٣٥ * وعن الحسن رحمه الله قال: كان والله من أدركت من صدر هذه الأمة ما قالوا بألسنتهم فكذلك في قلوبهم، كانوا والله موافقين لكتاب ربهم ولسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فإذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم، يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يرغبون إلى ربهم في فكاك رقابهم، إذا أشرف لهم من الدنيا شيء أخذوا منه قوتهم، ووضعوا الفضل في معادهم، وأدوا إلى الله فيه الشكر، وإن زوى عنهم استبشروا وقالوا: هذا نظر من الله واختبار منه لنا، إن عملوا بالحسنة سرتهم ودعوا الله أن يتقبلها منهم، وإن عملوا بالسيئة ساءتهم واستغفروا الله منها. [موسوعة ابن أبي الدنيا ١/ ٣٣١].

٣٨ * وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: كان يقال: اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها. [الحلية (تهذيبه) ٢/ ٤٤٤]

٣٨ * وقال شقيق البلخي رحمه الله: أربعة أشياء من طريق الاستقامة: لا يترك أمر الله لشدة تنزل به، ولا يتركه لشيء يقع في يده من الدنيا، فلا يعمل بهوى أحد ولا يعمل بهوى نفسه، لأن الهوى مذموم، ليعمل بالكتاب والسنة. [الحلية (تهذيبه) ٢/ ٥٠٢].

٣٨ * وقال مالك بن أنس رحمه الله: من لزم السنة وسلم منه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مات: كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وإن كان له تقصير في العمل. [شرح السنة / ١٢٦].

٣٩. * وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به وحمد الله - عز وجل - على ما وفق من قلبه. [الحلية (تهذيبه) ٣/ ١٩٢].

٣٩ * وقال الحميدي: روى الشافعي رحمه الله يوما حديثا، فقلت: أتأخذ به. فقال: رأيتني خرجت من كنيسة، أو علي زنار، حتى إذا سمعت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا لا أقول به!!! [السير (تهذيبه) ٢/ ٨٤٨].

٤٠ * وعن إبراهيم بن هاني قال: اختفى عندي أحمد بن حنبل رحمه الله ثلاثة أيام ثم قال: اطلب لي موضعا حتى أتحول إليه. قلت: لا آمن عليك يا أبا عبد الله، قال: إذا فعلت أفدتك، فطلبت له موضعا فلما خرج قال لي: اختفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثة أيام، ثم تحول، وليس ينبغي أن نتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرخاء ونتركه في الشدة. [الحلية (تهذيبه) ٣/ ١٤٤].

٤٦ * وقال أيضا رحمه الله: إذا رأيت رجلا من أهل السنة فكأنما أرى رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا رأيت رجلا من أهل البدع فكأنما أرى رجلا من المنافقين. [شرح السنة ١٢٦ - ١٢٩].

٩٣ وعن حفص بن حميد قال: سألت داود الطائي رحمه الله عن مسألة فقال داود: أليس المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع له آلته؟ فإذا أفنى عمره في جمع الآلة، فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفنى عمره فيه فمتى يعمل؟! [الحلية (تهذيبه) ٢/ ٤٥٨].

١٠١ إذا الرجال ولدت أولادها*...*وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها*...*تلك زروع قد دنا حصادها

١٣٦*قال ابن القيم رحمه الله: أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من رافق الراحة فارق الراحة، فإنه على قدر التعب تكون الراحة.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم*...*وتأتي على قدر الكريم الكرائم
ويكبر في عين الصغير صغيرها*...*وتصغر في عين العظيم العظائم

ا. هـ بتصرف. مدارج السالكين ٢/ ٤٥

144 * وعن عبدة بنت أبي شوال قالت: كانت رابعة رحمها الله تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، قالت: فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من رقدتها: ويلك يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم لا تقومين؟ أوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا بصرخة يوم النشور، قالت: فكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت. [موسوعة ابن أبي الدنيا ١/ ٢٦٨].

١٥٨ * وقال ابن كثير رحمه الله: لما مرض الشبلي رحمه الله بعث إليه المقتدر طبيبا نصرانيا، فقال له الطبيب: فلو علمت أن قطع بعض جسدي يشفيك لقطعته. فقال له: يشفيني قطع ما هو أيسر عليك من ذلك. فقال: وما هو؟ قال: قطع زنارك. فقطعه وأسلم، فبلغ ذلك الخليفة فقال: بعثنا طبيبا إلى عليل، فإذا هو عليل إلى طبيب. [البداية والنهاية ١١/ ٢٩٦]

١٦٠ * وعن أبي بكرة - رضي الله عنه -، قال: والله ما من نفس تخرج أحب إلي من نفسي هذه، ولا نفس هذا الذباب الطائر، ففزع القوم، فقالوا: لم؟ فقال: إني أخشى أن أدرك زمانا لا أستطيع أن آمر بمعروف، ولا أنهى عن منكر، وما خير يومئذ. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٥/ ٤٠٦].

١٦٦*وعن سفيان الثوري رحمه الله قال: إني لأرى الشيء علي أن أتكلم فيه، فلا أفعل، فأبول دما. [السير (تهذيبه) ٢/ ٦٩٦]

١٦٧ * وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون، فهو رجل سوء، لأنه ربما رآهم يعصون، فلا ينكر، ويلقاهم ببشر. [السير (تهذيبه) ٢/ ٧٠٠].

١٦٩ * وعن الحسن قال: سمعهم عامر بن عبد قيس رحمه الله وما يذكرونه من أمر الضيعة في الصلاة، قال: أتجدونه؟ قالوا: نعم! قال: والله لأن تختلف الأسنة في جوفي، أحب إلي من أن يكون هذا مني في صلاتي. [الحلية (تهذيبه) ١/ ٣٠٣]

١٧٠ * وعن إبراهيم النخعي رحمه الله قال: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى، فاغسل يدك منه. [صفة الصفوة ٣/ ٦٠].

١٧٠ * وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: لأهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. [صفة الصفوة ٤/ ٤٤٥].

١٧٠ * وقال أحمد بن حرب رحمه الله: عبدت الله خمسين سنة، فما وجدت حلاوة العبادة حتى تركت ثلاثة أشياء: تركت رضى الناس حتى قدرت أن أتكلم بالحق، وتركت صحبة الفاسقين حتى وجدت صحبة الصالحين، وتركت حلاوة الدنيا حتى وجدت حلاوة الآخرة. [السير (تهذيبه) ٢/ ٩٠٦]

١٧١ * وعن عمرو بن دينار، قال: كان ابن الزبير - رضي الله عنه - يصلي في الحجر والمنجنيق يصب توبه (١)، فما يلتفت، يعني: لما حاصروه. [السير (تهذيبه) ١/ ٣٩٥].
* وعن يحيى بن وثاب: أن ابن الزبير - رضي الله عنه - كان يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذم حائط. [الزهد للإمام أحمد / ٣٥٨].
* وعن أبي الحسين المجاشعي، أنه قال لعامر بن عبد قيس رحمه الله: أتحدث نفسك في الصلاة؟ قال: أحدثها بالوقوف بين يدي الله، ومنصرفي. [السير (تهذيبه) ١/ ٤٣٣

١٧٥*وقال مجاهد: كان ابن الزبير - رضي الله عنه - إذا قام إلى الصلاة كأنه عود، وحدث أن أبا بكر رضى الله عنه كان كذلك. [السير (تهذيبه) ١/ ٣٩٥]

١٧٦ * وقال عطاء بن السائب: رأيت مصلى مرة الهمداني رحمه الله مثل مبرك البعير. ونقل عطاء أو غيره أن مرة كان يصلي في اليوم والليلة ست مئة.
قال الذهبي رحمه الله: ما كان هذا الولي يكاد يتفرغ لنشر العلم، ولهذا لم تكثر روايته، وهل يراد من العلم إلا ثمرته. [السير (تهذيبه) ١/ ٤٤٧].
*

١٧٦ * وعن أبي بكر بن عياش قال: رأيت حبيب بن أبي ثابت رحمه الله ساجدا، فلو رأيته قلت: ميت، يعني من طول السجود. [الحلية (تهذيبه) ٢/ ١٤٢].

١٧٦ * وقال وهب بن منبه رحمه الله: قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعز به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون دخول الجنة. [موسوعة ابن أبي الدنيا ١/ ٢٥٠]

١٧٧ * وكان طاوس رحمه الله يفرش فراشه، ثم يضطجع فيتقلى كما تتقلى الحبة على المقلى، ثم يثب فيتوضأ ويستقبل القبلة حتى الصباح فيقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين. [موسوعة ابن أبي الدنيا ١/ ٢٦٥].

١٧٨ * وكان ثابت البناني رحمه الله يصلي في كل ليلة ثلاثمائة ركعة، فإذا أصبح طمرت قدماه فيأخذهما بيده فيعصرهما، ثم يقول: مضى العابدون وقطع بي، والهفاه. [موسوعة ابن أبي الدنيا ١/ ٢٧٦].

١٨١ * وكان مرة الهمداني رحمه الله يصلي كل يوم ستمائة ركعة، قال عطاء: ودخلوا عليه فرأوا موضع مسجده كأنه منزل البعير. [موسوعة ابن أبي الدنيا ١/ ٣٣٢].

١٨١ * وعن عبد الواحد بن زيد رحمه الله قال: أصابني علة في ساقي فكنت أتحامل عليها للصلاة، قال: فقمت عليها من الليل فأجهدت وجعا، فجلست ثم لففت إزاري في محرابي ووضعت رأسي عليه فنمت، فبينا أنا كذلك إذا بجارية تفوق الدمى حسنا تخطر بين جوار مزينات حتى وقفت علي وهن خلفها، فقالت لبعضهن: أرفعنه ولا تهجنه، قال: فأقبلن نحوي فاحتملنني عن الأرض وأنا أنظر إليهن في منامي، ثم قالت لغيرهن من الجواري الذين معها: افرشنه ومهدنه ووطئن له ووسدنه، قال: ففرشن تحتي سبع حشايا لم أر لهن في الدنيا مثلا، ووضعن تحت رأسي مرافق حصرا حسانا، ثم قالت للذين حملنني: اجعلنه على الفرش رويدا لا تهجنه، قال: فجعلت على تلك الفروش وأنا أنظر إليها وما تأمر به من شأني، ثم قالت: أحففنه بالريحان،

١٨٣ * ورثى عباد بن تميم وذكر إخوانا له متعبدين جاء الطاعون فاخترمهم، فرثاهم عباد، فقال:
فتية يعرف التخشع فيهم*...*كلهم أحكم القرآن غلاما
قد برى جلده التهجد حتى*...*عاد جلدا مصفرا وعظاما
يتجافي عن الفراش من الخو*...*ف إذا الجاهلون باتوا نياما
بأنين وعبرة ونحيب و*...*يظلون بالنهار صياما
يقرأون القرآن لا ريب فيها*...*ويبيتون سجدا وقياما

185 (١) قال ابن رجب رحمه الله: ومما يجزى به المتهجد في الليل: كثرة الأزواج من الحور العين في الجنة, فإن المتهجد قد ترك لذة النوم بالليل, ولذة التمتع بأزواجه طلبا لما عند الله عز وجل, فعوضه الله تعالى خيرا مما تركه, وهو الحور العين في الجنة. الجامع المنتخب / ٦٩

187 * وقال ميمون بن جابان: ما رأيت مسلم بن يسار رحمه الله ملتفتا في صلاته قط، خفيفة ولا طويلة، لقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدته، وإنه لفي المسجد في صلاة فما التفت. [صفة الصفوة ٣/ ١٦٩].

187*وعن عبد الله بن مسلم بن يسار رحمه الله، عن أبيه؛ أنه كان يصلي ذات يوم فدخل رجل من أهل الشام ففزعوا واجتمع له أهل الدار فلما انصرفوا، قالت له أم عبد الله: دخل هذا الشامي ففزع أهل الدار فلم تنصرف إليهم - أو كما قالت - قال: ما شعرت. [الحلية (تهذيبه) ١/ ٣٩٤]

189 * وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما عاشرت في الناس رجلا هو أرق من سفيان الثوري رحمه الله، قال: وكنت أرامقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا في أول الليل ثم ينتفض فزعا مرعوبا ينادي: النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، كأنه يخاطب رجلا في البيت، ثم يدعو بماء إلى جانبه فيتوضأ، ثم يقول على إثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم بما أطلب، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، اللهم إن الجزع قد أرقني من الخوف فلم يؤمني، وكل هذا من نعمتك السابغة علي، وكذلك فعلت بأوليائك وأهل طاعتك، إلهي قد علمت أن لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يقبل على صلاته. وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إني كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه، قال ابن مهدي: وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياء وهيبة منه. [الحلية (تهذيبه) ٢/ ٤٠١]

192 * وعن سكين بن مسكين قال: كانت بيننا وبين رواد رحمه الله قرابة، فسألت أختا له كانت أصغر منه؟ كيف كان ليله؟ قالت: يبكي عامة الليل ويصرخ. قلت: فتحفظين من دعائه شيئا. قالت: نعم، كان إذا كان السحر أو قريب من طلوع الفجر سجد، ثم بكى، ثم قال: مولاي عبدك يحب الاتصال بطاعتك فأعنه عليها بتوفيقك. مولاي عبدك يحب اجتناب خطيئتك فأعنه على ذلك بمنك. مولاي عبدك عظيم الرجاء لخيرك فلا تقطع رجاءه يوم يفرح بخيرك الفائزون.
قالت: فلا يزال على هذا ونحوه حتى يصبح، قالت: وكان قد كل من الاجتهاد جدا وتغير لونه. قال سكين: فلما مات رواد وحمل إلى حفرته نزلوا ليدلوه في حفرته فإذا اللحد مفروش بالريحان، وأخذ بعض القوم من ذلك الريحان شيئا فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير، يغدوا الناس ويروحون وينظرون إليه، قال: فكثر الناس في ذلك حتى خاف الأمير أن يفتتن الناس فأرسل إلى الرجل، فأخذ ذلك الريحان وفرق الناس، وفقده الأمير من منزله لا يدري كيف ذهب. [المنتظم ٨/ ٢٨٠].
*
194 * عن أنس: أن تميما الداري - رضي الله عنه - اشترى رداء بألف درهم، يخرج فيه إلى الصلاة. [موسوعة ابن أبي الدنيا ١/ ٢٨٧، السير (تهذيبه) ١/ ٢٨٩]

199*وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -، قال: جمعت القرآن، فقرأته كله في ليلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اقراه في شهر" قلت: يا رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال:"اقرأه في عشرين" قلت: دعني أستمتع، قال: "اقرأه في سبع ليال" قلت: دعني يا رسول الله أستمتع. قال: فأبى.
قال الذهبي رحمه الله: صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نازله إلى ثلاث ليال، ونهاه أن يقرأه في أقل من ثلاث وهذا كان في الذي نزل من القرآن، ثم بعد هذا القول نزل ما بقي من القرآن. فأقل مراتب النهي أن تكره تلاوة القرآن كله في أقل من ثلاث، فما فقه ولا تدبر من تلى في أقل من ذلك، ولو تلا ورتل في أسبوع، ولازم ذلك، لكان عملا فاضلا، فالدين يسر، فوالله إن ترتيل سبع القرآن في تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الراتبة، والضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة والقول عند النوم واليقظة، ودبر المكتوبة والسحر، مع النظر في العلم النافع والاشتغال به مخلصا لله، مع الأمر بالمعروف، وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزجر الفاسق، ونحو ذلك، مع أداء الفرائض في جماعة بخشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب، واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار، والصدقة وصلة الرحم والتواضع والإخلاص في جميع ذلك، لشغل عظيم جسيم، ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين، فإن سائر ذلك مطلوب. فمتى تشاغل العابد بختمة في كل يوم، فقد خالف الحنيفية السمحة، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه ولا تدبر ما يتلوه.
هذا السيد العابد الصاحب كان يقول لما شاخ: ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قال - عليه السلام - في الصوم، وما زال يناقصه حتى قال له: " صم يوما وأفطر يوما، صوم أخي داود - عليه السلام - ".
وكل من لم يزم نفسه في تعبده وأوراده بالسنة النبوية، يندم ويترهب ويسوء مزاجه، ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على نفعهم، وما زال - صلى الله عليه وسلم - معلما للأمة أفضل الأعمال، وآمرا بهجر التبتل والرهبانية التي لم يبعث بها، فنهى عن سرد الصوم، ونهى عن الوصال، وعن قيام أكثر الليل إلا في العشر الأخير، ونهى عن العزبة للمستطيع، ونهى عن ترك اللحم إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي. فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجور والعابد العالم بالآثار المحمدية، المتجاوز لها مفضول مغرور، وأحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل. ألهمنا الله وإياكم حسن المتابعة، وجنبنا الهوى والمخالفة. [السير (تهذيبه) ١/ ٣٣٩].

٢٠٦ * وقيل لرجل بطرسوس: ما هنا أحد تستأنس إليه؟ قال: نعم، قيل: فمن؟ فمد يده إلى المصحف ووضعه في حجره، وقال: هذا. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٦/ ٥٠٩].

٢١٧ * وقال يونس بن عبيد رحمه الله: مالي تضيع لي الدجاجة فأجد لها (١)، وتفوتني الصلاة فلا أجد لها!!. [صفة الصفوة ٣/ ٢٢٠].
* وقال حامد الأسود: كنت مع إبراهيم الخواص رحمه الله في سفر، فدخلنا إلى بعض الغياض، فلما أدركنا الليل إذا بالسباع قد أحاطت بنا فجزعت لرؤيتها وصعدت إلى شجرة، ثم نظرت إلى إبراهيم وقد استلقى على قفاه، فأقبلت السباع تلحسه من قرنه إلى قدميه، وهو لا يتحرك، ثم أصبحنا وخرجنا إلى منزل آخر وبتنا في مسجد فرأيت بقة وقعت على وجه إبراهيم فلسعته، فقال: أخ، فقلت يا أبا إسحاق أي شيء هذا التأوه؟ أين أنت من البارحة؟ فقال: ذاك حال كنت فيه بالله، وهذا حال أنا فيه بنفسي. [صفة الصفوة ٤/ ٣٤٧]

٢٢٨ قال الذهبي : وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه، وصار زاده إلى النار. [السير (تهذيبه) ٢/ ٦٨٧].

٢٣٥ * وعن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال: لولا أني أكره أن يعصى الله، لتمنيت ألا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني! أي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته لم يعمل بها؟!. [السير (تهذيبه) ٢/ ٨١٧].

٢٤٧ * وعن ابن محيريز قال: صحبت فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أوصني رحمك الله، قال: أحفظ عني ثلاث خصال، ينفعك الله بهن؛ إن استطعت أن تعرف ولا تعرف فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تتكلم فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يجلس إليك فافعل. [الحلية (تهذيبه) ٢/ ١٦٨]

٢٥٥ * وقال ابن المبارك رحمه الله: قدمت مكة فإذا الناس قد قحطوا من المطر وهم يستسقون في المسجد الحرام، وكنت في الناس مما يلي باب بني شيبة، إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش، قد ائتزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقه، فصار في موضع خفي إلى جانبي، فسمعته يقول: إلهي أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوىء الأعمال، وقد منعتنا غيث السماء لتؤدب الخليقة بذلك، فأسألك يا حليما ذا أناة، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل، اسقهم الساعة الساعة. قال ابن المبارك: فلم يزل يقول الساعة الساعة حتى استوت بالغمام، وأقبل المطر من كل مكان، وجلس مكانه يسبح، وأخذت أبكي، فلما قام تبعته حتى عرفت موضعه، فجئت إلى فضيل بن عياض، فقال لي: مالي أراك كئيبا؟ فقلت: سبقنا إلى الله غيرنا، فتولاه دوننا، قال: وما
*ذاك؟ فقصصت عليه القصة، فصاح وسقط وقال: ويحك يا ابن المبارك خذني إليه، قلت: قد ضاق الوقت، وسأبحث عن شأنه. فلما كان من الغد صليت الغداة، وخرجت إلى الموضع فإذا شيخ على الباب قد بسط له وهو جالس، فلما رآني عرفني وقال: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن، حاجتك. فقلت له: احتجت إلى غلام أسود، فقال: نعم عندي عدة، فاختر أيهم شئت؟ فصاح يا غلام، فخرج غلام جلد، فقال: هذا محمود العاقبة، أرضاه لك، فقلت: ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج إلي واحدا واحدا حتى أخرج إلي الغلام، فلما أبصرت به بدرت عيناي، فقال: هذا هو؟ قلت: نعم فقال ليس إلى بيعه سبيل، قلت: ولم؟ قال: قد تبركت لموضعه في هذه الدار وذاك أنه لا يزرأني شيئا، قلت: ومن أين طعامه؟ قال: يكسب من قبل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر فهو قوته، فإن باعه في يومه وإلا طوى ذلك اليوم.
وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام هذا الليل الطويل، ولا يختلط بأحد منهم مشغول بنفسه، وقد أحبه قلبي، فقلت له: أنصرف إلى سفيان الثوري وإلى فضيل بن عياض بغير قضاء حاجة؟ فقال: إن ممشاك عندي كبير، خذه بما شئت. قال: فاشتريته وأخذت نحو دار فضيل، فمشيت ساعة، فقال لي: يا مولاي، قلت: لبيك، قال: لا تقل لي لبيك، فإن العبد أولى أن يلبي المولى، قلت: حاجتك يا حبيبي. قال: أنا ضعيف البدن، لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، قد أخرج إليك من هو أجلد مني، فقلت: لا يراني الله وأنا أستخدمك، ولكني أشتري لك منزلا وأزوجك وأخدمك أنا بنفسي، قال: فبكى، فقلت: ما يبكيك؟ قال: أنت لم تفعل في هذا إلا وقد رأيت بعض متصلاتي بالله تعالى، وإلا فلم اخترتني من بين الغلمان؟ فقلت له: ليس بك حاجة إلى هذا، فقال لي: سألتك بالله إلا أخبرتني، فقلت: بإجابة دعوتك، فقال لي: إني أحسبك إن شاء الله رجلا صالحا، إن لله - عز وجل - خيرة من خلقه لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى، ثم قال لي: ترى أن تقف علي قليلا، فإنه قد بقيت علي ركعات من البارحة. قلت: هذا منزل فضيل قريب. قال: لا. ها هنا أحب إلي أمر الله - عز وجل - لا يؤخر فدخل من باب الباعة إلى المسجد فما زال يصلي حتى إذا أتى على ما أراد التفت إلي فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل من حاجة؟ قلت: ولم، قال: لأني أريد الانصراف، قلت: إلى أين؟ قال: إلى الآخرة. قلت: لا تفعل، دعني أسر بك. فقال لي: إنما كانت تطيب الحياة، حيث كانت المعاملة بيني وبينه تعالى فأما إذا اطلعت عليها أنت فسيطلع عليها غيرك فلا حاجة لي في ذلك، ثم خر لوجهه، فجعل يقول: إلهي إقبضني إليك الساعة الساعة. فدنوت منه فإذا هو قد مات. فوالله ما ذكرته قط إلا طال حزني وصغرت الدنيا في عيني. [المنتظم ٨/ ٢٢٣ - ٢٢٥].

٢٦٢ * وقال أبو إسحاق الفزاري لعبد الله بن المبارك رحمهما الله: يا أبا عبد الرحمن كان رجل من أصحابنا جمع من العلم أكثر مما جمعت وجمعت، فاحتضر فشهدته، فقلت له: قل: لا إله إلا الله، فيقول: لا أستطيع أن أقولها!، ثم تكلم فيتكلم، قال ذلك مرتين، فلم يزل على ذلك حتى مات!، قال: فسألت عنه فقيل: كان عاقا بوالديه، فظننت أنه حرم كلمة الإخلاص لعقوقه بوالديه. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٥/ ٣٦٠].

٢٦٨ * وعن ثابت قال: دخلنا على ربيعة بن الحارث رحمه الله نعوده وهو ثقيل، فقال: إنه من كان في مثل حالي هذه ملأت الآخرة قلبه، وكانت الدنيا أصغر في عينه من ذباب. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٤/ ٢٣٩].

٢٧٩ * وقال بعضهم: [عيون الأخبار ٣/ ٦٦].
وما نحن إلا مثلهم غير أننا*...*أقمنا قليلا بعدهم وتقدموا

٢٧٢ * وقال زياد مولى ابن عياش رحمه الله: للصبر اليوم عن معاصي الله خير من الصبر على الأغلال في نار جهنم. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٤/ ٣٠].

٢٧٦ * وكان مالك بن دينار رحمه الله يبكي ويبكي أصحابه، ويقول في خلال بكائه: اصبروا على طاعته، فإنما هو صبر قليل، وغنم طويل، والأمر أعجل من ذلك. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٤/ ٥٣]

٢٨٢ * وعن الأوزاعي أنه قال: حدثني بعض الحكماء قال: خرجت وأنا أريد الرباط، حتى إذا كنت بعريش مصر أو دونه إذا أنا بمظلة، وإذا فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه وبصره، وإذا هو يقول: اللهم إني أحمدك حمدا يوافي محامد خلقك، كفضلك على سائر خلقك، إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا. فقلت: والله لأسألنه أعلمه أم ألهمه، فدنوت منه، فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت له: إني سائلك عن شيء تخبرني به. قال: إن كان عندي منه علم أخبرتك. فقلت: على أي نعمة من نعمه تحمده أم على أي فضيلة تشكره؟ قال: أليس ترى ما قد صنع بي؟ قلت: بلى. قال: فوالله لو أن الله - عز وجل - صب علي السماء نارا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بي، ما ازددت له إلا حبا وشكرا. وإن لي إليك حاجة، قلت: وما هي؟ قال: كان لي من يتعاهدني في وقت صلاتي ويطعمني عند إفطاري، وقد فقدته منذ أمس، انظر لي، هل تحسه لي. فقلت: إن في قضاء حاجة هذا العبد لقربة إلى الله تعالى، فخرجت في طلبه حتى إذا كنت في كثبان من رمل، إذا سبع قد افترس الغلام فأكله، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف آتي هذا العبد الصالح من وجه رقيق فأخبره الخبر لئلا يموت، فأتيته، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت له: إني سائلك عن شيء، أتخبرني به؟ قال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به. قلت: أنت أكرم على الله - عز وجل - منزلة أم أيوب - عليه السلام؟ قال: بل أيوب - عليه السلام - كان أكرم على الله - عز وجل - مني، وأعظم منزلة. فقلت: أليس قد ابتلاه فصبر، حتى استوحش منه من كان يأنس به، وصار غرضا لمرار الطريق؟ فقال: بلى. قلت: إن ابنك الذي أخبرتني من قصته ما أخبرتني، خرجت في طلبه، حتى إذا كنت بين كثبان رمل، إذا أنا بالسبع قد افترس الغلام وأكله. فقال: الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا. ثم شهق شهقة فمات.
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، من يعينني على غسله وتكفينه ودفنه. فبينا أنا كذلك إذا بركب يريدون الرباط، فأشرت إليهم فأقبلوا، فقالوا: ما أنت وهذا؟ فأخبرتهم بالذي كان من أمره، فثنوا رحلهم فغسلناه بماء البحر، وكفناه بأثواب كانت معهم، ووليت الصلاة عليه من بينهم، ودفناه في مظلته تلك، ومضى القوم إلى رباطهم، وبت في مظلته تلك الليلة آنسا به.
فلما مضى من الليل مثل ما بقي، إذا أنا بصاحبي في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائما يتلو الوحي، فقلت: أليس أنت صاحبي؟ قال: بلى. قلت: فما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قال: وردت من الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء.
فقال الأوزاعي: ما زلت أحب أهل ذلك البلاء منذ حدثني الحكيم بهذا الحديث. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٤/ ٣٩، المنتظم ٩/ ٦ - ٨].

٣١٢ * وقال سفيان الثوري رحمه الله: كان المال فيما مضى يكره، فأما اليوم، فهو ترس المؤمن. [السير (تهذيبه) ١/ ٦٩٦].
* وقال أيضا رحمه الله: المال في هذا الزمان سلاح المؤمن. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٧/ ٤٢٠]

٣١٣ * وعن سلام بن سليم قال: قال لي سفيان الثوري رحمه الله: عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال. [الحلية (تهذيبه) ٣٧٠/ ٢، موسوعة ابن أبي الدنيا ٨/ ٢١]

٣٢٧ * وقال عبد الله بن طاهر: كنا عند المأمون يوما فنادي بالخادم: يا غلام، فلم يجبه أحد، تم نادي ثانيا وصاح: يا غلام، فدخل غلام تركي وهو يقول: ما ينبغي للغلام أن يأكل ولا يشرب، كلما خرجنا من عندك تصيح: يا غلام يا غلام، إلى كم يا غلام؟! فنكس المأمون رأسه طويلا، فما شككت أنه يأمرني بضرب عنقه، ثم نظر إلي فقال: يا عبد الله إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت أخلاقه حسنت أخلاق خدمه، وإنا لا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لنحسن أخلاق خدمنا. [المستطرف / ١٦٦]

٣٢٩ (١) ذكر ابن القيم رحمه الله أحد عشر مشهدا للعبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه منها:
أحدها: مشهد القدر، وأن ما جرى عليه: بمشيئة الله وقضائه وقدره، فيراه كالتأذي بالحر والبرد، والمرض والألم، وهبوب الرياح، وانقطاع الأمطار؛ فإن الكل أوجبته مشيئة الله
المشهد الثاني: مشهد الصبر. فيشهده ويشهد وجوبه، وحسن عاقبته، وجزاء أهله، وما يترتب عليه من الغبطة والسرور، ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام، فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة. ويعلم أنه إن لم يصبر اختيارا على هذا وهو محمود، صبر اضطرارا على أكبر منه وهو مذموم.
المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم. فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته: لم يعدل عنه، فإنه ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا كما صح ذالك عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعلم بالتجربة والوجود. وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل.
المشهد الرابع: مشهد الرضا. وهو فوق مشهد العفو والصفح، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة.
المشهد الخامس: مشهد الإحسان. وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيحسن إليه كلما أساء هو إليه. ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه، وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك.
ويهونه عليك أيضا: علمك بأن الجزاء من جنس العمل. فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه، مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك، فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك، يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك، فهذا لابد منه، وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.
المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب. وهذا مشهد شريف جدا لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الثأر، وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبونا.
المشهد السابع: مشهد الأمن. فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام: أمن ما هو شر من ذلك.
المشهد الثامن: مشهد الجهاد. وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإقامة دين الله، وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام: قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن، فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله.
فمن قام لله حتى أوذي في الله: حرم الله عليه الانتقام، كما قال لقمان لابنه {يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان: ١٧]. المشهد التاسع: مشهد النعمة. وذلك من وجوه:
أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوما يترقب النصر ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ، فلو خير العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما لاختار أن يكون مظلوما.
ومنها: أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه.
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها، فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر، فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده، وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهينة، وأنها في الحقيقة نعمة. والمصيبة الحقيقية: مصيبة الدين.
ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة. وفي بعض الآثار: أنه يتمنى أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء.
هذا، وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يعد هذا ذخرا ليوم الفقر والفاقة، ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا.
المشهد العاشر: مشهد الأسوة. وهو مشهد شريف لطيف جدا، فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه، وخاصته من خلقه؛ فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس، وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور.
المشهد الحادى عشر: مشهد التوحيد. وهو أجل المشاهد وأرفعها فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والأنس به واطمأن إليه = وسكن إليه إلى لقائه واتخذه وليا دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضى به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه: فإنه لا يبقى فى قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة، فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة. فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه، فهو قلب جائع غير شبعان فإذا رأى أى طعام رآه هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه. وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها: فإنه لا يلتفت إلى ما دونها {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الحديد: ٢١]. انتهى. . ا. هـ بتصرف. [مدارج السالكين ٣/ ٩٥ - ١٠٢]

٣٣٢ * وجعل رجل جعلا لرجل على أن يقوم إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يسأله عن أمه، فقام إليه وهو يخطب على منبر تنيس، فقال له: أيها الرجل أخبرنا من أمك؟ فقال: كانت امرأة من عنزة أصيبت بأطراف الرماح فوقعت في سهم الفاكه بن المغيرة فاشتراها أبي فوقع عليها، انطلق وخذ ما جعل لك على هذا. [عيون الأخبار ١/ ٣٢٧]

٣٣٥ * وكان يقال: إياك وعزة الغضب فإنها مصيرتك إلى ذل الاعتذار. [عيون الأخبار ١/ ٣٣٥].

٣٣٥ * وشكا رجل إلى أبي مسلم الخولاني رحمه الله ما يلقى من الناس من الأذى، فقال له أبو مسلم: إن تناقد الناس يناقدوك، وإن تتركهم لا يتركوك، وإن تفر منهم يدركوك، قال: فما أصنع؟ قال: هب عرضك ليوم فقرك، وخذ شيئا من لا شيء، يعني الدنيا. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٧/ ٥٣٨]

٣٤٠ * وقال مورق العجلي رحمه الله: ما غضبت غضبا قط، فكان مني فيه ما أندم عليه إذا سكن غضبي. [الحلية (تهذيبه) ١/ ٣٧٤]

٣٥٨ وقول مورق رحمه الله: قد دعوت الله بحاجة منذ أربعين سنة فما قضاها لي فما يئست منها،

٣٧٧، * ومر الحسن رحمه الله برجل يقلب درهما، فقال له: أتحب درهمك هذا؟ قال: نعم، قال: أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك. [عيون الأخبار ٣/ ١٨٢]

٣٩٠*وعن سليمان الشاذكوني رحمه الله قال: جاءني محمد بن مسلم بن واره (١) فقعد يتقعر في كلامه. قال: قلت له: من أي بلد أنت؟ قال: من أهل الري، ثم قال: أو لم يأتك خبري، أولم تسمع بنبأي؟ أنا ذو الرحلتين، قلت: من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن من الشعر حكمة، وإن من البيان سحرا "؟ قال: فقال: حدثني بعض أصحبنا قال: قلت: من أصحابك؟. قال: أبو نعيم، وقبيصة. قال: قلت: يا غلام، ائتني بالدرة، قال: فأتاني الغلام بالدرة فأمرته فضربه خمسين، فقلت: أنت تخرج من عندي ما آمن تقول حدثنا بعض غلماننا. [المنتظم ١٢/ ٢٠٥]

٣٩٤ * وقال حذيفة المرعشي رحمه الله: لو جاءني رجل فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو يا حذيفة ما عملك عمل من يؤمن بيوم الحساب، لقلت له: يا هذا لا تكفر عن يمينك فإنك لا تحنث. [الحلية (تهذيبه) ٣/ ٦٤].

٤٠١ * وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء، قالوا لسفيان: كيف ذاك؟ قال: يراهم يعملون بالمعاصي فلا يغير عليهم، ويلقاهم بوجه طلق. [الحلية (تهذيبه) ٢/ ٣٨٤].

٤١١ * وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: اختلفوا علينا في الزهد بالعراق، فمنهم من قال: الزهد في ترك لقاء الناس، ومنهم من قال: في ترك الشهوات، ومنهم من قال: في ترك الشبع، وكلامهم قريب بعضه من بعض، قال: وأنا أذهب إلى أن الزهد في ترك ما يشغلك عن الله - عز وجل. (١) [الحلية (تهذيبه) ٣/ ١٨٣].

٤١٣ (١) ذكر ابن القيم رحمه الله عدة أمثلة تبين حقيقة الدنيا, أكتفي بثلاثة أمثلة, قال رحمه الله:

المثال الخامس عشر: رجل هيأ دارا وزينها ووضع فيها من جميع الآلات ودعا الناس إليها: فكلما دخل داخل أجلسه على فراش وثير وقدم إليه طبقا من ذهب عليه لحم، ووضع بين يديه أوان مفتخرة فيها من كل ما يحتاج إليه وأخدمه عبيده فاستمتع بتلك الآلات والضيافة مدة مقامه في الدار، ولم يعلق قلبه بها ولا حدث نفسه بتملكها، بل اعتمد مع صاحب الدار ما يعتمده الضيف يجلس حيث أجلسه، ويأكل ما قدمه له ولا يسأل عما وراء ذلك اكتفاء منه بعلم صاحب الدار وكرمه وما يفعله مع ضيوفه، فدخل الدار كريما وتمتع فيه كريما وفارقها كريما، ورب الدار غير ذام له وأما الأحمق، فحدث نفسه بسكني الدار وحوز تلك الآلات إلى ملكه وتصرفه فيها بحسب شهوته وإرادته، فتخير المجلس لنفسه وجعل ينقل تلك الآلات إلى مكان في الدار يخبؤها فيه، وكلما قدم إليه ربها شيئا أو آلة حدث نفسه بملكه واختصاصه به عن سائر الأضياف، ورب الدار يشاهد ما يصنع وكرمه يمنعه من إخراجه من داره حتى إذا ظن أنه قد استبد بتلك الآلات وملك الدار وتصرف فيها وفي آلاتها تصرف المالك الحقيقي واستوطنها واتخذها دارا له أرسل إليه مالكها عبيده فأخرجوه منها إخراجا عنيفا وسلبوه كل ما هو فيه ولم يصحبه من تلك الآلات شيء وحصل على مقت رب الدار له وافتضاحه عنده وبين مماليكه وحشمه وخدمه فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل فإنه مطابق للحقيقة والله المستعان.
المثال السادس عشر: قوم سلكوا مفازة فاجأهم العطش فانتهوا إلى البحر وماؤه أمر شيء وأملحه فلشدة عطشهم لم يجدوا طعم مرارته وملوحته فشربوا منه فلم يرووا، وجعلوا كلما ازداد شربا ازدادوا ظمأ حتى تقطعت أمعاؤهم وماتوا عطشا، وعلم عقلاؤهم أنه مر مالح وأنه كلما ازداد الشارب منه ازداد ظمؤه فتباعدوا عنه مسافة حتى وجدوا أرضا حلوة فحفروا فيها قليبا فنبع لهم ماء عذب فرات فشربوا وعجنوا وطبخوا ونادوا إخوانهم الذين على حافة البحر: هلموا إلى الماء الفرات، وكان منهم المستهزئ، ومنهم المعرض الراضي بما هو فيه، وكان المجيب واحدا بعد واحد. وهذا المثل بعينه قد ضربه المسيح عليه السلام فقال: (مثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر كلما ازاداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله).

المثال السابع عشر: مثل الإنسان ومثل ماله وعشيرته وعمله مثل رجل له ثلاثة إخوة فقضى له سفر بعيد طويل لابد له منه، فدعا إخوته الثلاثة وقال: قد حضر ما ترون من هذا السفر الطويل وأحوج ما كنت إليكم الآن، فقال أحدهم: أنا كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست بأخ ولا صاحب وما عندي غير هذا، فقال له: لم تغن عني شيئا، فقال للآخر: ما عندك؟ فقال: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك وتركب راحلتك ومن هنالك لست لك بصاحب، فقال له: أنا محتاج إلى مرافقتك في مسيري، فقال: ما عندك أنت؟ فقال: كنت صاحبك في صحتك ومرضك وأنا صاحبك الآن وصاحبك إذا ركبت راحلتك وصاحبك في مسيرك فإن سرت سرت معك وإن نزلت نزلت معك وإذا وصلت إلى بلدك كنت صاحبك فيها لا أفارقك أبدا, فقال: إن كنت لأهون الأصحاب علي وكنت أوثر عليك صاحبيك فليتني عرفت حقك وآثرتك عليهما. فالأول: ماله، والثاني: أقاربه وعشيرته وأصحابه، والثالث: عمله.

٤١٥ * وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا معشر المهاجرين، لا تكثروا الدخول على أهل الدنيا، فإنه مسخطة للرزق. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٤/ ٩٣].
* وقال - رضي الله عنه -: نظرت في هذا الأمر فجعلت إذا أردت الدنيا أضر بالآخرة، وإذا أردت الآخرة أضر بالدنيا، فإذا كان الأمر هكذا فأضروا بالفانية. [الحلية (تهذيبه) ١/ ٨٠].

٤١٧ * وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ملك الموت إلى نوح، فقال: يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتا له بابان، فقام وسط البيت هنية، ثم خرج من الباب الآخر. [موسوعة ابن أبي الدنيا ٥/ ١١٧].

إذا الرجال ولدت أولادها*...*وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها*...*تلك زروع قد دنا حصادها

٤١٧ * وقال أبو حازم رحمه الله: عجبا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة، ويدعون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة!. [صفة الصفوة ٢/ ٤٩٤].