حكم مرتكب الكبيرة عند مرجئة الفقهاء

قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء، كحماد بن أبي سليمان، وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة، وغيرهم، متفقون مع جميع علماء السنة على:
أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض، ومع فعل المحرمات، يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب، كما تقوله الجماعة.

ويقولون أيضا: بأن من أهل الكبائر من يدخل النار، كما تقوله الجماعة"، ثم قال:
"فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول، وما تواتر عنه: أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل الجنة منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء".

ويقول رحمه الله: "وتنازع الناس في الأسماء والأحكام، أي في أسماء الدين، مثل: مسلم، ومؤمن، وكافر، وفاسق، وفي أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة".

ثم قال مبينا موقف المرجئة من هذا النزاع:
"وحدثت المرجئة، وكان أكثرهم من أهل الكوفة - ولم يكن أصحا عبدالله من المرجئة، ولا إبراهيم النخعي وأمثاله - فصاروا نقيض الخوارج والمعتزلة، فقالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان.
وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيرا من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم، إذ كان الفقهاء الذين يضاف إليهم هذا القول، مثل حماد ابن أبي سليمان، وأبي حنيفة، وغيرهما، هم مع سائر أهل السنة متفقين على:
أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك.
وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه.
وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة، وتاركها مستحق للذم والعقاب.
فكان في الأعمال: هل هي من الإيمان؟، وفي الاستثناء، ونحو ذلك، عامته نزاع لفظي"، ثم قال شيخ الإسلام:
"وقد ذكر بعض من صنف في هذا الباب من أصحاب أبي حنيفة، قال: وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد كرهوا أن يقول الرجل: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، قال محمد: لأنهم أفضل يقينا، أو إيماني كإيمان جبريل، أو إيماني كإيماني أبي بكر، أو كإيمان هذان ولكن يقول: آمنت بما آمن به جبريل وأبو بكر.
ويقول: "والمرجئة تقول: هو - أي مرتكب الكبيرة -: مؤمن تام الإيمان، لا نقص في إيمانه، بل إيمانه كإيمان الأنبياء والأولياء، وهذا نزاع في الاسم.

ثم تقول فقهاؤهم ما تقوله الجماعة في أهل الكبائر:
فيهم من يدخل النار، وفيهم من لا يدخل، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، واتفق عليه الصحابة، والتابعون لهم بإحسان.
فهؤلاء لا ينازعون أهل السنة والحديث في حكمه في الآخرة، وإنما ينازعونهم في الاسم".

ويقول: "وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء.

ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث.
قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار.
وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر".
ويقول: "وقد يجتمع في العبد نفاق وإيمان، وكفر وإيمان، فالإيمان المطلق عند هؤلاء ما كان صاحبه مستحقا للوعد بالجنة.
وطوائف أهل الأهواء من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كراميهم وغير كراميهم، يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق.
ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك.
ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب، والسنة، وآثار الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، مع مخالفة صريح المعقول.
بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب.
ولا يكون الشخص الواحد محمودا من وجه مذموم من وجه، ولا محبوبا مدعوا له من وجه، مسخوطا ملعونا من وجه.
ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعا عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار.
وحكي عنه غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك.
وأما أهل السنة والجماعة، والصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين، من أهل الحديث، والفقهاء، وأهل الكلام، من مرجئة الفقهاء، والكرامية، والكلابية، والأشعرية، والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم، فيقولون:
إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة، باتفاق هؤلاء الطوائف، لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه: فقالت المرجئة - جهميتهم، وغير جهميتهم - هو: مؤمن كامل الإيمان.
وأهل السنة والجماعة على: أنه ناقص الإيمان؛ ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين".
ومن النقول السابقة تتحرر مقالة فقهاء المرجئة في مرتكب الكبيرة، وأنهم يرون فيه ما يلي:
1- أنه مؤمن كامل الإيمان، كإيمان جبريل، وإيمان الأنبياء والأولياء.
وبعض أصحاب أبي حنيفة نسب إلى إمامه وصاحبيه أبي يوسف وأبي محمد كراهة أن يقول الرجل: إيماني كإيمان الملائكة أو أبي بكر، وتقدم الكلام على ذلك.
2- أن الإيمان شيء واحد، وعليه فإيمان الفاسق كإيمان البر، فهما سواء في الإيمان.
3- أنه داخل تحت الذم والوعيد، ومستحق للذم والعقاب.
4- أن من أهل الكبائر من يدخل النار، لكنه لا يخلد فيها، ومنهم من لا يدخلها.
5- أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، ولا يباح دمه لكبيرته.
6- أنه يجتمع في العبد طاعة ومعصية، ولا يجتمع فيه إيمان ونفاق.

وهذا بسبب الشبهة التي دخلت عليهم كما دخلت على سائر الفرق المخالفة، وهي أن الإيمان شيء واحد، لا يتبعض، بل إذا ذهب بعضه ذهب كله.

وأما اجتماع الطاعات والمعاصي فلا يمتنع على أصلهم؛ لأنها عندهم مرتبطة بالأعمال، وهي ليست من الإيمان.
ولذلك تراهم يعدون العاصي مؤمنا كامل الإيمان؛ لمجيئه بالإيمان عندهم.

والخلاصة أن نزاعهم في مرتكب الكبيرة إنما هو في اسمه، لا في حكمه في الآخرة.