تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: اعلم أن الرب حكيم ...

  1. #1

    افتراضي اعلم أن الرب حكيم ...

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    الحمد لله الحكيم الخبير، المالك القادر، المحكم للأمور والحوادث
    لا يعزب عنه مثقال ذرة وهو للخطوب والأحداث شاهد، له مقاليد السموات والأرض
    {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]
    الحمد لله له الحمد الحسن والثناء الجميل
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل
    وصلاة وسلاما دائمين على نبينا محمد خير الخلق وأكملهم وأتقاهم، وعلى زوجاته وآل بيته ما دام أديم السماء وأظلت، وما بقيت الأرض وأقلت
    وبعد،،،

    فإن الله تبارك وتعالى سمى نفسه في كتابه الكريم ((الحكيم))، ووصف نفسه بالحكمة المطلقة
    {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209]
    {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]
    {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]
    {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6]
    {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]
    {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]
    {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73]
    {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]
    إلى غير ذلك من الآيات المتكاثرة في هذا المعنى

    أحبتي في الله
    كلنا يقول: الله حكيم خبير مدبر قادر، ولكن هل كل قول يقبل من قائله؟

    والجواب: لا،
    بل لا بد من بينة ولا بد من عمل يَصْدُقُ هذا القول وإلا فما هي إلا دعاوى فارغة
    على حد قول القائل:
    والدعاوى إن لم تقم عليها ... بينات فأصحابها أدعياء
    لذلك كثير من الناس يقول نعم أقر أن الله حكيم، وقوله وفعله يخالف ما قرره بأن الله حكيم
    كيف؟
    كثير من الناس يقول نعم إن الله حكيم، فتقول له إذن فالله لا يأمر بشيء إلا لحكمة ولا ينهى عن شيء إلا لحكمة
    فيقول لك نعم
    فتقول له فلما لم تأتمر بأمره في أمر كذا، فيقول لك لم أعرف الحكمة من هذا الأمر لذلك لا أفعله!
    إذن هذا مقر بلسانه، جاحد بفعله وحاله، لأنه لو كان مقرا تمام الإقرار لما ترك الأمر لمجرد أنه لم يعلم الحكمة منه
    يا إلهي كيف يقر بالحكمة ثم لا يفعل الأمر لأنه لا يدري وجه الحكمة منه؟!
    لذا فإن علينا أن نعيد حساباتنا.

    واسمحوا لي أن أتحدث معكم عن اسم الله الحكيم ولوازمه
    فأقول بحمد الله تعالى ومدده وتوفيقه
    الحكيم لغة معناه: الحاكم، وهو الذي يُحكِم الأشياء ويتقنها، وقيل الحكيم ذو الحكمة، والحكمة هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم هذا فيما يتعلق بالبشر ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم وتقول أحكم الأمر أي أتقنه فالحكيم المتقن للأمور. اهـ من لسان العرب بتصرف يسير.

    قال البيهقي في كتابه الأسماء والصفات:
    قال الحليمي في معنى الحكيم: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي عالم قدير. اهـ.
    فالله تبارك وتعالى هو الحكيم المدبر الذي ما خلق شيئا إلا لحكمة يعلمها، وقد يُطْلع عباده على حكمته من بعض ما خلق، إلا أنه سبحانه وتعالى لم يطلع الناس على جميع حكمته، وإلا فليس للإيمان معنى، فالإيمان إنما هو غيب ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد والحاكم في مستدركه -وحسنه الألباني-.
    وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ثم قرأ الآية)) متفق عليه -والآية هي {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]-.

    فالإنسان إذا ما غرغر فهو في سياقة الموت، فهو يرى ملك الموت ومن معه من الملائكة فقد شاهد وطالع الغيب فلا معنى لإيمانه ساعة إذ، فإنه قد شاهد بعينه ما أُمِر أن يؤمن به وكان قبل يأبى،
    وكذلك حين تطلع الشمس من مغربها {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91].

    ولأن الإيمان غيب كما قلنا فالله تبارك وتعالى هو عالم الغيب والشهادة {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[سبأ: 3]
    {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التغابن: 18]
    فحكمة الله من الغيبيات، وقد تكون ظاهرة في بعض الأشياء إلا أنها تغيب عنا في أشياء أخر، ونحن مأمورون أن نؤمن بالله وأسماءه الحسنى وصفاته العلى ومن أسماءه ((الحكيم))، ومن صفاته ((الحكمة)).
    فما من شئ خلقه الله إلا لحكمة وما من عطاء يعطيه إلا لحكمة وما من منع منعه إلا لحكمة وما من تأخير مصلحة ظاهرة أو تفويتها إلا لحكمة وما من تعجيل شر ظاهر إلا لحكمة.
    قال تعالى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
    وقال تعالى {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]
    فالله عزو وجل يقرر لنا هذا الأصل العظيم أننا كبشر ننظر بنظرتنا القاصرة، فقد نرى أشياء ونعتبرها شرا لنا وإنما هو الخير بعينه لكن نظرتنا قاصرة لا ترى المدى البعيد ولا تطلع على الغيب، وقد نرى أشياء نعتبرها خيرا لنا وإنما هي شر لنا بموجب هذا القانون العظيم وهو قانون الحكمة، ومن هذا أمثلة لا تعد ولا تحصى.

    فالحكيم اسم يدل على صيغة تعظيم لصاحب الحكمة، فهو في حق الله عز وجل العليم بمعنى ومقتضى الأشياء التي أوجدها على غاية الإحكام والإتقان والكمال، وهو الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويعلم خواصها ومنافعها، وهو الخبير بحقائق الأمور وما خفى من أنواع العلوم،

    أما الحكمة في حق العبد فهي الصواب في الترك والعمل بقدر طاقة البشر.

    إذن فصفة الحكمة قد يتصف بها العبد، لكنها في حق العبد ليست كما في حق الرب جل وعلا، فالإنسان ناقص تشوبه الشوائب ويعتريه النقص أما الله سبحانه فلا نقص في حكمته ولا شائبة وهو الكامل وحده لا شريك له.
    فالإنسان إن اتصف بالحكمة فإنما هي حكمة قاصرة على حد طاقته وقدرته ويحده من الأمور ما لا يستطيعها، فلا يتصف بالكمال في الحكمة ولا في شيء إلا الله عز وجل
    كما أن الإنسان يوصف بأنه حي، والله عز وجل حي، ولكن هل حياة الإنسان كحياة رب العالمين؟
    الجواب بالطبع لا
    فحياة الله قائمة بذاتها ولا تفنى لأنها صفة من صفات الله، أما حياة الإنسان وبقاؤه فإنما يرتبطان بإبقاء الله له فإذا ما جاء أمر الله ذهبت صفة الحياة عن الإنسان.
    فكذلك الحكمة تماما وكذلك كل الصفات التي فيها قدر مشترك من اتصاف العبد بها مع اتصاف الله بها
    كصفة الكرم والجود والعطاء والمنع .. إلخ
    فالإنسان يوصف بأنه كريم والله يوصف بأنه كريم، ولكن فارق بين كرم العبد القاصر، وكرم الله المطلق الذي لا يحده شيء
    فلتكن منك هذه اللازمة على ذُكْرٍ أبدا ما حييت.
    فلا تنزعج مثلا إن قيل فلان العزيز ولا تقل لا عزيز إلا الله، لا فهذه صفة يتصف بها العبد ويتصف بها الرب، ولكن عزة الإنسان على قدره وعلى قصوره وضعفه، وعزة الله لا منتهى لها ولا حد.

    إذن نعود لمعنى الحكمة
    وقد قلنا أن هناك أمورا تجري على غير مقتضى العقل -في الظاهر- فيظنها المشاهد وكأنها بلا حكمة
    ولعل لنا في قصة نبي الله موسى عليه السلام مع الخضر البيان الواضح لهذا الأمر
    فلو تأملت قصة موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام لعلمت معنى الحكمة وأنه ليس خفاء الحكمة عن بعض أو كل البشر يعني أن الأمور تسير بغير حكمة، فإن الخضر لما خرق السفينة تعجب منه موسى عليه السلام، لماذا يخرق السفينة وهي لمساكين وليسوا أشرارا مثلا، فظاهر الأمر أنه بلا حكمة بل أمر شنيع، وكذلك لما قتل الغلام فكان نفس التعجب، وكذلك لما أقام الجدار للقوم الذين أبوا أن يضيفوهما.

    إذن فظاهر هذه الأفعال الثلاث أنها ليس فيها معنى الحكمة
    ولكن الله تبارك وتعالى قدر الحكمة -وكل فعله حكمة- في هذه الأمور الثلاثة
    فأمر الخضر بخرق السفينة لأن هناك ملك سيمر عليه هؤلاء المساكين ولو وجد السفينة سليمة سيأخذها منهم، أما إن كانت معيوبة فلن يأخذها، وقتل الغلام لأن الله أعلمه أن هذا الغلام لو كبر سيرهق أباه وأمه وقد يكفران بسبب حبهما له، وأن الله سيبدلهما خيرا منه، وأقام الجدار لأن الله تعالى أعلمه أن تحت هذا الجدار كنز لو تهدم الجدار لظهر الكنز وضاع -والكنز على اختلاف المفسرين كان مالا في قول أو صحف من علم في قول آخر-.

    فهذه أفعال ظاهرها لا حكمة فيها، ولكن هي كلها حكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها.
    الإنسان قد يظن أن تحصيل الأموال على أي حال خير له، ويتضجر إذا كان مضيق عليه
    وهذا الذي يتضجر من هذا الأمر أيدري لو كان معه مال كيف كان يكون؟، أليس من الممكن أن يطغى بماله هذا، أليس من الممكن أن يكفر بماله هذا. أليس أليس أليس....؟؟

    إذن فمنع المال عنه لحكمة قد تكون رعاية له من الطغيان، أو أنه سفيه لا يضع المال في موضعه، أو أنه شحيح لا يخرج حق المال، وهكذا ....
    هناك حكمة ربما يعلمها، وربما لا يعلمها
    فتقرر -وهو متقرر بلا كلام- أن كل أفعال الله لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها

    بقي أمر وهو أن العلماء يقولون الشريعة كلها معلولة

    أي كل أمر في الشريعة وكل نهي له علة وسبب وحكمة
    فهي معلولة في ذاتها، لكنها ليست معلولة كلها بالنسبة للبشر، فالشريعة هذه تشريع الله عز وجل وإنما شرعها للناس لحكمة
    فهناك أحكام أظهر الله حكمتها للبشر، وهناك أشياء لم يظهر حكمتها للبشر
    فمثلا ما الحكمة من قطع يد السارق؟
    ردعه عن السرقة مرة أخرى وردع غيره ممن يفكر في السرقة
    فهذه حكمة ظاهرة في أمر من أوامر الله -أو هكذا تظهر لنا-
    ولكن لماذا القطع في ربع دينار؟
    ما الحكمة من هذا، لماذا لم يكن مثلا في نصف دينار أو أكثر أو أقل؟
    فنقول: أليس قد ثبت لك أن الرب حكيم؟ فاترك الاعتراض وسلم للأمر تسلم
    فشريعة الله كلها حكمة، وأمر الله كله حكمة.
    فماذا مثلا عن الطفل الصغير يتألم ويمرض، ما الحكمة في ذلك؟
    قد تكون الحكمة في ذلك أن أبواه يصبران على مرضه ويبذلان ما في وسعهما فتكون رفعة لهما في الدرجات أو تكفيرا لهما عن السيئات
    ربما تكون هذه هي الحكمة، لكن الله أعلم بحكمته من إيلام الأطفال.
    لكن يقينا هناك حكمة لأنه قد ثبت لدينا أن الله له حكمة في كل أمره، فإذا كان أمره بقطع اليد لحكمة فكذلك إيلامه وإمراضه للطفل لحكمة سواء علمنا الحكمة أو جهلناها

    فالأمر له حكمة في ذاته، وله حكمة متعلقها بالبشر إن علموها فاستئناسا، وإلا فالأصل التسليم المطلق وترك الاعتراض وهذا هو معنى العبودية
    وهذا معنى شهادة أنه لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله
    وليس لنا دخل في ما قدره الله، فلا يصح أن نقول أن من حقنا أن نعرف الحكمة من كل أمر أمرنا الله به
    هذا تأله على الله واعتراض على حمكه وأمره وتدبيره
    لأن الله تعالى إنما أمرنا بالإيمان الذي هو أصله غيب كما ذكرت في صدر كلامي، فكيف نبتغي أن نعلم الحكمة من كل شيء! إذن فما فائدة إيماننا؟!
    إذا كنا نعلم أن هذا الفعل لكذا وهذا لكذا، فمتى نسلم لله تبارك وتعالى وننقاد ونقول سمعنا وأطعنا فور أمره بلا انتظار لمعرفة الحكمة؟

    فإذا جاءك أمر من الله ورسوله فقل سمعت وأطعت
    فإن علمت الحكمة فحسن، وإن جهلتها فقل سمعت وأطعت، ولا تقل حقي أن أعلم الحكمة، وأنا لا أفعل شيئا إلا إذا كان له فائدة، ومن أدراك أن الشيء الذي أمرت به ولا تعرف حكمته ليس له فائدة؟؟
    فسلم لله الحكيم واترك الاعتراض

    واقرأ هذا الكلام النفيس الذي أختم به كلامي
    للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي من كتابه العاطر ((صيد الخاطر)) يقول:
    رأيت كثيرًا من المغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار، وفيهم من قل إيمانه، فأخذ يعترض! وفيهم من خرج إلى الكفر، ورأى أن ما يجري كالعبث، وقال: ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد، والابتلاء ممن هو غني عن أذانا؟!
    فقلت لبعض من كان يرمز إلى هذا: إن حضر عقلك وقلبك، حدثتك، وإن كنت تتكلم بمجرد واقعك، من غير نظر وإنصاف، فالحديث معك ضائع.
    ويحك! أحضر عقلك! واسمع ما أقول: أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك، وللمالك أن يتصرف كيف يشاء؟! أليس قد ثبت أنه حكيم، والحكيم لا يعبث؟!
    وأنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئًا، فإنه قد سمعنا عن جالينوس أنه قال: ما أدري، أحكيم هو أم لا؟! والسبب في قوله هذا؟ أنه رأى نقضًا بعد إحكام، فقاس الحال على أحوال الخلق، وهو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى؛ فليس بحكيم. وجوابه -لو كان حاضرًا- أن يقال: بماذا بان لك أن النقض ليس بحكمة؟ أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك؟ وكيف يهب لك الذهن الكامل، ويفوته هو الكمال؟!
    وهذه هي المحنة التي جرت لإبليس، فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله، فلو تفكر، علم أن واهب العقل أعلى من العقل، وأن حكمته أوفى من كل حكيم؛ لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول. فهذا إذا تأمله المنصف، زال عنه الشك، وقد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] ، أي: أجعل لنفسه الناقصات، وأعطاكم الكاملين؟! فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى نفسنا، ونقول: هذا فعل عالم حكيم، ولكن ما يبين لنا معناه.
    وليس هذا بعجب، فإن موسى عليه السلام خفي عليه وجه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة، وقتل الغلام الجميل، فلما بين له الخضر وجه الحكمة، أذعن. فلنكن مع الخالق كموسى مع الخضر.
    أولسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام النظيف الظريف يقطع ويمضغ، ويصير إلى ما نعلم، ولسنا نملك ترك تلك الأفعال، ولا تنكر الإفساد له، لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه.
    فما المانع أن يكون فعل الحق سبحانه له باطن لا نعلمه؟!
    ومن أجهل الجهال العبد المملوك إذا طلب أن يطلع على سر مولاه، فإن فرضه التسليم لا الاعتراض. ولو لم يكن في الابتلاء بما تنكره الطباع إلا أن يقصد إذعان العقل وتسليمه لكفى.

    وقال أيضا:
    فصل: من لم يحترز بعقله هلك بعقله
    سألني سائل: قد قال بعض الحكماء: (من لم يحترز بعقله، هلك بعقله) فما معنى هذا؟ فبقيت مدة لا ينكشف لي المعنى، ثم اتضح؛ وذلك أنه إذا طلبت معرفة ذات الخالق سبحانه من العقل، فزع إلى الحس، فوقع التشبيه، فالاحتراز من العقل بالعقل هو: أن ينظر، فيعلم أنه لا يجوز أن يكون جسمًا ولا شبهًا لشيءٍ.
    وإذا نظر العاقل إلى أفعال الباري سبحانه؛ رأى أشياء لا يقتضيها العقل، مثل الآلام، والذبح للحيوان، وتسليط الأعداء على الأولياء، مع القدرة على المنع، والابتلاء بالمجاعة للصالحين، والمعاقبة على الذنب بعد البعد بزلة، وأشياء كثيرة من هذا الجنس، يعرضها العقل على العادات في تدبيره، فيرى أنه لا حكمة تظهر له فيها.
    فالاحتراز من العقل به أن يقال له: أليس قد ثبت عندي أنه مالك، أنه حكيم، وأنه لا يفعل شيئًا عبثًا؟ فيقول: بلى. فيقال: فنحن نحترز من تدبيرك الثاني بما ثبت عندك في الأول؛ فلم يبق إلا أنه خفي عليك وجه الحكمة في فعله، فيجب التسليم له، لعلمنا أنه حكيم، حينئذ يذعن ويقول: قد سلمت.
    وكثير من الخلق نظروا لمقتضى واقع العقل الأول، فاعترضوا! حتى إن العامي يقول: كيف قضى علي بسوء عاقبتي؟! ولم ضيق رزقي؟! وما وجه
    الحكمة في ابتلائي بفنون البلاء؟! ولو أنه تلمح أنه مالك حكيم، لم يبق إلا التسليم لما خفي.
    ولقد أنس ببديهة العقل خلق من الأكابر، أولهم إبليس، فإنه رأى تفضيل النار على الطين، فاعترض. ورأينا خلقًا ممن نسب إلى العلم قد زلوا في هذا، واعترضوا، ورأوا أن كثيرًا من الأفعال لا حكمة تحتها. والسبب ما ذكرنا، وهو الأنس بنظر العقل في البديهة والعادات، والقياس على أفعال المخلوقين.
    ولو استخرجوا علم العقل الباطن، وهو أنه قد ثبت الكمال للخالق، وانتفت عنه النقائض، وعلم أنه حكيم لا يعبث، لبقي التسليم لما لا يعقل.
    واعتبر هذا بحال الخضر وموسى عليهما السلام، لما فعل الخضر أشياء تخرج عن العادات أنكر موسى، ونسي إعلامه له بأني أنظر فيما لا تعلمه من العواقب؛ فإذا خفيت مصلحة العواقب على موسى عليه السلام مع مخلوق، فأولى أن يخفى علينا كثير من حكمة الحكيم.
    وهذا أصل، إن لم يثبت عند الإنسان؛ أخرجه إلى الاعتراض والكفر، وإن ثبت، استراح عند نزول كل آفة.

    فاعلم أن الرب حكيم
    والحمد لله في الأولى والآخرة

    كتبه المعتز بالله العلي، الفقير لجوده الجلي
    كــريــم أبــو الــقــمــصــان
    المكنى بأبي ريحانة الوراقي
    من كتاباتي القديمة بأحد المنتديات -بتصرف يسير- بتاريخ 15- شوال - 1433هـ

  2. #2

    افتراضي

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    أجزَلَ الله تعالى لكم ثوابا على هذه المواعظ , بفضله وكرمه تعالى وحده لا شريك له

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •