[ 2 ]
وقبل أن اعرض أقوال الكاتب محمد المحمود - هداه الله - فإن لسائل أن يسأل ما الفرق بين التعددية العقائدية والتعددية الفكرية ؟
والجواب أن الدعوة إلى التعددية الفكرية أعم من الدعوة إلى التعددية العقادية في كتابات محمد المحمود .
وذلك أن الدعوة إلى التعددية العقائدية هي دعوة للاعتراف والإقرار بوجود التنوع الديني والطائفي الذي يتمثّل بتكتّلات دينية وطائفية متباينة الاعتقادات و الأفكار ودعوة للتعامل مع هذا التنوع ( بواقعية ! ) بلا نفي أو إقصاء أو حكم عليه بكفر أو بدعه !يدعوا إلى التعامل مع التعددات الدينية بهذه الطريقة ولكن بشرط ما لم يكن التكتل إقصائياً
فإن لم يكن إقصائيا محارباً نافياً غيره فإنه يدعوا للتسامح معه وقبوله كمصدر إثراء وتنوع مع ما تحمله هذه الطوائف والتكتلات مما يراه - بزعمه - آراء تخالف العقل والإنسانية .
بينما الدعوة إلى التعددية الفكرية ، دعوة إلى احترام الفكر والفهم للدين و الشرع بغير التزام بأصول فكرية ومنطلقات مسبقة تحجم الفكر سواءً كانت هذه المنطلقات و الأصول سلفية ( وهذا الغالب في خطابه ) تحد الفكر وتمنعه من الوقوع فيما في المخالفة كما وقع أهل الكتاب بذلك فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماهيّة الروح فقال الله تعالى : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } فنهى الله تعالى عن التفكر في حقيقة الروح وماهيّتها لأن حقيقة الأرواح مما استأثر الله بعلمه .
كما أن هذه الأصول والمنطلقات التي يدعوا محمد المحمود إلى نبذها تحجّم الفكر من الانحراف إلى ما يسخط الله ويغضبه كما فعل أحد المشركين حينما أخذ حفنَةً من عظام قد أرِمت فنفخ عليها فتناثرت في الهواء ثم قال تكبراً واستبعاد : من يحيي هذه العظام وقد أَرِمت ؟ فقال الله تعالى : { وأولم يرَ الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرّة وهو بكل خلق عليم * ... } الآيات
أو كانت هذه الأصول والمنطلقات غير سلفية ولكنها تمارس كما يقول ( النفي للآخر ) .
فهو يدعوا إلى إنعتاق العقل من الحتميات والأصول التي - بزعمه -تأسر العقل وتمنعه من الإنطلاق بحرية أيّا كانت هذه الأصول سلفية أم غير سلفية
ودونك ما يوضح هذه الجزئية من كلامه ، يقول :
" أصول العقائد ليس من السهل التنازل عنها عند الجميع. وعلى المحاور أن يدرك أنه كما يدلف إلى الحوار بتصورات يقينية، ليس في نيته التنازل عنها يقيناً، فإن الآخر يمتلك الروح نفسها، وهو يدلف إلى طاولة الحوار. لكن قد يحدث تحول في النظر إلى هذه الأصول، من جهة تراتبيتها، أو درجة أصوليتها. وهذا يمهد الطريق لبناء قواسم مشتركة أكثر مما هو موجود في الواقع. والمشكلة الأخرى التي لا تقل عن الأولى صلادة ورسوخاً، هي أن هذا التنوع الذي نريد أن نقوده إلى الحوار، يمتلك تراثاً ضخماً، متخماً بمقولات الإقصاء للأنواع الأخرى. وهذا موجود عند كل مذهب ولدى كل طائفة. ولهذا، يستحيل استنبات التآخي بين أفراد المجتمع الواحد، بينما يلتهم أفراد كل مذهب، وبيقينية صارخة، مقولات في تضليل وتكفير المذهب الآخر ". (5)
ويقول : " لا تخلو طائفة ولا فرقة ولا مذهب في التاريخ الإسلامي من ممارسة الوظيفة الكهنوتية، قدر ما تسمح به لها الظروف. فليس المانع الذي يحد من النشاط الكهنوتي مانعا ثقافيا، أي عن وعي علمي بحرمة الممارسة الكهنوتية، وإنما لعجز أو فشل في تطويع الواقع للسلطة الكهنوتية. التاريخ الإسلامي يشهد على حقيقة أن رجال الدين - أو كثير منهم على نحو أدق - لم يجدوا حرجا في ممارسة التسلط الكهنوتي متى ما سنحت الفرصة، وكثيرا ما كانت تسنح؛ نتيجة كثيرة التقلبات السياسية الاجتماعية، والاحتياج المتبادل لهذا الدور أو ذاك! لم يقتصر هذا الغرام المرضي بممارسة السلطة الكهنوتية على الاتجاهات التقليدية المحافظة، بل كان غراما عاما يتسرب إلى وجدان كل مذهب؛ تبعا لما تسمح به محددات النفوذ الجماهيري أو الرسمي. حتى الاتجاه الاعتزالي في بدايات القرن الثالث الهجري مارس كهنوتيته بأبشع صورة، بمجرد أن وجد السبيل إلى ذلك. وطبعا، لم يكن الاتجاه الآخر بمعزل عن مثل هذه الممارسة، بمجرد أن قام المتوكل بالتمكين لانقلاب كهنوتي، مارس رجالاته القمع نفسه. "ا.هـ (6)
فالمتأمل لكتابات محمد المحمود – هداه الله – يدرك الفرق بين دعوته للتعددية الفكرية ، ودعوته للتعددية العقائدية
وباختصار :
فإنه يقرر بأن التنوع وقبول التعددية العقائدية بصفتها تكتلات مختلفة لها أصولها و منطلقاتها أمر مقبول و تنوع يثري الساحة !
ومع ذلك يدعوا كل طرف سواءً كان سلفياً أو غير سلفي إلى الإقلاع عن المنطلقات التي تنفي الآخر و ترميه التكفير أو التفسيق أو التضليل وذلك بتحرير العقل من الأسر الحتمي للمنطلقات التراثية التي تأسر العقل وتقيد تفكيره ، بل – كما يزعم – ينبغي الانطلاق والانفكاك بالعقل من الحتميات التي تزاحم إنسانيته .كما تلحظ ذلك في مقاله :
(الإرادة الإنسانية... المستقبل يصنعه الإنسان ) والذي سنقتبس منه ما يبن دعوته للتعددية الفكرية .
وإن كان في الأصل ثمت تقارب بين الدعوة إلى التعددية الفكرية والتعددية العقائدية في المعنى ، إذ لا اعتقاد باطل إلا بفكرة ، ولا اعتقاد صحيح إلا بوحي وسنّة .
وباختصار آخر فإن دعوته للتعددية الفكرية هي دعوة لحرية الفكر ( وإن شئت فقل قل حريّة الكفر ) !