كيف تذاكر متنًا فقهيًّا مذهبيًّا ...
للشيخ محمد سالم بحيري

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ،
أما بعدُ ؛ فهذه نصائح في مذاكرة المتون الفقهية المذهبية ،
وهي نصائح أولية ، ومراحل ضبطية .

أما النصائح الأولية :
أولًا : لا تشرع في متن إلا إذا كان يناسب مستواك ، فكثير من الطلبة يريد أن يقرأ كتابًا واحدًا في المذهب فيصير إمام الزمان ، فلا تكن منهم ، وائتِ البيوت من أبوابها .

ثانيًا : إذا كان المتن منظومًا ومنثورًا فالأفضل لكَ المنثور ؛
فالمنثور في الغالب أيسر من المنظوم ؛ لما تفرضه اعتبارات الوزن والقافية من تقديم وتأخير وحشو ونحو ذلك ، فضلًا عن ذلك فإن أهل العلم أكثر اعتناءً بالمنثورات أكثر من المنظومات .
مثالٌ للفهم : في «جمع الجوامع» للتاج السبكي [في أصول الفقه] : (والحكم : خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف) .
أما في منظوم السيوطي : (ثمَّ خطابُ اللهِ بالإنشا اعتلق ... بفعل مَنْ كُلِّفَ حكمٌ فالأحق) .
فانظر البون بينهما في اليسر .
وعلى كلٍّ ؛ فاحفظ ما تيسر لكَ ، فإن كان سواءً عندك فاحفظ المنثور .

ثالثًا : راقب نيَّتك في الحفظ ،
وسل نفسكَ : هل تحفظ من أجل المفاخرة وصرف وجوه الناس إليك ، أو تحفظ من أجل الله ، وربنا عليمٌ بباطنك .


وأما عن المراحل الضبطية ، فنعني بها مراحل ضبطك للمتن ، حفظًا وفهمًا .
تمرُّ في ذلك بثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : «مرحلة الضبط الإجمالي»
في هذه المرحلة تضبط المتن من جهة الحفظ ، ومن جهة الفهم الإجمالي ،
أما عن الحفظ فاستعن بكثرة التكرار والتشجير (اعمل المتن في هيئة شجرة) ،
وأما عن الفهم فهناك طريقتان :
الطريقة الأولى : أن تقتصر على حفظ المتن ، وشيخُك يفك لك عبارته ، وهذه الطريقة مفضلة ، لا لنفسها ، ولكن لتقاصُر الهِمَمِ في هذا الزمان .
الطريقة الثانية : أن تذاكر المتن مع شرح ميسر له ، وهنا اختر أكثر الشروح سهولة وتنظيمًا واختصارًا ،
فمثلًا : شرح ابن قاسم الغزي من أيسر وأفضل شروح «مختصر أبي شجاع» ، و«كفاية الأخيار» أيسر من «الإقناع» ، فإن كان «الإقناع» صعبًا عليكَ فاقرأ من كفاية الأخيار ، واضبط المسائل التي تركها صاحب الكفاية بلا ترجيح ، أو رجح فيها خلاف المعتمد عند المتأخرين .

المرحلة الثانية : «مرحلة التدقيق والتحقيق»
وهذه المرحلة تنتقل بكَ من مجرد الفهم الإجمالي لمسائل المذهب إلى فهم تحقيقي ؛
ذلك أن ألفاظ المتون – وإن توسعت – فلا تعطيك إلا فهمًا إجماليًّا للمسألة ، ترد على مطلقاتها قيودٌ ، وعلى عموماتها تخصيصاتٌ ، وتحتاج إلى تحرير لمحل الخلاف بين الأصحاب ،
بل حتى بعض الشروح تحتاج لهذه القيود والتخصيصات والتحريرات ؛ لحسن التصور .
فتحتاج إلى شيخٍ يحشي لكَ ، أو أن تضع أنت حاشية ، وتمهل ، واقرأ ما يلي :
لا بد في التحشية أن يكون الطالب عالمًا بما يريد أن يضعه في الحاشية ؛ إذ طلب المجهول عبث ، فلا بد أن نعدد أهم الوقفات التي يقفها مع نص المصنف ...

فنقول : يعلق على النص بما يلي :
(1) تقييد المطلقات ،
(2) تخصيص العمومات ،
(3) تحرير محل الخلاف بين الأصحاب ،
(4) التنبيه على المعتمد في المذهب إن كان المصنف قد خالفه أو سرد الخلاف بين أن يبين ،
(5) التنبيه على الخلافات الفنية بين ألفاظ المتون وتمييز ما يكون الخلاف فيه لفظيًّا أو معنويًا ،
(6) ومخالفات بعض محققي المذهب دليلًا أو مذهبًا .

ولنضرب على ذلك مثالًا من شرح المحلي على المنهاج في فقه الشافعية :
قال المحلي - رحمه الله - : «(ويكره المشمس) أي : ما سخنته الشمس ، في البدن ؛ خوف البرص ، بأن يكون بقطر حار كالحجاز ، في إناء منطبع كالحديد ؛ لأن الشمس بحدتها تفصل منه زهومة تعلو الماء ، فإذا لاقت البدن بسخونتها خيف أن تقبض عليه ، فتحبس الدم ، فيحصل البرص ، بخلاف المسخن بالنار فلا يكره ؛ لذهاب الزهومة بها» ا.هـ.
في هذه الأسطر الأربعة من كلام المحلي تستطيع أن تضع على النحو السابق وصفه عشر حواشٍ :
(1) قوله : (ويكره) فيه سؤال ، ما نوع الكراهة هنا ، هل هي كراهة تنزيه أو كراهة تحريم ؟ والجواب : أن الكراهة هنا كراهة تنزيه باتفاق الأصحاب ...
(2) قوله (المشمس) هنا حاشية تتعلق بخلاف فني بين النووي وشيخ الإسلام ، فالنووي عبر بالمشمس ، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري عبر بقول : «متشمس» ، وغرض شيخ الإسلام أن يومئ إلى أنه لا فرق بين ما إذا شمس الماء بنفسه أو شمس بقصد ، والمعتمد عند شيخ الإسلام والرملي والهيتمي أنه لا فرق خلافًا للخطيب ، ولذلك احترز المحلي عن هذا الإيهام بقوله : (أي : ما سخنته الشمس) .
(3) قوله : (أي : ما سخنته الشمس) فيه سؤال ، هل يكتفى في ضابط المشمس بأن ينتقل من حالة لأخرى بسبب الشمس ، أو لا بد أن تؤثر فيه الشمس فتفصل منه أجزاء سمية ؟ والأول اعتماد الخطيب ، واعتمد الرملي والهيتمي أنه لا بد أن يؤثر فيه السخونة فتفصل الشمس منه أجزاء سمية تؤثر في البدن .
(4) عند قوله : (في البدن) فيه سؤال ، هل يكره في كل بدن ، أو في بدن الحي دون الميت ؟ والجواب أن المعتمد عند الرملي والخطيب أن يكره في بدن الحي دون الميت ، فلا يكره أن يغسل به ، خلافًا للهتيمي الذي اعتمد أنه يكره في بدن الميت كذلك ؛ لأنه جسد محترم .
(5) وفيه سؤال ثانٍ ، عمَّ احترز الشارح بهذا القيد ؟ والجواب أنه احترز عما لو استعمل المشمس في غير طهارة البدن ، كأنه استعمل في غسل ثوب ونحوه .
(6) قوله : (خوف البرص) ظاهر هذا التعليل أنه إن كان المستعمل للماء المشمس أبرص لم يكره ؛ إذ لا اعتبار للخوف ؛ لأنه مصاب بالبرص فعلًا ، ولكن بالنظر إلى مصنفات الأصحاب نجد أنه لا فرق بين الأبرص وغيره ؛ فالصحيح يصيبه البرص احتمالًا ، والأبرص يزيد ضرره .
(7) قوله : (بقطر حارٍّ كالحجاز) هنا خلاف فني بين الأصحاب ، فبعضهم يعبر بـ¬«قطر» ، وبعضهم يعبر بـ«بلد» ، فهل الاعتبار بالبلد أو القطر ؟ والجواب أن الاعتبار عند الأصحاب بالبلد لا القطر ، فقد تكون البلد له حكم يخالف القطر الواقعة فيه ، فالحكم العام أن مصر بلد معتدل ، والشام بارد ، ولكن أقاصي الصعيد مخالفة ، فيحكم عليها في المذهب بأنه بلد حار ، خلافًا للحكم العام على القطر (مصر) .
(8) قوله : (في إناء منطبع كالحديد) فيه سؤالان ، ما المراد بالانطباع ؟ وهل المراد الانطباع الانطباع بالقوة أو بالفعل ؟ والجواب أن المراد الانطباع بالقوة ، ومن ثم فالمشمس في بركة من حديد في جبل يكره كذلك ، كما نبه عليه الشرواني .
(9) قوله : (فإذا لاقت البدن بسخونتها) هذا التعليل يدل على أن المكروه إنما هو استمماله حال السخونة ، فإذا برد زالت الكراهة ، وقد نبه عليه صاحبا «النهاية» و«التحفة» .
(10) يبقى أخيرًا على مخالفة النووي رحمه الله في هذه المسألة ، أي : كراهة المشمس ،
حيث قال في «المجموع» (1/87) : «الصواب الجزم بأنه لا كراهة فيه ، وهذا هو الوجه الذي حكاه المصنف وضعفه ، وكذا ضعفه غيره ، وليس بضعيف ، بل هو الصواب الموافق للدليل ولنص الشافعي ؛ فإنه قال في «الأم» : (لا أكره المشمس إلا أن يكره من جهة الطب)» .

طيب ، كيف يصل الطالب إلى هذه القيود والتخصيصات والتحريرات ، ثم طريقتان ؟
الأولى : أن يكون له شيخ خريت حاذق ، يحفظ المذهب كأنه مسطورٌ أمام عينيه ، وهذا النوع قد قارب الانقراض ، وأصغرهم الآن في آخر عقده الخامس.
الثانية : أن يضع الطالب حاشية من خلال التصانيف المستوعبة للقيود كـ«تحفة المحتاج» و«نهاية المحتاج» .

ولكن هنا أمورٌ لا بد أن تنتبه لها :
الأول : لا تكتب هذه الحاشية وأنتِ لم تنهِ الكتاب بعدُ ، وإلا ستشرع في الحاشية فتعطلك ، ولن تكملها ، ولن تكمل الدراسة .
الثاني : هذه الحاشية ليست في المرحلة الأولى من الدراسة ، وأفضل لكَ : ولا حتى في الثانية ، أفضل أحوالها الثالثة ، والله أعلم .

فمثلًا في المذهب الشافعي : ادرس مختصر أبي شجاع مفردًا على شيخكَ ، أو بشرح ميسر كشرح ابن قاسم الغزي ، ثم ادرس «الإقناع» أو «كفاية الأخيار» أو ما يعادلهما ،
ثم اجعل حاشيتك على شرح للمنهاج كـ«كنز الراغبين» ، ولكن بعد إتمام دراسته واستيعابه .

وأخيرًا ؛ فهذه رؤوس أقلامٍ كتبت على عجلٍ ؛ لسؤالٍ وردنا من «الآسك» ،
نسأل الله لنا ولكم الانتفاع ، والإخلاص في القول والعمل .