الكاتب : أحمد محمد عبد الرؤوف المنيفي

يتناول هذا المقال بعضَ أنواع السرقة الإلكترونية الأكثر انتشارًا في العالم، وهي سرقة البيانات المالية للهُوية الشخصية - رقم بطاقة الائتمان ورقم الحساب - من حيث مدى انطباق صفة المالية عليها، وبالتالي جواز وقوعِها محلًّا للسرقة الحدية في الشريعة الإسلامية، نسأل الله تعالى التوفيق والسداد.

أهمية بيانات الهوية الشخصية[1]:
تعتبر البيانات المالية الخاصة بالهوية الشخصية من أكثر البيانات التي تتعرض للنَّسخ والسرقة، ومن أهم هذه البيانات رقم بطاقة الائتمان، ورقم الحساب، ويم نزلكن للجاني - من خلال الاستيلاء على هذه البيانات - ارتكابُ جرائمَ اقتصاديةٍ متنوعة، بالإضافة إلى أن الجاني يُمكنه بيع هذه البيانات لمجرمين آخرين، وتحقيق الربح منها مباشرة، من دون حاجة إلى ارتكاب جرائم إضافية بواسطتها، وبمجرد الحصول على هذه البيانات، فإن الجاني يمكنه أن يستخدمها في ارتكاب مجموعة متنوعة من الجرائم الاقتصادية.

على سبيل المثال يمكن للجاني أن يستخدم رقم بطاقة الائتمان في شراء البضائع من الإنترنت، والحصول على الخدمات، وفتح حسابات ائتمان جديدة، وفتح حساب هاتف، أو شبكة لا سلكية، أو الاشتراك في خدمات الكهرباء والتدفئة، وكابل التلفزيون، وأي نفقات أو رسوم مِن استخدام رقم البطاقة.
أما رقم الحساب البنكي، فيمكن للجاني أن يستخدمه في تسوية مدفوعاته، وإجراء تحويلات إلكترونية غير مشروعة، وطلب القروض، وفتح حسابات بنكية جديدة، وإصدار شيكات مزيَّفة، واستنزاف الحساب بعمليات مالية مختلفة.

وتوجد البيانات المالية للأشخاص عادةً في قواعد البيانات التابعة للبنوك والشركات التجارية، والمؤسسات المختلفة التي يتعامل معها الأفراد، ويرجعُ ذلك إلى أن الشركات والمؤسسات التجارية تسجِّل أرقامَ بطاقات الائتمان في قواعد بياناتها عند كلِّ عملية شراء، ولذلك فإن المهاجم يُمكنه أن يحصل على بيانات مالية مختلفة للأفراد، من خلال اختراق أنظمة الكمبيوتر التابعة لهذه الشركات والمؤسسات.

مدى انطباق صفة المال على بيانات الهوية:
ينقسم المال في الإسلام إلى نقود، وإلى السلع التجارية الأخرى غير النقود، وتسمَّى عند الفقهاء (عُروض التجارة)، وقد عرَّف الإمام الحنفي محمد بن الحسن المال بأنه: (كلُّ ما يتملَّكه الناس مِن دراهمَ أو دنانيرَ، أو حِنطة أو شعير، أو ثياب أو غير ذلك)[2].
وقال الإمام ابن الأثير في النهاية: (المال في الأصل ما يُملَك من الذهب والفضة، ثم أُطلق على كل ما يُقتنى ويُملَك من الأعيان)[3].

ويُميز الفقهاء بين الذهب والفضة وبين غيرهما من الأموال؛ لأن الذهب والفضة هما أثمان للأشياء، ووسيلة للحصول عليها؛ أي: نقود، خلافًا للأموال والسلع الأخرى التي ينتفع بها لذاتها؛ يقول الإمام ابن تيمية: (الدراهم والدنانير لا تُقصَد لنفسها، بل هي وسيلة للتعامل بها، ولذلك كانت أثمانًا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود بسائر الأموال الانتفاع بها نفسها)[4].

ويثور التساؤل عما إذا كانت بيانات رقم بطاقة الائتمان ورقم الحساب تنطبق عليها صفة النقود في الشريعة الإسلامية، وبالتالي تعتبر من الأموال التي تقع عليها جريمة السرقة شرعًا، وللإجابة عن هذا التساؤل، فسيتم التطرُّق إلى مفهوم النقود في الإسلام وأحكامها، ومن ثَمَّ مدى انطباقِ هذه الأحكام على هذه البيانات.

يرجع في النقود إلى العرف:
تعتبر النقود من الألفاظ المطْلَقة التي ليس لها حدٌّ في الشرع، وبالتالي يرجع إلى العُرف في تحديدها ومعرفة ما يعد من الأشياء نقودًا، وما لا يعد كذلك[5]؛ قال الإمام ابن تيمية في الفتاوي: (أما الدرهم والدينار فما يعرف له حدٌّ طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح)[6].
وقد تعاملت بالنقود سائر المجتمعات الإنسانية، وكانت لها أعراف وعادات سائدة في كلِّ فترة من الفترات لِما تعده نقودًا تتعامل به، وتتطرَّق الفقرة التالية إلى هذه الأعراف.

♦ العرف في النقود عند المجتمعات:
1- تطوُّر النقود: كانت المجتمعات البدائية تتعامل في مجال البيع والشراء بطريق المقايضة بين السلع، وليس بطريق النقود؛ أي: من خلال مبادلة السلع بعضِها ببعض، فالشخص الذي كان لديه سلعة معينة، ويحتاج إلى سلعة أخرى، يقوم بمبادلة السلعة التي لديه بالسلعة التي يحتاجها، فمثلًا إذا كان الشخص يزرع الحبوب ولديه كميةٌ كبيرة منها، ولكنه يحتاج إلى سلعة أخرى مثل الأرز، أو يحتاج إلى حذاء، أو أي شيء آخر؛ فإنه يقوم بمبادلةِ ما لديه من الحبوب بالأرز، أو الحذاء الموجود لدى شخص آخر، وهكذا[7].

وبعد مرحلة المقايضة انتقلت المجتمعات إلى مرحلة اختيار سلعة معينة تقوم بدور النقود - وسيطًا في التبادل - فلم يعُد الناس يبادلون الأرز بالقمح مثلًا، ولكن أصبح صاحب القمح يبادله بالنقود، ثم يستعمل النقودَ بعد ذلك في شراء ما يريده من السلع والخدمات، وفي البداية اختار الناس السلع التي تُشبِع حاجاتهم للقيام بدور النقود؛ مثل: الحبوب والملح، والجلود والماشية... إلخ، ولكن هذه السلع كانت غيرَ قابلة للبقاء، وبعضها غير قابل للتجزئة، وبالتالي لم تكن تصلح للقيام بدور النقود، ومن هنا انتقل الناس إلى استخدام المعادن نقودًا، ثم بدؤوا يفضِّلون استعمالَ المعادن النفيسة والنادرة - مثل: الذهب والفضة - للقيام بدور النقود؛ لأن هذه المعادن كانت أخفَّ حَملًا، ويُمكن تجزئتها إلى جرامات صغيرة، كل جرام منها يساوي قيمةً اقتصادية كبيرة[8].

لكن الثورة الكبيرة في النقود كانت هي قَبول الديون وسيطًا في المبادلة؛ أي: نقودًا، فقد كان الناس في العصر الوسيط يحتفظون بالعملات الذهبية والفضية التي يملكونها لدى الصيارفة؛ خشيةً الضياع أو السرقة، وكان الصيارفة يعطونهم إيصالات مكتوبة بهذه النقود، وبدأ الناسُ يستعملون هذه الإيصالات المكتوبة نقودًا، ويتداولونها بينهم أثمانًا للمبيعات، أو أدواتٍ للوفاء بالديون[9].

2- أساس تطوُّر النقود[10]: في العرف الاقتصادي للمجتمعات كان الأساس في اكتساب الشيء صفةَ النقود، هو ثقة المجتمع بهذا الشيء، وقَبولهم له أداةً لشراء السلع والخِدمات والوفاء بالديون، فما إن يتواضع المجتمع على قَبول شيءٍ ما أداةً لشراء السلع والخدمات والوفاء بالالتزامات - حتى يصبح هذا الشيء هو النقود عندهم، ولم يكن يهم بعد ذلك نوعُ هذا الشيء، أو خصائصه الذاتية[11]، وهذا يفسِّر ذلك التنوُّع الكبير في الأشياء التي استُعملت نقودًا في المراحل التاريخية المختلفة من تطوُّر المجتمعات، فقد استعمل الإغريق الماشية مقياسًا للقيم، وأداةً لشراء السلع والخدمات، وكانت الماشية تُستخدم في شراء الأشياء الكبيرة؛ مثل: العبد، أو الزوجة، وفي دفع الإتاوات، وكانت هناك سلع أخرى تُستخدم معيارًا للقيمة ووسيلة للدفع؛ كالحبوب والملابس، واستَخدمت بعض المجتمعات الحُلِيَّ، ونماذجَ الأدوات والمُعِدَّات؛ مثل: الفؤوس والقضبان الحديدية، والحلقات واللوالب المعدنية، وتعتبر الصدفة الصفراء أكثر عملات الزينة شهرةً وانتشارًا، وكانت تُستخدم وسيلةً للدَّفع في الهند والشرق الأوسط والصين[12] ... إلى آخر ذلك من الأشياء التي لا تُحصر، والتي حازت ثِقة المجتمع أداةً لشراء السلع والخدمات في فترة من الفترات.

مدى انطباق أحكام السرقة على البيانات المالية للهوية:
بناءً على ما تقدَّم؛ فإن البيانات المالية للهوية الشخصية تُعتبر من النقود في الشريعة الإسلامية، وسبب اكتسابها صفةَ النقود أنها أصبحت أداةً لشراء السلع والخدمات عبر الإنترنت[13]، وتَحظى بقَبول عام من المتعاملين على الشبكة العنكبوتية في استعمالها نقودًا، فرقْم بطاقة الائتمان يُستخدم ثمنًا للأشياء في الشراء عبر الإنترنت، وأما رقم الحساب فيستخدم لسداد الديون، وتسوية المدفوعات عبر الإنترنت، ولذلك فإن هذه البيانات تعتبر نقودًا وأموالًا تقع عليها جريمةُ السرقة الحدِّيَّة في الإسلام، ومع أن رقم بطاقة الائتمان ورقم الحساب، يُعدان نقودًا في الشَّريعة الإسلامية - فإن جريمة السرقة تتحقَّق بمجرد الحصول على نسخة من بيانات بطاقة الائتمان، أو من رقم الحساب، ولو لم يستخدم الجاني هذه البيانات في ارتكاب سرقات أخرى[14].

[1] لمزيد من التفاصيل راجع:
Identity Theft – Aresearch Review
by Graeme R. Newman and Megan M. McNally, final report to the National Institute of Justice, July 2005
July 2007
[2] شرح العناية على الهداية بهامش فتح القدير 1 /519.
[3] النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، (4 /373) باب الميم مع الواو.
[4] الفتاوي، ابن تيمية (19/251).
[5] طبقًا لقاعدة: يرجع في الألفاظ المطلقة إلى العرف، راجع في هذه القاعدة والأدلة عليها: كتاب السرقة الإلكترونية للمؤلف؛ الألوكة.
[6] الفتاوي، ابن تيمية (19/251).
[7] كانت توجد عيوب كثيرة في طريقة المقايضة أدت في نهاية الأمر إلى تخلي المجتمعات عنها والانتقال إلى استخدام النقود، فمثلًا الشخص الذي كان يملك حصانًا ويحتاج إلى قمح أو أرز أو حذاء، سيصعب عليه أن يجد شخصًا آخر لديه هذه السلع ويرغب في الوقت نفسه أن يبادلها بحصان، وإذا وجد هذا الشخص فإنه تنشأ صعوبة أخرى في تحديد كمية الأرز أو القمح، أو أي سلعة أخرى يساويها الحصان، وإذا كان الشخص الآخر لديه كمية قليلة من السلعة المطلوبة مثل القمح مثلًا، فإنه يصعب على صاحب الحصان أن يقوم بتجزئة حصانه ودفع جزء منه مساو لكمية القمح القليلة؛ لأن هذه التجزئة سوف تؤدي إلى تعطيل منفعة الحصان دابةً من دواب الجر والحمل، راجع مقدمة في النقود والبنوك، محمد زكي شافعي، ص17، 18.
[8] راجع تفاصيل كل ما تقدم في: مقدمة في النقود والبنوك، محمد زكي شافعي، ص14 - ص42.
[9] تاريخ النقود، فيكتور مورجان، ص24.
[10] مقدمة في النقود والبنوك، محمد زكي شافعي، ص74 وما بعدها.
[11] المرجع السابق، ص 74، 75.
[12] تاريخ النقود، فيكتور مورجان، ص 13، 14.
[13] راجع ما سبق ص 149 فقرة أهمية بيانات الهوية الشخصية.
[14] راجع في مدى توافر أحكام السرقة الأخرى - مثل الأخذ والحرز والخفية - كتاب السرقة الإلكترونية للمؤلف؛ متاح على الألوكة


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/119694/#ixzz4tqg2uTzR