.... ومما يجدر ذكره هو أن الشبان الذين شاركوا في الشغب والتخريب هم الفاشلون في الدراسة والناقصون في التربية، والفارغوا قلوبهم من الدين والمنتمون إلى الإسلام شكلا ومظهرا، والعاطلون عن العمل، بينما الفئة المتدينة التزمت بيوت الله وداومت على عبادة الله واستنكرت ما يقوم به إخوانهم في الوطن من تخريب وتدمير وتحريق مؤسسات أنفسهم، وأعمدة كهربائهم، وقلع بلاط شوارع مدينتهم.



وقد فكرت طائفة منهم في الدخول معهم ومنعهم بالقوة ولو أدى ذلك إلى صراع معهم لو لا أن نصحهم ناصح عاقل بإبطال المبادرة خشية أن تنقلب كفة التهمة إليهم لأنهم بجلابيبهم ولحاهم متهمون!!



وكنت أنتظر كلمة نداء من زعماء أحزابهم بالكف عن المساس بمرافق الدولة، والمحافظة على الوحدة الوطنية، وعدم إثارة النعرات الجاهلية وعلى الأقل الاكتفاء بالتنديد عما لحق بالمحيط من وحشية في التخريب، وخصوصا من زعيم الحزب العريق الذي يقال عنه أنه يعرف أكثر من عشرين لغة والذي لا يزال يثير المشاغب من الستينات إلى اليوم ومن المنفى وهو يسعى إلى تحقيق المصالح الشخصية أكثر منها مصالح وطنية، وكل ذلك لم يكن ولن يكون إن شاء الله.



والأدهى من هذا أن يتطاول وينذر كل من يمسهم بسوء بأنه سيستعدي عليهم من يتدخل لحمايتهم ولو أدى إلى إنزال العلم الوطني.

ولا غرابة أن من يعيش على صدقات اليهود والنصارى ويحتمي بهم في دار كفرهم ويتبنى أفكارهم ومنهجهم يسير عليه أن يواليهم ويستنجد بهم وعسير علينا أن نقف مكتوفي الأيدي ولا نحرك ساكنا، ولا تنقصنا الجرأة أن نسم من يستعين بالكافر على المسلم بأنه خائن حلال الدم.

ولا عجب أيضا أن تجد فرنسا فرصة لتفصح عن نيتها السيئة بإبطال التعريب الإداري في الجزائر ولو بالطائرات، وما كانت لتتجرأ على مثل هذا الكلام في عهد بومدين، ولا كان مثل هذا التصريح أن يتوقح به قائله لو لا تأكيده على وجود من تعتمد عليهم فرنسا في الداخل من الطابور الخامس أمثال (بيتان Petain) الجزائري.



وليعلم أخي البربري أن فرنسا تترس بالأمازيغيين المستغربين لتحقيق مصالحها الذاتية لا غير، فإذا ما تعارضت الأمازيغية مع الفرنسية في عقر دار الأمازيغي، فإنها تكشر عن أنياب الغدر وتدير ظهرها لكل ما هو ليس من مصلحتها وأهدافها.

وإذا رجعنا إلى التاريخ أيام البرابرة الأقحاح نستنطقه، ونفتش عن اللغة التي يستخدمها الكتاب والمفكرون في كتاباتهم وتأليفهم لا نجد أي أثر لكتاب ذي بربرية أصلية.



فهذا القديس أوغسطين البربري الروماني الثالوثي كان يكتب مؤلفاته باللاتينية المسيحية ولم يحاول استنهاض عبقريته وشحذ قريحته لتطوير بربريته وترقيتها قواعد وحروفا.

وربما كان يربأ بنفسه أن يتكلم بها في الأوساط العامة تأففا واحتقارا لأنها لغة الشعب المغلوب المتخلف، ويتحذلق بلغة الدخيل المحتل ويعلى من قدرها، ويعتز بالكتابة بها ولا يلتفت إلى لغة شعبه كوطني غيور يروم العزة والمجد لبلده.



ومن المعروف أن المفكر الكاتب يجادل بالقلم ويخاصم بالفكرة ويبرهن على رأيه بالحجة مع احترام من هو من دمه من أبناء الوطن. ولكن هذا الرجل الموسوم بالقديس لما رأى أن آراءه مردودة، وحجته مدحوضة احتكم إلى العصا وعندما أدرك أن عصاه لا تقاوم استعان بهراوة المحتلين على قهر خصوم بني جلدته من (الدوناسيين) المعتدلين الموحدين فأصبح في نظر الشعب من الخائنين وفي نظر الغرب الوثني ومن لف لفهم من المستغربين من القديسين.

وتلك سنة سيئة سنها هذا القديس المزعوم وسار على منوالها أحفاده من المقدسين لكل ما هو غربي لغة وسلوكا وفكرا، ومحتقرين لكل ما هو شرقي عربي إسلامي، والحمد لله هم قليلون .



أما ظاهرة الارتداد عن الإسلام فإنها في أيام الكفر الفرنسي كانت محصورة على طائفة محدودة من طبقة المترفين في المدن، ومن تربى على يد القسيسين في المدارس التنصيرية المتواجدة عبر بعض القرى والمداشر.

وعلى الرغم مما بذل من جهود وأموال وترغيب وترهيب من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من المرتدين، ووضع خطة إستراتيجية محكمة تقضي بتنصير منطقة القبائل كلها، إلا أن كيده ومكره عاد إليه بالفشل والخسران.



وعند الاستقلال لا يكاد يجرؤ أحد على التمرد على الإسلام جهرا رغم السياسة الخرقاء المتبعة في الجهاز الحكومي وظل الشعب الجزائري العربي المسلم ملتفا حول دينه، ومعتزا بعقيدته محترما لقداسته وعروبته إلى أن برز حزب ملحد زنديق يتستر وراء العلمانية ويدعوا باسم حرية الرأي والتعبير إلى التحرر من عبودية العروبة والإسلام.

وما كان لهذه الدعوة المسمومة أن تجد أرضا قابلة للغرس، ويؤثر صداها في الآذان في منطقة معروفة بالتمسك بالإسلام عقيدة ومنهجا من بداية دخول العرب الفاتحين إلى شمال أفريقي، وحتى إبان الكفر الفرنسي لولا تهاون الحكام وتعاضيهم عمن يسيء إلى الإسلام وتواطؤهم بالسكوت عن معلول الهدم التي يشنها الملحدون في الصحافة وغيرها، وبكم وزارة الشؤون الدينية في الرد على الشبهات التي تثار هنا وهناك قصد إثارة البلبلة في نفوس الشباب وضعفاء الإيمان، لأن الزواوي ينظر إلى الرومي على أنه كافر نجس يجب الاحتراز عنه، والقلوب كلها تكرهه وتلعنه، واللغة العربية محترمة في النفوس وإن قل متكلموها والإسلام معزز وأن عز تطبيق منهجه، بحيث إذا سمعت أحدا يتكلم بالعربية الفصحى يقولون عنه أنه يتكلم بكلام الله, ويدور الزمن ويصبح الكافر وبلده ملجأ الهاربين والفاشلين من المسلمين.

وانتشار الزوايا والمعمرات على ضآلة موردها الثقافي وسيطرة الشعبذة والخرافات على عقول الطلاب واكتفاء بحفظ القرآن الكريم كانت بمثابة حصن تتحطم عليه معاول الكفر الفرنسي. وكانت هذه الزوايا يقصدها الطلاب من مختلف جهات الوطن، وقد تخرج منها شيوخ توزعوا عبر جبال الزواوة يدعون إلى التمسك بالإسلام رغم ضعف دائرة معارفهم التي لا تتجاوز حفظ القرآن وشيئا من الطهارة والصلاة والصيام. ومع انتشار مراكز التنصير في القرى القريبة من هذه الزوايا قصد تكوين نفر يحاذونها والتجسس على ما يدرس فيها، ومعرفة مدى التأثير في المنتسبين إليها وما تبثه من الوعي الوطني.



ما الذي جعل الزواوي يتنكر لأصالته ويتمرد على ما درج عليه آباؤه وأجداده ويعادى ما دان عليه أسلافه وإخوته من بني جلدته ويحالف من كان يسوم بالأمس أبناء وطنه سوء العذاب والهوان، ويحابى أعداء ملته، ويصادق من كان يتآمر ولا يزال يعرقل تقدم بلده ثقافيا واقتصاديا وتكنولوجيا، وكان سبب هذا التمزق الذي لا يزال يعانيه إلى اليوم؟ يعود ذلك إلى جملة أسباب.



أولا: ظهور بعض الأحزاب التي كان أصحابها ومؤسسوها يضمرون الحقد والعداوة للغة العربية والإسلام ولم تتح لهم فرصة الوصول إلى كرسي الحكم لتكريس أفكارهم المسمومة في المجتمع الذي لا يزال يعيش أفراح الاستقلال وما قدمه الشهداء من تضحيات في سبيل أن يعيش الشعب الجزائري العربي المسلم حرا كريما آمنا في سربه ومعافى في مجتمعه وعنده حاكم من بني ملته ودينه ولغته.



وعندما أحست بعض الأحزاب التي تأسست فيما بعد بأن أهل الحل والعقد لا ينفذون ما قطعوه على أنفسهم باليمين الدستوري لحماية الإسلام وتمجيده ورد هجمات الحاقدين وكيد الملحدين، والتنويه به في الملتقيات السياسية والتجمعات الوطنية أدركت بحسها الماكر أن الفرصة مواتية لها، ونادت بالتخلي عن كل ما هو عربي إسلامي وفتح أبواب الحرية لكل رأي وفكر ودين ولا يتعرض له أحد بسوء.

والعلمانيون والشيوعيون ـ لا قدر الله ـ لو تتاح لهم فرصة الحكم لفتحوا الباب على مصراعيه لقوانين أكلة الخنازير, ولسحقوا ما بقي من رائحة الإسلام في قانون الأسرة الجزائري وهم يسعون جاهدين لجعل الجزائر مملكة لما وراء البحار.



ثانيا: ضعف الوارع الديني والأخلاقي في الأسرة والمدرسة.

فأسرة جيل الاستقلال في منطقة الزواوة غالبيتها يعشش في ساحتها الجهل والعوائد السيئة والخرافات التي تتنافى والإسلام ولا تزال. وهذا الجيل ترعرع في حضن جهل الأبوين دينا وتعليما، وهو يكبر يصطدم بالتناقض الذي يلمسه بين المعلومات النظرية المدرسية وبين ما يشاهده في الواقع المعيش.

وفي غياب الدين عائليا ومدرسيا قضى الشباب زهرة عمره تحت حكم العوائد التي لا تثبت أمام الاحتكام إلى المنطق والعقل, فضلا عن انتسابها إلى الإسلام.



والمدرسة الوطنية لم تزوده بما يحصن شخصيته من الذوبان ولم تقدم له ما يملأ فراغه الروحي من خلال البرنامج التعليمي، وهو في هذه المرحلة أحوج ما يكون إلى ما يحمى عقله وروحه من التحلل والتذبذب والتناقض، لأن أساتذته في المرحلة الثانوية خصوصا فضلا عن الجامعة خليط من أجناس مختلفة، من فرنسي صليبي، إلى شيوعي ملحد, إلى يهودي عنصري متستر، إلى مشرقي بعثي وقومي واشتراكي وكل هؤلاء يتناوبون على قطعة العجين يقلبها من جديد كيف يهواه، وكل واحد يترك بصمته في عقول أبناء الاستقلال.



ونحن نغرس وهم يقلعون ونبني وهم يهدمون، ونصحح وهم يزيفون وأصبح عقل التلميذ حقلا للتجربة وتلاقح الأفكار، فتولد من هذه التناقضات الفكرية المتصارعة جيل منهم صالحون، وقليل منهم طالحون وهم اللائكيون الملحدون.



يتبع ....

http://www.merathdz.com/play.php?catsmktba=1707