◙ سئل أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله:
عن دواء للحفظ؟ فقال: إدمان النَّظر في الكتب[1].

◙ قال أبو زرعة الرازي:
حُزِرتْ كتبُ الإمام أحمد يوم مات، فبلغَت اثني عشر حملاً وعدلاً، ما كان على ظهر كتابٍ منها: حديث فلان، ولا في بطنِه: حدَّثنا فلان، كل ذلك كان يحفظه[2].

◙ إبراهيم بن عثمان أبو القاسم بن الوزان القيرواني النحوي.
كان فقيهًا وإمامًا في النحو واللغة والعربية والعروض غير مدافَع، مع قلَّة ادِّعاء وخَفض جناح، كان يَحفظ كتابَ "العين"؛ للخليل بن أحمد، و"غريب المصنف"؛ لأبي عبيد، و"إصلاح المنطق"؛ لابن السكيت، وغيرها من كتب اللُّغة، وحَفِظ قبل ذلك كتاب سيبويه، ثم كتب الفراء[3].

◙ أحمد بن عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري.
من أهل العلم والحفظ لكتب أبيه والإتقان.
ذكر ابن فرحون رحمه الله أنَّه كان يحفظ كتبَ أبيه كما يَحفظ القرآنَ، ويردُّ فيها من حِفظه النُّقطَةَ والشَّكْلَة وما معه نسخة، كان أبوه أبو محمد حفَّظه إيَّاها في اللوح، وعدَّتها أحد وعشرون مصنَّفًا: كتاب (المشكل)، وكتاب (معاني القرآن)، وكتاب (غريب الحديث)، وكتاب (عيون الأخبار)، وكتاب (مختلف الحديث)، وكتاب (الفقه)، وكتاب (المعارف)، وكتاب (أعلام النبوة)، وكتاب (العرب والعجم)، وكتاب (الأنواء)، وكتاب (الميسر)، وكتاب (طبقات الشعراء)، وكتاب (معاني الشعر)، وكتاب (إصلاح الغلط)، وكتاب (أدب الكاتب)، وكتاب (الأبنية)، وكتاب (النحو)، وكتاب (المسائل)، وكتاب (القراءات)[4].

◙ إسحاق بن الفرات.
قال أحمد بن سعيد الهمداني: قرأ علينا إسحاق موطَّأ مالك من حِفظه، فما أسقط حرفًا فيما أعلم[5].

◙ القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني أبو محمد الشاطبي - إمام القرَّاء.
كان ضريرًا، ولد بشاطبة (في الأندلس)، وتوفِّي بمصر، وهو صاحب "حرز الأماني".
قال الصفدي رحمه الله: وكان إذا قُرئ عليه البخاريُّ ومسلم والموطأ، يصحِّح النُّسَخَ من حفظه[6].

◙ الحسين بن يوسف بن محمد بن أبي السري الدجيلي.
الفقيه المقرئ الفرضي النَّحوي الأديب، قال عنه ابن رجب رحمه الله: حَفظ القُرآنَ في صباه، وحفظ كتبًا في العلوم؛ منها "المقنع" في الفقه، و"الشاطبية"، و"الألفيتان" في النحو، و"مقامات الحريري"، و"عروض ابن الحاجب"، و"الدريدية"، ومقدمة في الحساب، وعُني بالعربية، واللغة، وعلوم الأدب، وصنَّف كتاب "الوجيز" في الفقه، وكتاب "نزهة الناظرين، وتنبيه الغافلين"، وله قصيدة لاميَّة في الفرائض، اشتغل عليه جماعة، وانتفعوا به في الفقه وفي الفرائض[7].

◙ أبو المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب.
الأديب الأوحد، حافظ إشبيلية بل الأندلس في عصره، كان أُعجوبة دهرِه في الرِّواية للأشعار والأخبار، قال ابن سعيد: أخبرني مَن أثِق به أنَّه حضر معه ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية فجرى ذكر حفظه وكان ذلك في أول الليل، فقال لهم: إن شئتُم تَختبروني أجبتُكم، فقالوا له: بسم الله، إنَّا نريد أن نحدث عن تحقيق، فقال: اختاروا أيَّ قافيةٍ شئتم لا أخرجُ عنها حتى تَعجبوا، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجرُ وهو ينشد وزن:
أرق على أرقٍ ومثلِيَ يأرقُ

وسمَّاره قد نام بعض، وضجَّ بعض، وهو ما فارق قافيةَ القاف.

وقال أبو عمران بن سعيد: دخلتُ عليه يومًا بدار الأشراف بإشبيلية وحوله أدباء ينظرون في كتبٍ؛ منها ديوان ذي الرمَّة، فمدَّ الهيثم يدَه إلى الديوان المذكور فمنعه منه أحدُ الأدباء، فقال: يا أبا عمران، أواجب أن يمنعه منِّي وما يحفظ منه بيتًا، وأنا أحفظه؟ فأكذبَته الجماعة، فقال: اسمعوني وأمسكوه، فابتدأ من أوَّله حتى قارب نصفَه، فأقسمنا عليه أن يكفَّ وشهدنا له بالحفظ[8].

◙ العلامة بدر الدين محمد بن الشريشي.
قال ابن كثير رحمه الله: لما كان يوم الثلاثاء العشرين من شعبان سنة (763هـ) دعيتُ إلى بستان الشيخ العلامة جمال الدين بن الشريشي شيخ الشافعيَّة، وحضر جماعةٌ من الأعيان؛ منهم الشيخ العلامة شمس الدين بن الموصلي الشَّافعي، والشيخ الإمام العلاَّمة صلاح الدين الصفدي وكيل بيت المال، والشيخ الإمام العلاَّمة شمس الدين الموصلي الشافعي، والشيخ الإمام العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازيُّ من ذريَّة الشيخ أبي إسحاق الفيروزابادي، وهو من أئمَّة اللغويين، والخطيب الإمام العلاَّمة صدر الدين بن العز الحنفي أحد البلغاء الفضلاء، والشيخ الإمام العلامة نور الدين علي بن الصارم أحد القرَّاء المحدِّثين البلغاء، وأحضروا نيفًا وأربعين مجلدًا من كتاب "المنتهى في اللغة"؛ للتميمي البرمكي، وقف الناصريَّة، وحضر ولد الشيخ جمال الدين بن الشريشي، وهو العلاَّمة بدر الدين محمد، واجتمعنا كلنا عليه، وأخذ كلٌّ منا مجلدًا بيده من تلك المجلدات، ثمَّ أخذنا نسأله عن بيوت الشِّعر المستشهد عليها بها، فينشر كلاًّ منها، ويتكلَّم عليه بكلام مبينٍ مفيد، فجزم الحاضرون والسَّامعون أنَّه يحفظ جميعَ شواهد اللغة، ولا يشذ عنه منها إلاَّ القليل الشاذ، وهذا من أعجب العجائب، وأبلغ الإغراب[9].

◙ شيخ الإسلام ابن تيمية.
ذكر ابن ناصر الدين الدِّمشقي رحمه الله: أنَّ شيخ الإسلام ابن تيميَّة لما كان صبيًّا في بداية أمره أراد والدُه أن يَخرج بأولاده يومًا إلى البُستان على سبيل التنزُّه، فقال له: يا أحمد، تخرج مع إخوتك تستريح، فاعتلَّ عليه، فألحَّ عليه والدُه، فامتنع أشد الامتناع، فقال: أشتهي أن تعفيني من الخروج، فتركه وخرج بإخوته فظلُّوا يومهم في البُستان ورجعُوا آخرَ النَّهار، فقال: يا أحمد، أوحشتَ إخوتك اليوم وتكدَّر عليهم بسبب غيبتك عنهم، فما هذا؟ فقال: يا سيِّدي، إنَّني اليوم حفظتُ هذا الكتاب - لكتابٍ معه - فقال: حفظتَه؟! كالمنكِر المتعجب من قوله، فقال له: استعرضه عليَّ، فاستعرَضه فإذا به قد حفظَه جميعَه، فأخذه وقبَّله بين عينيه، وقال: يا بني، لا تخبر أحدًا بما قد فعلتَ؛ خوفًا عليه من العين[10].

◙ الشيخ إبراهيم بن سليمان بن ناصر آل راشد.
قال عنه البسام رحمه الله: أُصيب المترجم بفقد بصره منذ صغره، فأكبَّ على حفظ القرآن فأتقنَه، ثمَّ شرع في حفظ وقراءة الكتب، فحفظ "زاد المستقنع"، و"عمدة الفقه"، و"كتاب التوحيد"، و"نظم الرحبيَّة"، و"ألفية ابن مالك"، و"ملحة الأعراب"، و"القطر" - أي: قطر الندى في النَّحو - وقال: وحفظ "بلوغ المرام"، و"منتقى الأخيار"، و"الترغيب والترهيب"، و"الكبائر" للذهبي، وعُيِّن قاضيًا في مقاطعتَي الشعيب والمحمل سنة (1349هـ)، وكما أنَّه قام بدور الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في تلك المقاطعة، وصار خير سنَد للآمِرين والقائمين في أعمال الحسبة.

وأفنى شبابَه وكهولتَه في العكوف على كتب العلم حفظًا وفهمًا وبحثًا؛ حتى عُدَّ من كبار العلماء وناشري العِلم في كلِّ بلد حلَّ فيه، فأخذ عنه طائفةٌ كبيرة منهم واستفادوا منه فوائدَ جليلة، رحمه الله رحمة واسعة[11].

◙ الشيخ عبدالله بن أحمد بن سعد العجيري.
ذكر البسام رحمه الله أنَّه كان يحفظ القرآنَ الكريم وكتبَ الحديث بالسَّنَد، لا سيما مسند الإمام أحمد، وكان يَحفظ من كتب الأدب: كتابَ "الأغاني"، و"أدب الكاتب"، و"الأمالي"، و"البيان والتبيين"، و"الآداب الشرعية"، ودواوين شعر مختلفة لا يُحصى عددها، يحفظ هذه الكتب بروايتها وسندها، وهناك كتب أخرى دينيَّة وتاريخيَّة وأدبية يروي الكثير منها[12].

◙ الشيخ سعد بن محمد بن عبدالرحمن بن سعدان.
قال عنه البسام رحمه الله: كان ذا مقدرة عجيبة على الحِفظ، فحفظ متونًا كثيرة، من ذلك: كتاب التوحيد، وكشف الشُّبهات، والأصول الثلاثة، وعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، وزاد المستقنع، والرحبية، ومنظومة ابن عبدالقوي في الآداب، وألفية ابن مالك...، وغيرها حتى بلغ مجموع ما حفظ من الأحاديث سبعة آلاف وخمسمائة ونيفًا.

وكان ابنه عبدالله يمسِك بالكتاب والشيخ يراجع محفوظاته غيبًا، وقد كان يحفظ الأحاديث بأرقام الصفحات[13].

◙ ذكر السبكيُّ كما في الطبقات عن الإمام الغزالي رحمه الله: أنه قال قُطِعتْ علينا الطَّريق وأخذ العيارون[14] جميع ما معي ومضوا، فتبعتُهم، فالتفتَ إليَّ مقدمهم وقال: ارجع ويحك وإلاَّ هلكتَ، فقلت له: أسألك بالذي ترجو السَّلامةَ منه أن تردَّ عليَّ تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتبٌ في تلك المخلاة هاجرتُ لسماعها وكتابتِها ومعرفة عِلمها، فضحك وقال: كيف تدَّعي أنَّك عرفتَ عِلمَها وقد أخذناها منك فتجرَّدتَ من معرفتها وبقيتَ بلا علمٍ، ثمَّ أمر بعضَ أصحابه فسلَّم إليَّ المخلاة.

قال الغزاليُّ: فقلتُ هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلمَّا وافيتُ طوس أقبلتُ على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظتُ جميعَ ما علَّقتُه، وصرت بحيث لو قُطع عليَّ الطريق لم أتجرَّد من علمي[15].

◙ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
يحدِّث عن نفسه وعن نشأته، وبداية طلبِه للعلم، ومحفوظاته، فيقول رحمه الله: "فلمَّا بلغتُ سبعَ سنين استلمني عمِّي من معلِّمي القرآن، وتولَّى تربيتي وتعلِيمي بنفسِه، فكنتُ لا أفارقه لحظةً، حتى في ساعات النَّوم؛ فكان هو الذي يأمرني بالنوم، وهو الذي يوقِظني على نظام مطَّرد في النوم، والأكل، والدراسة.

وكان لا يخليني من تلقين حتى حين أخرج معه وأماشيه للفسحَة، فحفظتُ فنونَ العِلم المهمَّة في ذلك السن مع استمراري في حِفظ القرآن.

فما بلغتُ تسعَ سنين من عمري حتى كنتُ أحفظ القرآنَ مع فهم مفرداته وغريبه، وكنتُ أحفظ معه ألفية ابن مالك، ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطٍ الجزائري، وألفيتَي الحافظ العراقي في السِّيَر والأثر، وأحفظ جمعَ الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبدالله بن خميس التلمساني شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس؛ مثل ابن شهيد، وابن برد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، وابن الخطيب.

ثمَّ لفتني عمِّي إلى دواوين فحول المشارِقة، ورسائل بلغائهم، فحفظتُ صدرًا من شعر المتنبي، ثمَّ استوعبتُه بعد رحلتي إلى المشرق، وصدرًا من شعر الطائيينِ، وحفظتُ ديوانَ الحماسة، وحفظتُ كثيرًا من رسائل سهل بن هارون، وبديع الزمان.

وفي عنفوان هذه الفترة حفظتُ بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتابَ الألفاظ الكتابية للهمذاني، وكتاب الفصيح لثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت؛ وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في مَلَكتي اللغوية.

ولم يزل عمِّي رحمه الله يتدرَّج بي من كتابٍ إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارَسَة للمتون والكتب التي حفظتُها حتى بلغتُ الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحثٍ وتدقيق، وكان قبلها أقرأني كتبَ ابن هشام الصغيرة قراءةَ تفهُّمٍ وبحث، وكان يُقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرئني وحدي، ويقرئني وأنا أماشيه في المزارِع، ويقرئني على ضوء الشَّمع، وعلى قنديل الزيت في الظُّلمة حتى يغلبني النوم.

ولم يكن شيء من ذلك يُرهقني؛ لأنَّ الله تعالى وهبني حافظة خارِقةً للعادة، وقريحة نَيِّرة، وذهنًا صيودًا للمعاني ولو كانت بعيدة.

ولمَّا بلغتُ أربع عشرة سنة مرض عمِّي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقينٍ وإفادة وهو على فراش الموت؛ بحيث إنِّي ختمتُ الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة"[16].

◙ إشراق السوداء العروضية.
مولاة أبي المطرف عبدالله بن غلبون، سكنَت بلنسية، وأخذَت النحوَ واللغة عن مولاها؛ لكن فاقَته في ذلك، وبرعَت في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وشرحهما[17].

طرائف ولطائف:
◙ حدث الوزير الأندلسي أبو بكر محمد ابن الوزير أبي مروان بن عبدالملك بن زهير، قال: بينما أنا قاعد في دهليز دارنا وعندي رجل ناسخ أمَرْتُه أن يكتب لي "كتاب الأغاني"؛ لأبي الفرج الأصفهاني؛ إذ جاء الناسِخ بالكراريس التي كتبَها، فقلتُ له: أين الأصل الذي كتبتَ منه لأقابل (أراجع) معك به؟

قال: ما أتيتُ به معي.

فبينما أنا معه في ذلك إذ يدخل الدهليز علينا رجلٌ زري الملبس، عليه ثياب غليظة أكثرها صوف، وعلى رأسه عمامة قد لفَّها من غير إتقانٍ لها.

فحسبتُه لمَّا لقيتُه من بعض أهل البادية، فسلَّم وقعدَ، وقال لي: يا بنيَّ، استأذِن لي على الوزير أبي مروان.

فقلتُ له: هو نائم - هذا بعد أن تكلَّفتُ جوابه غاية التكلُّف - حملني على ذلك نزوة الصبا، وما رأيتُ من خشونة هيئة الرجل.

ثمَّ سكتَ عنِّي ساعة، وقال: ما هذا الذي بأيديكما؟
فقلت له: ما سؤالك عنه؟
فقال: أحبُّ أن أعرف اسمَه، فإنِّي كنتُ أعرف أسماءَ الكتب!
فقلت: هو كتاب الأغاني.

فقال: إلى أين بلغ الكاتِب منه؟
قلت: بلغ موضِع كذا.

وجعلتُ أتحدَّث معه على طريق السُّخرية به.

فقال: ما لكاتبك لا يكتب؟
قلت: طلبتُ منه الأصلَ الذي يَكتب منه لأعارِض به هذه الأوراق، فقال: لم أجِئ به معي.

قال: يا بنيَّ، خذ كراريسك وعارِض.
قلت: بماذا؟ وأين الأصل؟
قال: كنتُ أحفظ هذا الكتاب في مدَّة صباي.

فتبسمتُ من قوله، فلمَّا رأى تبسُّمي، قال: يا بني، أمسك عليَّ.

فأمسكتُ عليه، فجعل يَقرأ، فوالله إن أخطأ واوًا ولا فاءً، قرأ هكذا نحوًا من كراستين، ثمَّ أخذتُ له في وسط الكتاب وآخره، فرأيتُ حفظَه في ذلك كلِّه سواء.

فاشتدَّ عجبي، وقمتُ مسرعًا حتى دخلتُ على أبي فأخبرتُه الخبرَ، ووصفتُ له الرجل، فقام كما هو من فَوره، وكان ملتفًّا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسِر الرَّأس، حافي القدمين، لا يرفق على نفسه، وأنا بين يديه، وهو يوسعني لومًا، حتى ترامى على الرَّجل وعانقَه، وجعل يقبِّل رأسَه ويديه ويقول: يا مولاي، اعذرني، فوالله ما أعلمني هذا الجلفُ إلاَّ الساعة.

وجعل يسبُّني، والرجل يخفض عليه ويقول: ما عرفني، وأبي يقول: هبه ما عرفك، فما عذرُه في حسن الأدب؟
ثمَّ أدخله الدار وأكرم مجلسَه، وخلا به فتحدَّثا طويلاً، ثمَّ خرج الرجل وأبي بين يديه حافيًا حتى بلغ الباب، وأمر بدابَّته التي يركبها فأُسرجَت، وحلف عليه ليركبنَّها ثمَّ لا ترجع إليه أبدًا.

فلمَّا خرج قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظَّمتَه هذا التعظيم؟
قال لي: اسكت ويحك! هذا أديب الأندلس وإمامها وسيِّدها في علم الآداب، هذا أبو محمد عبدالمجيد بن عَيْذُون، أيسَر محفوظاته كتاب الأغاني[18].

◙ أحمد بن محمد بن هانئ الطائي أبو بكر الأثرم.
تلميذ الإمام أحمد، كان قويَّ الذَّاكرة، كان ابن مَعين يقول عنه: كان أحد أبويه جِنِّيًّا لسرعة فهمه وحفظه، وكان من بحور العلم[19].

المرجع:
• شبكة الألوكة: الشذرات في أخبار الكُتب والكُتاب والمكتبات. عبدالعال سعد الرشيدي الكويت.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
[1] جامع بيان العلم وفضله (2 / 204).
[2] السير (11 / 188).
[3] معجم الأدباء (1 / 129، رقم 20).
[4] الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب؛ لابن فرحون (1 / 161، رقم 28).
[5] ترتيب المدارك (1 / 459).
[6] نكت الهميان في نكت العميان؛ للصفدي (228)، الأعلام؛ للزركلي (5 / 180).
[7] ذيل طبقات الحنابلة (4 / 343، رقم 508).
[8] نفح الطيب (3 / 378، رقم 162).
[9] البداية والنهاية (14 / 310 سنة 763هـ).
[10] الرد الوافر (234)، قال الصفدي رحمه الله: إنَّ أباه وأخاه وأهله وآخرين سألوه أن يروح معهم يوم سبتٍ ليتفرج، فهرب منهم، فلمَّا عادوا آخر النهار لاموه على تخلُّفه، فقال: أنتم ما تزيَّد لكم شيء ولا تجدَّد، وأنا حفظتُ في غيبتكم هذا المجلَّد، وكان ذلك كتاب "جنة الناظر وجنَّة المناظر"؛ (أعيان العصر وأعوان النصر 1 / 236).
[11] علماء نجد خلال ثمانية قرون (1 / 306، رقم 17).
[12] علماء نجد خلال ثمانية قرون (4 / 24، رقم 416).
[13] علماء نجد خلال ثمانية قرون (2 / 234، رقم 157).
[14] قطَّاع الطريق.
[15] طبقات الشافعية الكبرى (6 / 195، رقم 694).
[16] آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (5 / 163، و272)، قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: ركبتُ مع الشيخ البشير الإبراهيمي حينما كنَّا في المؤتمر الوحيد الذي حضرتُه في عمري من أجل فلسطين بالقدس - بالسيارة من القدس إلى الشام، ما كنتُ أبدأ ذِكر بيتٍ من الشعر إلاَّ ذكر القصيدةَ وسمَّى الشاعرَ، فقلتُ له: أنت إيش تحفظ؟! تعجبتُ منه، فقرأ عليَّ بعض مقالات لي كنتُ أنشرها في مجلة الرسالة، فقلت له: يا سيدي، فهمتُ حفظتَ الشعر، لماذا تحفظ مقالاتي؟! قال: ما أتعمد حِفظَها، كلُّ شيء يمرُّ عليَّ يَثبت في ذاكرتي؛ (برنامج على مائدة الإفطار؛ للشيخ علي الطنطاوي، وهو موجود على الإنترنت بعنوان: قوة الحفظ والذاكرة).
[17] بغية الوعاة (1 / 387، رقم 939).
[18] سير أعلام النبلاء (19 / 599)، المعجب في تلخيص أخبار المغرب (70).
[19] البداية والنهاية (11 / 115 سنة 296هـ)، وذكر الإمام الذَّهبي: أنَّ سفيان الثوري لمَّا قدِم البصرة، قال: يا عبدالرحمن بن مهدي، جئني بإنسان أذاكِرُه، فأتيتُه بيحيى بن سعيد القطان، فذاكرَه، فلمَّا خرج، قال: قلتُ لك: جئني بإنسان أذاكِرُه، جئتني بشيطان - يعني: بهره حِفظُه -؛ (سير أعلام النبلاء 9 / 177، رقم 53).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/93234/#ixzz4jyeNiz6g