ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد : فإن الله تعالى يقول في القرآن الكريم: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } [الأعراف:56]. قال الإمام ابن كثير، رحمه الله تعالى في تفسيره : «ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أَضَرَّهُ بعد الإصلاح، فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضرَّ ما يكون على العباد، فنهى تعالى عن ذلك» انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.
وقد بيّن الله تعالى في كتابه الكريم أنّ من صفات المنافقين الإفساد في الأرض وهم يدّعون الإصلاح، قال الله عزّ وجلّ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة:11] والفساد في الأرض يكون بالشرك والمعاصي، والمعاصي تشمل كل المحرّمات كقتل الناس، وترويعهم، وغصب أموالهم وهتك أعراضهم، وإفساد أموالهم، والاعتداء على عقولهم بالسحر والمخدّرات، وغير ذلك من السيّئات والمهلكات. وأخطر تلك المعاصي –بعد الشِّرْك- قتل النّفس بغير حق، فقد قال تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [المائدة:23]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أوّل ما يُقضى بين الناس في الدّماء» [رواه البخاري (6533)، ومسلم (1678)]. وقال صلى الله عليه وسلم:«لا يزال المرء في فسحة من دينه مَالم يُصِب دما حراما، فإذا أصاب دمّا حرامًا بَلّح» [رواه البخاري (6862)، وغيره ]. ومعنى بَلَّح: وَقَعَ في الهلاك. وقال صلى الله عليه وسلم : «ما مِن نفس تُقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أولُ من سَنَّ القتل» [رواه البخاري (3335)، ومسلم (1677)]. وهذا الوعيد الشديد، والتحذير الأكيد من قتل النفس بغير حق وارد على ما إذا كان باسم الدنيا ومصالحها، فأمّا إذا كان الاعتداء بالقتل بغير حق باسم الدّين فالأمر أخطر والخطْب أعظم، لما فيه من الكذب على الله والافتراء عليه، حيث يزعم القاتل أن الله تعالى هو الذي أذِن له بإزهاق تلك الأنفس البريئة، إنه فساد عظيم في الأرض بعد إصلاحها، ويتوسّع الخطر، ويعظم الأمر إذا كان يُمارَس القتلُ، والأرض في طور الإصلاح، والمسلمون يعودون رويدًا إلى طريق النجاح والفلاح، والمصلحون من علماء وحُكَّام، يحاولون تفهيم الناس الدّين الصحيح، ولَمِّ الشمل الجريح، فيأتي المتعجّلون الذين لا ينظرون أبعد من أنوفهم، فيُفسدون ما قد انصلح، ويزيدون فسادًا ما هو فاسد أصْلًا، ويفرّقون ما هو مُمَزَّقٌ قِطَعًا، فينفر من الدّين لا أقول الكافرون بل كثير من المسلمين، حتى يُصبح الالتزام بالدّين أمرًا مُخيفًا، والسير على طريق الإسلام شيئًا مُريبًا. فقد أساء هؤلاء المفسدون إلى سمعة الإسلام والمسلمين، حيث أعطوا المبرّرات لأعداء الإسلام -الذين يطعنون فيه دائما- للطعن فيه، ومخاطبة الناس قائلين: أَلَمْ نقُل لكم إن المسلمين إرهابيون؟ قَتَلَةٌ؟ لا يرتاحون إلا إذا شاهدوا الدّماء والأشلاء؟ ألم نقل لكم إن هذا الدّين الإسلامي لا يصلح للبشرية،إنه دين دموي، دين همجي، لا يعترف بالآخرين؟ ألم نَقُل... ألم نَقُل...، ألم نُحذّركم مرارًا وتكرارًا... هكذا يرفعون أصواتهم، ويركضون سرًّا وجهرًا، وفي أيديهم صور الدّمار والقتل الذي قام به المسلمون!! . إذن أقول من أَعْطَى لهؤلاء الأعداء المبرّرات؟ إنهم المتعجّلون، إنهم الجاهلون بحقيقة الإسلام، إنهم غير المتخصّصين في علوم الشريعة الإسلامية السمحة أمثال الطبيب العاطفي، والمهندس المتحمّس، والجاهل المنغمس، الذين لم يدرسوا على أيدي العلماء الكبار في السن والعلم، إنهم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون كلاما حسنًا من قول خير البريّة، لكنهم يضعونه في غير مكانه، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :«قاتل الله الخوارج، عَمَدوا إلى آيات نَزَلت في الكفار فجعلوها في المسلمين» . إن الناظر إلى أحوال المسلمين لا يُسَرّ، فهناك نقص كثير في الاستقامة على الدّين، وهناك معاصٍ كثيرة علانية وجهرًا، ولكن الله عَلَّمَنا أن المريض لا يُقتل بل يُداوى، فلا يوجد عندنا في الإسلام ما يُسمّى برصاصة الرّحمة (ومعناها أن المريض الميؤوس منه تُطلق عليه رصاصة ليموت رحمةً به!!)، هذا لا يوجد في ديننا. فقد قال الله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " [النساء: 29]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يَضَع داءً إلا وضع له دواء، غيرَ داء واحد، الهَرَم» [رواه أحمد وغيره، وهو حديث صحيح كما في صحيح الجامع (2930)]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَنْ قَتَلَ نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه، في نار جهنّم، خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن شرب سُمًّا، فقتل نفسه، فهو يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن تردّى من جبل فقتل نفسَه، فهو يتردّى في نار جهنّم خالدًا فيها أبدًا» [رواه البخاري (5778)، ومسلم (109)]. وقال صلى الله عليه وسلم :«ومن قتل نفسه بشيء عُذِّبَ به في نار جهنّم، ولَعْنُ المؤمن كقتله، ومن رمَى مؤمنًا بكُفر فهو كقتله» [رواه البخاري (6105)، ومسلم (110]. كما علّمنا ربُّنا أن الزمن جُزء من العلاج، فمن وُصف له دواء لمرض بَدَنِيّ فإنه يتناوله في أوقات معلومة، وبمقادير مضبوطة، إلى مدّة معيّنة، وأمّا أمراض الرّوح، فيحتاج علاجها إلى زمن أطول، ومقادير أكبر، هذا إذا كان الدواء صحيحا مائة بالمائة، فما بالك إذا كان الدواء مخلوطا بغيره مما ليس منه، فيحتاج الأمر إلى زمن أطول لاستخلاص الدواء الصافي، ثم إعطائه لمن يريد الجواب الشافي، والعلاج الكافي، ومِنْ طبيب ماهر مجرِّب، مشهود له بالعلم الواسع، والحكمة العالية، والصبر والمثابرة، والخُلُق الحسن، وطيب المعاملة. لكن قال الله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا } [الاإسراء:11]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ولكنكم تعجلون» [رواه البخاري (3852)]، ومن أسباب استعجال كثير من المسلمين –خاصّة الشباب- ضعف اليقين بنصر الله سبحانه لدينه ولعباده المؤمنين، وقد قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقال تعالى {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة:21]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ليُتِمَنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسير الرّاكب ما بين صنعاء إلى حَضر موت، لا يخشى إلا الله والذّئب على غنمه، ولكنكم تعجلون» [رواه البخاري (3852)]. وقال صلى الله عليه وسلم : «ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدّين، بعِزِّ عزيزٍ، أو بِذُلِّ ذليل، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلام، وذُلًا يُذِلُّ الله به الكفر» [رواه أحمد (16957) وإسناده صحيح على شرط مسلم]. ومن رحمة الله بأمّة محمد د أنه لم يكلِّفها الحصول على نتائج دعوتها باهتداء الناس أو بقيام المجتمع الإسلامي الصافي، بل إن الله تعالى لم يكلّف بذلك حتى رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ }[القصص: 56]، وقال تعالى: {َذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21-22]، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّك َ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77]، وقال تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ }[الزخرف:41-44]. وهذا اليقين يجعل صاحبَه رزينًا حكيما غير طائش، لا يحمله كُفْرُ مَنْ كَفَرَ، ولا فِسْقُ مَنْ فَسَقَ، ولا عنادهم وتكذيبهم، لا يحمله كلُّ ذلك على الخفّة والطيش، وعدم الصبر فيعمل أعمالًا يندم عليها في الدّنيا والآخرة، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّك َ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 66]. وفقنا الله جميعا للهدى والرشاد، ورزقنا الخير والسداد، إنه سميع مجيب، والحمد لله ربّ العالمين.
كتبه أبو سعيد بلعيد بن أحمد في 13 ذي الحجة 1428هـ الموافق لـ 22 ديسمبر 2007م
المصدر