لما كثر العناد والجدال في كثير من مسائل العلم بغير حق في هذا الزمن – إلا من رحم الله- ، وترى كثيرا من المتعالمين إذا نبه إلى خطئه ، أو أعيته النصوص والآثار عن الأئمة ، تراه يزمجر ، ويأنف عن الرجوع إلى الحق والاعتراف بالخطأ، أحببت أن اورد مجموعة من الوقائع – عسى الله أن ينفعنا بها جميعا- التي تدل على سمو أخلاق علمائنا ، وحرصهم على الرجوع إلى الصواب ، وأنفتهم من الاستمرار في الخطأ والعناد ، لأن معرفة الحق هو ضالتهم.
وهذه الوقائع ذكرها الشيخ التويجري في أحد كتبه ، ومنه استفدت في نقلها.
فمن ذلك ما رواه ابن عبد البر في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: «سأل رجلٌ عليّاً رضي الله عنه عن مسألة؟ فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين! ولكنْ كذا وكذا. فقال عليٌ رضي الله عنه: أصبت وأخطأت، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَليمُ}.
ومن ذلك ما ذكره ابن عبد البر عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي حسين؛ قال: «اختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في الحائض تنفر؟ فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، فقال ابن عباس لزيد: سَلْ نُسَيَّاتك (1) أم سليمان وصويحباتها، فذهب زيد، فسألهنَّ، ثم جاء وهو يضحك، فقال: القولُ ما قلت».
ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر عن عبد الرحمن بن مهدي؛ قال: «ذاكراتُ عبيد الله بن الحسن القاضي بحديث وهو يومئذٍ قاضٍ، فخالفني فيه، فدخلتُ عليه وعنده الناس سماطين، فقال لي: ذلك الحديث كما قلتَ أنتَ، وأرجع أنا صاغراً».
وقد روى هذه القصة الخطيب البغدادي في «تاريخه» بإسناده إلى عبد الرحمن بن مهدي؛ قال: «كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن، وهو على القضاء، فلمَّا وضع السرير؛ جلس، وجلس الناس حوله»، قال: «فسألته عن مسألة، فغلط فيها، فقلت: أصلحك الله، القول في هذه المسألة كذا وكذا؛ إلا إني لم أرد هذه، إنما أردت أن أرفعك إلى ما هو أكبر منها، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: إذاً أرجع وأنا صاغر، إذاً أرجع وأنا صاغر؛ لأن أكون ذَنَباً في الحق أحبُّ إليَّ من أن أكون رأساً في الباطل».
قال ابن عبد البر: وأخبرني غير واحد عن أبي محمد قاسم بن أصبغ؛ قال: «لما رحلت إلى المشرق؛ نزلت القيروان، فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدَّد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيتُ الناس، فلما انصرفتُ؛ عدتُ إليه لتمام حديث مسدَّد، فقرأتُ عليه فيه يوماً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قدم عليه قومٌ من مُضر مجتابي النِّمار»، فقال لي: إنَّما هو مجتابي الثمار، فقلت له: إنما مجتابي النِّمار؛ هكذا قرأته على كل من قرأت عليه بالأندلس وبالعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا! أو نحو هذا، ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ - لشيخ كان بالمسجد -؛ فإن له بمثل هذا علماً، فقمنا إليه، وسألناه عن ذلك؟ فقال: إنما هو مجتابي النِّمار كما قلتَ، وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشقَّقة جيوبهم أمامهم، والنمار جمع نمرة، فقال بكر بن حماد - وأخذ أنفه -: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق، وانصرف».
ومن ذلك ما جاء في قصة عجيبة في التواضع والاعتراف بالخطأ على رؤوس الملأ، وبالفضل لمن حصل منه التنبيه على الخطأ، وقد ذكر هذه القصة الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه «المسائل الكافية»، فقال ما نصه: «المسألة السابعة والخمسون»: ينبغي لأهل الفضل أن يقدروا قدر من له قدر، ويعرفوا الفضل لأهله، ولا يبخسوا الناس مقاماتهم، ويترفَّعوا عليهم بالإفك والبهتان، انظر هذه المسألة، وتأمَّل فيها؛ تعرف الفرق بين أهل زماننا وبين من مضى زمنهم.
قال العلامة ابن العربي في «أحكامه»: أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة، قال: وصلت الفسطاط، فجئت مجلس أبي الفضل الجوهري، فكان ممَّا قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى]. فلما خرج؛ تبعته حتى بلغ منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز، وعرفهم غيري؛ فإنه رأى شارة الغربة، فلما انفضَّ عنه أكثرهم؛ قال لي: أراك غريباً، هل لك من كلام؟ قلت: نعم؛ قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه، فقاموا، فقلتُ له: حضرتُ المجلس متبركاً بك، وسمعتُك تقول: «آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وصدقت، و «طلَّق»، وصدقت، و «ظاهر»، ولم يكن، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول، وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، فضمَّني إلى نفسه، وقبَّل رأسي، وقال: أنا تائب من ذلك، جزاك الله من معلم خيراً.
ثم انقلبتُ عنه، وبكرتُ في الغد إليه، فألفيتُه قد جلس على المنبر، فلما دخلتُ الجامع ورآني؛ ناداني بأعلى صوته: مرحباً بمعلمي، أفسحوا لمعلِّمي، فتطاولت الأعناق إليَّ، وتحدَّقت الأبصار نحوي، وتعرفُني يا أبا بكر «يشير إلى عظيم حيائه؛ فإنه كان إذا سلم عليه أحدٌ أو فاجأه بكلام؛ خجل، واحمرَّ كأن وجهه طلي بجلنار ».
قال: وتبادر الناس إليَّ يرفعونني على الأيدي، ويتدافعونني، حتى بلغت المنبر، وأنا لعظيم الحياء، لا أعلم في أي بقعة أنا، والجامع غاصٌّ بأهله، وأسال الحياء بدني عرقاً، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي، لمَّا كان بالأمس؛ قلتُ لكم كذا وكذا، فما كان أحدٌ منكم فقه عني ولا ردَّ عليَّ، فاتبعني إلى منزلي، وقال لي كذا، وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب من قولي بالأمس، راجع عنه إلى الحق، فمَن سمعه ممَّن حضر؛ فلا يعود إليه، ومَن غاب؛ فليبلغه مَن حضر، فجزاه الله خيراً، وجعل يحتفل لي في الدعاء والخلق يؤمِّنون.
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين، والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ، من رجل ظهرت رياسته واشتهرت نفاسته، لغريب مجهول العين، لا يعرف مَن هو ولا من أين، واقتدوا به؛ ترشدوا» انتهى.
علق الشيخ التويجري على هذا النص الأخير بقوله:" ما أعظم الفرق بين ما فعله أبو الفضل الجوهري مع الرجل الذي نبَّهه على خطئه وبين أفعال بعض المنتسبين إلى العلم في زماننا؛ فإن بعضهم إذا نبَّهه بعض العلماء على خطئه؛ اشمأزَّ، وتحامل على الذي نبهه، ورماه بالجهل والتعصب وغير ذلك مما يرى أنه يشينه، ولا شكَّ أنَّ هذا من الكبر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكبر: بطر الحق، وغمط الناس».
«بطر الحق»: رده، و «غمط الناس»: احتقارهم.
ومن أعظم ما يُبْتَلى به المرء: إعجابه بنفسه، وترفُّعه على أقرانه وبني جنسه".
فرحم الله الشيخ التويجري على هذا الكلام النافع ، الذي حق له أن يكتب بماء الذهب كما يقال.