نقض دعوى تراجع شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقيدته
. محمد براء ياسين
أما منافرتها للأحداث التالية؛ فمعلوم أن ابن تيمية أعيد اعتقاله في مصر عقب شكوى أخرى، بعد أقل من سنتين.
ينقل خادم ابن تيمية إبراهيم الغياني الذي رافقه في تلك الحبسة واقعة مهمة في ما نحن بصدده فيذكر أنه جاءه بعض المشايخ وقالوا له: «يا سيدي قد حمَّلُونا كلاماً نقوله لك، وحلَّفُونا أنه ما يطَّلعُ عليه غيرنا؛ أن تنزل لهم عن مسألة العرش، ومسألة القرآن، ونأخذ خطَّك بذلك، نوقف عليه السلطان، ونقول له: هذا الذي حبسنا ابن تيمية عليه قد رجع عنه ونقطعُ نحن الورقة.
فقال لهم: تدعُونَني أن أكتُب بخطي أنه ليس فوق العرش إله يعبد، ولا في المصاحف قرآن، ولا لله في الأرض كلام؟! ودقّ بعمامته الأرض، وقام واقفاً، ورفع برأسه إلى السماء، وقال: اللهم إني أُشهِدُك على أنَّهم يدعونني أن أكفُر بك وبكتبك ورسلك، وأن هذا الشيء ما أعملُه، اللهم أنزل بهم بأسَك الذي لا تردُّه عن القوم المجرمين»[15].
يظهر جلياً من هذه الواقعة أن قضية الصفات التي حبس ابن تيمية بسببها الحبسة الأولى لم تنتهِ؛ لم تنهها شفاعة مهنا بن عيسى التي أخرجت ابن تيمية المرة الأولى من السجن، وما زال خصومه يساومونه في الرجوع عن عقيدته، فلو كانوا قد نجحوا في الحصول على تراجع منه كما ورد في المكتوبين، فلم يساومونه بعد مرور أكثر من عام على ذلك المجلس ليتراجع عن عقيدته، إذا كان قد تراجع عنها!
وقد وصف الشيخ نفسه في هذه القضية في كتابه «الرد على البكري»[16] الذي صنفه بعد خروجه بسنوات، بعد سنة 711هـ، بأنه «يقابل ولاة الأمر وغيرهم من الأكابر في أخذهم بالحقِّ وإن كرهُوه، ويطلُبون منه أن يسكت عن حقٍّ مُتعلق بالدين فلا يسكت، فيطلبون خروجه من الضيق فيأبى الخروج حتى يظهر الحق، ويُهين هذا الحزبَ الجاهِل الظالم ويبين جهله».
وهذا الوصف تسقط معه كل دعوى يدّعى فيها أن ابن تيمية تراجع عن عقيدته، إذ هذه الأوصاف والتراجع نقيضان.
بقي نصّ أخير نورده، يفيد في ما نريده، وهو أن قضية التوبة والتراجع خلال المحنة مستبعدة جداً من حيث الإمكان العادي.
يقول تلميذه ابنُ القَيّم في تعداده لوقائع فراسة شيخه: «ولما طُلِب إلى الديار المصرية، وأُرِيدَ قتلُه، بعد ما أُنضِجَت له القُدُور، وقُلِّبت له الأمور؛ اجتمعَ أصحابُه لوداعه، وقالوا: قد تواترتِ الكُتُب بأنَّ القوم عامِلُون على قتلِك! فقال: والله لا يصِلُون إلى ذلك أبداً. قالوا: أفتُحبَس؟ قال: نعم، ويطولُ حبسي، ثم أَخرُج وأتكلَّمُ بالسُّنَّة على رؤوس الناس. سمعتُه يقول ذلك»[17].
فإذا كان ابن تيمية وهو في دمشق قبل السفر، وقبل الحبس، وقبل المحاكمة، وقبل المساومة، يقسم بالله تعالى أن القوم لن يقدروا أن ينالوا منه، فلِمَ يكون خيار التراجع مطروحاً لديه في التعامل مع القوم؟ لا ريب أن من يملك تلك الروح المعنوية العالية، وتلك الثقة، لا يكون خيار التراجع عنده مطروحاً.
فهذا تمام الجواب عن المكتوبين (الأول الذي أورده النويري، وابن حجر متابعاً له، والثاني الذي أورده ابن المعلم) نخلص فيه إلى أنهما مكتوبان مكذوبان مختلقان على ابن تيمية.
وما أكثر ما كتب عن ابن تيمية كذباً في حياته، وطار به الخصوم! وفي أكثر من موضع من كلامه ذكر لذلك.
لكن هل أورد غير المذكورين من المؤرِّخين خبرًا فيه ما يستدل به على تراجع ابن تيمية؟
الجواب: نعم!
1- ذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية) النصّ التالي في ذكره لحبسة ابن تيمية الأولى في مصر: «ثم بقي سنة ونصفاً وأخرج، وكتب لهم ألفاظاً اقترحوها عليه، وهدد وتوعد بالقتل إن لم يكتبها»[18].
وقال ابن رجب في ترجمته لشيخ الإسلام من «الذيل على طبقات الحنابلة»: «وذكر الذهبي والبرزالي وغيرهما: أن الشيخ كتب لهم بخطه مجملاً من القول وألفاظاً فيها بعض ما فيها، لما خاف وهدد بالقتل»[19].
أما ذكر الذهبي لهذا، فقد علمت لفظه وموطنه، وأما البرزالي، فلم يذكر ذلك في تاريخه، فيحتمل أن العزو للبرزالي وهم من ابن رجب، أو أن البرزالي ذكره في نسخة غير المطبوعة من تاريخه. لكن لورود الاحتمال نكتفي هنا بمناقشة النص على أنه للذهبي فقط.
ومناقشته تكون بالمقارنة بينه وبين نصّ المكتوبين اللذين سبقت مناقشتهما آنفاً. فيُلاحَظ أولاً أنَّ الذهبيَّ لم يُحدِّد في كلامه متى كانت هذه الكتابة التي كتبها ابن تيمية لخصومه على جهة التفصيل؛ بعد أي مجلس؟ وفي أي تاريخ؟ كما ورد في المكتوبين، وإنما اكتفى بذكر تاريخ مجمل لها.
ويلاحَظ ثانياً: أن ما كتبه ابن تيمية من ألفاظ مقترحة من الخصوم كان كُرهاً، وهو بهذا يخالف المكتوبين اللذَين جاء فيهما أن تراجعه كان طوعاً.
وثالثاً: هذا النصُّ ليس صريحاً في التراجع، لأنه يحتمل أن كَتَبَ ألفاظاً اقترحوها لكنها لا تناقض عقيدته، فلا يعدّ ذلك تراجعاً.
ونحن هنا أمام خيارين:
إما أن نرجح هذا الاحتمال، لكون قضية التراجع غير ثابتة تاريخياً، ولا يمكن أن تثبت؛ لما مضى بيانه. أو أن نردّ نص الذهبي لتعارضه مع نَفَس الحزم والتصميم الذي يظهر من أحداث محنة شيخِ الإسلام في مصر. والذي دلت عليه النصوص التي نقلناها آنفاً.
وبأية حال، فليس في نص الذهبي ما يفيد أصحاب دعوى تراجع ابن تيمية، لأننا لو أثبتناه، ولم نأخذ بالاحتمال الوارد آنفاً، وسلمنا بتراجعه تسليماً جدلياً، فوصف الإكراه الذي ذكره الذهبي لا يفيد هؤلاء في ما يريدونه. وليس في التراجع مع الإكراه إشكال فقهي أصلاً، وابن تيمية نفسه يقول: «والمؤمنُ مشروعٌ له مع القدرة أن يُقيم دين الله بحسب الإمكان بالمحاربة وغيرها، ومع العجز يُمسِك عمّا عجز عنه من الانتصار، ويصبرُ على ما يصيبه من البلاء من غير منافقة، بل يُشرع له من المداراة، ومن التكلُّم بما يُكره عليه ما جعل الله له فرجاً ومخرجاً»[20].
2- ذكرَ الشيخ قطب الدين اليُونيني رحمه الله تعالى في تاريخه هذا المجلس الذي عُقِد يوم الأحد 6/4/707هـ ثم قال بعد أن ذكره: «وحصل الاتفاق على تغيير ألفاظ في العقيدة»[21].
وتابع اليونيني في ذلك ابن أيبك الداودري في تاريخه «كنز الدرر وجامع الغرر»[22]، ومن يقارن بين التاريخين يعلم اعتماد ابن أيبك على اليونيني.
وبالمقارنة بين هذا النصّ وبين المكتوبين، وبينه وبين نصّ الذهبي تظهر أمور:
الأول: ينصُّ اليونيني على تاريخ ذلك التغيير بالضبط كما نصّ عليه النويري، وهو المجلس الذي عقد يوم الأحد 6 /4/707هـ، وقد قدّمنا نصّ ابن تيمية نفسه في ذكره لنتيجة هذا المجلس، وهو مقدّم على كلام غيره لو افتُرِض التعارض.
الثاني: هل كان التغيير طواعية كما في المكتوبين، أو كان كرهاً كما في نص الذهبي؟ وليس في نصّ اليونيني إثبات أو نفيٌ لكلا الأمرين.
الثالث: نصّ اليونيني مثل نص الذهبي في عدم التصريح بالتراجع، وإنما بالاكتفاء بذكر حصول الاتفاق على تغيير في بعض الألفاظ، وهذا ليس صريحاً في التراجع، ويقال فيه ما قيل في نصّ الذهبي آنفاً.
بقي أن يقال بعد الفراغ من مناقشة جميع نقول المؤرخين الواردة في هذه المسألة، أنَّ أصحاب دعوى تراجع ابن تيمية إن أوغلوا في الوهم وادّعوا أنه بقي على تراجعه حتى مات، عظُم إفكُهم، وزادت معنا الحقائق التاريخية المناقضة لما ذهبوا إليه، إذ تصنيف ابن تيمية لكتب كبيرة ومهمة في الرد على الأشعرية إنما كان بعد انقضاء محنته بمصر، مثل «الصفدية» و«النبوات» و«العقل والنقل». والله تعالى أعلم.
[1] (32/85).
[2] (1/148).
[3] مخطوط.
[4] نهاية الأرب في فنون الأدب (32/85).
[5] نهاية الأرب في فنون الأدب (32/85).
[6] يقول الشيخ في رسالته للشيخ الدُّبَاهي المسماة بالرسالة المدنية: «مجرد الانتساب للأشعري بدعة» (مجموع الفتاوى) (6/359).
[7] اعتمدت في نقله على مخطوطة لهذا الكتاب.
[8] أورد النويري في تاريخه (32/201-211) فتوى ابن تيمية في النصيرية التي أثبتها ابن قاسم في «مجموع الفتاوى» (145-160)، وأورد في تاريخه (32/72-78) فتيا ابن تيمية في القرآن المعروفة بـ«الفتيا المصرية» كما أوردها ابن تيمية في «التسعينية» (2/530-546)، وكذا أوردها ابن قاسم في «مجموع الفتاوى» (12/235-245).
[9] «المقتفي على الروضتين» (3/354-355).
[10] ذكر البرزالي أن هذا المجلس كان في المدرسة الصالحية، والمنصورية والصالحية مدرستان بالقاهرة، والله أعلم بالصواب.
[11] رسالة ابن تيمية لأخيه بدر الدين، ضمن «العقود الدرية» (ص319-320).
[12] المقتفي على الروضتين (3/355).
[13] العقود الدرية (ص315).
[14] التسعينية (1/109-119).
[15] رسالة إبراهيم الغياني ضمن «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص146-147).
[16] (ص391).
[17] (مدارج السالكين) (2/489-490).
[18] (الدرة اليتيمية في السيرة التيمية) (ضمن تكملة الجامع ص46).
[19] (الذيل على طبقات الحنابلة) (4/514).
[20] (التسعينية) (2/699).
[21] (ذيل مرآة الزمان) (2/1169).
[22] (كنز الدرر وجامع الغرر) (9/151).