› نص قولهم "المنطق مشتق من نطق ينطق نطقا ، و المنطق فعل من أفعال النفس الانسانية ، و هذا الفعل نوعان : فكري و لفظي ، فالنطق اللفظي هو أمر جسماني محسوس ، و النطق الفكري أمر روحاني معقول ."
تخصيص هذا الفعل بأنه انساني فهو غير صائب لأن الله ذكر أن للطير منطق و قد علمه الله سليمان عليه السلام ، و غير ذلك من الحيوانات ، فكل له منطقه ، و أما من الناحية الصوتية فنحن ندرك أصوات الطيور و الحيوانات لأنه يقع في المجال السمعي للبشر ، و لكن هناك كائنات أخرى تستعمل نطاق فوق سمعي بالنسبة للبشر ، المهم أن لكل كائن مخلوق منطقه الخاص به و تصويته الخاص به . و تنويع هذا الفعل (النطق) إلى نوعين يلزمه أن هناك له جنس ، و معنى أو معقول هذا الجنس متحقق في النوعين الذين يقعان تحته ، أي الفكري و اللفظي ، و لم يبينا لنا ماهية هذا الجنس ، و اعتقده و الله اعلم هو معقول (اللغة) الذي ينظم الوحدات على تنظيم الفطرة اللغوية ، فيكون في الذهن و هو الفكري أو العقلي ، و يكون في الخارج الأصوات البشرية العرفية التي تسمى لسان ، و بهذا تكون (اللغة) هي الجنس الذي يقع تحته الفكري و اللفظي .
ثم قال : "وذلك أن النطق اللفظي انما هو أصوات مسموعة لها هجاء ، و هي تظهر من اللسان الذي هو عضو من الجسد و تمر الى المسامع من الآذان التي هي أعضاء من أجساد أخر ، و أن النظر في هذا المنطق و البحث عنه و الكلام على كيفية تصاريفه و ما يدل عليه من المعاني يسمى علم المنطق اللغوي ." عدد صفات المنطق اللفظي بأنه عبارة عن أصوات مسموعة لها هجاء ، و هذا ما يجعلها محققة للتواصل و البيان ، لأن معنى كلمة هجاء أن هذه الأصوات محددة المخارج و الصفات و معروفة لأهلها ، و جعل أي مبحث يتناول هذه الأصوات من حيث هي دالة على المدلولات أي المعاني يسمى علم المنطق اللغوي ، أي أنه يبحث في التصاريف و الأشكال و لكن ليست لذاتها بل لكونها دالة على المعاني ، و هذا يرجع الأمر للمنطق الفكري على حقيقة الأمر ، لأنه هو الأسبق ، و هو المدلول عليه ، فهو على هذا هو الأهم و الألفاظ هي المهم ، ولأنه هو المقصود لذاته و الألفاظ مقصودة بالتبعية .
و بما أن اللغة فطرية أي من الخالق الواحد الذي خلق البشر كلهم ، و بما أن العقل الذي هو مناط التكليف و حمل المسؤلية من خلق الله و فطرته التي يعطيها كل مولود بشري ، و بما أن صفات الله و أسماؤه و أفعاله و توحيده هو علة خلق الجن و الإنس كلهم ، و بما أن كل ما عدا ذلك في الدنيا مسخر للإنسان ، فيجب أن يكون كل الألسنة على قدر واحد من البيان ، و أن يكون هذا البيان الذي هو صنوان لمعنى خلق الإنسان (خلق الإنسان علمه البيان) هو الهيئة البشرية للتواصل فيما بينهم ، سواء كانت صوتا أو رسما أو إشارة ، فيجب أن يكون على مقتضى الحكمة أن تكون تصاريف الألفاظ و تراكيبها على مقتضى المعاني الفطرية و العقلية ، و التي تكونت عن طريق محسوسات الأعضاء الحاسة بما أدركته من الموجودات على طبائعها المتوافقة ، فتأتي هذه الإدراكات على الذهن فيعقلها على هيئة معقولات و تصورات عن الموجودات تنتظم بنظام الفطرة ، فيحصل بعد ذلك التواصل فيما بين الإنسان و الإنسان ، و الإنسان و الموجودات ، و الإنسان و الخالق .
ثم ما بؤكد ذلك قولهم عن النطق الفكري بأنه " هو أمر روحاني معقول فهو تصور النفس معاني الأشياء في ذاتها ، و رؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها و تمييزها لها في فكرتها ، و بهذا النطق يحد الإنسان فيقال انه حي ناطق مائت . " فهذا تأكيد أن المعقولات و المدلولات هي الأصل بل هي ماهية الإنسان الحقيقي ، و أنها تأتي عن طريق الحواس ، و انقداح ما يأتي من الحواس إلى معاني يسميها وحي و إلهام ، فهو تعبير يخفي وراءه الفطرة و الخِلقة ، أو ما يُجهل سببه فلا نقف عليه بل نشعر به فقط و سيأتي باقي الكلام يحمل هذه المعاني بالتصريح و بالتلويح فيقولوا :
" و اعلم أن النظر في هذا النطق و البحث عنه و معرفة كيفية ادراك النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس ،و كيفية انقداح المعاني في فكرها من جهة العقل الذي يسمي الوحي و الالهام ، و عبارتها عنها بألفاظ بأي لغة كانت يسمى علم المنطق الفلسفي. " و قالوا " فالألفاظ انما هي سمات و آلات على المعاني التي في أفكار النفوس وضعت بين الناس ليعبر كل انسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس عند الخطاب و السؤال. "
و فكرة الآلة أو الأداة أو الوسيلة هي مغايرة تماما في الماهية و الوجود عن الغرض من وراءها ، فهي مقصودة بالتبعية لأن لو يمكن تحصيل الغرض من دونها لم احتيج اليها و لا لوضعها ، و على هذا كما سبق فإن المعاني من المعقولات و المدلولات يجب أن تعبر من الإنسان للأخر عن طريق هذه الوسيلة اللسانية ، فيجب أن تكون الألفاظ ملائمة لها و ممثلة لها أقصى تمثيل ، و عليه لا يمكن تصور أن هذه الألفاظ تكون على هيئات لا تؤدي المعنى العقلي و الفطري ، فيكون لها صفات (العلامات الإعرابية) تعرقل ذلك أو لا تمثل المعنى و المعقول ، أو تكون ثقلا على المتكلم ، فكل ذلك أمارات على انها ليست معنوية ، أي ليس لها علاقة بالمعنى و أن تكلف ذلك من التعسف المناقض لفطرية اللغة و ملائمة اللسان لها في أداء المعاني العقلية و المدلولية .
و الدليل من كلام اخوان الصفا أنها من المنطق اللغوي ، و أنها لا تدخل نطاق العقلي هو التقسيم الأتي : " و أما علوم المنطق فهي نوعان : لغوي و فلسفي ، فاللغوي مثل صناعة النحو ، و الأصل المتفق عليه بين أهلها هو معرفتهم بالأسماء و الأفعال و الحروف و اعرابها من الرفع و النصب و الخفض . " ثم ذكر بعد ذلك الخطابة و الشعر و هذا هو منحى الفلاسفة و المناطقة في تناول الألفاظ و دلالتها على المعاني ، و يقصد بالفلسفي و المعاني تقسيم المناطقة أيضا من برهان و غيره ، و نحن نقصد بـ (العلامة الإعرابية) هنا في كلامه بأنها ليست من نوعية الألفاظ (الأصوات : و هي أصوات مدية قصيرة) التي لها مدلول معنوي أو عقلي ، و الألفاظ التي تكون العلوم العقلية لها دلالات عقلية و تصورية تخص أن يفعل و أن ينفعل و الإضافة و النسبة و الأين و الكيف و الكم و المتى و الملكية و الوضع .
وبالنظر لهذه الألفاظ و معانيها المقصودة منها عند المناطقة نجدها تتناول أي شيء في الوجود كذات مستقلة ، و كذات لها صفات ، و كذات لها علاقات بذات أخرى ، هذه العلاقات متنوعة و تحوي بين طيات معانيها كل ما يمكن ادراكه بين الموجودات من تصورات تتمشى مع طبيعة كل ذات و مفهوم كل ماهية . و بالتأكيد فـ (العلامات الإعرابية) لها معاني خاصة بها تبرر وجودها في الكلام و تنوعها في المواقف و التراكيب التي تؤدي معاني متناسبة مع هذه التراكيب أو الأحوال التي تعترض الألفاظ أثناء استعمالها في أداء المعاني . و لن يخرج معنى من هذه المعاني عن جملة المعاني الكبار التي هي عند المناطقة ، و مع ذلك فالمناطقة العرب لم يهتموا بها ، بل منهم من تجاهلها على أن تكون لها دخل في أداء الألفاظ للمعاني في تصوير المعاني العقلية و من هؤلاء المعلم الثاني الفارابي بالتصريح أنها من خواص الألسنة التي ليس لها علاقة في المعاني و التصورات العقلية ، و يكفي من النحو معرفة الاسم و الفعل و الحرف ، و التراكيب منهما .
و كل المناطقة الأوائل يدخلونها في الصناعة اللفظية ، و قد يحتمل كونها في الصناعة اللفظية أنها تكون كالألفاظ التي هي محل اهتمام المناطقة ، و لكن اهتمام المناطقة بالألفاظ من حيث هي دالة على المعاني فقط ، و من تعريفهم هذا يدل على أن (العلامة الإعرابية) لا يناط بها معاني تصورية أو عقلية و إلا لو كانت ذلك لتناولوها في مبحث الالفاظ مثلا و في أي مبحث كان فيها ، و لكن هم يفردوها على انها خاصية لكل لسان تؤدي معاني عرفية . و نحن العرب هي عندنا يناط بها إن لم يكن كل المعاني ، فمعاني كثيرة تتداخل مع المعاني التصورية و العقلية و غالبا ما يكون هذا التداخل غير موفق بل أحيانا صادم للمنطق العقلي و المعنوي ، و انها تميل لأن تنفرد بمعاني خاصة بها قد يسميها البعض بمعاني النحو و تصبح معاني اصطلاحية بعلماء النحو ، يتوقف صدقها و صحتها على صدق و صحة الأصول المنهجية التي نتجت منها (العلامة الإعرابية) .
و على هذا فيكون النحو الخاص بكل لسان و يتباين به عن اللسان الأخر هو ليس من النحو العام الذي لا بد منه في فهم المنطق العقلي و افهامه للغير كما قال و نقل الفارابي عن الفلاسفة و المناطقة الأوائل ، سواء ناقلا فقط أو شارحا أيضا ، و كنظرة متى بن يونس لهذا النحو و التي ظهرت في المناظرة التي كانت مع أبي سعيد السيرافي ، و عليه ما دام اخوان الصفا يتكلمون على المنطق بصفة عامة ، و المنطق اللغوي بصفة خاصة ، و منه النحو بالأخص ، فمن المؤكد أنهم لن يخالفوا الأوائل من اليونان و لا الأعلام من العرب في فهمهم و شرحهم لإستبعاد تدخل النحو بمعناه الخاص في صناعة المنطق ، و لا معاني النحو بمعناه الخاص في معاني المنطق العقلي ، و عليه يجب فهم مقصود اخوان الصفا من هذا النص : " و لا يقرب على المتعلمين فهم علم المنطق الفلسفي ، و لا يسهل تأمله على الناظرين دون معرفة علم المنطق اللغوي . "
و ان كلامهم السابق في تقسيم المنطق إلى نوعين أن المنطق اللغوي منه صناعة النحو بمعرفة الأسماء و الأفعال و الحروف ، و الإعراب بالخفض و النصب و الرفع ، فهو توصيف لبعض انواع المنطق اللغوي على ما يشتمل و ما هو أصوله المتفق عليها ، ثم ما يجب أن يكون هنا هو تنزيل كلامهم على كلام أهل صناعة المنطق و قد أوضحناها ، و ما يشعرك بهذا المعنى أيضا هو استخدامهم ألفاظ لا توحي بالإلزام و الإقتضاء بل ألفاظ على سبيل الإرشاد من باب المعونة و لهذا تجد ألفاظ مثل (يقرب – يسهل ) و هذه ألفاظ لا تأتي في سبيل الحتم و الإلزام خاصة و هو في معرض عرض طرق تحصيل العلم و تعلمه . ثم و هو يعدد علوم المنطق العقلي و ما تشتمله من معارف يذكر موضوع هذه العلوم من الألفاظ على جهة التنكير و معاني هذه الألفاظ بالتعيين ، فيقول مثلا (معاني الستة ألفاظ) و (العشرة) و (العشرين) أي أن المقصود هو المعاني و الطريق اليها هؤلاء الألفاظ .