النفس الإنسانية (2)
عبد الله جحيش
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده,
عن النفس الإنسانية طفت وإياكم في مقال سابق, تطرقنا فيه إلى عدة موضوعات عن النفس، وتوقفنا عند أقسام النفس في القرآن الكريم، وهنا نحن اليوم بإذن الله تعالى نختتم الكلام عن تلك الأقسام.
2- النفس اللوامة
هي تلك النفس التي تنورت بنور القلب عن سنة الغفلة وكلما صدرت عنها سيئة بحكم جبلتها أخذت في اللوم والتعنيف وحالت دون التمادي في العصيان والتي تلوم كذلك على عدم الاستكثار في الخير قال تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة}[1]
والنفس اللوامة هي التي أقسم بها سبحانه في قوله {ولا أقسم بالنفس اللوامة}[2] وقد اختلف فيها:
1- فقالت طائفة هي التي لا تثبت على حال واحدة، أخذوا اللفظة من التلوم ! وهو التردد فهي كثيرة التقلب والتلون وهي من أعظم آيات الله فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة فضلا عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانا متلونة فتذكر وتغفل وتقبل وتعرض وتلطف وتكشف وتنيب وتجفو وتحب وتبغض وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وتطع وتنقى وتفجر إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها فهي تتلون كل وقت ألوانا كثيرة فهذا قول.
2- وقالت طائفة اللفظة مأخوذة من اللوم ثم اختلفوا فقالت فرقة هي نفس المؤمن وهذا من صفاتها المجردة قال الحسن البصري: أن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائما يقول ما أردت بهذا لم فعلت هذا كان غير هذا أولى أو نحو هذا من الكلام[3].
3- وقال غيره هي نفس المؤمن توقعه في الذنب ثم تلومه عليه فهذا اللوم من الإيمان بخلاف الشقي فإنه لا يلوم نفسه على ذنب بل يلومها وتلومه على فواته.
4- وقالت طائفة بل هذا اللوم للنوعين فإن كل أحد يلوم نفسه برا كان أو فاجرا فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها.
5- وقالت فرقة أخرى هذا اللوم يوم القيامة فإن كل أحد يلوم نفسه إن كان مسيئا على إساءته وإن كان محسنا على تقصيره.
وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها فإن النفس موصوفة بهذا كله وباعتباره سميت لوامة[4] ولكن اللوامة نوعان:
1- لوامة ملومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته.
2- ولوامة غير ملومة: وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده فهذه غير ملومة وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله واحتملت ملام اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله وأما من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها ولم تحتمل في الله ملام اللوام فهي التي يلومها الله عز و جل.[5]
3- النفس المطمئنة
هي التي تم تنويرها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة، وهي تلك النفس التي تعتبر الحوادث الحياتية – خيرها وشرها – ابتلاء ومحنة.
وهي تلك النموذج الذي يسعى إليه الإنسان المسلم, وهي التعبير الصادق عن تلك الحالة التي لا يعرف فيها الفرد أمراض الشهوة والشك والشبهة والبغي وهي النموذج الأكمل للصحة النفسية التي تؤدي إلى الحياة الطبية في الدنيا والفوز والنعيم المقيم في الآخرة.ذا سكنت النفس إلى الله عزّ وجلّ واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه ، فهى مطمئنة ، وهى التى يقال لها عند الوفاة.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة}[6]
قال ابن عباس: المطمئنة المصدقة، وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله، وصاحبها يطمئن فى باب معرفة أسمائه وصفاته إلى خبره الذي أخبر عن نفسه وأخبر به عند رسوله صلى الله عليه وسلم ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعده من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عياناً ،ثم يطمئن إلى قدر الله عزّ وجلّ فيسلم له ويرضى فلا يسخط، ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه، لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه، وقبل أن يخلق، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[7].
قال غير واحد من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنا من عند الله فيرضى ويسلم.
وأما طمأنينة الإحسان فهى الطمأنينة إلى أمره امتثالاً وإخلاصاً ونصحاً، فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى، ولا تقليداً، ولا يساكن شبهة تعارض خبره، ولا شهوة تعارض أمره، بل إذا مرّت به أنزلها منزلة الوساوس التى لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يجدها، فهذا كما قال النبي: "صريح الإيمان"[8]، وكذلك يطمئن من قلق المعصية، وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها [9].
فإذا اطمأن من الشكّ إلى اليقين، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الخيانة إلى التوبة ومن الرياء إلى الإخلاص،ومن الكذب إلى الصدق، ومن العجز إلى الكيس، ومن صولة العجب إلى ذلة الإخبات، ومن التيه إلى التواضع، فعند ذلك تكون نفسه مطمئنة.
والنفس المطمئنة قرينها الملك، يليها، ويسددها، ويقذف فيها الحق، ويرغبها فيه، ويريها حسن صورته ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه، ويريها قبح صورته، وبالجملة فما كان لله وبالله فهو من عند النفس المطمئنة، وأما النفس الأمارة فجعل الشيطان قرينها، وصاحبها الذي يليها ،فهو يعدها، ويمنيها، ويقذف فيها الباطل، ويأمرها السوء، ويزين لها، ويطيل فى الأمل، ويريها الباطل فى صورة تقبلها وتستحسنها.
فالنفس المطمئنة والملك يقتضيان من النفس المطمئنة: التوحيد، والإحسان والبر والتقوى، والتوكل والتوبة، والإنابة والإقبال على الله، وقصر الأمل، والاستعداد للموت وما بعده.
والشيطان وجنده من الكفرة يقتضيان من النفس الأمارة ضد ذلك وأصعب شيء على النفس المطمئنة تخليص الأعمال من الشيطان ومن الأمارة فلو وصل منها عمل واحد لنجا به العبد، ولكن أبت الأمارة والشيطان أن يدعا له عملاً واحداً يصل إلى الله ،كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه " والله لو أعلم أن لى عملاً واحداً وصل إلى الله لكنت أفرح بالموت من الغائب يقدم على أهله"، وقال عبد الله بن عمر : " لو أعلم أن الله قبل منى سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إلى من الموت ".
وقد انتصبت الأمارة فى مقابلة المطمئنة، فكلما جاءت به تلك من خير ضاهتها هذه وجاءت من الشر بما يقابله حتى تفسده عليها، وتريه حقيقة الجهاد فى صور تقتيل النفس، وتنكح الزوجة، ويصير الأولاد يتامى ويقسم المال وتريه حقيقة الزكاة والصدقة فى صورة مفارقة المال ونقصه، وخلو اليد منه، واحتياجه إلى الناس، ومساواته للفقير.
وخلاصة القول: إن النفس واحدة تكون: أمارة، ثم لوامة ،ثم مطمئنة وهى غاية كمالها وصلاحها.
نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئآت أعمالنا، اللهم زك نفوسنا أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها
[1] القيامة (1-2).
[2] القيامة (2).
[3] ابن كثير (8/577)
[4] انظرابن جرير(24/47)
[5] الروح لابن القيم (1/225).
[6]الفجر (27/28).
[7] التغابن من الآية (11).
[8]واه الترمذى ( 2583 تحفة ) صفة القيامة وسكت عنه وقال الألبانى : وهو إسناد ضعيف لكنه حسن فى المتابعات وله شاهد عند ابن ماجه وابن حبان : وهو فى الصحيحة رقم 949.
[9] تزكية النفوس (1/43).