شرح الرسالة التدمرية للشيخ عبدالرحمن البراك ص27-29:
قوله: "لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات" هذا هو السبب الرابع لأهمية تحقيق هذين الأصلين، فأكثر خوض الناس في مسائل الاعتقاد بالباطل، والخوض فيها بالحق يكون بالنظر الصحيح والنقل الصحيح والعقل الصريح، فالنظر مثلاً في أسماء الله وصفاته على ضوء قواعد ونظريات فلســفية وخيالات خــوض بالباطل، لكن الخوض فيها من خلال التدبر لآيات الله
تعالى الشرعية، وهي آيات القرآن، أو التدبر لآيات الله الكونية، أو التدبر لسنة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وبالنظر في كلام السلف الصالح كل هذا من الخوض فيها بالحق، أما الخوض في القضايا الغيبية بمجرد الفكر من غير تعويل على الأسس الصحيحة، أو في ضوء آراء المتفلسفة والمتكلمين فهذا خوض بالباطل، وليس للإنسان أن يعول فيما يقوله في شأن الله وفي شأن اليوم الآخر على ما يتخيله، بل على ما جاء في الكتاب والسنة، فأكثر الناس خاض في هذا الميدان بالحق حيناً وبالباطل أحياناً كما يشهد به الواقع.
قوله: "وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات" هذا هو السبب الخامس لتحقيق هذين الأصلين، والشبهة ما يشتبه فيها الحق بالباطل، وقد تكون الشبهة عقلية كالنظريات التي يُدَّعى أنها معقولات وهي خيالات وأوهام،أو أدلة نقلية لا يصح بها الاستدلال على ما استدل بها عليه، فلا يلزم من صحة الدليل صحة الاستدلال، لأن من الناس من يستدل بالشيء على ما لا يدل عليه، فيكون غالطاً في الاستدلال.
فالشبهات ترد على القلوب أحياناً بوساوس الشيطان، فتورث شكوكاً في القضايا العقدية، والمسائل الخبرية، وأحياناً ترد هذه الشبهات على القلب بما يلقيه بعض الجاهلين، وبعض المضلين، من أقوال يتكلمون بها، فيقع هذا الكلام في القلب، فيثير قلقاً وشبهة تكدر صفو الإيمان، لكن الإيمان إذا كان قوياً فإنه يرد تلك الشبهة ويدفعها إما بتصور فسادها، أو يدفعها بمجرد أنها تعارض الحق، فالشبهة يدفعها المؤمن تــارة بمعـرفته وعلمه أنها باطـلة، وتارة يردّهــا بمجــرد علمه
بأنها تعارض الحق، فمجرد معارضتها للحق دليل على بطلانها، كما إذا ورد حديث يعارض نصاً من نصوص القرآن ويناقضه، فإنك تعلم أن هذا غلط وليس بصحيح فإما أن يكون موضوعاً أو يكون وهماً، مثل الحديث الذي يدل على أن الله خلق الخلق في سبعة أيام فقد نص العلماء على أن هذا الحديث وهم لأنه يعارض صريح القرآن في أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
فورود الشبهات على القلوب إذن يقتضي العناية بتحقيق هذين الأصلين، لأن العناية بهما مما تدفع به هذه الشبهات الواردة على القلوب، أما من فقد التحقيق العلمي، والتحقيق الإيماني فإنه يتعرض لتأثير الشبهات على قلبه، حتى يضل بها، وتوقعه في أنواع الضلالات، أما من عنده بصيرة في دينه، وعنده إيمان مشرق فإنه يدفع تلك الشبهات.
فهذه خمسة أسباب لأهمية هذا الموضوع:
والسبب الخامس أخص من الثالث، فعطفه على ما قبله من عطف الخاص على العام والله الموفق.