اتضح لنا عند ذكر واجبات الإمام عظم المسئولية الملقاة على عاتقه، ومنها محاربته للفساد والمفسدين، وهذه تجعله في خطر منهم، لذلك فعلى الأمة أن تقوم بجانبه وتساعده على نوائب الحق، ولا تُسْلِمُه لأعدائه المفسدين سواء كانوا داخل الدولة الإسلامية أو خارجها، يدل على ذلك ما يلي:

1- قول الله عز وجل: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.. .[المائدة: 2]
ولا شك أن معاضدة الإمام الحق ومناصرته من البر الذي يترتب عليه نصرة الإسلام والمسلمين.

2- يدل على ذلك أيضًا ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر...)) الحديث (1)

قال أبو يعلى: (وإذا قام الإمام
بحقوق الأمةوجب له عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة)
(2)


ولذلك شرع قتال أهل البغي إذا بدؤوا بقتال الإمام العادل بدون تأويل سائغ، كما شرع حد الحرابة في قوله تعالى
:
إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ...[المائدة: 33]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا طلبهم - أي المحاربين - السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم)
(3)



وللموضوع تفصيلات كثيرة مذكورة في كتب الفقه ليس هذا مقام تفصيلها.

كما أن على المسلمين احترام الإمام العادل وتقديره والدعاء له وعدم إهانته حتى يكون له مهابة عند ضعاف النفوس، فيرتدعون عما تمليه عليهم عواطفهم وشهواتهم يدل على ذلك ما يلي:

1- ما روي عن زياد بن كسيب العدوي قال: ((كنت مع أبي بكرة - رضي الله عنه - تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق، فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)) (4)

2- وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) (5) .

وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا)
(6)..
وقال الفضيل بن عياض: (لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد) (7)

وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: (لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم) (8)

هذا بشرط أن يكون الإمام من أئمة العدل، أما أئمة الجور والفسق فلا يعانون على فسقهم وظلمهم،

وقد قال مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن القاسم أنه قال: (
إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذب عنه والقتال معه، وأما غيره فلا، دعه وما يراد منه ينتقم الله من الظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما) (9)

بل إذا رأى المسلم أنه لا فائدة من الدخول عليهم ومناصحتهم أو خاف على نفسه فتنتهم فعليه اعتزالهم، وترك الدخول عليهم، والحذر من موافقتهم على باطل، يدل على ذلك ما يلي:

1- حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليَّ الحوض))(10)

قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: (ليت شعري من الذي يدخل إليهم اليوم فلا يصدقهم على كذبهم، ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم، ومن الذي ينصح ومن الذي ينتصح منهم؟ إن أسلم لك يا أخي في هذا الزمان وأحوط لدينك أن تقل من مخالطتهم وغشيان أبوابهم ونسأل الله الغنى عنهم والتوفيق لهم) (11)

وهذا في القرن الرابع الهجري فما بالك بالخامس عشر!!!

2- ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قربًا إلا ازداد من الله بعدًا)) (12)

3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((... وإن أبغض القراء إلى الله الذي يزورون الأمراء))
(13)

4- وروي عن حذيفة رضي الله عنه قال: (إياكم ومواطن الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه)
(14
وقال خالد بن زيد: سمعت محمد بن علي - الباقر - يقول: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إذا رأيتم القارئ يحب الأغنياء فهو صاحب دنيا وإذا رأيتموه يلزم السلطان فهو لص) (15)

وقال أبو ذر لسلمة: (يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم شيئًا إلا أصابوا من دينك أفضل منه) (16)


وقال سعيد بن المسيب: (لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار بقلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة) (17)


وروى الإمام أحمد عن معمر بن سليمان الرقي عن فرات بن سليمان عن ميمون بن مهران قال: (ثلاث لا تبلون نفسك بهن، لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأة وإن قلت أعلمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك إلى ذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك من هواه) (18)


والمراد من كل ما سبق هم سلاطين الجور والظلم، والنهي عن مخالطتهم وإتيانهم بقصد التقرب إليهم وحصول شيء من دنياهم. وإعانتهم على ظلمهم قد تكون بمجالستهم ومؤازرتهم، وقد تكون بتبرير أخطائهم، بل قد تكون بالسكوت عنهم وعدم إنكار المنكر عليهم،

وتكون بالدعاء لهم كما قيل: (
من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه) (19)

قال ابن تيمية: (وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم ولو أنه لاق لهم دواة أو برى لهم قلمًا. ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم، وأعوانهم هم أزواجهم المذكورون في الآية) (20) .
يقصد قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ...[الصافات: 22]

أما الدخول عليهم على سبيل النصح لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فهذا باب آخر... كما أن خلفاء المسلمين العدول تجب مناصحتهم ومؤازرتهم ومشاركتهم في الرأي، وقد كان القراء هم أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته
(21)
وقد عقد الغزالي في (إحياء علوم الدين) بابًا فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم، وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم. فقال: (اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال

(الحالة الأولى) وهي: شرها أن تدخل عليهم.
(والثانية) وهي: دونها أن يدخلوا عليك.
(والثالثة) وهي: الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك...)
(22)
قال:

(ولا يجوز الدخول إلا بعذرين:

أحدهما: أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام، وعلم أنه لو امتنع أُوذِي أو (فسد) (23عليهم طاعة الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة، فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية.

والثاني: أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه أو عن نفسه، إما بطريق الحسبة، أو بطريق التظلم فذلك رخصة بشرط ألا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولاً، فهذا حكم الدخول) (24) .

ويضاف إلى ما سبق أمر آخر وهو:
الثالث: الدخول عليهم بقصد مناصحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما دل عليه الحديث: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) (25)

وقد كان من شدة ورع بعض السلف رضوان الله عليهم أن نهوا عن الدخول عليهم ولو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وقد كان كثير من السلف ينهون عن الدخول على الملوك لمن أراد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أيضًا. وممن نهى عن ذلك عمر بن عبد العزيز، وابن المبارك، والثوري وغيرهم من الأئمة. وقال ابن المبارك: ليس الآمر الناهي من اعتزلهم، وسبب هذا ما يخشى من فتنة الدخول عليهم فإن النفس قد تخيل للإنسان إذا كان بعيدًا عنهم أنه يأمرهم وينهاهم ويغلظ عليهم، فإذا شاهدهم قريبًا مالت النفس إليهم، لأن محبة الشرف كامنة في النفس له ولذلك يداهنهم ويلاطفهم وربما مال إليهم وأحبهم ولا سيما إن لاطفوه وأكرموه وقبل ذلك منهم)
(26)

قال: وقد جرى ذلك لعبد الله بن طاوس مع بعض الأمراء بحضرة أبيه طاوس فوبَّخَهُ على فعله ذلك، وكتب سفيان الثوري إلى عبَّاد بن عبَّاد وكان في كتابه:

(إياك والأمراء أن تدنو منهم أو تخالطهم في شيء من الأشياء، وإياك أن تخدع ويقال لك: لتشفع وتدرأ عن مظلوم أو ترد مظلمة، فإن ذلك خديعة إبليس، وإنما اتخذها فجار القراء سلمًا، وما كفيت عن المسألة والفتيا فاغتنم ذلك ولا تنافسهم، وإياك أن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله، أو ينشر قوله أو يسمع قوله، فإذا ترك ذلك منه عرف فيه، وإياك وحب الرياسة، فإن الرجل يكون حب الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو: باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة فتفقد بقلب واعمل بنية، واعلم أنه قد دنا من الناس أمر يشتهي الرجل أن يموت والسلام)


https://dorar.net/aqadia/4048