بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على نبيه الكريم
حديث الرؤية المنامية
يكثر المعطلة من التشنيع على معاشر السلفية بهذا الحديث
ولذلك لخصت اشياء مهمة من كلام شيخ الاسلام عليه في كتابة العظيم بيان تلبيس الجهمية وهو قاطه دابر ما يددن حوله المعطلة من دعاوي وتهم
قال شيخ الاسلام قلت الإسراء وإن كان حقًّا ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم قد جاءت بها آثار ثابتة وهذا الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه بالمدينة في المنام لكن هذا الحديث بهذا اللفظ المذكور في ليلة الإسراء من الموضوعات المكذوبات كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وإنما ذكر أن ربه أتاه في المنام وقال له هذا ووضع يده بين كتفيه بالمدينة في منامه ولهذا لم يحتج أحد من علماء الحديث بهذا بل رووه للاحتجاج ولم يثبتـ ـه أحد في الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث كما بيناه فتبين أن القاضي ليس معه ما اعتمد عليه في رواية اليقظة إلاّ قول ابن عباس وآية النجم وقول ابن عباس قد جمعنا ألفاظه فأبلغ مايقال لمن يثبت رؤية العين أن ابن عباس أراد بالمطلق رؤية العين لوجوه ثم عدد شيخ الاسلام تلك الوجه قال الوجه الاول أن يقال هذا المفهوم من مطلق الرؤية الوجه الثاني قال لأن عائشة قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه الوجه الثالث قال فد أعظم على الله الفرية وتأولت قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقوله وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا [الشورى 51] وذلك إنما ينفي رؤية العين فعلم أنها فهمت من قول من قال إن محمدًا رأى ربه رؤية العين الوجه الثالث أن في حديث عكرمة أليس يقول الرب تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فقال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لايدركه شيء ومعلوم أن هذه الآية إنما يعارض بها من يثبت رؤية العين ولأن الجواب بقول ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء يقتضي أن الإدراك يحصل في غير هذه الحال وان ما أخبر به من رؤيته هو من هذا الإدراك الذي هو رؤية البصر وأن البصر أدركه لكن لم يدركه في نوره الذي هو نوره الذي إذا تجلى فيه لم يدركه شيء وفي هذا الخبر من رواية ابن أبي داود أنه سُئل ابن عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قال وكيف رآه قال في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ كأن قدميه في خضرة فقلت أنا لابن عباس أليس في قوله لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وهذا يدل على أنه رآه وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم فيقتضي أنها رؤية عين كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء قال لوجه الرابع أن في حديث عبد الله بن أبي سلمة أن عبد الله بن عمر أرسل إلى عبد الله بن عباس يسأله هل رأى محمد ربه فأرسل إليه عبد الله بن عباس أي نعم فرد عليه ثم سرد شيخ الاسلام كل رويات حديث الريةفي 58صفحة ثم قال فصل إذا عرف أن الحديث الذي فيه رأيت ربي وأتاني ربي في أحسن صورة وقال فيم يختصم الملأ الأعلى وفيه فوضع يده بين كتفي إنما كان في المدينة وكان في المنام وهو حديث ثابت ظهر خطأ طائفتين طائفة تعتقد أنه كان في اليقظة ليلة المعراج وتجعله من الصفات التي تقررها أو تحرفها فشيخ الاسلام يقرر ان حديث رايت ربي في صورة شاب هو رؤية منام وليس هذا الحديث من احاديث الصفات كما توهم بن فورك والرازي فؤلوها او ابو يعلى الذي منع تاويلها فالحديث رؤية منام وقد ذكر ذلك عشرات المرات في منقشته له قال فتبين أن القاضي ليس معه ما اعتمد عليه في رواية اليقظة إلاّ قول ابن عباس وآية النجم وقول ابن عباس قد جمعنا ألفاظه فأبلغ مايقال لمن يثبت رؤية العين أن ابن عباس أراد بالمطلق رؤية العين لوجوه احد هذه الوجه حكاه هكذا الثالث أن في حديث عكرمة أليس يقول الرب تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فقال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لايدركه شيء ومعلوم أن هذه الآية إنما يعارض بها من يثبت رؤية العين ولأن الجواب بقول ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء يقتضي أن الإدراك يحصل في غير هذه الحال وان ما أخبر به من رؤيته هو من هذا الإدراك الذي هو رؤية البصر وأن البصر أدركه لكن لم يدركه في نوره الذي هو نوره الذي إذا تجلى فيه لم يدركه شيء وفي هذا الخبر من رواية ابن أبي داود أنه سُئل ابن فتوهم ذوي الاهزى وبعض القالطين انه يصحح حديث الامرد ويجعلها رؤية عين وهذا باطل لم نقلت انفا انه يبطل كونها راية عين يغظة بل هي عنده مجرد منام وحكايته لتلك لوجوه لايعد انه يبين انها لاتصح وان صح الحديث فهو حديث المنام المشهور والرويات كلها اصلها واحد كما قرر ذلك وهو حديث واحد تعددت طرقه قال فتبين أن القاضي ليس معه ما اعتمد عليه في رواية اليقظة إلاّ قول ابن عباس وآية النجم وقول ابن عباس قد جمعنا ألفاظه فأبلغ مايقال لمن يثبت رؤية العين أن ابن عباس أراد بالمطلق رؤية العين لوجوه قال وهذه الأحاديث كلها ترجع إلى هذه الأحاديث الأربعة حديث أم الطفيل وحديث ابن عائش عن معاذ وحديث قال ثوبان وحديث ابن عباس وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أن أصلها حديث واحد وإن كان لم يذكر حديث ثوبان إما أنه لم يبلغه أو بلغه وذلك حديث قائم بنفسه وكلها فيها ما يُبَيِّن أن ذلك كان في المنام وأنه كان بالمدينة إلا حديث عكرمة عن ابن عباس وقد جعل أحمد أصلهما واحدًا وكذلك قال العلماء قال القاضي أبو يعلى بعد أن ذكر حديث ابن عباس بطرقه وألفاظه مفتتحًا له بحديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة وذكر حديث الحكم بن أبان عن عكرمة وذكر حديث أم الطفيل ثم قال واعلم أنها رؤيا منام لأن أم الطفيل قد صرحت بذلك في خبرها وحديث ابن عباس أكثر ألفاظه مطلقة قال وقد نقل في بعضها صريح بذكر المنام فيما حدثنا أبو القاسم عبد العزيز قال أخبرني أبو بكر أحمد بن جعفر بن مالك في الإجازة قال وقرأته على أبي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني ربي الليلة في أحسن صورة يعني في المنام فقال لي يامحمد أتدري فيم يختصم الملأ العلى قال قلت لا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي قال شيخ الاسلام وقد قال القاضي في آخر كتابه في فصل جمل الصفات التي ذكرها وما روي في حديث أم الطفيل وابن عباس من الصفات التي رآه عليها في ليلة الإسراء فقوله هنا ليلة الإسراء تناقض منه فإنه قد نص أن الإسراء كان يقظة وأن الرؤية التي كانت في ليلة الإسراء غير هذه الرؤية التي في المنام وأيضًا فهذا الحديث الذي احتج به هو في الحقيقة حديث معاذ كما تقدم من كلام ابن خزيمة وإنما وهم فيه أبو قلابة فقال ابن عباس وإنما هو ابن عائش وليس هذا هو حديث قتادة عن عكرمة فإن ذلك ليس فيه هذا لكن أحمد قد جعل الجميع حديثًا واحدًا في الأصل ولا ريب أن قتادة كان عنده هذا عن عكرمة يطابق لفظهما لفظ حديث أم الطفيل وإن كان فيه زيادات وهو حديث الحكم بن أبان عن عكرمة رواه ابن خزيمة محتجًّا به يُدْرِكُ تلبيس الجهمية /7231/ قال ايضا فعثمان بن سعيد قد ذكر ما ذكر عن العلماء أن هذا كان في المنام بالمدينة لم يكن يقظة مع تثبيته لهذه الأحاديث ولم يجعل ذلك الحديث في مكة لأنه كان بالمدينة في المنام إذ قد ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول رآه بفؤاده مرتين ويذكر ذلك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] وهذا إنما كان بمكة فحديث عكرمة ومسألة ابن عمر إما أن يكون من جنس حديث معاذ أم الطفيل عليه رواية الأثرم عن أحمد وإما أن يكون من غير هذا الجنس مثل الرؤية التي أخبر ابن عباس أنها كانت بمكة وهذا قول طوائف من العلماء أيضًا وهذا لا يقوله من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه وإنما يقوله من يقول إنه إنما رآه بفؤاده والروايات الثابتة عن ابن عباس في رؤية محمد ربه إما مقيدة بالفؤاد وبالقلب كما روى ذلك مسلم في صحيحه وذهب إليه أحمد في رواية الأثرم وإما مطلقة ولم أجد في أحاديث عن ابن عباس أنه كان يقول رآه بعينه إلا من طريق شاذة من رواية ضعيف لا يحتج بها منفردًا يناقضها من ذلك الوجه ما هو أثبت منها فكيف إذا خالف الروايات المشهورة /7/250/قال اضا قلت هذه الرواية الثابتة عن مجالد من رواية ابن عيينة عنه ليس فيها إلا أنه رآه مرتين كرواية غير مجالد وقول كعب في هذه الرواية إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فرآه محمد صلى الله عليه وسلم بقلبه وكلمه موسى وذكر ذلك تصديقًا لقول ابن عباس دليل على أن هذه هي رؤية الفؤاد كما جاء مصرحًا به يبين ذلك أن الذي حضر كلام ابن عباس وكلام كعب ورواه لمجالد وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل أحد رجال بني هاشم وأعيانهم كان يقول ذلك كما رواه الخلال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا حماد عن سالم أبي عبد الله عن عبد الله بن الحارث بن نوفل في قوله تعالى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم تره عيناه وهذه الرواية من رواية ابن عيينة الإمام عن مجالد وقد بين فيها أيضًا أن الشعبي سمع ذلك من عبد الله بن الحارث فتبين أن الرواية الأولى مع ضعف رواتها مرسلة وأن هذه الرواية عن كعب كما رواه ابن خزيمة حدثنا هارون ين إسحاق حدثنا
عبده عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن كعب قال إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فرآه محمد مرتين وكلمه موسى مرتين وكذلك ما رواه أبو حفص بن شاهين وذكره القاضي أبو يعلى عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال رأى محمد ربه بعينيه مرتين فهذا لم يذكر إسناده ولم يذكره المعتمدون كابن خزيمة والخلال ونحوهما ممن جمع الآثار في هذا الباب بل قد روى الخلال حديثين من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال رآه بفؤاده دون عينيه وذلك يعارض هذا يبين ذلك أن الروايات المحفوظة عن عكرمة والشعبي إما مقيدة بالفؤاد وإما مطلقة /7/257/قال وقد قال الإمام أبو بكر بن خزيمة بعد أن أثبت رؤية محمد ربع بقول ابن عباس وأبي ذر وأنس قال وقد اختلف عن ابن عباس في تأويل قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] فروى بعضهم عنه أنه كان يقول رآه بفؤاده وذكر إسناده ثم قال احتج بعض أصحابنا بهذا الخبر أن ابن عباس وأبا ذر كانا يتأولان هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده لقوله تعالى بعد ذكر ما بينا فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 10-11] وتأول قوله تعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) إلى قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 8-10] أن النبي صلى الله عليه وسلم دنا من خالقه قاب قوسين أو أدنى وأن الله أوحى إلى النبي ما أوحى وأن فؤاد النبي لم يكذب ما رآى يَعنون رؤيته خالقه جل وهلا قال أبوبكر وليس هذا التأويل الذي تأولوه لهذه الآية بالبين وفيه نظر لأن الله تعالى إنما أخبر في هذه الآية أنه رأى من آيات ربه الكبرى ولم يُعلم الله في هذه الآية أنه رأى ربه عز وجل وآيات ربنا ليس هو ربنا قال واحتج آخرون من أصحابنا في الرؤية بحديث ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به قال وليس الخبر أيضًا بالبين إن ابن عباس أراد بقوله رؤيا عين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه فأما خبر قتادة والحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس وخبر عبد الله بن أبي سلمة عن ابن عباس فبين واضح أن ابن عباس كان يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه يعني حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والتكليم لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم
وقد احتج أبو إسماعيل الأنصاري الهروي شيخ الإسلام في كتاب الأربعين فقال باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج بعينيه رؤية يقظة واحتج بحديث ابن عباس هذا مع أنه رواه بأسانيد أكثرها من كتاب ابن خزيمة ولا حجة فيه على ذلك كما تقدم والقاضي أبو يعلى ذكر ما تقدم نقله عنه أنه قال اختلفت الرواية عن أحمد في رؤية محمد ربه هل رآه بعينه أو بفؤاده أو يقال رآه ولا يُقيد على ثلاث روايات قلت وقد ذكرنا ألفاظ أحمد التي ذكرها وسقناها بتمامها وتبين بذلك أن كلام أحمد ليس بمختلف بل كلام
أحمد نظير كلام ابن عباس رضي الله عنهما تارة يُقيد الرؤية بالقلب وتارة يطلقها ثم قال القاضي والرواية الأولى أصح وأنه رآه في تلك الليلة بعينيه وهذه مسألة وقعت في عصر الصحابة فكان ابن عباس وأنس وغيرهما يثبتون رؤيته في ليلة المعراج وكانت عائشة تنكر رؤيته بعينه في تلك الليلة قال والدلالة على إثبات رؤيته تعالى قوله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] فوجه الدلالة أنه تعالى قسَّم تكليمه لخلقه على ثلاثة أوجه أحدها بإنفاذ الرسل وهو كلامع لسائر الأنبياء والمكلفين والثاني من وراء حجاب وهو تكليمه لموسى وهذا الكلام بلا واسطة لأنه لو كان بواسطة دخل تحت القسم الأول الذي ذكرنا وهو إنفاذ الرسل والثالث من غير رسول ولا حجاب وهو كلامه لنبينا في ليلة الإسراء إذ لو كان من وراء حجاب أو كان رسولاً دخل تحت القسمين ولم يكن للتقسيم فائدة فثبت أنه كان كلامه له عن رؤية //قال شيخ الاسلام// قلت هذه الحجة أخذها القاضي أبو يعلى من أبي الحسن الأشعري ونحوه فإنهم احتجوا بها على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهذه حجة داحضة فإن هذا خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون في تفسير الآية الكريمة وأيضًا فإن الله أخبر بأنه ما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ على هذه الوجوه الثلاثة فلو كان المراد بذلك أنه يكلم تارة مع المعاينة وتارة مع الاحتجاب وتارة بالمراسلة لم يكن لهذا الحصر معنى ولم يكن فرق بين الله تعالى وبين غيره في ذلك ولم يكن نفى بهذا الحصر شيئًا فإن المكلم من البشر إمَّا أن يعاينه المخاطب أو لا يعاينه وإذا لم يعاينه فإما أن يخاطبه بنفسه أو رسوله فلو كان المراد ما ذكر لزم هذه المحاذير وأيضًا فإن وقوله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى 51
دليل على أن القسم الأول هو الوحي الذي يحيه إلى قلوب الأنبياء بخلاف التكليم من وراء حجاب فإنه يكون بصوت مسموع كما خاطب موسى عليه السلام فمن سوّى بين تكليم الوحي وتكليمه من وراء حجاب فجعل الجميع صوت حتى جعل الأول تقترن به الرؤية فهو بمنزلة من سوّى بينهما حتى جعل الجميع بلا صوت وأيضًا فإن تكليمه وحيًا دون تكليمه لموسى عليه السلام من وراء حجاب كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فلو كان ذلك معاينة لكان أرفع منه وهذا لم يقله أحد من السلف ومن زعم ذلك من أهل الإثبات فهو نظير من زعم ذلك من الجهمية الاتحادية وغيرهم ممن يزعم أن الله تعالى يخاطبهم وحيًا في قلوبهم أعظم مما خاطب موسى بن عمران من وراء حجاب الحروف والأصوات والشجرة ونحو ذلك وكل هذا باطل وتحريف وعائشة احتجت بهذه الآية على منع رؤية محمد ربه ولم يقل لها أحد إن الآية تثبت رؤية محمد بل احتاجوا إلى الجواب / قال شيخ الاسلام /] ثم قال القاضي ويدل عليه قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 10] أي كلمه بما كلمه بلا واسطة ولا ترجمان مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] فالظاهر يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الله تعالى بعيني رأسه ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لم يكذب فؤاده ما رآه بعيني رأسه وهذا قد احتج به غير القاضي لكن يقال قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) [النجم 11] لم يذكر المرئي وقد قال بعده لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] وحديث ابن مسعود وعائشة في الصحيحين يخبرُ فيه برؤية جبريل
ويستمر شيخ الاسلام في مناقشة ابي يعل قال قال القاضي ويدل عليه ما حدثناه أبو القاسم عبد العزيز حدثنا على بن عمر بن على أبو الحسن التمار حدثنا أبو بكر عمر بن أحمد بن أبي نعمر الصفّار حدثنا يوسف بن أحمد ابن حرب بن الحكم الأشعري البصري حدثنا روح بن عبادة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) قال رأيت ربي عز وجل مشافهة لاشك فيه وفي قوله عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) قال رأيته عند سدرة المنتهى حتى تبين له نور وجهه قال شيخ الاسلام قلت هذا الحديث كذب موضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والقاضي لم يعلم أنه موضوع ورواه له أبو القاسم الأزجي فيما خرجه في الصفات وأبو القاسم ثقة لكن الكذب فيه ممن فوقه ولم يحدث بهذا روح بن عبادة ولا أبو الزبير أصلاً وأهل الحديث يعلمون ذلك ولا يصلح أن يكون هذا اللفظ من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المشافهة إنما تُقال في المخاطبة لا في الرؤية فيقال يخاطبه مشافهة كما قال من قال من السلف كلم موسى تكليمًا أي مشافهة لايقال في الرؤية مشافهة فإن المشافهة في الأصل مفاعلة من الشفة التي هي فينا محل الكلام وأما الرؤية فيقال فيها مواجهة ومعاينة فيشتق لها من الوجه والعين الذي تكون به الرؤية وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود في تفسير هذه الآية غير هذا ففي صحيح مسلم عن مسروق قال كنت متكئًا عند عائشة
رضي الله عنها فقالت ياأبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت ماهن قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال وكنت متكئًا فجلست فقلت يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] فقالت أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو جبريل لم يره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رآه منهبطًا من السماء عظم خلقه ما بين السماء والأرض الحديث وفي الصحيحين عن عبد الله ابن مسعود في قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) [النجم 18] قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح// قال شيخ الاسلام //ثم قال القاضي وروى أبو بكر الخلال عن عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال وهي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وهذا الحديث صحيح رواه البخاري وغيره كما تقدم لكنه لا يدل على رؤية الرّب تعالى ولهذا لم يذكره الخلال في أحاديث رؤية محمد ربَّه إنما ذكره قبل ذلك في أحاديث الإسراء فإنَّه قال تفريع ما ردّت الجهمية الضُّلال من فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من فضائل ذكر الإسراء والرؤية وغير ذلك ثم قال ذكر الإسراء أخبرنا المرّوذي قال قلت لأبي عبد الله فحكى عن موسى عن عقبة أنه قال إنَّ أحاديث الإسراء منام فقال أبوعبد الله هذا كلام الجهمية وجمع أحاديث الإسراء وأعطانيها وقال منام الأنبياء وحي وقرأ عليه سفيان قال عمرو سمعت عبيد بن عمير يقول رؤيا الأنبياء وحي قال وأخبرني حمدويه الهمداني حدثنا محمد بن أبي عبد الله الهمداني حدثنا أبوبكر بن موسى عن يعقوب بن يختان قال سألت يعني أبا عبد الله عن المعراج فقال رؤيا الأنبياء وحي قال وأخبرني عليّ بن عيسى أنَّ حنبلاً حدثهم قال سمعت أبا عبد الله وسألته فقال الجنَّة والنَّار قد خلقتا وفي هذا حجة أن رؤيا الأنبياء في الأحلام رأي العين وليس حلمهم كسائر الأحلام قال الخلال أخبرنا الحسن بن أحمد الكرماني حدثنا أبوبكر قال حدثنا أبوأسامة عن
سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [يوسف 4] قال كانت الرؤيا فيهم وحيًا حدثنا الحسن بن سلام حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن سماك عن سعيد عن ابن عباس في قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا قال كانت رؤيا وحياً أخبرنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وذِكرُ الخلاّل لهذا مع هذه الأحاديث قد يقال إنما ذكره لقول أحمد رؤيا الأنبياء في الأحلام رأي عين وليس حلمهم كسائر الأحلام وإن قوله رأي عين لاينفي أن يكون في المنام لأنَّ في الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه ولهذا كان لا يتوضأ إذا نام وكذلك فعل أبوبكر بن أبي عاصم في كتاب السنة له فإنه قال باب ما ذكر في رؤية نبينا ربه تبارك وتعالى في منامه ثم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي أنها عنده رؤية عين وأنها في المنام ثمَّ روى حديث سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت رؤيا الأنبياء وحيًا وروى عن مصعب بن سعد عن معاذ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في نومه وفي يقظته فهو حق قال الخلال حدثنا المرّوذي قال قُرئ على أبي عبد الله عبد الله بن الوليد حدثنا سفيان في قوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء 1] قال أسري به من شِعب أبي طالب ثم روى الخلال من
غير وجه عن سعيد عن قتادة عن أنس قال لمّا أُتيَ النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق استصعب عليه فقال له جبريل ما ركبك آدميّ أكرم على الله تعالى منه فارفضّ عرقًا وأقرّ ثم روى الخلال حديث أبي عمرو وعن أبي سعيد قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة فقلنا حدثنا بليلة أسري بك فقال أُتِيتُ بدابَّةٍ هي أشبه الدوابّ بالبغل غير نها مضطربة الأذنين يقال لها البراق وهو الذي يُحمَلُ عليه الأنبياء وهو يضع حافره حيث يبلغ طرفه وحُملتُ عليه من مسجد الحرام متوجهًا إلى المسجد الأقصى قال الخلال وذكر الحديث //قال شيخ الاسلام //فهذا جملة ما ذكره الخلال ومقصوده به تثبيت الإسراء وأنَّه حق وأنَّه من صغّر أمره بقوله هو منام وجعله بذلك من جنس منامات الناس فهو جهميٌّ ضالٌّ ال الخلال بعد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم رأيتُ ربي فذكر أحاديث الرؤية ولم يذكر فيها حديث ابن عباس المتقدم في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ فدل الخلال بذلك على أنَّ حديث ابن عباس هذا لم يقصد به نفس رؤية محمد ربه وإنما هو ما رآه ليلة المعراج مطلقًا فالمطلق يحتمل رؤية محمدٍ ربه لكن فرق بين ما يحتمله اللفظ وبين ما يدلّ عليه وقول الإمام أحمد هذا قول الجهمية لأنّ أحاديث المعراج تدلُّ على أنَّ الله فوق وغير ذلك مما تنكره الجهمية ويدفعون ذلك بأنَّ أحاديث المعراج منام فقال أحمد منام الأنبياء وحي وذلك يفيد أن ماذكر فيه منها أنه في المنام كحديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس وكذلك لو قدر أن جميعها منام فإن ذلك لا يوجب أن يُشبه برؤيا غير النبي صلى الله عليه وسلم لأن رؤياه وحي وهو تنام عينه ولاينام قلبه كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث شريك فإن لفظه الذي في الصحيح عن أنس قال ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم أيهم هو فقال أوسطهم هو خيرهم فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولاينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولاتنام قلوبهم وإذا كان كذلك كان هذا بمنزلة المغمض العين إذا تجلى لقلبه حقائق الأسباب وعرج بروحه إلى السماء وعاينت الأمور فهذا ليس من جنس منامات الناس وهو يقظة لا منام//قال شيخ الاسلام //قال القاضي وروى أبوالقاسم عبيد الله بن أحمد بن عثمان فيما خرجه من أحاديث الصفات بإسناده عن ابن عباس قال كانت الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين //قال شيخ الاسلام //قلت وهذا صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدم قال وروى أبو حفص بن شاهين في سننه بإسناده عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بفؤاده مرتين وهو الذي اتبعه أحمد واحتج به عن ابن عباس كما تقدم
وأما هذا التقييد فمن وضع بعض المتأخرين //قال شيخ الاسلام //قال القاضي وروى أبو حفص بإسناده عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بفؤاده مرتين وروى أيضًا بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه بقلبه قال القاضي وهذا الاختلاف عنه ليس براجع إلى ليلة المعراج وإنما هو راجع إلى رؤيته في المنام في غير تلك الليلة رآه بقلبه على ما نبينه فيما بعد //قال شيخ الاسلام // قلت هذه الألفاظ المتأخرة ثابتة في الصحيح عن ابن عباس وهو ذكرها في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] ولم يقل ابن عباس إن الرؤية بفؤاده كانت في المنام بل تكون في اليقظة // قال شيخ الاسلام// ثم قال القاضي وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة لأن قول ابن عباس يطابق قول النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته تلك الليلة ولأنه مثبت والمثبت أولى من النافي ولا يجوز أن يثبت ابن عباس ذلك إلاّ عن توقيف إذ لا مجال للقياس في ذلك /قال شيخ الاسلام /قلت أما ترجيحه قول ابن عباس بأنه مثبت وبأن ذلك لا يقال إلاّ عن توقيف فهو من الترجيح القديم الذي يحتج به مثبت رؤية محمد صلى الله عليه وسلم من الأئمة وسائر أهل الحديث ولا ريب أن المثبت أولى من النافي فـ يـ ما كان من باب الرواية كما قدم الناس رواية بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت على قول أسامة إنه لم يصل وقد قالوا هذا لا يقال بالقياس وإنما يقال بالتوقيف فيكون من باب الرواية لكن قد يقال ونفي ذلك أيضًا لايؤخذ بالقياس وإنما يقال بالتوقيف فإن كون رؤية محمد ربه وقعت أو لم تقع هو من الأخبار التي لا تُعلم بمجرد القياس وعائشة رضي الله عنها لما نفت ذلك لم تستند مع استعظام ذلك أن تكون في الدنيا إلاّ إلى ما تأولت من الآيتين وابن عباس ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) [النجم 13] فكلامه أيضًا كان في تأويل القرآن وأما الأحاديث التي رواها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي فقد ذكر القاضي ذلك لما ذكر تلك الأحاديث وأما ما احتج به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته تلك الليلة فإنه لم يعتمد في ذلك إلاّ على الحديث الذي ذكر هذا كله في الكلام عليه وهو الحديث الذي سنذكره إن شاء الله مما رواه الخلال عن أبي ثعلبة عن أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قال فوضه يده حتى وجدت فذكر كلمة ذهبت عني قال ثم قال فيم يختصم الملأ العلى وذكر الخبر /قال شيخ الاسلام /قال القاضي أعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصول أحدها في إثبات ليلة الإسراء وصحتها والثاني في إثبات رؤيته لله تعالى تلك الليلة والثالث في وضع الكف بين كتفيه الرابع في إطلاق تسمية الصورة عليه والخامس قوله لا أدري لما سأله فيم يختصم الملأ الأعلى ثم تكلم على ذلك /قال شيخ الاسلام // قلت الإسراء وإن كان حقًّا ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم قد جاءت بها آثار ثابتة وهذا الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه بالمدينة في المنام لكن هذا الحديث بهذا اللفظ المذكور في ليلة الإسراء من الموضوعات المكذوبات كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وإنما ذكر أن ربه أتاه في المنام وقال له هذا ووضع يده بين كتفيه بالمدينة في منامه ولهذا لم يحتج أحد من علماء الحديث بهذا بل رووه للاحتجاج ولم يثبتـ ـه أحد في الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث كما بيناه فتبين أن القاضي ليس معه ما اعتمد عليه في رواية اليقظة إلاّ قول ابن عباس وآية النجم وقول ابن عباس قد جمعنا ألفاظه فأبلغ مايقال لمن يثبت رؤية العين أن ابن عباس أراد بالمطلق رؤية العين /290/7/ قال شيخ الاسلام ايضا والمقصود هنا أن قول ابن عباس رآه مرتين أجاب فيه بقوله ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء لما سئل عن قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وهذا يقتضي أنَّ المرتين رؤية عين مع أنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه رآه بفؤاده مرتين ذكره أيضًا في تفسير الآية وهذا يقوي أن تكون رؤية الفؤاد عنده رؤية العين للأنبياء خصوصًا لا لغيرهم وحين عورض بهذه الآية أجاب عنها وعلى هذا فتتفق أقوال ابن عباس وهو أشبه ثم روى الترمذي حديث محمد بن عمرو عن أبي
سلمة عن ابن عباس في قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) [النجم 13-15] فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 9-10] قال ابن عباس قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال أبوعيسى هذا حديث حسن ثم روى حديث يزيد بن إبراهيم التستري عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذرّ لو أدركت النبي صلى الله عليه وسلم سألته فقال عما كنت تسأله قال كنت أسأله هل رأى محمد ربه فقال قد سألته فقال نُورٌ أنَّى أرَاهُ قال أبو عيسى هذا حديث حسن ثُمَّ روى من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض قال أبوعيسى هذا حديث حسن صحيح //قال شيخ الاسلام // قلت فأمَّا إثباته الرؤية بسورة والنجم فقد نوزع فيه أيضًا وأما أبوذر فقد تقدم قوله رآه بفؤاده ولم يره بعينه وأمَّا أنس بن مالك فقد روى من حديث شعبة عن قتادة عن أنس قال رأى محمد ربه ورواه ابن خزيمة فقال حدثنا إبراهيم بن عبد العزيز المقوم حدثنا أبو بحر البكراوي عبد الرحمن بن عثمان عن شعبة وكذلك رواه ابن أبي عاصم حدثنا عمرو بن عيسى الضبعي حدثنا أبوبحر البكراوي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن محمدًا قد رأى ربه تبارك وتعالى وكذلك رواه الطبراني فقال حدثنا زكريا السَّاجي حدثنا عمرو بن عيسى الضبعي حدثنا أبوبحر البكراوي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال رأى محمد ربه فمداره على أبي بحر عن شعبة وفي مفرده نظر يحتمل أن يكون اشتبه عليه ذلك ببعض أحاديث قتادة في هذا الباب فإنه روى عن عكرمة وغيره ذكر الرؤية وإلاَّ فانفراده من بين أصحاب شعبة ريبة تُوجبُ نظرًا وقد روى الطبراني في السنة في باب رؤية محمد ربه في قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 10] حدثنا محمد بن علي الصائغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا
الحارث بن عبيد أبوقدامة الإيادي عن أبي عمران الجَوني عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت النور الأعظم ولط دوني الحجاب رفرفة الدُّر والياقوت فأوحى الله إليَّ ما شاء أن يوحي قال حدثنا يوسف القاضي حدثنا المقدمي حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس وأبي ذر في
قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) [النجم 10] قالا عبده محمد صلى الله عليه وسلم فإن قيل فقد روى الخلال حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا أبو داود المباركي حدثنا حماد بن دليل عن سفيان بن سعيد عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب
أو عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما كنت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا أدري قال فوضع يده حتى وجدت فذكر كلمة ذهبت عني قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت في الكفارات والدرجات قال وما الكفارات قلت إسباغ الوضوء في المسرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال وما الدرجات قلت إطعام الطعام وإفشاء السلام وصلاة بالليل والناس نيام قال قل قلت وما أقول قال قل اللهم إني أسألك عملاً بالحسنات وترك المنكرات وإذا أردت في قوم فتنة وأنا فيهم فاقبضني إليك غير مفتون وقد ذكر القاضي أبو يعلى هذا الحديث في كتاب إبطال التأويل أو ل ما ذكر من أحاديث هذا الجنس الذي فيه رؤيته في أحسن صورة وأثبت ذلك يقظة وتكلم عليه كما تكلم على غيره من الأخبار فأبطل التأويل إذ المتأولون كالمريسي وذويه وابن فورك ونحوه يجعلون هذا في اليقظة ويتأولونه كما فعله المؤسس قيل هذا الحديث كذب موضوع على هذا الوجه بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث ولهذا لم يذكره الإمام أحمد فيما ذكره من أخبار هذا الباب ولا أحد من أصحابه الذين أخذوا عنه لا فيما يصححون ولا فيما عللوه وكذلك ابن خزيمة لم يذكره لا فيما صححه ولا فيما علله ولا رووه الأئمة الذين جمعوا في كتب السنة أحاديث الباب كابن أبي عاصم والطبراني وابن منده وغيرهم لأنه من الموضوعات التي لا يجوز ذكرها لمن علم بها إلاّ أن يبين أنها موضوعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وهذا الحديث من أبطل الباطل عن سفيان الثوري والحسن بن صالح بن حي لم يأت به عنهما أحد من أصحابهما مع كثرتهم واشتهارهم وأيضًا فأحاديث المعراج قد رواها أهل الصحيح من حديث مالك بن صعصعة وأبي ذر وأنس وابن عباس وأبي حبة الأنصاري ورواه أهل السنن والمسانيد من وجوه
أخرى وليس في شيء منها هذا مع توفر الهمم والدواعي على ضبط ذلك لو كان له أصل وهذا التأويل يوجب العلم ببطلان هذا وأيضًا فقوله فيه نقل الأقدام إلى الجمعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة والمعراج كان بمكة وتلك الليلة فرضت الصلوات الخمس ولم تكن جمعة فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن أول جمعة كانت في الإسلام بعد جمعة بالمدينة جمعت بالبحرين بجواثاء قرية من قرى البحرين وهذا من العلم المتواتر الذي لا يتنازع فيه أهل العلم وأما ما يوجد في كتب أخرى ويوجد عند كثير من الشيوخ والعامة من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في بعض سكك المدينة أو خارج مكة أو أنه ينزل عشية عرفة فيعانق المشاة ويصافح الركبان ونحو هذه الأحاديث التي فيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في اليقظة في الأرض فكلها من أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم فليعلم ذلك //قال شيخ الاسلام //والخلال روى هذا الحديث من هذا الوجه ورواه من وجه آخر هو الصواب لأنه جمع الطرق فقال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله ابن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك ربي وسعديك فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وذكر الحديث قال الخلال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا حماد بن دليل حدثنا سفيان الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ففي هذه الرواية من رواية مؤمل عن حماد بن دليل عن الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم جعله مرسلاً وجعله مثل حديث أبي هريرة وحديث أبي هريرة يوافق سائر الأحاديث أن ذلك كان في المنام كما ذكره في هذه الراوية ولكن إنما اعتقد صحة هذا من لم يكن له بالحديث وألفاظه وروايته خيرة تامة من جنس الفقهاء وأهل الكلام والصوفية ونحوهم فلهذا ذكروه من بين متأول ومن بين راد للتأويل ثم المثبتة تزيد في الأحاديث لفظًا ومعنى فيثبتون بعض الأحاديث الموضوعة صفات ويجعلون بعض الظواهر صفات ولا يكون كذلك والنافية تنقض الأحاديث لفظًا ومعنًى فيكذبون بالحق ويحرفون الكلم عن مواضعه// قال شيخ الاسلام// ومن هذا ما رواه الخلال حدثنا عمرو بن إسحق حدثنا أبو مسلم الحضرمي حدثنا أبو معاوية وهب بن عمرو الأحموسي عن أبي عبد الرحمن عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أسري بي إلى السماء فرأيت الرحمن الأعلى بقلبي في خلق شاب أمرد نور يتلألأ وقد نهيت عن صفته لكم فسألت إلهي أن يكرمني برؤيته فإذا هو كأنه عروس حين كُشفت عن حجلته مستويًا على عرشه في وقاره وعزه ومجده وعُلوِّه ولم يؤذن لي في غير ذلك من صفته لكم سبحانه في جلاله وكريم فعاله في مكانه العلي نوره المتعالي وهذه الألفاظ ينكر أهل المعرفة بالحديث أن تكون من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا الحديث يبين أن حديث عكرمة المشهور كان بفؤاده كما في هذا ويشبه هذا ما رواه الخلال أيضًا قال حدثنا يزيد بن جمهور حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العبدي حدثنا أبي حدثنا سفيان عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به قال انتهيت على نهر من نور لهب النار قال فجعلت أهال قال وجعل جبريل يقول يامحمد ادع الله بالتثبيت والتأييد قال فجعلت أدعو بالتثبيت والتأييد فذكر أنها دون العرش حتى انتهيت إلى العرش وأمسك جبريل عني قال فلما انتهينا إلى الله ألقيت على الوسنة قال وعاينت بقلبي جلاله قال فكان ابن عباس يقول رآه بفؤاده ولم تر هـ عيناه ولكن قد يكون أصل الحديث أنهما حدثا عن ابن عباس محفوظًا وزيد فيه زيادات كما جرت به عادة كثير من هؤلاء المصنفين فيكون هذا موافقا لأن حديث قتادة والحكم عن عكرمة وحديث سلمة بن عمرو أنه كان ليلة المعراج وأما رواية الترمذي للأحاديث المتقدمة فالصواب أنها ثابتة كما عليه أئمة الحديث ولذلك احتج بها أحمد وقال يقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي فأنكر على من رد موجبها وقد ثبت حديث عكرمة عن ابن عباس وهو أسدُّها وذكر أن العلماء تلقته بالقبول وقال حدث به فقد حَدَّثَ به العلماء فأما قوله في رواية الأثرم يُضطربُ في إسناده وأصل الحديث واحد وقد اضطربوا فيه فهذا كلام صحيح فإنهم اضطربوا في إسناده بلا ريب لكن لم يقل إن هذا يوجب ضعف متنه ولا قال إن متنه غير ثابت بل مثل هذا الاضطراب يوجد في أحاديث كثيرة وهي ثابتة وهذه الطرق مع ما فيها من الاضطراب لمن يتدبر الحديث ويحسن معرفته يدل دلالة واضحة على أن الحديث محفوظ صحيح الأصل لاريب في ذلك بل قد يوجب له القطع بذلك كما نبهنا عليه أولاً فإنه قد ثبت أنه حدث به عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وأخبره يزيد بن يزيد وأبو قلابة والأوزاعي عن خالد بن اللجلاج وكل هؤلاء ممن الثقات المشاهير وهذا يثبت رواية خالد له لكن أحدهم قال عن ابن عباس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن ابن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يقتضي ثبوت إحدى الروايتين دون الأخرى إذ لم يختلفا في متنه وإنما اختلفا في صفة الإسناد فقد يقال الثانية أصح لأن ابن عائش ليس ممن اتفق على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن إحدى الروايتين فيها زيادة والزيادة من الثقة مقبولة وقد يقال الأولى أصح لأن رواتها عن خالد أكثر وقد رواه كذلك الأوزاعي وغيره كما سيأتي إن شاء الله والأشبه أن الاضطراب في هذه الرواية وقع من خالد نفسه وأنه كان لا يذكر في أكثر الروايات إلاّ ابن عائش ولهذا لم يذكر أبو قلابة عنه إلاَّ ما يشتبه بابن عائش وبالجملة فأيّ الروايتين كانت هي المحفوظة صحَّ الحديث إذ تعارضهما إمَّا أن يوجب صحَّة إحداهما أو يوجب الجمع بينهما وعلى كل تقدير فالحديث محفوظ فأمَّا طرحهما جميعًا فإنَّما يكون إذا تعارض متنان متناقضان وكذلك قول أبي قلابة عن ابن عباس إمّا أن يكون محفوظًا أو مُصَحَّفًا وعلى التقديرين لا يقدح في متن الحديث بل يؤيده ويثبته سواء كان محفوظًا أو مُصحَّفًا ورواية يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاّم عن ابن عائش لاتخالف رواية خالد بن اللجلاج عنه بل توافقه وتعضده لأنّ رواية خالد تدلُّ على أنه كان لا يستوفي إسناده بل تارة يرسله وتارة يذكر الصاحب فهذه الرواية ذكرت ما ذكروه واستوفت الإسناد والمتن وأمّا ما ذكره ابن خزيمة من كون يحيى مُدلِّسًا لم يذكر السَّماع فهذا لا يضرُّ هنا لأنّ غاية ما فيه أن يكون أخذه من كتاب زيد بن سلاَّم كما حُكي عنه أنَّه كان يُحدّث من كتاب أبي سلاّم إما لمعرفته بخطّه وإمَّا لأن الذي أعطاه قال له هذا خطه وهذا ممّا يزيد الحديث قوة حيث كان مكتوبًا ولهذا كان إسناده ومتنه تامًّا في هذه الطريق بحمله دون الأخرى والاحتجاج بالكتاب في مثل هذا جائز كالاحتجاج بصحيفة عمرو بن حزم وصحيفة عبد الله بن عمرو التي رواها عمرو بن شعيب كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى النواحي فتقوم الحجة بذلك وإن لم يكن هذا حجة فمن المعلوم أن هذا الطريق يبيِّن أن الحديث عن ابن عائش إذ مثل هذه الطريق إذا ضُمت إلى طريق خالد بن اللجلاج كان أقل أحوال الحديث أن يكون حسنًا إذ رُوي من طريقين مختلفين ليس فيهما متهم بالكذب بل هذا يُوجب العلم عند كثير من الناس ولهذا كان الأئمة يكتبون الشواهد والاعتبارات ما لايُحتج به منفردًا والذي ذكر ابن خزيمة من أنه لم يثبت طريق معين من هذه الطرق هذا فيه نزاع بين أهل الحديث لكن إذا ضُمت بعضها إلى بعض صدَّق بعضها بعضًا فهذا مـ ـما لا يتنازعون فيه لكن ابن خزيمة جرى على عادته أنه لا يحتج إلا ب إسنادٍ يكون وحده ثابتًا فإنَّه كثيرًا ما يُدخل في الباب الذي يحتجُّ له من الشواهد والاعتبارات أشياء فلا يحتج بها فما قاله لا ينافي ما اتفق عليه أهل العلم فثبت صحَّة الاحتجاج به من طريقين أحدهما من جمع الطرق لكن ابن خزيمة لم يسلك هذا والثاني من جهة ثبوت الاحتجاج بالكتاب لكن ابن خزيمة لم يذهب إلى هذا ومما يؤيد هذا أنَّ المتن نفسه قد رُوي من وجوه أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ثوبان الذي تقدم ذكره وقد رواه الخلال أيضًا وروي من حديث ابن عمر قال الخلال حدثنا محمَّد بن عوف حدثنا أبواليمان حدثنا أبومهدي عن أبي الزهراية عن أبي شجرة عن ابن عمر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تلبَّث عن أصحابه في صلاة الصبح حتى تراءى له قرن الشمس أن يطلع ثم خرج عليهم فصلى صلاة الصبح فلمَّا فرغ قال اثبتوا على مقاعدكم ثم أقبل عليهم يقول لهم هل تدرون ما حبسني عنكم قالوا الله ورسوله أعلم قال إني صليت في مصلاي ما كتب الله لي فضُرب على أذني وأتاني ربي في أحسن صورة وقال الخلال أخبرنا محمَّد بن إسماعيل حدثنا وكيع عن عبيد الله بن أبي حُميد عن أبي المُليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني آتٍ في أحسن صورة فقال يا محمَّد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى يوم القيامة قلت لا فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بَردها بين ثدييّ قال فعرفت كل شيء سألني عنه قال نعم يختصمون في الدرجات والكفارات قال وما الدرجات قلت إسباغ الوضوء في السبرات والمشي على الأقدام إلى الجمعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط والكفارات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام وقد انقلب في هذا المتن الكفارات بالدرجات فإن الصواب أنَّ تلك الأعمال هي الكفارات وهذه الثانية هي الدرجات كما سبق في الروايات وقوله أتاني آت في أحسن صورة يفسره ما رواه الخلال أيضًا حدثنا أحمد بن محمَّد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله بن أبي حُميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منام في أحسن صورة فقال يا محمَّد قلت لبيك وسعديك فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وقال مؤمل حدثنا حمَّاد بن دليل حدثنا سفيان الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال قُرئ على محمَّد بن إبراهيم الصدري وأنا
أسمع حديثكم مؤمل حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن صورة فالأشبه أن لفظ أتاني آتٍ هو من رواية بعض الرواة بالمعنى كأنّه عَدَلَ عن لفظ ربي إمَّا خوفًا على نفسه أو على المستمع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لاريب أنَّه قال ذلك اللفظ كما تواترت به الطرق وقد روى الحافظ أبوعبد الله بن منده هذا الحديث فيما أخرجه وانتقاه من أحاديث الصفات التي لم يُضمنها الضّعاف وذكر استفاضة طرقه واتفاق علماء الشرق والغرب على تبليغه رواه من حديث أبي هريرة وثوبان وأحاديث ابن عائش فقال أخبرنا أبو خيثمة حدثنا محمَّد بن إبراهيم بن كثير حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله لن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي عز وجل في منامي في أحسن صورة فقال لي يا محمَّد قلت لبيك وسعديك قال هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا يارب فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدتُّ بردها بين ثدييّ وذكره أخبرنا عبيد الله بن جعفر البغدادي بمصر حدثنا هارون بن كامل حدّثنا أبوصالح قال حدّثنا معاوية بن صالح عن أبي يحيى وهو سليم عن أبي يزيد عن أبي سلاّم الحبشي أنه سمع ثوبان قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال إن ربي عز وجل
أتاني الليلة في أحسن صورة فقال يا محمَّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا علم لي يارب فوضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله في صدري فتخيّل لي ما بين السماء والأرض وذكر الحديث أخبرنا الحسن بن يوسف الطرائفي بمصر حدثنا إبراهيم ابن مرزوق حدثنا أبوعامر العقدي حدثنا زهير بن محمَّد عن يزيد بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة وهو طيب النفس مشرق اللّون فقلنا له فقال مالي وأتاني ربّي الليلة في أحسن صورة الحديث قال الحافظ أبوعبد الله بن منده هكذا رواه زهير عن يزيد بن يزيد وزاد في الإسناد رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الأوزاعي وعبد الرحمن بن جابر وغيرهما وعن خالد بن اللجلاج ولم يذكروا الرجل في الإسناد ثنا محمّد بن جعفر بن يوسف وخيثمة بن سليمان قلا حدثنا العبّاس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي حدثنا ابن جابر والأوزاعي قالا حدثنا خالد بن اللجلاج سمعت عبد الرحمن بن عائش قال صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث بمثله وقال فيه فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثدييّ فعلمت ما بين السماء والأرض ثم قرأ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام 75] قال الحافظ أبو عبد الله بن منده ورواه أبوسلاّم عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال ورُوي هذا الحديث عن عشرة من الصحابة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونقلها عنهم أئمة البلدان من أهل الشرق والغرب وكنت حين كتبت ما كتبته بمكان لا يصل إليّ فيه الكتب وكنت أعلم أن هذا الحديث في جامع الترمذيّ لكن لم يكن حاضرًا عندي فلمَّا حضر إليّ بعد ذلك وجدته قد تكلم عليه نحوًا ممَّا تكلمت وبيَّن أنه حديث صحيح وذكر عن البخاري أنه حديث صحيح وأنَّ الصواب هو حديث معاذ فروى الترمذي في التفسير في سورة ص أولاً حديث معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني الليلة ربّي في أحسن صورة قال أحسبه في المنام قال كذا في الحديث فقال يا محمَّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا قال فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثدييّ أو قال في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض قال يامحمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجمعات والجماعات وإسباغ الوضوء في المكاره ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمّه قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه قال وفي الباب عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي هذا الحديث عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله وقال إني نعست فاستثقلت نومًا فرأبت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى ثم قال حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هانئ اليشكري حدثنا جهضم بن عبد الله عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعًا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوَّز في صلاته فلما سلم دعا بصوته قال لنا على مصافكم كم أنتم ثم لنفتل إلينا ثم قال أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة أني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قُدِّر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن
صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قالها ثلاثًا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثدييّ فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال يا محمد قلت لبيك ري قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الكفارات قال ما هن قلت مشي الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حين الكريهات قال ثم فيم قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام قال سَلْ قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرِّب إلى حبك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها حق فادرسوها ثم تعلموها قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقال هذا أصح من حديث الوليد بن الحضرمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وهذا غير محفوظ هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن ابن عائش قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى بشر ابن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا
الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأيت أبا بكر بن أبي عاصم روى هذا الحديث في كتاب السنة من طرق أخرى بعد أن قال باب ما ذكر من رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم ربه في منامه وأسند قول ابن عباس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم وأسند قول ابن عباس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ عن عبد الملك بن ميسرة عن مصعب بن سعد عن معاذ
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في نومه وفي يقظته فهو حق ثم قال باب فقال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثنا سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تجلى لي في أحسن صورة فسألني فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت رب لا علم لي قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو وضعها بين ثديي حتى وجدت بردها بين كتفي فما سألني عن شيء إلا علمته قال وحدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن ليث عن أبي سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تراءى لي ربي في أحسن صورة ثم ذكر الحديث حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم وصدقة بن خالد فالا حدثنا ابن جابر قال مر بنا خالد بن اللجلاج فدعاه مكحول فقال له يا أبا إبراهيم حَدِّثنا حديث عبد الرحمن بن عائش قال سمعت عبد الرحمن بن عائش يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة حدثنا يحيى بن عثمان بن كثير حدثنا زيد بن يحيى حدثنا ابن ثوبان حدثنا أبي عن مكحول وابن أبي زائدة عن ابن عائش الحضرمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة وذكر حديث أبي قلابة عن خالد عن ابن عباس وحديث ثوبان قال وفي هذه الأخبار وضع يده بين كتفي والحافظ أبو القاسم الطبراني ذكر في كتاب السنة في باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه أحاديث ابن عباس ونحوها ثم ذكر الحديث وقدم فيه طريق معاذ الذي هو أصحها وأكملها ورواه من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير فقال حدثنا محمد بن محمد التمار البصري قال حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي حدثنا موسى بن خلف العمي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاَّم عن جده ممطور عن عبد الرحمن السكسكي عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع فلما صلى بنا الغداة قال إني صليت الليلة ما قُضي لي ووضعت جنبي في المسجد فأتاني ربي عز وجل في أحسن صورة فقال يامحمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا يارب قالها ثلاثًا قلت لا يارب قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها في صدري فتجلى لي كل شيء وعرفته فقلت في الكفارات قال فما الدرجات قلت إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام فقال صدقت فما الكفارات قلت إسباغ الوضوء في السبرات وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الأقدام إلى الجمعات قال صدقت سل يا محمد قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بين عبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق ثم ذكر حديث معاوية ابن أبي صالح عن أبي يحيى عن أبي يزيد عن أبي سلام الأسود عن ثوبان قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عد صلاة الصبح فقال إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة وذكر الحديث قال أبو القاسم أظنه الذي روى عنه معاوية بن صالح هذا الحديث هو سليم بن عامر وأبو زيد هو زيد بن سلاَّم ثم ذكر حديث جابر بن سمرة كما ذكره ابن أبي عاصم فقال حدثنا عبيد الله بن همام قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وساقها باللفظ المتقدم إلاَّ أنه قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها على ثديي فما سألني عن شيء إلاَّ علمته ولم يشك ثم ذكر حديث قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس وحديث معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ثم ذكر طريقًا ثالثًا لحديث أبي قلابة وسماه عبد الله بن عائش فقال حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا معاوية بن عمران الجرمي
حدثنا أنيس بن سوار الجرمي عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج أن عبد الله بن عائش حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا مستبشرًا على أصحابه يعرفون السرور في وجهه فقال لهم أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك رب وسعديك قال هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت نعم يارب في الكفارات والكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإبلاغ الوضوء أماكنه على المكروهات قال صدقت يامحمد فمن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته مثل يوم ولدته أمه وإذا صليت يامحمد فقل اللهم إني أسألك فعل الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب على وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني وأنا غير مفتون والدرجات الصوم وطيب الكلام والصلاة بالليل والناس نيام فتسميته في هذه الرواية عبد الله بن عائش دليل على الاضطراب ثم ذكر حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد من رواية الأوزاعي والوليد بن مسلم كلاهما عنه ثم ذكر حديث أبي أمامة فقال حدثنا محمد بن إسحاق بن راهوية حدثنا أبي حدثنا جرير عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ثم ذكر حديث يوسف بن عطية الصفار عن قتادة عن
أنس وهو وهم فإن يوسف ضعيف والثقات عن قتادة ذكروه عن أبي قلابة ثم ذكر حديث أبي هريرة الذي رواه الخلال فقال حدثنا محمد بن غيلان حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن صورة ثم ذكر مثله وأما حديث أم الطفيل فإنكار أحمد له لكونه لم يعرف بعض رواته لا يمنع أن يكون عرفه بعد ذلك ومع هذا فأمره بتحديثه به لكون معناه موافقًا لسائر الأحاديث كحديث معاذ وابن عباس وغيرهما وهذا معنى قول الخلال إنما يروى هذا الحديث وإن كان في إسناده شيء تصحيحًا لغيره ولأن الجهمية تنكر ألفاظه التي قد رويت في غيره ثابتة فروي ليبين أن الذي أنكروه تظاهرت به الأخبار واستفاضت وكذلك قول أبي بكر عبد العزيز فيه وهاء ونحن قائلون به أي لأجل ما ثبت من موافقته لغيره الذي هو ثابت لا أنه يقال بالواهي من غير حجة فإن ضعف إسناد الحديث لا يمنع أن يكون متنه ومعناه حقًّا ولا يمنع أيضًا أن يكون له من الشواهد والمتابعات ما يبين صحته ومعنى الضعيف عندهم أنا لم نعلم أن رواية عدل أو لم نعلم أنه ضابط فعدم علمنا بأحد
هذين يمنع الحكم بصحته لا يعنون بضعفه أنا نعلم أنه باطل فإن هذا هو الموضوع وهو الذي يعلمون أنه كذب مختلق فإذا كان الضعيف في اصطلاحهم عائدًا إلى عدم العلم فإنه يطلب له اليقين والتثبيت فإذا جاء من الشواهد بالأخبار الأخر ى وغيرها ما يوافقه صار ذلك موجبًا للعلم بأن روايه صدق فيه وحفظه والله تعالى أعلم // قال شيخ الاسلام //فصل إذا عرف أن الحديث الذي فيه رأيت ربي وأتاني ربي في أحسن صورة وقال فيم يختصم الملأ الأعلى وفيه فوضع يده بين كتفي إنما كان في المدينة وكان في المنام وهو حديث ثابت ظهر خطأ طائفتين طائفة تعتقد أنه كان في اليقظة ليلة المعراج وتجعله من الصفات التي تقررها أو تحرفها فنتكلم على ما ذكره المؤسس
قلت وهو الرازي في كتابه اساس التقديس وهو المردود عليه في تلبيس الجهمية وهو كتاب شيخ الاسلام الذي لخصنا منه ما سبق //قال شيخ الاسلام //قوله //أي الفخر الرازي // يحتمل أن يكون ذلك من صفات الرائي كما يقال دخلت على الأمير في أحسن هيئة أي وأنا كنت على أحسن هيئة //قال شيخ الاسلام // فهذا باطل لوجوه احدها أن لفظه في أتم طرقه إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في مصلاي حتى استثقلت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى فقوله فإذا أنا بربي في أحسن صورة صريح في أن الذي كان في أحسن صورة هو ربه الوجه الثاني أن في اللفظ الآخر أتاني ربي الليلة في أحسن صورة الوجه الثالث أن النائم إذا أخبر بأنه رأى غيره في أحسن صورة لم يكن مقصوده الإخبار بصورة نفسه الرابع أن قول القائل رأيت فلانًا في أحسن صورة إنما يتعلق الطرف فيه بالمرئي لا بالرائي كما لو قال رأيت فلانًا راكبًا أو قاعدًا أو في حال حسنة ونحو ذلك أو في أحسن صورة لأن من لغتهم أن ما يصلح للفاعل والمفعول لا يجوز فيه ترك الترتيب إلاَّ إذا أمن اللبس فلا يقولون ضرب موسى عيسى إلاَّ إذا كان الأول هو الضارب ويقول أكل الكمثرى موسى يقدمون المفعول لظهور المعنى بالرتبة فقول القائل في أحسن صورة وفي حال حسنة ونحو ذلك لا يجوز تعليقه إلا بما هو الأقرب إليه فإذا كان المفعول هو المتأخر وهو الأقرب إليه تعلق به وإذا أريد تعليقه بالفاعل أخر أو أعيد ذكره مثل أن يقال جئته وأنا في أحسن صورة أو لم يأت الأمير إلاَّ وأنا في أحسن صورة ونحو ذلك وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول القائل دخلت على الأمير في أحسن هيئة فإن دخوله على الأمير يُشعر بأنه كان هو المتحول المتنقل والأمير يتجمل للقائه ألا ترى أنه لو قال رأيت الأمير في أحسن هيئة أو في أحسن صورة لم يكن المفهوم منه إلاَّ أن الأمير هم الذي في أحسن هيئة وأحسن صورة فيُعطى كل لفظ تركيبه وحقه لا يقاس هذا بهذا مع اختلاف تعيينها الخامس أن قوله في الوجه الأول يكون المعنى أن الله زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه يقال له مما عده العلماء من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه عُرج به إلى السماء ثم رجع وأصبح كبائت لم يتغير كما حصل لموسى عليه والسلام حين كلَّمه الله فإنه كان يتبرقع وكذلك لما خرج عليهم إلى صلاة الفجر بالمدينة وأخبرهم بما رأى لم ينقل أحد أنه تغيرت صورته حتى صارت أحسن الصور أكثر ما في بعض الطرق أنه خرج وهو طيب النفس مشرق اللون ومعلوم أن هذا ليس بأحسن الصور السادس أن تلك الزيادة في صورته إن قيل بقيت عليه فهذا كذب ظاهر فإن صورته لم تخالف اختلافًا خارجًا عن العادة وإن قيل كانت حين الرؤية وزالت بزوالها فمن المعلوم أن الذي يزاد إكرامه بتزيين صورته إن لم يره العباد في الصورة الحسنة المجمَّلة وإلا فهو في نفسه لا يحصل له انتفاع بمجرد جمال صورته الذي لا يراه أحد فأي إكرام في هذا الوجه السابع أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة لو عاد إلى الرائي لوجب أن يكون حين الرؤية كان في أحسن صورة والحديث يدل على أنه لفرحه وسروره بالرؤية أشرق لونه وطابت نفسه فيكون ذلك بعد الرؤية فامتنع أن يكون قوله هذا حجة فبطل قولهم الوجه الثامن أن لفظه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وهو طيب النفس مشرق اللون فقلنا ماله فقال مالي وأتاني ربي الليلة في أحسن صورة فهذا صريح بأن إتيان ربه له في أحسن صورة ليس هو طيب نفسه وإشراق لونه الوجه التاسع قوله في الوجه الثاني أن المراد من الصورة الصفة ويكون المراد الإخبار عن حسن حاله عند الله وأنه أنعم عليه بوجوه كثيرة عظيمة من الإنعام باطل من وجوه
أحدها أن النعم المخلوقة للعبد المنفصلة عنه لا تكون صفة له بحال فإن الموصوف لا يوصف إلاَّ بما قام به من الصفات لا بشيء لا يقوم به بحال وقد تقدم تقرير هذا ولو جاز هذا لجاز وصف الله بجميع الموجودات وأن يكون جميعها صفات لله ولجاز وصف العبد بكل ما يملكه الله تعالى إياه الثاني أن لفظ الصورة لا يقال إلاَّ على ما هو قائم بذي الصورة فأما الأمور المنفصلة عنه التي لا تقوم به فلا تكون صورة له كما تقدم الثالث أنه لو أريد بالصورة الصفة لكان جمال صورته وحسنها أولى بأن يكون معنى هذا الوجه دون أن يكون هذا المعنى هو معنى لفظ الصورة وتكون النعم المنفصلة معنى لفظ الصورة الرابع قوله وذلك لأن الرائي قد يكون بحيث تلقاه المرئي بالإكرام والتعظيم وقد يكون بخلافه فعرفنا الرسول أن حاله كان من القسم الأول يقال له الإكرام والتعظيم هو من فعل الله تعالى فهو بأن يكون صفة له أولى من أن يكون صفة للكريم المعظم فإما أن يكون صفة لهما أو للمُكْرَم أما جعله صفة للمُكْرَم فقط فباطل وذلك لأن الإكرام إن كان أمرًا قائمًا بذات المكرم فهو الوجه الأول وإن كان منفصلاً عنه فمن المعلوم أن كونه صفة لله أولى لأن الله فعله والله يوصف بنفس الفعل الذي هو الخلق والتكوين عند عامة أهل الإثبات وإن خالف في ذلك الجهمية من المعتزلة ومن تبعهم من متكلمة الصفاتية ونحوهم وكذلك التلقي بالإكرام هو فعل المرئي فهو أحق بالوصف به من الرائي فتبين بطلان أن يكون قوله في أحسن صورة إلى المرئي فقط فإن قيل يجوز أن يكون قوله في أحسن صورة عائدًا إلى الرؤية نفسها فيكون متعلقًا بالمصدر لا بالفاعل ولا بالمفعول والتقدير رأيته رؤية هي في أحسن صورة أي صفة قيل هذا لو صح لكان هو معنى الوجه الأول لأن الرؤية صفة للرائي فصفتها صفته فيكون المعنى رأيت ربي وأنا في أحسن صورة وأيضًا فالصورة إنما يوصف بها ما قام بنفسه فأمَّا الرؤية ونحوها فيحتاج وصفها بالصورة إلى نقل ذلك من لغة العرب بل لا يوصف بها في لغتهم إلاَّ بعض الأمور القائمة بنفسها كما تقدم م قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما أن الصورة لا تكون إلاَّ إذا كان له وجه فـ قوله صلى الله عليه وسلم من صور صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ
لا يتناول إلاَّ ذلك الخامس أن حديث أم الطفيل نص في أن الصورة كانت للمرئي حيث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في صورة شاب موفر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب السادس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل رأيت ربي في أحسن صورة وسكت بل لم يقل ذلك إلاَّ موصولاً بما يبين صفة الرؤية كما تقدمت ألفاظ الحديث بذلك //قال شيخ الاسلام // فهذا الذي ذكره المؤسس ومن نقل كتبه كابن فورك مـ ـمن جعله حديثًا مفردًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة ثم يتأولون ذلك أمر لا أصل له أما قول الرازي إن كان عائدًا إلى المرئي ففيه وجوه الأول أن يكون رأى ربه في المنام في صورة مخصوصة وذلك جائز لأن الرؤيا من تصرفات الخيال فلا ينفك ذلك عن صورة متخيلة //قال شيخ الاسلام //فيقال له قد بينا أن ألفاظ الحديث صريحة في أن هذه الرؤية كانت في المنام فيكون هذا الوجه هو المقطوع به وما سواه باطل ولكن لا يكون ذلك من باب التأويل بل الحديث على ظاهره فيكون ظاهر أنه رآه في المنام وهذا حق لا يحتاج إلى تأويل وهذا مقصودنا فإنهم يدعون احتياج هذه الأحاديث إلى تأويل يخالف ظاهرها لأن ظاهرها عندهم ضلال وكفر وهو غالطون تارة فيما يدعون أنه ظاهرها وليس كذلك كما يدعون أن ظاهر هذا الحديث أنه رآه في اليقظة كذلك دعواهم أن ظاهرها الذي هو ظاهرها الحق يحتاج إلى تأويل وهذا الذي أثبته الرازي من جواز رؤية الله في المنام هو الحق الذي عليه عامة أهل الإثبات وإن نازع فيه من نازع من الجهمية لكن في هذا الباب للنفاة وأهل الإثبات غلط كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى مثل جعل بعض النفاة للرؤية عقائد غير مطابقة وتخيلات باطلة فهي كالرؤية بالعين المحققة الموجودة في الخارج قوله في الوجه الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة وذلك لأنه تعالى لما خصه بمزيد الإكرام والإنعام في الوقت الذي رآه صح أن يقال في العرف المعتاد إني رأيته في أحسن صورة كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة فيقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه تقدم في ألفاظ الحديث أنه رأى ربه في المنام في أحسن صورة شابًّا موفرًا الثاني أن ما يخلقه الله من الإكرام والإنعام ليس صفة له فأن لا يكون صورة له أولى ومن المعلوم أن نعمة الله على عباده لا تحصى ولا يوصف بها وإن وصف بأنه خلقها وأنعم بها وأحسن بها الثالث أنه لو أريد بذلك النعم كان من المعلوم أن ما ينعمه الله به عليه بعد ذلك أحسن صورة وقد قال رأيته في أحسن صورة الرابع قوله كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة يقال له هذا إن كان كلامًا عربيًّا فالصورة قائمة بالمتصور ليست قائمة بغيره فليس ذلك نظير قوله رأيته في أحسن صورة إذا جعلت الصورة للمرئي وجعلتها نعمًا مخلوقة منفصلة عنه الخامس أنه إذا جعل قوله أحسن صورة للمرئي وجعله من مفعولاته كان المعنى أن ما أنعم الله به على محمد تلك الساعة هو أحسن صورة لله وهذا باطل قطعًا السادس أن هذا التأويل من جنس التأويل الذي رده الدارمي على متبع المريسي حيث قال يحتمل أن تكون هذه صورة مخلوقة أتى الله فيها لا مدبر لها فكلاهما مشتركان في الفساد من جهة جعل الصورة مخلوقة مملوكة ولكل من التأويل وجوه تختص به تدل على فساده وقول الرازي الوجه الثالث لعله صلى الله عليه وسلم اطلع على نوع من صفات الجلال والعزة والعظمة ما كلن مطلعًا عليه قبل ذلك يقال له هذا عليه وجوه أحدها أن هذه ليست أمورًا ثبوتية عندك قائمة بالله فإن الجلال والعزة تعيده إلى الصفات السلبية وهي أمور
دمية لا ترى والعظمة تعيده إلى ما يخلقه من المخلوقات العظيمة ورؤية المخلوقات ليست رؤيته الثاني أنه قال رأيته في أحسن صورة وجعلت ذلك من صفات الله أي على أحسن صفة لزم أن يُرى على غير أحسن صفة ولزم أن تكون له في ذاته حالات حال يكون فيها على أحسن صفة وحال لا يكون فيها كذلك وهذا كله عندك ممتنع لأن ذلك يستلزم قيام الحوادث بذاته وتحوله الثالث أنه لو كان المراد به صفته لزم أن يكون قد رأى أحسن صفاته ومن المعلوم أن رؤيته له في الدار الآخرة أكمل لو كان قد رآها في الدنيا أحسن صفاته الرابع أن هذا يستلزم أنه عَلِمَ حقيقة الرب المختصة بل يكون قد رآها ورؤيتها أبلغ من علمها والمؤسس دائما يقرر خلاف ذلك هو وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك وغير ذلك وأما قول الرازي في الخبر الذي رواه عن ابن عباس قوله رأيت ربي في أحسن صورة إلى آخره وقد تقدم أن رواية هذا عن ابن عباس غلط وإنما هو حديث ابن عائش وغيره وأحاديث ابن عباس المحفوظة عنه لها ألفاظ أخر وهذا هو حديث أبي قلابة رواه عنه معمر عن أيوب وقتادة فقوله واعلم أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة قد تقدم تأويله يقال له ليس فيما تقدم ما يقرب من الحق إلا قوله يحتمل أن يكون عائدًا إلى المرئي وتكون رؤيا منام فهذا الاحتمال قريب إلى الحق لأن الحق أنه كان رؤيا منام لكن هو جوز ذلك ولم يجزم به وتسميته هذا تأويلاً غلط لأنه تفسير مبين في الحديث وإن كان قد لا يُروى في لفظ حديث ابن عباس الذي ذكره فهو مفسر في ألفاظ جمهور الرواة للحديث ومن المعلوم أن الحديث الواحد إذا رواه أحد بلفظ مختصر ورواه جماعات فزادوا فيه ألفاظًا تفسِّر ذلك الغلط وتبينه كان ما رووه مفسرًا ومبينًا لما رواه هذا لو كانت رواية ابن عباس محفوظة فكيف وقد وقع فيها ما وقع //قال شيخ الاسلام //قال الرازي وأما قوله وضع يده بين كتفي ففيه وجهان أحدهما المراد منه المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها//ردعليه شيخ الاسلام قائلا //يقال له هذا معلوم الفساد بالضرورة الواضحة من وجوه أحدها أنه إذا قال فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري فعلمت ما في السموات والأرض كان هذا اللفظ نصًّا صريحًا في معناه فكيف يمكن إحالته الثاني أن التعبير عن الاهتمام والاعتناء بمثل هذا اللفظ معلوم البطلان في اللغة حقيقة أو مجازًا وأين قولهم لفلان يد بهذه الصنعة من قول القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي أو على صدري الثالث أن من قال إنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها نعم يعبر باليد عن القدرة فيقال
لفلان في هذا يد وأنا صاحب يد في هذا أي قادر عليه أما أنه كامل القدرة فلابد له من لفظ يدل عليه ويقولون ما لفلا نبها يد أي ماله به طاقة لا قبل كما قيل جعلت لعراف اليمامة حُكْمَهُ وَعراف حجر إن هما شفياني فما تركا من رقية يعلمانها ولا سلوة إلاَّ وقد سقياني وقالا شفاك الله والله مالنا بما شملت منك الضلوع يدان
الرابع هب أنـ[ـه] له يد بهذا أو فيه بمعنى أنه كامل فيه أو يراد هو قادر عليه فأي دلالة في هذا على أن قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري إنما يدل على الاعتناء والاهتمام بحاله؟
الخامس أنه لو كان المقول فوضع يده فقط وقال إن هذا من جنس قولهم يدي معكم أو يدي في هذا الأمر ونحو ذلك مما يدل على أنه قائم فيه فاعل له لم يظهر فساده كما يظهر الفساد في تأويل قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي.
الوجه السادس أن هؤلاء يعمدون إلى ألفاظ الحديث يقطعونها ويفرقون بينها ثم يتأولون كل قطعة بما يمكن وما لا يكمن.
ومن المعلوم أن الكلام المتصل بعضه ببعض يفسر بعضه بعضًا ويدل آخره على معنى أوله وأوله لا يتم معناه إلا بآخره كما يقال الكلام بآخره وهذا كثيرًا ما يفعله هذا المؤسس وأمثاله وهم في مثل ذلك كما يحكى عن بعض متأخرة الزنادقة
المنافقين أنه قيل له ألا تصلي فقال إن الله يقول {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فقيل له ألا تتمها {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) } [الماعون 5] فقال العاقل يكتفي بكلمة.
وأنشد بعض هؤلاء:
ما قال ربك ويل للألى شربوا ... بل قال ربك ويل للمصلينا
//قال شيخ الاسلام //
قوله //أي الرازي //الوجه الثاني أن يكون المراد من اليد النعمة يقال لفلان يد بيضاء ويقال إن أيادي فلان لكثيرة. //قال شيخ الاسلام//
الوجه الأول فيقال له هذا من نمط الذي قبله فإن قوله القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري أو بين ثديي صريح في وضع اليد التي هي اليد لا تحتمل النعمة بوجه من الوجوه.
الثاني أن التعبير عن النعمة بمثل هذا اللفظ معلوم الفساد بالضرورة من اللغة حقيقة ومجازًا.
الثالث أن اليد إذا عُبِّر بها عن النعمة كان معها من القرائن ما يبين ذلك كسائر ألفاظ المجاز كما أنه إذا قال أياديك علينا كثيرة مع كون هذا في سياق المدح وأن ليس في كون ذات يده فوقه شيء من المدح وأنه ليس له أياد كثيرة وغير ذلك مما يبين أن المخاطبين قصدوا أن نعمتك وإحسانك قد استولى علينا واستعلى علينا ولهذا كان هذا المعنى ظاهرًا في مثل هذا الخطاب وإن سمِّي مجازًا فأين هذا من قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي؟!
الرابع أنه لو قيل فأسبغ على أياديه ونحو ذلك لكان لقوله وجه أما حتى وجدت برد أنامله بين كتفي فهل هذا يحتمل أن يكون المراد مجرد إنعامه؟
الخامس أن النعمة التي أنعم بها عليه إما أن تكون جوهرًا
قائمًا بنفسه أو عرضًا أما الجوهر فوضعه على كتفيه تثقيل له والله قد أنعم عليه بوضع الوزر عنه فكيف يضع عليه ما يثقله؟
وإن كان عرضًا فلا بد أن يكسب ذلك المحل صفة لأن العرض إذا قام بمحل عاد حكمه إليه فيقتضي اتصاف كتفيه [بوصف] لا يوجد لبقية الأعضاء.
هذا إن قيل إن الموضوع على جسمه الذي بين كتفيه فإن قيل إنه بينهما فوق فيقال أي شيء من النعم قام بالهواء الذي فوق ظهره [فـ]ـكان بعده عنه أعظم من بعد المتصل به وحمل اللفظ على مثل هذا المعنى من التلاعب بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السادس أي شيء هذا الذي هو [من] الجواهر
والأعراض المخلوقة إذا وضع بين كتفيه ملاصقًا أو غير ملاصق كان من نعم الله العظيمة السابع أن لفظ وضع يده لا يعرف استعمالها في مجرد النعمة مفردًا فكيف مع هذا التركيب //قال //شيخ الاسلام //قال الرازي وأما قوله بين كتفي فإن صح فالمراد ما أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة //قال شيخ الاسلام //فالكلام عليه من وجوه أحدها أن هذا كسائر ألفاظ الحديث فلا معنى لتخصيصه بالتعليق دون سائر ألفاظ الحديث وإن قال لفظ اليد ثابت في القرآن والأحاديث المتواترة يقال له لكن ليس في ذلك لفظ وضع يده بهذا اللفظ في هذا الحديث الوجه الثاني أنه قد تقدم أن هذا اللفظ ثابت في هذا الحديث وأن ذلك كان في المنام الثالث قوله فالمراد ما أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة يقال له لا ريب أن في ذلك الحديث
فتجلى لي ما بين السماء والأرض ولا ريب أن هذا من آثار هذا الوضع فإنه من الموجود في الشاهد أن الإنسان يضع صدره أو يده على صدر الإنسان أو على ظهره فيجد في قلبه من الآثار بحسب ما يناسب حاله وحال الواضع كما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب قال كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا فقلت إن هذا قرأ قراءة أنكرتُها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسن قراءتهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقًا فكأني أنظر إلى الله فرقًا
فقال إني أرسل إلي لأن لأقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوِّن على أمتي فرد إليَّ أقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رَدَدتُّكَهَا مسألة تسألنيها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي فهنا كان الضرب بيده على صدره لزجره وإخراج ما في قلبه من الشك وقد كانت يده المباركة يضعها في الماء فيفور الماء من بين أصابعه
وفي الصحيحين في حديث بدء الوحي لما جاءه جبريل فقال اقرأ قال قلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني والغط شبيه الخنق وهو مماسة له فرؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في المنام وأنه قال له فيم يختصم الملأ الأعلى أي
يختصمون فقال لا أدري ثم وضع يده بين كتفيه حتى وجد برد أنامله على صدره ليُعلمه هو ما لم يعلم ولهذا قال تجلى لي عقيبها ما بين السماء والأرض فالتجلي والعلم أثر وضع يده بين كتفيه لا أنه هو نفس ما بين الكتفين ولا أنه نفس وضع اليد الرابع أن تسمية ما بين الكتفين باللطف والرحمة لا يدل عليه اللفظ لا حقيقة ولا مجازًا الخامس أنه إما أن يقول إن وصول اللطف والرحمة إلى قلبه هو معنى قوله بين كتفي أو معنى قوله فوضع يده بين كتفي فإن كان الأول فاللفظ المفرد المجرد كيف يدلّ على معنى الجملة وما وجه ذلك وإن كان الثاني فيكون هذا تأويل قوله فوضع يده بين كتفي ويكون ما تقدم من الوجهين في تأويل فوضع يده باطلين لأن هذا يكون هو معنى الجملة //قال شيخ الاسلام //وأما قوله //أي الرازي //وقد روي بين كنفي //قال شيخ الاسلام //فعليه وجوه أحدها أن هذا تصحيف وهو كذب محض إما عمدًا وإما خطأ فإن أهل العلم بالحديث متفقون على رواية بين كتفي بالتاء وللجهمية من هذا الجنس أمثال يحرفون فيها ألفاظ النصوص تارة ومعانيها أخرى كقول بعضهم وكلَّمَ اللهَ موسى وكرواية بعضهم يُنزَّل ربنا وأمثال ذلك الثاني قوله والمراد ما يقال وأنا في كنف فلان وفي ظل إنعامه فيقال له فالرسول هو في إنعام الله أم الله في إنعامه وليس الحديث أنه قال فجعلني في كنفه بل قال هو وضع يده بين كتفي فيكون المعنى على تفسيرك وضع يده من نعمي أو في ظل إنعامي ومعلوم أن هذا قلب لـ ـلحقيقة فإن العبد في نعمة ربه ليس الرب في نعمة عبده الثالث أنه قد فسر اليد بالنعمة فإذا جعل
كنفي العبد إنعامه فإن المعنى أنه وضع نعمة الله في إنعام العبد وهذا من أظهر الباطل الرابع إن الكنف يقال مفردًا وهذا ليس بمفرد وإذا روي بالتثنية كنفي كان خلاف اللغة فإن الكنف يُفرد ولا يُثنى في مثل ذلك وإن روي كنفي مفردًا يقال به فلفظ بين لا يضاف إلا إلى ما فيه معنى العدد وهو لم يقل بين كنفي بل قال بين كتفي الخامس أنه قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري أو بين ثديي وهذا صريح في المقصود فقول القائل في كنفي حتى وجدت برد أنامله في صدري من أظهر التناقض السادس أنه يقال فلان في كنف فلان لكن لا يقال هو بين كنفه أو كنفيه//قال شيخ الاسلام وأما قوله //أي الرازي //فوجدت بردها فيحتمل أن المعنى برد النعمة وروحها وراحتها من قولهم عيش بارد إذا كان رغدًا//قال شيخ الاسلام // يقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه إذا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي وفي لفظ في صدري ومعلوم أن الضمير إنما يعود إلى مذكور ولم يتقدم إلاَّ اليد فعلم أن الضمير عائد إليها الثاني أن تأويل اليد بالنعمة قد تقدم إبطاله فلا يصح عود الضمير إليها الثالث أنه لو كان المراد النعمة فالنعمة شاملة لظاهره وباطنه كما قال تعالى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان 20] فتكون موضوعة في ظهره وصدره ويكون أثرها كذلك أما تخصيص النعمة بظهره وتخصيص بردها بصدره أو بين ثدييه فظاهر البطلان الرابع أن في أخبار أخر حتى وجدت برد أنامله على صدري وهذا تصريح في أن الذي وجد برده هو اليد الموضوعة على ظهره// قال شيخ الاسلام // وأما قوله//أي الرازي في بعض الروايات فوجدت برد أنامله وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإنه قال فيما بعد الفصل الثالث والعشرون في الأنملة هذه اللفظة غير واردة في القرآن ولكنّها واردة في الخبر وهو ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وضع يده على كتفيّ فوجدت برد أنامله فعلمت ما كان وما يكون وقال// أي الرازي // التأويل أن يقال للملك الكبير ضع يدك على رأس فلان والمراد اصرف عنايتك إليه فقوله وضع يده على كتفيّ معناه صرف العناية إليّ وقوله فوجدت برد أنامله معناه وجدت أثر تلك العناية فإنّ العرب تعبِّر عن وجدان الراحة واللّذة بوجدان البرد وإذا أرادوا الدعاء قالوا برّد الله تلك الديار//قال//شيخ الاسلام // فيقال أمّا ما ذكره من تأويل وضع اليد بصرف العناية فقد تقدّم بيان فساده وما استشهد به من أنه يقال للملك الكبير ضع يدك على رأس فلان أي اصرف عنايتك إليه فهذا كلام باطل لم يقل بمثل هذا المعنى أحدٌ يُحتج به في اللغة بل هذا من باب الافتراء المحض على اللغة العربية ويمكن أن يتكلّم بمثل ذلك بعض المولدين والأعاجم لكن مثل كلام هؤلاء لا يجوز أن يُحمل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يُحمل كلامه على اللغة التي كانت يُخاطب بها وليس في تلك اللغة أن يقال ضع يدك على رأسه بمعنى اصرف عنايتك إليه وأيضًا فالعناية هي مشيئة الله وتلك صفة قائمة به فإذا كانت تلك الصفة قديمة لازمة للموصوف كيف تصرف إلى شيء بل إذا كانت تصرف على هذا التقدير فالمراد بها بعض المخلوقات وقد تقدم الكلام على هذا//قال شيخ الاسلام //وأيضًا فقوله /أي الرازي // وجدت برد أنامله معناه وجدت أثر تلك العناية//قال شيخ الاسلام //يقال له أثر تلك العناية كان حاصلاً على ظهره وفي فؤاده وصدره فتخصيص أثر العناية بالصدر لا يجوز إذ عنده لم يوضع بين الكتفين شيء قط وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه فكان يجب أن يبين أن أثر تلك العناية متعلق بما يعمُّ أو بأشرف الأعضاء وما بين الثديين كذلك بخلاف ما إذا أقر الحديث على وجهه فإنه إذا وضعت الكف على ظهره نَفَذَ بردها إلى الناحية الأخرى وهو الصدر ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس وأيضًا فقول القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي نص لا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد الاعتناء أمر يُعلم بطلانه بالضرورة من اللغة وهو من غث كلام القرامطة والسوفسطائية
قال شيخ الاسلام وقوله//أي الرازي // والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فَعَلِمت ما بين المشرق والمغرب وما ذلك إلاَّ لأ ن الله تعالى أنار قلبه وشرح صدره بالمعارف//قال شيخ الاسلام //يقال له الحديث يدل على أن هذه المعرفة كانت من آثار الوضع المذكور وهذا حق لكن لا يدل على أن الوضع ليس له معنى إلاَّ مجرد هذا التعريف وهذا ظاهر معروف بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أشياء حيث قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها وفي رواية برد أنامله على صدري فعلمت ما بين المشرق والمغرب فذكر وضع يده بين كتفيه وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين ثدييه وهذا معنى ثان وهو وجود هذا البرد عن شيء مخصوص في محل مخصوص وعقب ذلك
بأثر الوضع الموجود وكل هذا يبين أن أحد هذه المعاني ليس هو الآخر7/390//قال شيخ الاسلام //فصل إذا تبين أن هذا كان في المنام فرؤية الله تعالى في المنام جائزة بلا نزاع بين أهل الإثبات وإنما أنكرها طائفة من الجهمية وكأنهم جعلوا ذلك باطلاً وإلاَّ فما يمكنهم إنكار وقوع ذلك
//قال شيخ الاسلام//وفي /1/325/من بيان تلبيس الجهمية قال شيخ الاسلام //
بل لفظ الرؤية، وإن كان في الأصل يكون مطابقًا، فقد لا يكون مطابقًا كما في قوله: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] وقال: {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13] .
وقد يكون التوهم والتخيل مطابقًا، من وجه دون وجه، فهو حق في مرتبته، وإن لم يكن مماثلًا للحقيقة الخارجة، مثل ما يراه الناس في منامهم. وقد يرى في اليقظة من جنس ما يراه في منامه، فإنه يرى صورًا وأفعالًا، ويسمع أقولًا، وتلك أمثال مضروبة لحقائق خارجة، كما رأى يوسف سجود الكواكب والشمس والقمر له، فلا ريب أن هذا تمثله وتصوره في نفسه، وكانت حقيقته سجود أبويه وإخوته، كما قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] وكذلك رؤيا الملك، التي عبرها يوسف، حيث رأى السنبل بل والبقر، فتلك رآها متخيلة متمثلة في نفسه، وكانت حقيقتها وتأويلها من الخصب والجدب. فهذا التمثل والتخيل حق وصدق في مرتبته، بمعنى أن له تأويلًا صحيحًا، يكون مناسبًا له، ومشابهًا له من بعض الوجوه؛ فإن تأويل الرؤيا مبناها على القياس والاعتبار والمشابهة والمناسبة. ولكن من اعتقد أن ما تمثل في نفسه، وتخيل من الرؤيا، هو مماثل لنفس الموجود في الخارج،وأن تلك الأمور هي بعينها رآها، فهو مبطل، مثل من يعتقد أن نفس الشمس، التي في السماء والقمر والكواكب انفصلت عن أماكنها وسجدت ليوسف، وأن بقرًا موجودة في الخارج، سبعًا سمانًا أكلت سبعًا عِجَافًا: فهذا باطل.
وإذا كان كذلك، فالإنسان قد يرى ربه في المنام، ويخاطبه. فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه، مثل ما رأى في المنام؛ فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلًا، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده حقًّا، أُتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس قال بعض المشايخ: إذا رأى العبد ربه في صورة، كانت تلك الصورة حجابًا بينه وبين الله. وما زال الصالحون وغيرهم، يرون ربهم في المنام ويخاطبهم، وما أظن عاقلًا ينكر ذلك، فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه؛ إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره، وهذه مسألة معروفة، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين، وحكوا عن طائفة من
المعتزلة وغيرهم، إنكار رؤية الله، والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام؛ ولكن لعلهم قالوا: لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام، فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام، ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم، نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة، كسائر ما يرى في المنام. فهذا مما يقوله المتجهمة، وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها؛ بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم، وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى، وإنما ذلك بحسب حال الرائي، وصحة إيمانه وفساده، واستقامة حاله وانحرافه. وقول من يقول: ما خطر بالبال، أو دار في الخيال فالله بخلافه، ونحو ذلك إذا حمل على مثل هذا كان محملًا صحيحًا، فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور، أن الله في نفسه مثل ذلك، فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك، بل نفس الجن والملائكة، لا يتصورها الإنسان، ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيله، ويتصوره في منامه ويقظته. وإن كان ما رآه مناسبًا مشابهًا لها؛ فالله تعالى أجل
وأعظم.
وهؤلاء النفاة من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم، يزعمون أن الرسل فيما أخبروا به من صفات الرب، خيلوا ومثلوا، حتى أخرجوا المعقول في مثال المحسوس، وكذلك يقول هؤلاء المتفلسفة أن ما أخبرت به الرسل من أمر المعاد، أمثال مضروبة لتفهيم المعاد العقلي، واللذة والألم العقليين، ويقول الفارابي وأمثاله: «إن خاصة الأنبياء جودة التخيل والتخييل» . والكلام على هؤلاء وبيان خطئهم، وضلالهم في هذا التخيل والتوهم، الذي هو غير مطابق له، موضع غير هذا، ومن أكثر أسباب غلطهم بناؤهم، على أن المعقول المجرد، يكون له وجود في الخارج، وهم إذا تدبروا ذلك علموا أن المعقولات، التي هي أمور كلية، إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان، وأن الخارج لا يكون فيه شيء، مما هو معقول مجرد، وهي الأمور الكلية، إلا أن يراد بالمعقول في قولهم: مثلوا المعقول في صورة المحسوس؛ ما يحسه الإنسان بنفسه دون جسده، فهذا في الحقيقة محسوس موجود، لكن بالحس الباطن، والوجد الباطن، ليس معقولًا محضًا، ولا في تمثل أن الإنسان يحس جوعه، وشبعه ولذته، وألمه، أنه ينتقل حكمه من
الباطن إلى الظاهر، كما ينتقل حكم الحس بالظاهر إلى الباطن، وإذا قدر وجود النفس بغير بدن، فهو يحس بما يجده من لذة وألم، وذلك أمر محسوس لها، وبجنس أسباب ذلك، لا يكون لها معقولًا مجردًا كليًّا، فإن ذاك إنما ثبوته في مجرد العلم والاعتقاد، ولا بد له من أفراد موجودة في الخارج وإلا لم يكن حقًّا. ومن المعلوم أن هذا الظن، أن النفس تلذذ بهذه الأمور، دون إدراك الحقائق الخارجية من أفسد الظن، وهو كقول من يقول: إن النفس تتلذذ بتمثل المحسوس، والمشتهى دون المباشرة لحقيقته الخارجة، فقولهم: يمثل المعقول في صورة المحسوس، كلام لا حقيقة له، لكن لو قال: يمثل الغائب، في صورة الشاهد، ويمثل الغيب في صورة الشهادة، كان هذا حقًّا؛ فإن الإنسان إنما يعلم ما يشهده ويحس به، بالقياس، والتمثيل لما شاهده، لكن هذا لا يقتضي أن تكون الأمور الغائبة المتمثلة، ليس في أنفسها مما يحس، بل يعقل عقلًا مجردًا، فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقوله.

الوجه الخامس والثلاثون: أن يقال: إن الصحابة والتابعين وسائر سلف الأمة وأئمتها، وأئمة أهل الحديث والفقهاء، والصوفية والمتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية والأشعرية،
وغيرهم من طوائف المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم على إثبات هذه الصفات الخبرية، وبقية الصفاتية النفاة لها، في الصفات التي يسمونها الصفات العقلية، كالحياة والعلم والقدرة، لكن من هؤلاء الصفاتية من يجعل تلك الصفات الخبرية، صفات معنوية أيضًا، قائمة بالموصوف مثل هذه، وإنما يفرق بينهما، لافتراق الطريق التي بها عُلِمَتْ، فتلك عُلِمَتْ مع الخبر الصادق بالعقل، وهذه لم تُعْرَف إلا بالخبر. وأما السلف والأئمة وأهل الحديث، وأئمة الفقهاء والصوفية، وطوائف من أهل الكلام، فلا يقولون: إن هذه من جنس تلك، لا يسمونها أيضًا صفات خبرية؛ لأن من الصفات المعنوية ما لا يُعْلَم إلا بالخبر أيضًا، فليس هذا مميزًا لها عندهم، ومنهم من يقول: هذه معلومة بالعقل أيضًا.
وعلى القولين سواء كانت صفات عينية [أ] ومعنوية: فيقال من المعلوم أن الموجودات في حقنا، إما أجسام كالوجه
واليد، وإما أعراض كالعلم والقدرة، فإذا كان أهل الإثبات متفقين على أن العلم والقدرة كلاهما ثابت لله، على خلاف ما هو ثابت للمخلوق، وإن لم يكن في ذلك نفيًا لحقيقته، ولا تمثيلًا له بالمخلوق، فكذلك إذا قالوا في هذه الصفات: إنا نثبتها على خلاف ما هو ثابت للخلق، أو لا فرق بين ثبوت ما هو عرض فينا، مع كونه غير مماثل للأعراض وبين ما هو جسم فينا مع كونه غير مماثل للأجسام؛ بل يقال: من المعلوم المتفق عليه بين المسلمين، أن الله حي عالم قادر مع كونه ليس من الأحياء العالمين القادرين، بل لا خلاف بين أهل الإثبات أنه موجود، مع كونه ليس مثل سائر الموجودات؛ بل العقل الصريح يقتضي وجود موجود واجب قديم. ويقتضي بأنه ليس مماثلًا للموجود المحدث الممكن، وإلا للزم أن يجوز على الواجب، ما يجوز على المحدث، فبأوائل العقل يعلم أن من الموجود وجودًا واجبًا، وأنه ليس مثل الموجود الممكن، فالذي يثبتونه في جميع الصفات المعلومة، هو من جنس ما يثبتونه في الذات، وذلك أمر بَيِّن بأدنى تأمل، معلوم بالعقل الصريح؛ فليس المحكي عنهم في ذلك إلا ما اتفق العقلاء على نظيره، وما هو ثابت معلوم بصريح العقل. وإن قال: بقية الطوائف بينهم نزاع في ذلك، قيل له: والحنابلة أيضًا بينهم نزاع: فمنهم من ينفي هذه الصفات، ويوجب تأويل النصوص، ومنهم من يجوز التأويل،
ولا يوجبه، ومنهم من يفوض معنى النصوص مع نفي، ومنهم من لا يحكم فيها بنفي ولا إثبات. وهذه المقالات هي الممكنة الموجودة في غيرهم