الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه

أما بعد

فهذه مناقشة لشبهة من شبه المستشرقين بينت فيها طرفا من عظيم دقة المحدثين , استللتها من مقال طويل

ش4- المحدثون يعطون الراوي حكما واحدا ملازما له في حياته , مع أن الإنسان الصادق قد يكذب , والكاذب قد يصدق , فأحوال الإنسان متغيرة !

هذا الهراء يخرج ممن لم يحصل عنده تصور صحيح لرواية الحديث , وسأبيّن في الأسطر القادمة من دقة الأئمة في الحكم على الرواة وتوثيق خفيِّ أحوالهم شيئا زائدا على ما ادعى عدم وجوده هذا الذّنَب , ولكن ليعلم أولا أن كتب الرواة اعتنت بتسجيل اسم الراوي وبلده ووفاته وعمن روى ومن روى عنه وأكثر من ذلك , ومثال بسيط عليها كتاب تقريب التهذيب لابن حجر فيه تراجم لـ 8491 راو تقريبا , ولكن مقتضبة جدا كتعريف سريع بالراوي , ومن دقيق ما وثقه الأئمة عن الرواة :

1- أن بعض الرواة يكون ثقة صدوقا , ثم لما يكبر يختلط فيخطئ بالأحاديث , وهؤلاء يوصفون بــــــ: المختلطين , مثل:

أ*. عطاء بن السائب

قال أبو حاتم الرازي : كان عطاء بن السائب محله الصدق قديمًا قبل أَن يختلط، صالح مستقيم الحديث، ثم بِأَخَرَة تغير حفظه .

قال الإمام أحمد رحمه الله : من سمع منه قديمًا كان صحيحًا، ومن سمع منه حديثًا لم يكن بِشيءٍ، سمع منه قديمًا شُعبة، وسفيان، وسمع منه حديثًا: جرير، وخالد بن عَبد الله، وإسماعيل، يَعني ابن عُلَيَّة، وعلي بن عاصم .اهـ

قال يحيى بن معين : عطاء بن السائب اختلط، فمن سمع منه قديمًا فهو صحيح، وما سمع منه جرير وذَوُوُه ليس من صحيح حديث عطاء، وقد سمع أَبو عوانة من عطاء في الصحة وفي الإِختلاط جميعًا، ولا يُحتَج بِحَديثه .اهـ (4)

لاحظ كيف ميزوا من روى منه قبل الاختلاط ومن روى منه بعد الاختلاط ومن روى عنه في الحالين , فمن روى قبل الاختلاط قُبِلَ حديثه ومن كان بعد الاختلاط رُدّ حديثه , ومن كان في الحالين اعتبر به

ب*. محمد بن الفضل السدوسي عارم رحمه الله :

قال أبو حاتم الرازي رحمه الله : اختلط عارم في آخر عمره، وزال عقله، فمن سمع عنه قبل الاِختلاط فسماعه صحيح، وكتبت عنه قبل الاِختلاط سنة أربع عشرة، ولم أَسمع منه بعدما اختلط، فمن كتب عنه قبل سنة عشرين ومِائَتين فسماعه جيد، وأَبو زُرعَة لقيه سنة اثنتين وعشرين .اهـ (5)

وقد صنفت عدة كتب في هذا القسم من الرواة كـ المختلطين للعلائي , والاغتباط بمعرفة من رمي بالاختلاط لبرهان الدين الحلبي

2- وبعض الرواة كان ثقة إذا حدث عن شيخ معين ويضعف في غيره , كـــــ :

أ*. حماد بن سلمة

قال الحاكم لم يخرج مسلم لحماد بن سلمة في الأصول إلا من حديثه عن ثابت وقد خرج له في الشواهد عن طائفة .(6)

وقال السلمي قال الدارقطني ... وحماد بن سلمة ربما يسهو.
وقال الدارقطني حماد بن سلمة أثبت الناس في حديث ثابت.(7)

وقال محمد بن يحيى النيسابوري: قلت لأبى عبد الله، في بعض حديث حماد: صحيح؟ وذكرت له خطأه. فقال: إن حماد بن سلمة يخطىء، وأومأ بيده، خطأ كثيرًا، ولم ير بالرواية عنه بأسًا. «بحر الدم» مستفاد من موسوعة أقوال الإمام أحمد في الرجال

قال أبو طالب ، عَن أحمد بْن حنبل: حماد بن سلمة أثبت الناس في حميد الطويل، سمع منه قديما.
وَقَال الحسن الميموني، عن أَحْمَد بن حنبل: حماد بن سلمة أثبت في ثابت من معمر.(8)

فاتفقوا على كثرة أخطائه واتفقوا على أنه أثبت الناس في ثابت البناني , بمعنى أن أخطاءه كانت في روايته عن غير ثابت .

ب*. شريك بن عبدالله النخعي

قال الإمام أحمد رحمه الله : وشريك في أبي إسحاق أثبت من زهير وإسرائيل وزكريا .
قال عثمان الدارمي : قلت لابن معين : شريك أحب إليك في أبي إسحاق أو إسرائيل ؟ قال : شريك أحب إلي وهو أقدم , قلت : شريك أحب إليك في منصور أو أبو الأحوص ؟ فقال شريك أعلم به.
وقال معاوية بن صالح عن ابن معين : شريك صدوق ثقة إلا أنه إذا خالف فغيره .اهـ (9)

فجعل شريكا مقدم على الثقات في شيخه أبي إسحاق السبيعي , بينما لما تكلم عنه في حكم عام جعله ثقة (إذا إذا لم يخالف غيره فقط)

3- وبعض الرواة يقبلون روايته في فنِّ معين ويردونها في غيره لأن هذا الفن كان من اختصاصه أو كان مهتما به فحفظ أحاديثه , كــــ :

أ*. رشدين بن سعدي

قال العقيلي في الضعفاء : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سمعت أبي يقول : رشدين بن سعد كذا وكذا . حدثني محمد بن عبد الرحمن قال : أخبرنا عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال : سمعت أبا عبد الله يقول : رشدين ليس يبالي عمن روى ، لكنه رجل صالح يوثقه هيثم بن خارجة ، وكان في المجلس فتبسم من ذلك أبو عبد الله ، ثم قال أبو عبد الله : رشدين بن سعد ليس به بأس في أحاديث الرقائق .اهـ(10)

أي أن أحاديثه في الزهد والرقائق تُمشّى دون غيرها

ب*. زياد بن عبدالله البكائي

قال العقيلي في الضعفاء : حدثني أحمد بن محمود قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : سألت يحيى عن زياد البكائي ، فقال : لا بأس به في المغازي ، فأما في غيره فلا .(11)

ج. سعيد بن بشير مولى بني نصر

قال العقيلي في الضعفاء : حدثنا أحمد بن علي الأبار قال : حدثنا علي بن ميمون الرقي قال : حدثنا أبو خليد قال : سألني سعيد بن عبد العزيز : ما الغالب على علم سعيد بن بشير ؟ قال : قلت : له التفسير ، قال : خذ عنه التفسير ودع ما سوى ذلك ، فإنه كان حاطب ليل .(12)

4- وبعض الرواة الثقات كان يخطئ في حديث شيخ معين فيقبلون من حديثه ما روى عن غير هذا الشيخ , كــــــــــ :

أ*. محمد بن أبي ذئب

قَال يعقوب بْن شَيْبَة السدوسي: ابْن أَبي ذئب ثقة صدوق ، غير أن روايته عن الزُّهْرِيّ خاصة تكلم الناس فيها، فطعن بعضهم فيها بالاضطراب، وذكر بعضهم أن سماعه منه عرض، ولم يطعن بغير ذلك، والعرض عند جمع من أدركنا صحيح.(13)

وَقَال أَبُو بكر المروذي : وسألته، يعني أَحْمَد بْن حنبل، عَن ابن أَبي ذئب كيف هو؟ قال: ثقة. قلت: في الزُّهْرِيّ؟ قال: كذا وكذا، حدث بأحاديث كأنه أراد: خولف .(14)

ب*. محمد بن عجلان المدني

قال الترمذي في العلل الصغير : وإنما تكلم يحيى بن سعيد القطان عندنا في رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري:
حدثنا أبوبكر , عن علي بن عبد الله , قال : قال يحيى بن سعيد: قال محمد بن عجلان : أحاديث سعيد المقبري بعضها عن سعيد عن أبي هريرة ، وبعضها عن سعيد عن رجل عن أبي هريرة ، فاختلطت عليّ فصيَّرتُها عن سعيد عن أبي هريرة .
وإنما تكلم يحيى بن سعيد عندنا في ابن عجلان لهذا . وقد روى يحيى عن ابن عجلان الكثير .اهـ (15)

5- وكانوا يميزون المدلسين من المحدثين الذين يروون عمن لم يلقوا أحاديث بصيغة تحتمل اللقي , وجعوا المدلسين طبقات وميزوا طرائق تدليسهم , فمثلا بقية بن الوليد كان كثير التدليس ,

قَال أَبُو بكر بْن أَبي خيثمة: سئل يَحْيَى بْن مَعِين عَنْ بقية، فقَالَ: إذا حدث عَنِ الثقات مثل صفوان بْن عَمْرو وغيره، وأما إذا حدث عَنْ أولئك المجهولين فلا، (وإذا كنى الرجل، ولم يسم اسم الرجل، فليس يساوي شيئا).اهـ (16) وهذه التكنية من طرائق التدليس إذ أنها تخفي حقيقة الراوي المكنى وبالتالي حاله

ومن دقتهم ميزوا عن بعض الرواة المدلسين أحوالا لا يدلسون فيها

قال ابن رجب الحنبلي : ذكر من عُرف بالتدليس وكان له شيوخ لا يدلس عنهم فحديثه عنهم متصل , منهم هُشيم بن بشير
ذكر أحمد أنه لا يكاد يدلس عن حصين .
سفيان الثوري
وقال البخاري فيما حكاه عنه الترمذي في علله .
لا أعرف لسفيان يعني الثوري : عن حبيب بن أبي ثابت ، ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور وذكر شيوخاً كثيرة لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً ، ما أقل تدليسه ! .اهـ (17)

ومثل ابن جريج , قال عنه الدارقطني : تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى , وموسى بن عبيدة وغيرهما .اهـ (18)

ولكنه هو اعترف بنفسه أنه إذا روى عن عطاء شيئا فإنه على السماع

قال أبو بكر بن أبي خيثمة حدثنا إبراهيم بن عرعرة , عن يحيى بن سعيد , عن ابن جريج , قال : إذا قلت قال عطاء فأنا سمعته منه وإن لم أقل سمعت .اهـ (19)

وربما ميزوا من يدلس بعبارة دون أخرى

قال ابن رجب رحمه الله : ذكر من كان يدلس بعبارة دون عبارة
قال العجلي : (( إذا قال سفيان بن عينة : عن عمرو سمع جابراً فصحيح ، وإذا قال سفيان : سمع عمرو جابراً فليس بصحيح بشيء .
يشير إلى أنه إذا قال عن عمرو فقد سمعه منه ، وإذا قال : سمع عمرو جابراً فلم يسمعه ابن عيينة من عمرو .اهـ (20)

وأريد أن أقول أن البحث في أحوال الرواة بهذه الدقة المتناهية شيء زائد على مجرد تتبع حال الراوي من كذب وصدق خلال أطوار حياته !

والمفاجأة هنا التي لن يدركها الباحث السطحي ولا مريض القلب هي أن :

حكم الأئمة على راوٍ معين بأنه ثقة أو صدوق أو ضعيف أو .. إلخ إنما يكون بعد سبر أحاديثه بمعنى قراءتها أو سماعها ومقارنتها بأحاديث غيره من أقرانه وفق منظومة تراكمية دقيقة جدا , ومن ثم إصدار الحكم أو الأحكام عليه , فالسبر أولا والحكم ثانيا , = السبر مقدمة والحكم نتيجة ( وليس العكس !)

هذا وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد