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ، فيريد أن يحمل الناس كلهم على ذلك، وهذا غلط''. انتهى كلامه، رحمه الله.