.............................. .................


مبدأ كل علم نَظَرِي وَعمل اخْتِيَاري هُوَ الخواطر والأفكار فَإِنَّهَا
توجب التصورات والتصورات تَدْعُو إِلَى الإيرادات والإيرادات تَقْتَضِي وُقُوع الْفِعْل وَكَثْرَة تكراره تُعْطِي الْعدة .

فصلاح هَذِه الْمَرَاتِب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها فصلاح الخواطر بِأَن تكون مراقبة لوَلِيّهَا وإلهها صاعدة إِلَيْهِ دَائِرَة على مرضاته ومحابّه فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ كل صَلَاح وَمن عِنْده كل هدى وَمن توفيقه كل رشد وَمن توليه لعَبْدِهِ كل حفظ وَمن تولّيه وإعراضه عَنهُ كل ضلال وشقاء فيضفر العَبْد بِكُل خير وَهدى ورشد بِقدر إِثْبَات عين فكرته فِي آلائه ونعمه وتوحيده وطرق مَعْرفَته وطرق عبوديته وإنزاله إِيَّاه حَاضرا مَعَه مشاهدا لَهُ نَاظرا إِلَيْهِ رقيبا عَلَيْهِ مطّلعا على خواطره وإرادته وهمّه فَحِينَئِذٍ يستحي مِنْهُ ويجله أَن يطلعه مِنْهُ على عَورَة يكره أَن يطلع عَلَيْهَا مَخْلُوق مثله أَو يرى نَفسه خاطرا يمقته عَلَيْهِ .

فَمَتَى أنزل ربه هَذِه الْمنزلَة مِنْهُ رَفعه وقرّبه مِنْهُ وأكرمه واجتباه وولاه وبقدر ذَلِك يبعد عَن الأوساخ والدناآت والخواطر الرَّديئَة والأفكار الدنيئة كَمَا أَنه بعد مِنْهُ وَأعْرض عَنهُ وَقرب من الأوساخ والدناآت والأقذار وَيقطع عَن جَمِيع الكمالات ويتصل بِجَمِيعِ النقائص فالإنسان خير الْمَخْلُوقَات إِذا تقرّب من بارئه وَالْتزم أوامره ونواهيه وَعمل بمرضاته وآثره على هَوَاهُ .

وشرّ الْمَخْلُوقَات إِذا تبَاعد عَنهُ وَلم يَتَحَرَّك قلبه لقُرْبه وطاعته وابتغاء مرضاته فَمَتَى اخْتَار التقرّب إِلَيْهِ وآثره على نَفسه وهواه فقد حكم قلبه عقله وإيمانه على نَفسه وشيطانه وحكّم رشده على غيّه وهداه على هَوَاهُ وَمَتى اخْتَار التباعد مِنْهُ فقد حكم نَفسه وهواه وشيطانه على عقله وَقَلبه ورشده .

وَأعلم أَن الخاطرات والوساوس تُؤدِّي متعلقاتها إِلَى الْفِكر فيأخذها الْفِكر فيؤديها إِلَى التَّذَكُّر فيأخذها الذّكر فيؤديها إِلَى الْإِرَادَة فتأخذها الْإِرَادَة فتؤديها إِلَى الْجَوَارِح وَالْعَمَل فتستحكم فَتَصِير عَادَة فرّدها من مبادئها أسهل من قطعهَا بعد قوتها وتمامها وَمَعْلُوم أَنه لم يُعْط الْإِنْسَان إماتة الخواطر وَلَا الْقُوَّة على قطعهَا فَإِنَّهَا تهجم عَلَيْهِ هجوم النَّفس إِلَّا أَن قُوَّة الْإِيمَان وَالْعقل تعينه على قبُول أحْسنهَا وَرضَاهُ بِهِ ومساكنته لَهُ وعَلى رفع أقبحها وكراهته لَهُ نفرته مِنْهُ كَمَا قَالَ الصَّحَابَة ( يَا رَسُول الله إِن أَحَدنَا يجد فِي نَفسه مَا لِأَن يَحْتَرِق حَتَّى يصير حممة أحب إِلَيْهِ من أَن يتَكَلَّم بِهِ فَقَالَ أَو قد وجدتموه قَالُوا نعم قَالَ ذَاك صَرِيح الْإِيمَان )
وَفِي لفظ ( الْحَمد لله الَّذِي رد كَيده إِلَى الوسوسة )

وَفِيه قَولَانِ

أَحدهمَا أَن رده وكراهيته صَرِيح الْإِيمَان
وَالثَّانِي أَن وجوده وإلقاء الشَّيْطَان لَهُ فِي النَّفس صَرِيح الْإِيمَان فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَلْقَاهُ فِي النَّفس طلبا لمعارضة الْإِيمَان وإزالته بِهِ .

وَقد خلق الله سُبْحَانَهُ النَّفس شَبيهَة بالرحا الدائرة الَّتِي لَا تسكن وَلَا بُد لَهَا من شَيْء تطحنه فَإِن وضع فِيهَا حب طحنته وَإِن وضع فِيهَا تُرَاب أَو حصا طحنته فلأفكار والخواطر الَّتِي تجول فِي النَّفس هِيَ بِمَنْزِلَة الْحبّ الَّذِي يوضع فِي الرحا وَلَا تبقى تِلْكَ الرحا معطلة قطّ بل لَا بُد لَهَا من شَيْء يوضع فِيهَا فَمن النَّاس من تطحن رحاه حبا يخرج دَقِيقًا ينفع بِهِ نَفسه وَغَيره وَأَكْثَرهم يطحن رملا وحصا وتبنا وَنَحْو ذَلِك فَإِذا جَاءَ وَقت العجن وَالْخبْز تبيّن لَهُ حَقِيقَة طحينه .