تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 4 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 80 من 111

الموضوع: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

  1. #61
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(58)



    حالة العرب قبل الإسلام (1- 10)

    أولاً: الحالة الدينية :

    ابتليت الأمة العربية بتخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خلقية، واجتماعية، وفوضى سياسية، وتشريعية، ومن ثم قل شأنهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ما كانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال ومن ثم عبدوا الأصنام، فكان لكل قبيلة صنم، فكان لهذيل بن مدركة: سواع، ولكلب: ود، ولمذحج: يغوث، ولخيوان: يعوق، ولحمير: نسر، وكانت خزاعة وقريش تعبد إسافًا ونائلة، وكانت مناة على ساحل البحر، تعظمها العرب كافة والأوس والخزرج خاصة، وكانت اللات في ثقيف، وكانت العزى فوق ذات عرق، وكانت أعظم الأصنام عند قريش(1).
    وإلى جانب هذه الأصنام الرئيسية يوجد عدد لا يحصى كثرة من الأصنام الصغيرة والتي يسهل نقلها في أسفارهم ووضعها في بيوتهم.
    روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي قال: «كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا آخر هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به»(2).
    وقد حالت هذه الوثنية السخيفة بين العرب، وبين ومعرفة الله وتعظيمه وتوقيره والإيمان به، وباليوم الآخر وإن زعموا أنها لا تعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله، وقد هيمنت هذه الآلهة المزعومة على قلوبهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وجميع جوانب حياتهم وضعف توقير الله في نفوسهم قال تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام: 36].
    أما البقية الباقية من دين إبراهيم عليه السلام فقد أصابها التحريف، والتغيير والتبديل، فصار الحج موسما للمفاخرة والمنافرة، والمباهاة وانحرفت بقايا المعتقدات الحنيفية عن حقيقتها وألصق بها من الخرافات والأساطير الشيء الكثير.
    وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام، وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم، وكان يقول:


    أربًّا واحدًا أم ألفَ رب؟؟ أدين إذا تقسِّمت الأمورُ؟
    عزلتُ اللات والعزى جميعًا كذلك يفعل الجلد الصبورُ
    فلا العزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزورُ
    ولا غنمًا أدين وكـان ربا لنا في الدهر، إذا حلمي يسيرُ

    إلى أن قال:


    ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الربُّ الغفور(3)

    وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي، فقد كان خطيبًا، حكيمًا، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: «إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه» وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة.
    ومما كان ينشده من شعره:


    في الذاهبين الأوليـن من القرون لنا بصائر
    لمــا رأيت مـواردا للموت ليس لها مصادر
    ورأيت قومي نحـوها يمضي الأصاغر والأكابر
    لا يرجـع الماضي إليّ ولا من الباقيــن غابر
    أيقنت أنــي لا محالة حيث صار القوم صائر(4)
    كان بعض العرب قد تنصر، وبعضهم دخل في اليهودية، أما الأغلبية فكانت تعبد الأوثان والأصنام.



    (1) ــ الغرباء الأولون ص60
    (2) ــ صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب وفد بني حنيفة (4376)
    (3) ــ السيرة النبوية لبن كثير ( 1 / 163 ) ، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ( 1 / 80 ).
    (4) ــ السيرة النبوية لأبي شهبة ( 1 / 81 ).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #62
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(59)



    حالة العرب قبل الإسلام (2- 10)





    ثانيًا: الحالة السياسية:
    كان سكان الجزيرة العربية ينقسمون إلى بدو وحضر، وكان النظام السائد بينهم هو النظام القبلي، حتى في الممالك المتحضرة التي نشأت بالجزيرة، كمملكة اليمن في الجنوب ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة الغساسنة في الشمال الغربي، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد، وإنما ظلت القبائل وحدات متماسكة.
    والقبيلة العربية مجموعة من الناس، تربط بينها وحدة الدم (النسب) ووحدة الجماعة، وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقات بين الفرد والجماعة، على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة في نظامها السياسي والاجتماعي(1).
    وزعيم القبيلة ترشحه للقيادة منزلته القبلية وصفاته، وخصائصه من شجاعة ومروءة، وكرم ونحوها، ولرئيس القبيلة حقوق أدبية ومادية، فالأدبية أهمها: احترامه وتبجيله، والاستجابة لأمره، والنزول على حكمه وقضائه، وأما المادية فقد كان له في كل غنيمة تغنمها (المرباع) وهو ربع الغنيمة، (والصفايا) وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة (والنشيطة) وهي ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء (والفضول) وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة، وقد أجمل الشاعر العربي ذلك بقوله:
    لك المرباع فينا، والصفايا وحكمك، والنشيطة، والفضول(2)
    ومقابل هذه الحقوق، واجبات ومسئوليات، فهو في السلم جواد كريم، وفي الحرب يتقدم الصفوف، ويعقد الصلح، والمعاهدات.
    والنظام القبلي تسود فيه الحرية، فقد نشأ العربي في جو طليق، وفي بيئة طليقة، ومن ثم كانت الحرية من أخص خصائص العرب، ويعشقونها ويأبون الضيم والذل وكل فرد في القبيلة ينتصر لها، ويشيد بمفاخرها، وأيامها، وينتصر لكل أفرادها محقًا أو مبطلاً، حتى صار من مبادئهم: «انصر أخاك ظالمًا، أو مظلومًا».
    وكان شاعرهم يقول:
    لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
    والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها، قال دريد بن الصمة:
    وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد(3)
    وكانت كل قبيلة من القبائل العربية لها شخصيتها السياسية، وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى، وبهذه الشخصية أيضًا كانت تشن الحرب عليها، ولعل من أشهر الأحلاف التي عقدت بين القبائل العربية، حلف الفضول (حلف المطيبين) (4).
    وكانت الحروب بين القبائل على قدم وساق ومن أشهر هذه الحروب حرب الفجار(5) وكان -عدا هذه الحروب الكبرى- تقع إغارات فردية بين القبائل تكون أسبابها شخصية أحيانًا، أو طلب العيش أحيانًا أخرى، إذ كان رزق بعض القبائل في كثير من الأحيان في حد سيوفها، ولذلك ما كانت القبيلة تأمن أن تنقض عليها قبيلة أخرى في ساعة من ليل أو نهار لتسلب أنعامها ومؤنها، وتدع ديارها خاوية كأن لم تسكن بالأمس(6).



    (1) - المصدر السابق ( 1 / 60 ) .
    (2) - انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ص31
    (3) - انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/61).
    (4) - انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول، د. محمد قلعجي ص31.
    (5) - نفس المصدر ص33 - 35.
    (6) - المصدر السابق، ص35.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #63
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(60)



    حالة العرب قبل الإسلام (3- 10)



    ثالثًا: الحالة الاقتصادية:
    يغلب على الجزيرة العربية الصحاري الواسعة الممتدة، وهذا ما جعلها تخلو من الزراعة إلا في أطرافها وخاصة في اليمن والشام، وبعض الواحات المنتشرة في الجزيرة كان يغلب على البادية رعي الإبل والغنم، وكانت القبائل تنتقل بحثًا عن مواقع الكلأ، وكانوا لا يعرفون الاستقرار إلا في مضارب خيامهم.

    وأما الصناعة فكانوا أبعد الأمم عنها، وكانوا يأنفون منها، ويتركون العمل فيها للأعاجم والموالي، حتى عندما أرادوا بنيان الكعبة استعانوا برجل قبطي نجا من السفينة التي غرقت بجدة ثم أصبح مقيما في مكة (1).
    وإذا كانت الجزيرة العربية قد حرمت من نعمتي الزراعة والصناعة، فإن موقعها الاستراتيجي بين إفريقيا وشرق آسيا جعلها مؤهلة لأن تحتل مركزا متقدما في التجارة الدولية آنذاك.
    وكان الذين يمارسون التجارة من سكان الجزيرة العربية هم أهل المدن، ولا سيما أهل مكة فقد كان لهم مركز ممتاز في التجارة، وكان لهم بحكم كونهم أهل الحرم منزلة في نفوس العرب فلا يعرضون لهم، ولا لتجارتهم بسوء، وقد امتن الله عليهم بذلك في القرآن الكريم: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِل ِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67]
    وكانت لقريش رحلتان عظيمتان شهيرتان: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، يذهبون فيها آمنين بينما الناس يتخطفون من حولهم، هذا عدا الرحلات الأخرى التي يقومون بها طوال العام، قال تعالى: (لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ - فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 1-4].
    وكانت القوافل تحمل الطيب والبخور، والصمغ، واللبان، والتوابل والتمور، والروائح العطرية، والأخشاب الزكية، والعاج، والأبنوس، والخرز، والجلود، والبرود اليمنية والأنسجة الحريرية، والأسلحة وغيرها مما يوجد في شبه الجزيرة، أو يكون مستوردًا من خارجها، ثم تذهب به إلى الشام وغيرها ثم تعود محملة بالقمح، والحبوب، والزبيب، والزيتون، والمنسوجات الشامية وغيرها.
    واشتهر اليمنيون بالتجارة، وكان نشاطهم في البر وفي البحار، فسافروا إلى سواحل إفريقيا وإلى الهند وإندونيسيا، وسومطرة وغيرها من بلاد آسيا، وجزر المحيط الهندي أو البحر العربي كما يسمى، وقد كان لهم فضل كبير بعد اعتناقهم الإسلام، في نشره في هذه الأقطار.
    وكان التعامل بالربا منتشرًا في الجزيرة العربية، ولعل هذا الداء الوبيل سرى إلى العرب من اليهود(2).
    وكان يتعامل به الأشراف وغيرهم وكانت نسبة الربا في بعض الأحيان إلى أكثر من مائة في المائة (3).
    وكان للعرب أسواق مشهورة: عكاظ، ومجنّة، وذو المجاز، ويذكر بعض المؤلفين في أخبار مكة أن العرب كانوا يقيمون بعكاظ هلال ذي القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضي عشرين يومًا من ذي القعدة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة ذهبوا إلى ذي المجاز فلبثوا فيها ثمانيَ ليال، ثم يذهبون إلى عرفة، وكانوا لا يتبايعون في عرفة ولا أيام منى حتى جاء الإسلام فأباح لهم ذلك، قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة: 198].
    وقد استمرت هذه الأسواق في الإسلام إلى حين من الدهر ثم دَرَست، ولم تكن هذه الأسواق للتجارة فحسب، بل كانت أسواقًا للأدب والشعر والخطابة يجتمع فيها فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ويتبارون فيها في ذكر أنسابهم، ومفاخرهم، ومآثرهم، وبذلك كانت ثروة كبرى للغة، والأدب، إلى جانب كونها ثروة تجارية(4).


    (1) انظر: فقه السيرة النبوية، منير الغضبان ص60.
    (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/98 إلى 101).
    (3) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم محمد ص19.
    (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/102).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #64
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(61)



    حالة العرب قبل الإسلام (4- 10)




    رابعًا: الحالة الاجتماعية:
    هيمنت التقاليد والأعراف على حياة العرب، وأصبحت لهم قوانين عرفية فيما يتعلق بالأحساب والأنساب، وعلاقة القبائل ببعضها والأفراد كذلك، ويمكن إجمال الحالة الاجتماعية فيما يأتي:
    1- الاعتزاز الذي لا حد له بالأنساب، والأحساب، والتفاخر بهما:
    فقد حرصوا على المحافظة على أنسابهم، فلم يصاهروا غيرهم من الأجناس الأخرى، ولما جاء الإسلام قضى على ذلك وبين لهم أن التفاضل إنما هو بالتقوى والعمل الصالح.
    2- الاعتزاز بالكلمة، وسلطانها، لا سيما الشعر:
    كانت تستهويهم الكلمة الفصيحة، والأسلوب البليغ، وكان شعرهم سجل مفاخرهم، وأحسابهم، وأنسابهم، وديوان معارفهم، وعواطفهم، فلا تعجب إذا كان نجم فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء الفطاحل، وكان البيت من الشعر يرفع القبيلة، والبيت يخفضها، ولذلك ما كانوا يفرحون بشيء فرحهم بشاعر ينبغ في القبيلة.

    3- المرأة في المجتمع العربي:
    كانت المرأة عند كثير من القبائل كسقط المتاع، فقد كانت تورث، وكان الابن الأكبر للزوج من غيرها من حقه أن يتزوجها بعد وفاة أبيه، أو يعضلها عن النكاح، حتى حَرَّم الإسلام ذلك، وكان الابن يتزوج امرأة أبيه(1) فنزل قول الله تعالى: (وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً) [النساء: 22].
    وكانت العرب تحرم نكاح الأصول كالأمهات، والفروع كالبنات، وفروع الأب كالأخوات، والطبقة الأولى من فروع الجد كالخالات والعمات(2).
    وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، وبقي حرمان النساء والصغار من الميراث عرفا معمولاً به عندهم إلى أن توفي أوس بن ثابت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بنتين كانت بهما دمامة، وابنًا صغيرًا، فجاء ابنا عمه وهما عصبته فأخذا ميراثه كله، فقالت امرأته لهما: تزوجا البنتين، فأبيا ذلك لدمامتهما، فأتت رسول الله فقالت: يا رسول الله توفي أوس وترك ابنًا صغيرًا وابنتين، فجاء ابنا عمه سويد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقلت لهما: تزوجا ابنتيه، فأبيا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تحركا في الميراث شيئًا»(3).، ونزل قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) [النساء: 7].
    وكان العرب يُعيّرون بالبنات؛ لأن البنت لا تخرج في الغزو، ولا تحمي البيضة من المعتدين عليها، ولا تعمل فتأتي بالمال شأن الرجال، وإذا ما سبيت اتخذت للوطء تتداولها الأيدي لذلك، بل ربما أكرهت على احتراف البغاء، ليضم سيدها ما يصير إليها من المال بالبغاء إلى ماله، وقد كانت العرب تبيح ذلك، وقد كان هذا يورث الهم والحزن والخجل للأب عندما تولد له بنت، وقد حدثنا القرآن الكريم عن حالة من تولد له بنت فقال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ - يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل: 58-59].
    وكثيرا ما كانوا يختارون دسها في التراب، ووأدها حية، ولا ذنب لها إلا أنها أنثى(4) (1)؛ ولذلك أنكر القرآن الكريم عليهم هذه الفعلة الشنيعة قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ - بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير: 8-9].
    وكان بعض العرب يقتل أولاده من الفقر أو خشية الفقر فجاء الإسلام وحرم ذلك قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) [الأنعام: 151].
    وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) [الإسراء: 31].
    وكانت بعض القبائل لا تئد البنات، كما كان فيهم من يستقبحون هذه الفعلة الشنعاء كزيد بن عمرو بن نفيل(5).
    وكانت بعض القبائل تحترم المرأة وتأخذ رأيها في الزواج، وكانت المرأة العربية الحرة تأنف أن تفترش لغير زوجها وحليلها، وكانت تتسم بالشجاعة وتتبع المحاربين وتشجعهم، وقد تشارك في القتال إذا دعت الضرورة، وكانت المرأة البدوية العربية تشارك زوجها في رعي الماشية، وسقيها، وتغزل الوبر والصوف وتنسج الثياب، والبرود، والأكسية، مع التصون والتعفف(6)



    (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/87).
    (2) دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، ص22، 23، 24.
    (3) تفسير القرطبي (5/45).
    (4) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ص25، 26.
    (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/92).
    (6) نفس المصدر (1/8).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #65
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(62)



    حالة العرب قبل الإسلام (5- 10)



    تابع : الحالة الاجتماعية:

    4- النكاح:

    تعارف العرب على أنواع النكاح، لا يعيب بعضهم على بعض إتيانها، وقد ذكرت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: «إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها(1): أرسلي إلى فلان فاستبضعي(2) منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط(3) ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت، ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لها القافة(4) ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط(5) به ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم»(6).

    وذكر بعض العلماء أنحاء أخرى لم تذكرها عائشة رضي الله عنها كنكاح الخدن وهو في قوله تعالى: (وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم، وهو إلى الزنا أقرب منه إلى النكاح، وكنكاح المتعة وهو النكاح المعين بوقت، ونكاح البدل: كان الرجل في الجاهلية يقول للرجل: انزل لي على امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك(7).

    ومن الأنكحة الباطلة نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق(8).

    وكانوا يحلون الجمع بين الأختين في النكاح، وكانوا يبيحون للرجل أن يجمع في عصمته من الزوجات ما شاء دون التقيد بعدد، وكان الذين جمعوا بين أكثر من أربع زوجات أكثر من أن ينالهم العد(9)، وجاء الإسلام ومنهم من له العشرة من النساء والأكثر، والأقل، فقصر ذلك على أربع إن علم أنه يستطيع الإنفاق عليهن، والعدل بينهن، فإن خاف عدم العدل فليكتف بواحدة، وما كانوا في الجاهلية يلتزمون العدل بين الزوجات، وكانوا يسيئون عشرتهن، ويهضمون حقوقهن حتى جاء الإسلام فأنصفهن، وأوصى بالإحسان إليهن في العشرة، وقرر لهن حقوقا ما كن يحلمن بها.






    (1) الطمث: الحيض.

    (2) استبضعي: الاستبضاع، طلب الجماع حتى تحمل منه.

    (3) الرهط: الجماعة دون العشرة.

    (4) القافة: جمع القائف، وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد.

    (5) التاطه: أستلحقه.

    (6) البخاري، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي رقم ( 5127 ).

    (7) فتح الباري (9/150).

    (8) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/90).

    (9) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص24، 25.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #66
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(63)


    حالة العرب قبل الإسلام (6- 10)





    تابع : الحالة الاجتماعية:

    5- الطلاق:

    كانوا يمارسون الطلاق، ولم يكن للطلاق عندهم عدد محدد، فكان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها هكذا أبدًا، وبقي هذا الأمر معمولاً به في صدر الإسلام(1) إلى أن أنزل الله تبارك وتعالى قوله: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) [البقرة: 229].

    فقيد الإسلام عدد الطلقات، وأعطى للزوج فرصة لتدارك أمره، ومراجعة زوجته مرتين، فإن طلق الثالثة فقد انقطعت عروة النكاح، ولا تحل له إلا بعد زوج آخر، ففي الكتاب الكريم (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ ) [البقرة: 230].

    ومما كان يلحق بالطلاق في التحريم الظهار، وهو أن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وكان تحريمًا مؤبدًا حتى جاء الإسلام، فوسمه بأنه منكر من القول وزور، وجعل للزوج مخرجًا منه، وذلك بالكفارة(2) قال تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.وَالَّذ ينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [المجادلة:2- 4].

    6- الحروب، والسطو، والإغارة:

    كانت الحروب تقوم بينهم لأتفه الأسباب، فهم لا يبالون بشن الحروب وإزهاق الأرواح في سبيل الدفاع عن المثل الاجتماعية التي تعارفوا عليها وإن كانت لا تستحق التقدير، وقد روى لنا التاريخ سلسلة من أيام العرب في الجاهلية مما يدل على تمكن الروح الحربية من نفوس العرب وغلبتها على التعقل والتفكير، فمن تلك الأيام مثلا يوم البسوس، وقد قامت الحرب فيه بين بكر وتغلب بسبب ناقة للجرمي وهو جار للبسوس بنت منقذ خالة جساس بن مرة، وقد كان كليب سيد تغلب قد حمى لإبله مكانًا خاصًا به فرأى فيه هذه الناقة فرماها فجزع الجرمي وجزعت البسوس، فلما رأى ذلك جساس تحين الفرصة لقتل كليب فقتله فقامت الحروب الطاحنة بين القبيلتين لمدة أربعين سنة(3)

    وكذلك يوم داحس والغبراء، وقد كان سببه سباقًا أقيم بين داحس وهو فرس لقيس ابن زهير، والغبراء وهي لحذيفة بن بدر فأوعز هذا إلى رجل ليقف في الوادي فإن رأى داحسا قد سبق يرده وقد فعل ذلك فلطم الفرس حتى أوقعها في الماء فسبقت الغبراء، وحصل بعد ذلك القتل والأخذ بالثأر، وقامت الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان

    وكذلك الحروب التي قامت بين الأوس والخزرج في الجاهلية وهم أبناء عم، حيث إن الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة الأزدي، واستمرت الحروب بينهم وكان آخر أيامهم (بُعاث) وذلك أن حلفاء الأوس من اليهود جددوا عهودهم معهم على النصرة، وهكذا كان كثير من حروب الأوس والخزرج يذكيها اليهود حتى يضعفوا القبيلتين فتكون لهم السيادة الدائمة، واستعان كل فريق منهم بحلفائه من القبائل المجاورة فاقتتلوا قتالاً شديدًا كانت نهايته لصالح الأوس(4).

    وكانت بعض القبائل تسطو وتغير بغية نهب الأموال وسبي الأحرار وبيعهم، كزيد ابن حارثة فقد كان عربيًّا حرًا، وكسلمان الفارسي فقد كان فارسيًّا حرًّا، وقد قضى الإسلام على ذلك حتى كانت تسير المرأة والرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخافان إلا الله والذئب على أغنامهما(5).



    7- العلم والقراءة والكتابة:

    لم يكن العرب أهل كتاب وعلم كاليهود والنصارى، بل كان يغلب عليهم الجهل والأمية، والتقليد والجمود على القديم -وإن كان باطلا- وكانت أمة العرب لا تكتب ولا تحسب وهذه هي الصفة التي كانت غالبة عليها، وكان فيهم قليل ممن يكتب ويقرأ ومع أميتهم وعدم اتساع معارفهم فقد كانوا يشتهرون بالذكاء، والفطنة، والألمعية، ولطف المشاعر، وإرهاف الحس، وحسن الاستعداد، والتهيؤ لقبول العلم والمعرفة، والتوجيه الرشيد؛ ولذلك لما جاء الإسلام صاروا علماء، حكماء، فقهاء، وزالت عنهم الأمية، وأصبح العلم والمعرفة من أخص خصائصهم، وكان فيهم من مهر في علم قص الأثر، وهو القيافة، وكان فيهم أطباء كالحارث بن كلدة، وكان طبهم مبنيا على التجارب التي اكتسبوها من الحياة والبيئة(5).









    (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/88).

    (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/91).

    (3) الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/334)

    (4) التاريخ الإسلامي، د. عبد العزيز الحميدي (1/55).

    (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/93).

    (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/93).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #67
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(64)



    حالة العرب قبل الإسلام (7- 10)



    خامسًا: الحالة الأخلاقية:


    كانت أخلاق العرب قد ساءت وأولعوا بالخمر والقمار، وشاعت فيهم الغارات وقطع الطريق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، والسرقة والزنا، ومما ينبغي أن يعلم أن الزنا إنما كان في الإماء وأصحاب الرايات من البغايا، ويندر أن يكون في الحرائر، وليس أدل على هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ البيعة على النساء بعد الفتح: «على أن لا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين» «قالت السيدة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: أَوَتزني الحرة؟!!(1).

    وليس معنى هذا أنهم كانوا كلهم على هذا، لا. لقد كان فيهم كثيرون لا يزنون ولا يشربون الخمر، ولا يسفكون الدماء ولا يظلمون، ويتحرجون من أكل أموال اليتامى، ويتنزهون عن التعامل بالربا(2)وكانت فيهم سمات وخصال من الخير كثيرة أهلتهم لحمل راية الإسلام ومن تلك الخصال والسمات:

    1- الذكاء والفطنة:

    فقد كانت قلوبهم صافية، لم تدخلها تلك الفلسفات والأساطير والخرافات التي يصعب إزالتها، كما في الشعوب الهندية والرومانية والفارسية، فكأن قلوبهم كانت تعد لحمل أعظم رسالة في الوجود وهي دعوة الإسلام الخالدة؛ ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن، وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة(3).

    واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم، فإذا كان للعسل ثمانون اسمًا وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفًا، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استيعاب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقَّادة(4).

    وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة إلى الفهم بالإشارة فضلا عن العبارة، والأمثلة على ذلك كثيرة)5).








    (1)المصدر السابق ( 1 / 94 ) .

    (2) انظر : السيرة النبوية للندوي ص 12 .

    (3) انظر : السيرة النبوية للندوي ص 12 .

    (4) بلوغ الأرب ( 1 / 39 ــ 40 ) .
    (5) انظر : مدخل لفقه السيرة ص 79 ، 80 .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #68
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(65)



    حالة العرب قبل الإسلام (8- 10)



    تابع : الحالة الأخلاقية:

    2- أهل كرم وسخاء:

    كان هذا الخُلُق متأصلا في العرب، وكان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان بل كان يطعم الوحش، والطير، وكرم حاتم الطائي سارت به الركبان، وضربت به الأمثال (1) .



    3- أهل شجاعة ومروءة ونجدة:

    كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفًا، ولكن قطعًا بأطراف الرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف:

    وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طُلّ منا حيث كان قتيل

    تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل

    وكان العرب لا يقدمون شيئا على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، واسترخصوا في سبيل ذلك نفوسهم قال عنترة:

    بَكَرَت تخوفني الحُتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ

    فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أُسْقى بكأس المنهلِ

    فأقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل(2)

    وقال عنترة:

    لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

    ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل(3)

    وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة، فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، أو العاجز، أو المرأة أو الشيخ، وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم.



    4- عشقهم للحرية، وإباؤهم للضيم والذل:

    كان العربي بفطرته يعشق الحرية، يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقًا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلاً، أو يمس في شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته(4)، فقد كانوا يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار، وإليك مثال على ذلك.

    جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحدًا من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك.

    فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك، فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب.. فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفا للملك معلقا بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلا:

    بأي مشيئة عمرو بن هند ... نكون لقيلكم(5) فيها قطينا(6)

    بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا(7)

    تهددنا وتوعدنا رويدًا ... متى كنا لأمك مقتوينا(8)

    إذا ما الملك سام الناس خسفًا ... أبينا أن نقر الذل فينا(9)





    (1) انظر : السيرة النبوية لأبي شهبة ( 1 / 95 ) .

    (2) ديوان عنترة ص 252 .

    (3) ديوان عنترة ص 82 .

    (4) انظر : السيرة النبوية لأبي شهبة ( 1 / 95 ) .

    (5) القيل هو : الملك دون الملك الأعظم .

    (6) القطين هم : الخدم والمماليك .

    (7) تزدرينا : تحتقرنا .

    (8) مقتوينا : خدمة الملوك .

    (9) انظر : شرح المعلقات للحسين الزوزني ص 196 ، 204 .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #69
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(66)



    حالة العرب قبل الإسلام (9- 10)



    تابع : الحالة الأخلاقية:
    5- الوفاء بالعهد وحبهم للصراحة والوضوح والصدق:
    كانوا يأنفون من الكذب ويعيبونه، وكانوا أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام، ويدل على أنفتهم من الكذب قصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحروب بينهم قائمة قال: «لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عنه»(1).
    أما وفاؤهم: فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: «وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي وَلث وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه فلا يُغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله»(2).
    والوفاء خلق متأصل بالعرب، فجاء الإسلام ووجهه الوجهة السليمة، فغلظ على من آوى محدثًا مهما كانت منزلته وقرابته، قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثا»(3).
    ومن القصص الدالة على وفائهم:
    : «أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث، وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه، فقال دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك، فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه» وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار(4). ومن وفائهم: أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان، فأبى، فسير إليه كسرى جيشًا لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: «يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من قدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد»(6)، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار، بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة، ولم يبال بالموت في سبيل الوفاء بالعهود.
    6- الصبر على المكاره وقوة الاحتمال، والرضا باليسير:
    كانوا يقومون من الأكل ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع، قال شاعرهم:
    إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل(6)
    وكانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكاره والصبر في الشدائد، وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ولم يتأثروا بالحر ولا بالبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ، ولما دخلوا الإسلام ضربوا أمثلة رائعة في الصبر، والتحمل وكانوا يرضون باليسير، فكان الواحد منهم يسير الأيام مكتفيا بتمرات يقيم بها صلبه، وقطرات من ماء يرطب بها كبده(7).




    (1) أخرجه البخاري ( 7 ) ومسلم ( 1773 ) .
    (2) بلوغ الأرب ( 1 / 150 ) .
    (3) أخرجه مسلم ( 1978 ) والنسائي ( 7 / 232 ) .
    (4) انظر : مدخل لفهم السيرة ص 90، 91 .
    (5) تاريخ الطبري ( 2 / 207 ).
    (6) بلوغ الأرب ( 1 / 377 ) .
    (7) انظر : السيرة النبوية لأبي شهبة ( 1 / 96 ، 97 ) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #70
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(67)



    حالة العرب قبل الإسلام (10- 10)

    تابع : الحالة الأخلاقية:
    7- قوة البدن وعظمة النفس:
    واشتهروا بقوة أجسادهم مع عظمة النفس وقوة الروح، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ما حدث بعد دخولهم في الإسلام. كما كانوا ينازلون أقرانهم وخصومهم، حتى إذا تمكنوا منهم عفوا عنهم وتركوهم، يأبون أن يجهزوا على الجرحى، وكانوا يرعون حقوق الجيرة، ولا سيما رعاية النساء والمحافظة على العرض قال شاعرهم:
    وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
    وكانوا إذا استجار أحد الناس بهم أجاروه، وربما ضحوا بالنفس والولد والمال في سبيل ذلك.
    كانت هذه الفصائل والأخلاق الحميدة رصيدا ضخما في نفوس العرب، فجاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من الصحاري كما تنطلق الملائكة الأطهار، فتحوا الأرض، وملئوها إيمانا بعد أن ملئت كفرا، وعدلا بعد أن ملئت جورا، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيرا بعد أن طفحت شرا(1)
    هذه بعض أخلاق المجتمع الذي نشأ فيه الإنسان العربي فهو أفضل المجتمعات، لهذا اختير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختير له هذا المجتمع العربي، وهذه البيئة النادرة، وهذا الوسط الرفيع مقارنة بالفرس والروم والهنود واليونان، فلم يختر من الفرس على سعة علومهم ومعارفهم ولا من الهنود على عمق فلسفاتهم، ولا من الرومان على تفننهم، ولا من اليونان على عبقرية شاعريتهم وخيالهم، وإنما اختير من هذه البيئة البكر؛ لأن هؤلاء الأقوام وإن كانوا على ما هم عليه وما هم فيه من علوم ومعارف، إلا أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه العرب من سلامة الفطرة، وحرية الضمير، وسمو الروح(2).




    (1) انظر : السيرة النبوية للدكتور محمد أبو شهبة ( 1 / 97 ) .
    (2) انظر : السيرة النبوية للصلابي ( 1 / 29 ــ 48 ) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #71
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(68)



    إرهاصات النبوة الخاتمة



    اقتضت حكمة الله جل جلاله أن الأحداث العامة لا تأتي للناس بغتة ، وإنما لها بين يديها مقدمات تمهد لها ، وبشائر تعلن عن قدومها ، لتتهيأ الأذهان لتلقيها ، ولتستعد القلوب للتجاوب معها .

    أرأيت إلى الشمس ؟ أتراها تطلع في أفق من الآفاق دون أن تسبقها أضواء الصباح ، ودون أن تقوم بين يديها أنسام الفجر لتوقظ الأحياء لها ، وتهيئهم لاستقبالها ، وتملأ عيونهم نورا هاديا مترفقا قبل أن يغمرهم ضوئها ، ويغشى أبصارهم شعاعها !؟.

    أرأيت إلى الغيث والمطر ؟ أتراه يأتي فجأة دون أن يسبقه غيم يبشر بقدومه ، أو رعد وبرق ينذر بحلوله حتى يأخذ الناس استعدادهم فيطمعوا أو يفزعوا !؟.

    ثم أرأيت إلى صنيع الناس وتدبيرهم مع ملوكهم ورؤسائهم ؟ أتراهم يلقون هؤلاء الملوك والرؤساء فجأة وعلى غير انتظار ؟ أم تراهم يتخذون لذلك من الوسائل ما يوقظ الناس ويلفتهم إلى لقائهم قبل أن يطلعوا عليهم ، وتلتقي أعينهم بهم !؟

    وما الشمس في جلالها وعظمتها ؟ وما الغيث في إطماعه وإفزاعه ؟ وما الملوك والرؤساء في سلطانهم وهيبتهم ؟

    إنهم أرض والنبوة سماء! وإنهم رعية والنبوة راعية ! وإنهم طل والنبوة وابل ! وإنهم جند والنبي قائد ! وإنهم صغار والنبي قيم على هؤلاء الصغار !

    ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم آية الآيات في النبوات ... ولها من الآثار في الحياة بقدر ما تفرق في النبوات كلها ... إنها ليست لشعب أو قبيلة أو بلدة ، وإنها ليست لجيل أو جيلين أو ثلاثة أجيال من الناس ... بل هي للإنسانية كلها ، وللأجيال جميعها .. منذ ظهور هذه النبوة إلى أن ينتهي دور الإنسانية على هذه الأرض

    لذلك فإن ظهور النبي ، بل خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ، لا يمكن أن يقع دون أن يقوم بين يدي موكبه من يعلن في الناس نبأه ، ويفسح الطريق لهذا الموكب الجليل المهيب .

    من ثم كانت الإرهاصات التي سبقت وصاحبت ميلاده صلى الله عليه وسلم ، والإرهاصات التي صاحبت نشأته وتقدمت نبوته صلى الله عليه وسلم ، وبقدر ما كانت نبوته ورسالته جليلة القدر ، عظيمة المنزلة ، وبقدر مكانته العظيمة عند ربه ، بقدر ما كان الإرهاص له صلى الله عليه وسلم أعمق في التاريخ أثرا ، وأفسح مدى في جوانبه العلمية .

    تعريف الإرهاص :

    الإرهاص : هو تلك الأمارات والمقدمات والعلامات المخالفة للمألوف والخارقة للعادة ــ التي تسبق بعثة أو ميلاد نبي من الأنبياء ، والتي تشير إلى أن هذا الإنسان هو معدن الخير ومرجى الكمال (1).

    المعجزة الفرق بين الإرهاص:

    المعجزة : هي أمر خارق للعادة يظهره الله على يد مدعي النبوة-تصديقاً لرسالته وتأييداً لدعوته -مقرون بالتحدي ، سالم من المعارضة (2).

    ومن خلال هذا التعريف للمعجزة يتضح أن الإرهاص والمعجزة يشتركان في خرق العادة ، لكن الإرهاص زمنه قبل النبوة ، فهو إما سابق لميلاد النبي أو مصاحب لميلاده ونشأته ولا يقترن به تحدي ، بل يكون توطئة للنبوة وتأسيسا للرسالة ، بخلاف المعجزة ، فإنها تكون في زمن النبوة ومقرونة بالتحدي .







    (1)- انظر : التعريفات للجرجاني ص16 ، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص51 .

    (2)- الإتقان للسيوطي ( 2 / 311 ) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #72
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(69)

    المنهج الأمثل في دراسة الإرهاصات1
    عرفنا أن الإرهاص : أمر خارق للعادة يظهر للنبي قبل بعثته ، وللعلماء في خوارق العادات مواقف شتى ورؤى متعددة .
    ففريق : شط به خياله وجنحت به عاطفته ، فأثبت من الخوارق ما لم يقم له سند من نقل أو يعضده تأييد من عقل .
    وفريق آخر : تبلد عقله وجف إحساسه ، فأنكر أو أوّل ما أثبته النص الصريح ، وشهد له النقل الصحيح .
    وكلا الطرفين مخطئ في موقفه ، جانح إلى غير الصواب في رأيه ، فإذا كان وزر المتزيدين في الروايات أنهم تزيدوا وأغرقوا ، وقبلوا كل تافه وغثاء ، فوزر المنكرين والمتأولين أنهم أجحفوا وتنقصوا وظلموا ، وردوا ظاهر القرآن وصحيح الرواية لغير ضرورة ملجئة .
    والمذهب الصحيح في تقبل الإرهاصات والمعجزات أن تثبت بها الرواية ثبوتا لا يحتمل الطعن والتجريح .
    وليس من الإنصاف أن نثبت ما لم يثبت لأننا بذلك ندخل في الدين ما ليس منه ، كما أنه من الإجحاف والاعتساف أن ننكر أو نأول ما ثبت لأننا بذلك نخرج من الدين ما هو منه .
    يقول الأستاذ محمد الصادق عرجون : " ليس من رأينا ولا في مذهبنا أن ننكر الإرهاصات المعجزة جمودا مع الجامدين المتعالين الذين يريدون أن يخضعوا جلال الألوهية وعظم سلطانها لسلطان عقولهم في حدود ما يعرفون من سنن الحياة ، هذا غرور بليد لأن ما عرف من سنن الحياة تافه قليل إلى جانب ما لم يعرف .
    وحتى الذي عرف من سنن الحياة لا ينكر هذا الضرب من الخلق والتكوين الذي يراه من يقيسه إلى سنن الحياة العامة المألوفة المتكررة معجزا خارقا لقوانينها ، وهو في نظامه وتكوينه وأسبابه خاضع لسنن خاصة تعرفها الحياة في أوقات ومناسبات خاصة ، فهو في حقيقة أمره من سنن الله القائمة على أسباب ومناسبات مطردة في بابها وطرائقها .
    وإنما مذهبنا في تقبل هذه الإرهاصات يقوم على دعائم ثلاث :
    أولها : أن وقوع حوادث كونية تخفى على العقول أسبابها وعواملها المنشئة ــ وهو ما نسميه بالأعاجيب ويسمى في مشهور عرف العلماء بالإرهاصات إن وقع قبل النبوة ، وبالمعجزات والآيات إن وقع في زمن النبوة ــ أمر قامت على جوازه ووقوعه الدلائل من النصوص القطعية في الكتب السماوية ، والنقول التاريخية التي بلغت في جملتها مبلغ التواتر القاطع ، ومن البراهين العقلية التي تقرر هذه السنن الخاصة وقيومية الخالق عز شانه وإطلاق قدرته من قيود القوانين والعادات المعلومة في حدود مدارك العقول الإنسانية ، إلى سنن كونية وقوانين للوجود فوق آفاق تلك العقول، تحدث على وفقها تلك الأحداث الكونية والأعاجيب الإعجازية إذا تطلبتها أسبابها وحانت مناســباتها ، والله فعال لما يـريد لا يسأل عما يفعل .
    ثانيها : أن القرآن الكريم - وهو أثبت وأصدق نص تاريخي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - قص علينا في قصص الأنبياء بعض آياتهم المعجزة من الأحداث الكونية التي وقعت على أيديهم مما جرى مجرى التشريف والتكريم ، ومما تحدوا به أقوامهم ، مما لا يمكن أن يدخل تحت سنة من سنن الحياة المعروفة للعقول ، والمعهودة في حياة الناس ومألوفهم ، وقد سمى القرآن بعض تلك الآيات الكونية المتحدية براهين ، فانقلاب عصى موسى حية تسعى ، وإخراج يده بيضاء من غير سوء ، وانفلاق البحر له ولقومه ، ونتق الجبل فوقهم كالظلة ، وإحياء عيسى للموتى ، وإبراؤه للأكمه والأبرص ، وإنباؤه قومه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، وخلقه من غير أب ، وإيتاء أمه مريم عليه السلام رزقا دون حركة آلية أو تسبب مما بعث كافلها زكريا عليه السلام على التعجب ، ونقل عرش بلقيس من المسافة البعيدة في أسرع من لمح البصر ، وما وقع لأصحاب الكهف ، وعدم إحراق النار إبراهيم عليه السلام ، وسائر آيات الأنبياء في قصصهم التي لا تحتمل تمحلا ولا تأويلا ، كل ذلك من الأعاجيب المعجزة والخوارق التي وقعت فعلا وشهدها الوجود ، واستفاضت بها روايات التاريخ بنقل الأجيال عن الأجيال منذ كانت النبوة لبني الإنسان إلى يوم الناس هذا استفاضة تدفع بمنكريها إلى محابس الممرورين وذوي العته العقلي ونقص التكوين الإدراكي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #73
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(70)

    المنهج الأمثل في دراسة الإرهاصات2



    ثالثها : إذا ثبت وقوع الأعاجيب ــ المعجزة والحوادث الكونية الخارقة ــ لمعروف العقول في سنن الحياة العامة ، فالنظر فيما يروى منها جملة في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته أو في زمنها يجري على سنن تلك الآيات وقوانينها ، ويبقى على الباحث النظر في إثبات أفراد تلك الحوادث والجزئيات التي سجلتها السيرة النبوية ، فما ثبت منها بطريق صحيح السند ، صادق الرواية ، وجب قبوله والإذعان بوقوعه ، لأن رده أو التشكك فيه بعد ثبوته بهذه الطريقة التي لا طريق للإثبات التاريخي فوقها رد لبرهان العقل القاطع ، ورد لنص القرآن في إثبات الآيات المعجزة ، ولا فرق بين آية وآية ، ورد البرهان العقلي والنص القرآني إلحاد في دين الله ، أو جهل بسنن الحياة ، أو تشكيك في قدرة الله .

    وما لم يثبت منها هذا الثبوت فنحن في حل من إنكار وقوعه أو التوقف في الحكم عليه إثباتا أو نفيا ، والتوقف أسلم وأحكم ــ كما يقول علماؤنا ــ لأنه محتمل الثبوت ، وقد قامت الدلائل في العلم التجريبي ، وفي وسائل البحث التاريخي على أن كثيرا مما كان ينكر من الحقائق العلمية والحوادث التاريخية أصبح ثابتا مقررا في بدائه العقول ، وكثيرا ما كان يزعم حقائق علمية ومقررات تاريخية صار في مهب الأساطير والخرافات ، فالتسرع في الإنكار خطل في الرأي ، والتسرع في التصديق قبل الإثبات غميزة في العقل(1) .

    وعلى هذا الهدي نسير في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ، فنعرض لما يروى في السيرة العطرة من هذه الأعاجيب الكونية المعجزة ، نحاكمه إلى صحة السند وصدق الرواية ، فإذا ثبت لهذه المحاكمة وفاز فيها بعنوان الوجود الواقعي سجلناه مؤمنين مذعنين ، وإذا لم يثبت وطاحت به الرواية أو خانه السند الصحيح طرحناه حيث ينتهي غير آسفين .

    المرتبة الأولى في الإثبات : وأعلى ذلك عندنا وأرفعه في منازل القبول والصدق القاطع ما يذكره القرآن الكريم في صراحة ظاهرة ، أو يشير إليه إشارة لماحة ، وبين المرتبتين من الفرق ما بين الأسلوبين في التعبير ، فلا يجوز التلبث في قبول المرتبة الأولى والإيمان بها ، ولا يقبل أن يمشي التأويل إلى ساحتها ، تشبثا من المتأولين بمعروف العقول ، وقضايا العلم ، وقوانين المنطق ، ومألوف سنن الحياة ، لأن معروف العقول ،وقضايا العلم ، وقوانين المنطق ، ومألوف سنن الحياة مخلوقة لله تعالى فهي محكومة بواسع قدرته ، ومطلق سلطانه في تصريف خلقه ، فلا يسوغ في معروف العقول السليمة ، وقضايا العلم الصحيح ، وقوانين المنطق المستقيم أن تجعل حاكمة عل خالقها ، وإلا كانت الألوهية ضربا من الوثنية التي يصطنعها الناس بعقولهم وعواطفهم وأخيلتهم .

    والمسألة هنا ليست مسألة عقل يحكم أو منطق يقيس ويبرم ثم ينتهي كل شيء ، وإنما هي مسألة عقل يبحث في أصل الإيجاد والإبداع ، فإذا استقام له أن يقيم هذا الأصل على دعائم ثابتة جاءت الحوادث الجزئية بطبيعتها خاضعة لناموس الإيجاد والإبداع العام فقط دون أي ناموس آخر يحكمها في وجودها الجزئي .

    أما المرتبة الثانية : وهي الأعاجيب التي يشير إليها القرآن ولا يذكرها صراحة فإن تأيدت بروايات صحيحة السند من السنة النبوية كان حظها في الإيمان بها وقبولها مثل حظ سابقتها ، لكن لا على أنها هي التفسير للنص القرآني قطعا كما في المرتبة السابقة ، بل على أنها وجه لتخريج النص وفهمه مع قيام صحة غيره من الوجوه المحتملة إذا استقام لها الدليل ، وإن لم نجد لها عضدا قويا من الرواية الصحيحة قبلنا ما يذكر فيها من تأويل قويم على أنه معنى راجح في الدلالة على استنباط ما تشير إليه من حادث كوني معجز دون أن ينفي صحة أن يكون هذا الحادث الكوني المشار إليه معنى من معاني النص المحتملة .

    ودون ذلك مراتب : أعلاها ما يروى في المصادر المعتبرة عند ذوي العلم بسند صحيح وطرق متعددة ، وأدناها ما ينفرد بروايته مصدر ضعيف أو راو لا يتحرز .

    أما الآثار والأحاديث والموضوعات والأباطيل التي ينص الأئمة على وضعها واختلاقها فلا تصلح أن تكون في مراتب الاعتداد والحسبان(2).

    والأمثلة على ما ذكرناه من المراتب كثيرة في السيرة النبوية ، ولا تعوز الباحث ، فهو يجدها أنى طلبها ، وسوف نقف ــ بإذن الله تعالى ــ على أمثلة لها في هذه الدراسة المباركة .






    (1) ــ محمد رسول الله ( 1 / 105 ــ 108 ) باختصار وتصرف .

    (2) ــ محمد رسول الله ( 1 / 109 ــ 111 ).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #74
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(71)


    الإرهاص في حياة الأنبياء السابقين








    حدثنا القرآن الكريم ، والسنة النبوية والتاريخ عن جملة من الإرهاصات بالنسبة لفريق من الأنبياء والرسل ، من غير استيعاب للجميع ، ولم يتوسع القرآن ولا السنة في هذا الشأن .

    وحينما نستعرض ما ورد موجزا في القرآن والسنة من تلك الإرهاصات : سنراها تأخذ في القلب نصيبها من الروعة ، وتثير في النفس مباهج الإعجاب ، وتنبه الإنسان رويداً رويدا من غفلة إلى يقظة ، ومن جهالة إلى معرفة،ومن إنكار إلى إيمان يوم كانت تلك الإرهاصات في عصرها أو بعد عصرها ، لمن لا يزالون في شقاق عن بعض الأنبياء والرسل.

    وحينما يفقه الإنسان ، ويصيب الحق ... يتحقق أن تلك الإرهاصات كانت وسيلة رحيمة بالإنسان الذي تعلقت به . إذ جعله الله معدنا للخير ، لأنها تمهيد له ، وتوجيه للأنظار نحوه ، فلا يكون ظهوره بالوحي فيهم بعد ذلك : بعيدا كل البعد عن مألوفهم ، وما عهدوا فيه ــ قبل رسالته ــ من الخير ولا يستوحشون منه كما يستوحشون من غريب دخيل عليهم ، فيتجهمون له ، أو يتهجمون عليه .

    وكذلك يتحقق من يفقه ، ويصيب الحق : أن تلك الإرهاصات كانت وسيلة رحيمة بالقوم : لأنها تخلق فيهم وعيا سابقا ، وتثير بينهم تفكيرا في شأنه ومناجاة فيما عهدوا من ملامحه التي لم تكن لغيره من جمهرة الناس في محيطهم .

    وذلك التمهيد يقرب المسافة العقلية بينهم وبينه ، ويدنيهم أو يدني فريقا منهم إلى الاستئناس به ، ويكون هذا التمهيد سبيل التجاوب بين الداعي والمدعوين ، وأيسر على الجانبين كثيرا مما لو فاجأهم بالوحي من الله دون إرهاصات تتقدمه ، وتوقظهم من غفلاتهم .

    ويوضح قولنا هذا أن الله ــ تعالى ــ جرت سنته على أن يختار نبيه أو رسوله من بين قومه ليكونوا على معرفة بشخصيته ، وعلى علم بسيرته ، وعلى خبرة بأصوله ، وبكل ما يدور حوله فيهم .

    فلا يكون مريبا ولا مسترابا فيه ، ولا يكون مغموزا في نفسه ولا مغموزا فيه .

    فإذا سفهوا في شأنه كان مردودا عليهم بالواقع الذي يعلمونه حقا دون أن ينزل قدره عن مكانته التي هيأها له ربه ، ولا عن كرامته التي أقامه الله عليها .

    وإن تناولوه من ناحية تمسه من هذا القبيل أو من قبيل دعوته : فالله كفيل بحمايته،ويظل بتكريم الله من المصطفين الأخيار،لم يمسسه سوء القالة.

    وإن أزهقوا روحه وسفكوا دمه : فإنما هو الاستشهاد في سبيل الله ، يذهب ضحيته الأخيار من عباد الرحمن ، ويبوء بإثمهم الأشرار من جنود الشيطان .

    وكان المفروض بعد أن تحصل الإرهاصات لمن جعلهم الله معدن الخير أن يكون للعقول رشاد ، وللقلوب تبصر، فلا تتخلف الاستجابة المرموقة عن المقدمات المشهودة بما أرهص الله به لعبده .. ولكن الناس يختلفون في فطرتهم ، وفي ميولهم .. فمن حسنت فطرتهم واستقامت ميولهم كانوا مستهدين وقليل ما هم !

    ومن عميت بصائرهم ، وانحرفت ميولهم ضلوا عن الرشد ، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله (1)

    (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ــ بسبب شذوذهم وسوء اختيارهم ــ إلا من رحم ربك )[ سورة هود/ 117ــ 118]

    وهذه أمثلة للإرهاصات التي صاحبت بعض الأنبياء السابقين .










    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #75
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(72)



    الإرهاص لآدم عليه السلام







    كان الإرهاص موجودا منذ اللحظات الأولى للحياة الدنيا ووجود الإنسان فيها ،فحينما أراد الله أن يلقي الأضواء حول عبده آدم قبل أن يكون له شأن معروف ، أخبر الملائكة بقوله ــ سبحانه: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) فأدرك الملائكة من هذا ، أو من أمارات بجانب هذا النبأ : أن ذلك تنويه بما يكون لآدم في هذا العالم من قدر خطير ، لأن آدم هو الوافد عليهم من الأرض ، وليس لديهم مخلوق يتجه إليه الفكر سوى هذا الإنسان الأرضي ، الذي كرمه ربه ــ أولا ــبرفعه إلى الجنة ، فذلك إرهاص مبكر ، تنبه له الملائكة ، وعلقوا عليه بالاستفهامات والتعجب ، وسبق إلى ذهنهم أنهم خير وأولى بالخلافة في الأرض من هذا الإنسان الأرضي الذي لم يكن مستخلصا مثلهم من عالم النور ، ولا مطبوعا مثلهم على تسبيح الله ، والتقديس له .

    ولكن الله رجع بهم إلى حكمته ، وعلمه الرباني ، فقال لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) .

    ثم كان إرهاص آخر : بما أفاض الله على آدم من علم لم تتهيأ له طبيعة الملائكة : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ) أسماء المخلوقات من بحار ، وأشجار ، وجبال ، ونجوم ، وكائنات أخرى .... مما له ارتباط بحياة آدم في الأرض التي سيكون خليفة فيها هو وذريته إلى يوم القيامة، يعبدون الله فيها ، ويستثمرونها بجهودهم .

    وكان إرهاص ثالث : بتلك المناظرة التي امتحن الله فيها الملائكة ، إذ عرض عليهم أن يجيبوا عن تلك المسميات ، فلم يكن لهم الإمداد الذي ظفر به آدم ، لعدم ألأهلية لذلك العلم ، ولكن آدم كان بطبيعته متأهلا ، وكان بإمداد الله له عالما ، ,مجيبا عما سئل .

    وكان إرهاص رابع : بتكليف الله للملائكة أن يعظموا ىدم تعظيما يناسب مقامه بعد أن تبين لهم ما كان خافيا عليهم من حكمة الله في صنعه ، واختياره للإنسان دون الملائكة .

    وكان الإرهاص الخامس : بتوبيخ الله لإبليس على امتناعه من تعظيم آدم تعظيما أشاد الله به ، حتى سماه سجودا ، وإن لم يكن سجودا على الجبهة كما نعهد ، فإن هذا النوع لم يشرع لغير الله تعالى .

    وينتهي ذلك الإرهاص في هذه القضية بطرد إبليس من الجنة ، رجيما مسخوطا بلعنة الله إلى يوم الدين بسبب عصيانه لله فيما أمره من تعظيم آدم


    لم يكن آدم أثناء هذا نبيا ، ولا رسولا ، وإنما هي تمهيدات لما سيصادفه بعد ذلك من الوحي ... فأي إرهاص يكون أبلغ من هذا في مطلع التاريخ البشري





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #76
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(73)

    الإرهاص لداود عليه السلام








    كان في فلسطين على عهد موسى – ومن قبل موسى – طائفة من الوثنيين، لا يؤمنون بربهم، ولا يستجيبون لدعوة رسول، وقد أراد موسى جهادهم بأمر الله، ولكن أتباعه من بني إسرائيل عصوه وقالوا له: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24].

    هؤلاء الوثنيون الجبارون ظلوا على كفرهم، حتى كانت النبوة من بعد موسى – بوقت ما – لرسول آخر يدعى «شمويل».

    وقد أخبر هذا الرسول أمته أن الله اختار لهم – طالوت – ملكًا عليهم وهو الذي سينهض معهم بقتال الجبارين، وقد خرج طالوت يومًا بجيشه، واستقبل الجبارين تحت قيادة ملكهم – جالوت- وحينما رأى المؤمنون جيش الكافرين في كثرته وعتاده، حسبوا حسابه، ولكنهم اعتزوا على الكثرة بمعونة الله، وقالوا: ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ). وتهيئوا للقاء العدو، وكان في جيش المؤمنين غلام، لا عهد له بالحروب، ولا طاقة له بحمل السلاح والمقاومة، وهو غلام يرعى الغنم، ويحمل المقلاع والأحجار ليذود عن غنمه، ويجلب لها الكلأ، ويسقط أوراق الشجر ليطعمها.

    نهض الغلام بمقلاعه، وقذف جالوت الملك القائد بحجر، فأصاب رأسه، وصرعه قتيلًا، ففر جيشه الكبير خوفًا من الجيش القليل، وأعز الله حينئذ طالوت، وكفى الله المؤمنين القتال، ثم حمل هذا الفتى – واسمه داود بن يسى – رأس جالوت، وذهب فخورًا بها إلى طالوت – الملك – فأعجب به، وأكبر شأنه، وزوجة ابنته، وأوصى له بالملك بعده.

    ثم ظهر أن ذلك كله إرهاص لداود، إذ ظهر من حكمة الله أن اختاره للرسالة وأنزل عليه الوحي بها، وهو أول إنسان من بني إسرائيل اجتمع له سلطان الملك في الدنيا، وشرف الرسالة في الدين، وأقام الله به دينًا، ودولة.

    فرمية الحجر بالمقلاع من غلام، وقتل الملك، وفرار جيشه، وانتصار المؤمنين في هوادة من غير تضحية، واندحار الجبارين في هوان بعد أن عاثوا في الأرض مفسدين زمنًا طويلاً.. كل هذه أحداث خارقة للعادة، وهي إرهاصات – ولا شك – لما تحقق لداود من شأن الرسالة.

    وخاصة: بعد الذي عرفنا سابقًا من مهابة بني إسرائيل لحرب الجبارين وتخلفهم عن دعوة موسى إلى ذلك، وقولهم لموسى – عليه السلام - «إن فيها – القدس – قومًا جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها» وقولهم أخيرًا لموسى ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) [المائدة: 24].

    وقد تحدث القرآن عن أصل القصة في سورة البقرة من آية (247) وختمها في قوله تعالى: ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) [البقرة: 251]، وهو داود أبو سليمان عليهما السلام (1) .










    (1) الوحي إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للشيخ عبد اللطيف السبكي، ص(20، 21)، ط: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (الكتاب الحادي والخمسون 1389هـ - 1969م).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #77
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(74)



    الإرهاص ليحيى بن زكريا عليه السلام

    كان رسول الله زكريا – عليه السلام – غير منجب للذرية حتى بلغ من العمر مائة وعشرين سنة، وبلغت زوجه التسعين، وذلك أشبه بحال إبراهيم وسارة.
    وكان زكريا كفيلاً على مريم في تربيتها، ورعايتها، لأنها فاقدة الأب، ولأن زكريا زوج خالتها، وبحكم تردده على مريم في محرابها الخاص بها كان يشهد مشاهد عجيبة من تكريم الله لمريم بنزول الطعام لها من عند الله.
    وكان هذا التكريم يثير في نفسه الحنين إلى الذرية، ويغالبه الأمل في الله أن يرزقه ذرية طيبة ويدعو، ويكثر الدعاء في ذلك.
    والقرآن يسوق لنا قصصه عن ذلك في مقامين، يعتبر كل منهما إرهاصًا ليحيى عليه السلام.
    أحدهما: في سورة آل عمران إذ يقول الله تعالى: - «هنالك – يعني في موقف من مواقفه عند مريم – دعا زكريا ربه، قال: «رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ » [آل عمران: 38 – 39].
    فانظر كيف يستجيب الله دعاء زكريا؟ وكيف تكون بشرى الملائكة له بمولود ذكر، وباسم المولود يحيى، وأنه سيكون جامعًا لصفات من الكمال، بل سيكون رسولاً، وسيكون حصورًا عن زواج النساء ليكون متفرغًا للرسالة والعبادة، على نحو ما كان التبتل قديمًا من العبادة.
    هذه البشرى استعظمها زكريا، وكأنه رغب في التحقق منها: لا لشك عنده في خبر الملائكة – ولكن ليزداد سرورًا بسماع ما يؤكدها له من جانب الملائكة... فقال: « قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ » [آل عمران: 40].
    يا رب: كيف أطمع في هذا بعد أن بلغت من الكبر ما بلغت.. ومع أن زوجتي عاقر لم يسبق لها حمل في زمن كان يرجى فيه حملها؟
    ثم يتفضل الله على زكريا فيوحي إليه ما يزيده اطمئنانًا «اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ».
    فيعود زكريا، ويلتمس من فضل الله علامة على ذلك، عندما يحين الموعد الكريم... فيوحي إليه الله أن علامة هذا: أنك تُمنع من كلام الناس بلسانك ثلاثة أيام بلياليها.. ولكنك تتفاهم معهم بالإشارات رمزًا، وعليك أن تكثر من ذكر ربك، وتسبيحه كل أوقاتك «قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً » [آل عمران: 41].
    فهذا القدر من قصص القرآن إرهاص واضح بشأن يحيى – عليه السلام – من قبل أن يخلق، بل من قبل أن تحمل فيه أمه.
    وهذا القدر المذكور قد يزداد وضوحًا لنا إذا ذكرنا المقام الثاني لهذه القصة من سورة مريم، ففي هذه السورة نرى تفصيلاً جميلاً لبعض الجوانب في القصة.
    فزكريا يناجي في ضراعة خافية على الناس: يشكو ضعف جسمه واشتعال الشيب في رأسه لكبر سنه وأن هذه أخريات العمر، وامرأته عاقر لم تنجب له ولدًا، وأنه يخاف بعد وفاته على شريعة الله أن يعبث بها من يتولون الأمر بعده من بني إسرائيل كما هو دأبهم في التبديل، والتحريف.. وأنه يتعلق بالرجاء في الله أن يرزقه من فضله وليًّا يخلفه في الدعوة إلى الله ويكون وارثًا لأبيه، وللأخيار من آل يعقوب في البركة، والهداية، والإرشاد.. إلى آخر ما عرف من شأنه في هذا الاتجاه.
    ويكون من فضل الله أن يستجيب له كما تقرر فيما أسلفنا من سورة آل عمران، وتصارحه البشرى في هذه المرة بأن اسم يحيى: لم يسبق لغير ولده، وهذا مما يزيده تفاؤلاً بابنه المرموق.. وتستغرق هذه القصة في سورة مريم أربع عشرة آية.. والشطر الأول منها في حكاية ما يقوله زكريا .. والشطر الثاني في تأكيد البشرى، وهو « يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ » [مريم: 7 – 9].
    ونكتفي بهذا القدر من الإرهاصات في حياة الأنبياء السابقين وننتقل إلى الإرهاص في حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #78
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله


    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(75)

    الإرهاص لمحمد صلى الله عليهوسلم

    كما جرت سنة الله _ تعالى _ أن يكون لبعض الرسل إرهاصات سابقة على بعثتهم كان الشأن كذلك مع خاتم الرسل محمد صلى الله عليه و سلم فلم يكن محمد بدعا من الرسل في الإرهاص له , كما لم يكن بدعاً من الرسل في اختياره رسولاً إلى الناس , و إن زاغ عن ذلك أهل الإفك و الضلال ممن كفروا به , مفترين على الله و رسوله ما ليس لهم به علم .
    وبقدر ما كانت رسالة سيدنا محمد خطيرة الشأن بعد غيرها من الرسالات الأولى كان الإرهاص لها أعمق في التاريخ , وأفسخ مدى في جوانبه العلمية ،ووجه ذلك : أن الحياة الدنيا قبل بعثة محمد صلى الله عليه و سلم كانت متصدعة في نظمها الاجتماعية و في قيمتها الأدبية .
    و كانت الإنسانية في ظمأ شديد إلى تشريع سماوي جديد يشفى غلتها , و يسد ذلك الفراغ الشاغر في مجتمعها , و يكفل توجيه الناس إلى الخير المنشود و يرأب الصدوع التي أحدثها الجهل الفاشي في البيئات البدائية , والتي أثارها النزاع الطائفي بين أهل الكتاب حتى طمسوا أكثر معالم الرشد التي جاءت بها الكتب السماوية الأولى.
    وحينئذ تكون الشريعة المرجوة تامة , و نهائية , لا تمهيدية , و حسب الدنيا ما مر بها من التجارب في عصورها الغابرة.
    وحينئذ _ أيضا _ يكون الإرهاص لهذه الشريعة مدعوماً بوسائل البيان الواسع الذي يقوم عليه صرح الدعوة شامخاً , لا تنال منه محاولات المبطلين مهما بطل الزمن.
    وإزاء هذه الاعتبارات كانت حكمة الله متجاوبة مع طموح البشرية إلى الهداية الكاملة ، وكانت متلاقية مع الأهداف المثالية للإنسانية بالتوجيه إلى تلك الرسالة عبر الإرهاصات و المعجزات التي خص بها صلى الله عليه و سلم و إليك الحديث عن هذه الإرهاصات .

    أخذ الميثاق على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه:
    من الإرهاصات التي سبقت ميلاد نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وأعلنت عن عظيم قدره , ورفيع منزلته ، وإكرام الله له : أخذ الميثاق على الأنبياء و المرسلين أن يؤمنوا به و ينصروه إن أدركوه و لحقوه ، فإن لم يدركوا زمنه فليبشروا أممهم بمجيئه و ليعهدوا إليهم بالإيمان به و النصرة له , قال تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّه ُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[ سورة آل عمران /81 ، 82 ] .
    و الميثاق في اللغة : عقد مؤكد بيمينو الميثاق : ــ العهد ــ وفيه معى الحلف ففي أخذه استحلاف لهم .
    وأخذ الميثاق من المرء عبارة عن كون المأخوذ منه وهو المعاهَد ــ بفتح الهاءــ يلتزم للآخذ وهو المعاهِد ــبكسر الهاء ــأن يفعل كذا مؤكداً ذلك باليمين أو بلفظ من المعاهدة أو المواثقة .
    و معنى ميثاق النبيين ما وثقوا به على أنفسهم من طاعة الله فيما أمرهم به و نهاهم عنه .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #79
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(76)

    تفصيل الأخذ في الميثاق


    وأخذ الميثاق يقتضى آخذاً و مأخوذاً له و مطلوباً للأخذ . فآخذ الميثاق : هو الحق تبارك و تعالى كما يدل عليه ظاهر اللفظ.
    والمأخوذ عليه الميثاق تعددت فيه الأقوال :
    ففريق قال : المأخوذ عليه الميثاق هم النبيون كما يدل عليه ظاهر اللفظ.
    وفريق قال : بل المأخوذ عليه هم أولاد النبيين على حذف المضاف و المراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم.
    وفريق قال : بل المأخوذ عليه أمة النبيين فقد ورد كثيراً في القرآن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم و يراد به الأمة كقوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء) [ سورة الطلاق / 1 ].
    وفريق قال : المرد من النبيين بنو إسرائيل و إنما سماهم الله بذلك تهكماً لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه و سلم لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شأن فخان فيه ثم زعم الأمانة : يا أمين ماذا صنعت بأمانتي:؟.
    وهذه الأقوال مبينة على إن الإضافة في قوله " ميثاق النبيين " من إضافة العهد إلى المعاهد منه .
    وهناك نوع آخر من الإضافة ينبني على معنى آخر ( وهو أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثوق لا إلى الموثوق عليه كما تقول ميثاق الله وعهد الله , كأنه قيل : (وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم ).
    والمأخوذ له الميثاق : هو سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم كما قال الإمام علي و ابن عباس رضي الله عنهما ، واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلي معين كقوله " ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً"ــ إلى قوله تعالى ــ " وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ " ( سورة النحل من 112 -113)
    ومطلوب الأخذ : هو الإيمان بمحمد صلى الله عليه و سلم و النصرة له.
    يقول العلامة الخازن في تفسيره " و ذكروا في معنى أخذ الميثاق وجهين :
    أنه مأخوذ من الأنبياء.
    أنه مأخوذ لهم من غيرهم.
    فلهذا السبب اختلفوا في المعنى بهذه الآية ــ فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضاً , وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء و ينصره إن أدركه , وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه ، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، و من عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه و سلم ــ و هذا قول سعيد بن جبير و الحسن و طاووس"(1).
    والحكمة من وراء ذلك : " أنه لما كان القصد من إرسالهم واحداً وجب أن يكونوا متكافلين متناصرين ، إذا جاء واحد منهم في زمن آخر آمن به و نصره بما استطاع , ولا يلزم من ذلك أن يكون متبعاً لشريعته كما آمن لوط لإبراهيم و أيد دعوته ، إذ كان في زمنه "(2)
    و قيل أنما أخذ الميثاق من النبيين في أمر محمد صلى الله عليه و سلم خاصة ــ وهو قول علي و ابن عباس و قتادة و السدى .
    فعلى هذا القول اختلفوا : فقيل إنما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل إليهم النبيين و يدل عليه قوله : ( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّه ُ ) "وإنما كان محمداً صلى الله عليه و سلم مبعوثاً إلى أهل الكتاب دون النبيين ، و إنما أطلق هذا اللفظ عليهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل كتاب و النبيون منا.
    و قيل أخذ الله الميثاق على النبيين وأمهم جميعاً في أمر محمد صلى الله عليه و سلم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الإتباع وهو قول ابن عباس.
    قال الإمام علي رضي الله عنه : " لم يبعث الله عز وجل نبياً , آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به و لينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ... " (3)
    و قيل : إن المراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون العهد و الميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه و سلم أن يؤمنوا به و ينصروه ــ و هذا قول كثير من المفسرين .
    و يؤكده أن الله تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين , و هذا الوصف لا يليق بالأنبياء و إنما يليق بالأمم.
    وإلى هذا ذهب ابن عابس رضي الله عنهما _ فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال : قلت لابن عباس إن أصحاب عبد الله يقرءون ( وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) و نحن نقرأ ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ) (آل عمران81) فقال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم ــ وأشار بذلك رضي الله عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين " .
    (1) تفسير الخازن ( 1 / 373 ) ، وانظر : تفسير البغوي ( 1 / 374 ) ، حاشية الجمل ( 1 / 292 ).
    (2) تفسير المنار ( 3 / 289 ).
    (3) تفسير الطبري ( 6 / 555 )، والمحرر الوجيز ( 2 / 488 ) ، وتفسير الخازن ( 1 / 373 ) ، والبحر المحيط ( 2 / 509 ) ، والشفا (1/ 36 ) ، والوفا لابن الجوزي ( 1 / 37 ) وإسناد الحديث عند الطبري ضعيف من أجل سيف بن عمر ــ أحد رواته ــ قال عنه ابن عدي : بعض أحاديثه مشاهير وعامتها منكرة لم يتابع عليها ، التهذيب ( 2 / 470 ) . وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبري ( 5 / 556 ) وإسناده ضعيف ، فيه محمد بن حميد الرازي ، قال عنه ابن حجر في التقريب : " حافظ ضعيف وكان ابن معين حسن الرأي فيه " ، وفيه أيضا : محمد بن أبي محمد المدني ، قال عنه ابن حجر في التقريب ( 2 / 214 ) : مجهول .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #80
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: السيرة النبوية والشمائل المحمدية **متجددة إن شاء الله

    السيرة النبوية والشمائل المحمدية
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر

    الحلقة(77)

    القول الراجح في المأخوذ له الميثاق

    والقول الذي أرجحه و يميل إليه قلبي و تستريح له نفسي : هو أن الله أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم وأن ينصروه.
    و معلوم بداهة أن الأخذ على المتبوع في طيه أخذ على الأتباع حيث إنهم مأمورون باتباع أنبيائهم فيما جاءوا به وأرشدوا إليه , وعليه فيكون أخذ الميثاق واقعاً على الأنبياء كفاحاً وعلى أممهم بالتبعية لهم.
    روى الطبري بسنده إلى السدى قال في قوله ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ ). الآية " لم يبعث الله عز وجل نبياً قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد و لينصرنه إن خرج وهو حي,وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به و لينصرنه إن خرج وهم أحياء"(1) .
    و قال ابن كثير : " قال علي بن أبي طالب و ابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به و لينصرونه "(2).
    وقال ابن هشام : و كان الله ــ تبارك و تعالى ــ قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به , و التصديق له , و النصر له على من خالفه , وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم ، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيهم , يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ .....الآية )(3) .
    ويقول بعض العارفين :- فآدم كانت أوامره بنصرته لأولاده لا تحصى , و نوح عهد إلى أتباعه باتباعه ووصى , و الخليل كان أكثرهم اجتهاداً في ذلك وحرصاً , و بنوه تواصوا و إسماعيل أكثرهم فحصاً , وتوراة موسى نطقت بنعته و صفاته , وأبانت عن معانيه وآياته , و أوضح برهان على ذلك و دليل ( أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ) , وزبور داود أفصح بصدق معجزاته و أعرب عن ظهور بيناته ، وإنجيل عيسى شهد بأنه الخاتم الذي يشكر ويحمد , وصرح به قوله تعالى : ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (4).
    و بناءً على هذه الأقوال يكون المقصود من قوله تعالى : (ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ..... الآية ) رسولاً واحداً وهو محمد صلى الله عليه و سلم .
    و بذا يضعف القول إلي ذهب إلى أن الميثاق إنما أخذ على كل نبي في النبي الذي يأتي بعده.
    والذي يدعم ذلك و يؤكده وجوه :
    الوجه الأول : أنه لم يرد في آية ولا في حديث صحيح أن الله تعالى أخذ العهد في شأن نبي غير نبينا صلى الله عليه و سلم , و يؤكده أن الميثاق في الآية مأخوذ من جماعة لمفرد " النَّبِيِّيْنَ , جَاءكُمْ " هذا في المأخوذ عليه أما المأخوذ له فقال " رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ ".
    الوجه الثاني : أن القرآن لم يصف نبياً بأنه مصدق لما بين يديه أو مصدق لما مع الأنبياء قبله ، غير نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لم يوصف كتاب بأنه مصدق لما بين يديه غير القرآن .
    قال تعالى (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ)[ سورة البقرة / 89 ] .
    و قال تعالى ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )[ سورة البقرة / 97 ] .
    و قال تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)[ سورة المائدة / 48 ] .
    و قال تعالى : (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[ سورة الأنعام / 92] .
    و قال سبحانه في وصف النبي صلى الله عليه و سلم (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ)[ سورة البقرة / 101 ] .
    و انظر كيف قال الله تعالى في حق عيسى عليه السلام (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ )[ سورة المائدة / 46 ].
    و قال سبحانه (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) [ سورة الصف / 6 ] .
    و يقول تعالى أيضاً (وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ )[ سورة آل عمران / 50 ] .
    فعيسى الذي جاء متمماً لشريعة موسى عليهما السلام لم يكن إلا مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، والإنجيل الذي جاء به كان مصدقا لما بين يديه من التوراة فقط , ولكن التوراة التي جاء عيسى متمماً ومصدقاً لها لم تكن مصدقة لما أنزل على إبراهيم أو لوط أو شعيب عليهم السلام , لتباين الشرائع المنزلة , ولأن تصديق الكتب كلها و الهيمنة عليها من خصائص القرآن العظيم.

    (1) تفسير الطبري ( 6 / 556 ) .
    (2) تفسير ابن كثير ( 1 / 378 ) .
    (3) السيرة لابن هشام ( 250 ) .
    (4) إيثار الحق على الخلق ص 82 .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •