تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 24

الموضوع: سلسلة : التعريفات المحكمات بدين رب الأرض والسماوات (متجدد).

  1. افتراضي سلسلة : التعريفات المحكمات بدين رب الأرض والسماوات (متجدد).


    سلسلة :
    التعريفات المحكمات
    بدين رب الأرض والسماوات .

    بسم الله الرحمن الرحيم


    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين .

    أما بعد :


    فإن الإسلام هو الدين الحق الذي يحبه الله – تعالى – ، وبعث به نبينا محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - ،وفيه الصلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة .

    قال – تعالى -: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ } [آل عمران : 19].

    وقال – تعالى -:{ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً } [المائدة : 3] .

    وقال - تعالى -:{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران : 85 ] .

    ولهذا وجب علينا أن نعرف حقيقة الدين الإسلامي الذي فيه سعادة العباد ونجاتهم في الدنيا والآخرة .


    ورأينا أن أنفع الطرق في ذلك سوق حقائق الإسلام الثابتة على شكل تعريفات محكمات تقوم مقام القواعد الراسخات ، فيسهل على المسلم حفظها، ومعرفة معناها .

    ثم بعد ذلك نوضح تلك التعريفات بشرح وسط ينفع المبتدي ولا يستغني عنه المنتهي .

    وبثثنا هذه التعريفات على صفحة الفيس بوك التابعة لموقع ( دين الإسلام ) على شكل حلقات متتاليات تسهيلاً لمطالعتها، وتشويقاً لمتابعتها. والآن نقوم بنشرها بثوبها الجديد على صفحات الألوكة .

    ومن الله التوفيق، وعليه الاعتماد، هو حسبي ونعم الوكيل .


    كتبه/ أبو زيد العتيبي – وفقه الله إلى رضاه - .








  2. افتراضي


    الدرس الأول

    (1)
    الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله .
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ

    الشرح :

    إن هذا التعريف للإسلام يشمل ثلاثة محاور:
    · الأول/ الاستسلام لله بالتوحيد .
    · والثاني/ الانقياد بالطاعة .
    · والثالث/ البراءة من الشرك وأهله .

    *****

    (2)

    الاستسلام لله : هو تسليم العبد أمره – من قوله وعمله – إلى الله وحده.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ

    معاني المفردات :

    [تسليم] : تفويض بذل وخضوع .
    [أمره] : أي: شأنه ، والأمر : واحد الأمور .
    [وحده] : أي: حال كونه منفرداً عن الشريك .

    المعنى العام :

    هذا هو المحور الأول من تعريف الإسلام وهو حقيقته المشتملة على:
    (التفويض) لله وحده (ذلاً وخضوعاً) مقروناً بالتبري من الحول والقوة .

    فالاستسلام لله مرتبتان :

    1) تفويض متضمن للتبري من الحول والقوة – ذلاً وخضوعاً - .

    2) الإخلاص لله وحده .

    ولهذا قيل : (بالتوحيد) من باب البيان وإلا فمجرد الاستسلام لله يدل عليه ،
    كما قال – تعالى - : {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلَّهِ}.

    فيثمر هذا التسليم (الانقياد) لحكم الله في العبد في شأنه كله؛
    فيشمل الظاهر والباطن لكل من قول وعمل العبد ،
    فيكون الحاكم على العبد شرع الله تعالى ، وهذا هو مدلول لفظ ( الإسلام ) عند إطلاق.
    فهو يشمل الدين كله .

    الفوائد المستفادة :

    1. فيه أن استسلام باطن العبد وظاهره لله ، يوجب دفع الكفر والكبر عنه .

    2. وفيه أنه استسلام لله وحده لا لغيره ، فيوجب دفع الشرك عنه .



    *****

  3. افتراضي



    الدرس الثاني


    (3)

    التوحيد : هو افراد الله بما يجب له ويختص به من الربوبية والإلهية والأسماء والصفات.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ

    الشرح :

    معاني المفردات :

    أولاً/ [التوحيد] في اللغة : مصدر : وحد يوحد توحيداً ، أي: جعل الشيء واحداً .

    فائدة : ركنا التوحيد .

    اعلم – رحمك الله – أن الحكم على الشيء بأنه واحد لا يتم إلا بركنين اثنين .

    1) الركن الأول/ النفي ، وهو: نفي الحكم عما سوى الموحَّد .

    2) الركن الثاني/ الإثبات ، إثبات الحكم له .

    مثال للتوضيح :

    إذا أردنا مثلاً: الحكم على زيد من بين الطلاب في الصف بأنه قائم لابد لنا من أمرين :

    الأول/ نفي القيام عن غيره، فنقول : لا أحد قائم .
    الثاني/ إثبات القيام لزيد ، فنقول : إلا زيد .

    فنستفيد من جملة : ( لا أحد قائم إلا زيد ) إفراد زيد بالقيام .

    تنبيه :

    اعلم – وفقك الله إلى رضاه – أمرين :

    1) أن النفي وحده لا يفيد الإفراد ؛ لأنه تعطيل محض . مثل: لا أحد قائم .
    2) وأن الإثبات المجرد كذلك لا يفيد الإفراد ؛ لأنه لا يمنع من مشاركة الغير .
    مثل: زيد قائم .
    فلا يكون الكلام توحيداً وإفراداً إلا بنفي وإثبات ، كـ(لا أحد قائم إلا زيد) .

    ولهذا كانت كلمة التوحيد الدالة على وإفراد الله بالعبودية (لا إله إلا الله ) مشتملة على:

    1. النفي وهو: (لا إله) .
    2. والإثبات وهو: (إلا الله) .

    ثانياً/ [إفراد الله] أي: اعتقاد كونه واحداً في الربوبية والإلهية والأسماء والصفات .

    فالمقصود من التوحيد: اعتقاد أن الله منفرد فيما يجب له ويختص به،
    وليس المقصود أن تجعله كذلك فالله واحد لا شريك له ولو لم يعبده أحد .


    ثالثاً/ [بما يجب له] أي : بكل صفة يلزم اتصافه بها لكماله ، ويمتنع عدمها في حقه .

    رابعاً/ [ويختص به] أي: لا تكون إلا له – تعالى – لتفرده بالكمال المطلق .

    المعنى العام :

    إن التوحيد هو حقيقة الإسلام؛ ولهذا ذكر في حده وتعريفه ،
    كما قيل: ( الاستسلام لله بالتوحيد) فالتوحيد مصاحب وملازم لحقيقة الاستسلام لله .

    وهو أن تعتقد أن الله واحد لا شريك له في كل صفة يجب أن يتصف بها لكماله – تعالى - ، ويمتنع عدمها في حقه ؛ وهذه الصفات مختصة بالله وحده وهو منفرد بالاتصاف بها لا يجوز أن يعتقد اتصاف غيره بها لأنه لا يستحقها إلا الله سبحانه .

    وهذه الصفات الواجبة في حق الله والمختصة به ثلاثة أنواع :

    1) نوع يختص بربوبية الله ، وهي أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد ، مثل:
    الخلق ، والرزق ، وتدبير الأمور ، والإحياء والإماتة . . . إلخ .


    2) ونوع يختص بإلهية الله ، وهي استحقاقه التفرد بالعبادة، فلا يشاركه فيها أحد ، مثل:
    الصلاة والصوم والدعاء والذبح . . . إلخ .


    3) ونوع يختص بأسماء الله وصفاته ، وهي أسماؤه الحسنى وصفاته العلى التي ليس كمثله شيء فيها ، مثل:
    الله والرحمن والجبار والمصور . . . إلخ .


    واعتقاد وجوبها لله – تعالى – لكماله واختصاصه بها لا يتم إلا بنفي وإثبات ،
    فنقول: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله ، ولا معبود بحق إلا الله . . . إلخ .

    الدليل على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أنواع :

    سبق أن عرفنا أن توحيد الله هو اعتقاد انفراده – تعالى – بما يجب له ويختص به في كل ما يتعلق بصفاته وكمالاته وحقوقه .

    وقد تتبع العلماء النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فوجدوا أن ما يجب لله ويختص به دون من سواه ثلاثة أنواع .

    · نوع يتعلق بالربوبية .
    · ونوع يتعلق بالإلهية .
    · ونوع يتعلق بالأسماء والصفات .

    فائدة :

    1) إن الدليل الدال على تقسيم أنواع التوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة هو التتبع والاستقراء وهو من الأدلة المعتبرة في الشريعة .

    2) ومن الآيات التي جمعت هذه الحقوق الثلاثة قوله – تعالى - : {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }[مريم:65].

    · فقوله : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } يدل على تفرده بالربوبية .
    · وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } يدل على تفرده الإلهية .
    · وقوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } يدل على تفرده بأسمائه وصفاته .

    الفوائد المنتقاة :

    · إن التوحيد هو حقيقة الإسلام، وهو مصاحب له لا ينفك عنه فلا إسلام بلا توحيد ، ولا توحيد بلا إسلام .
    · إن التوحيد لا يتحقق إلا بنفي وإثبات .
    · إن التوحيد واجب ومختص بالله ؛ لأن الله تعالى له الكمال المطلق .
    · إن أنواع ما يجب لله ويختص به لكماله ثلاثة : ( ربوبية، وإلهية ، وأسماء وصفات ).



  4. افتراضي


    الدرس الثالث

    (4)

    توحيد الربوبية : إفراد الله بأفعاله .

    الشرح:

    معاني المفردات :

    [الربوبية] في اللغة : مأخوذة من الرب .
    قال ابن جرير الطبري – رحمه الله - : " وأما تأويل قوله : (رَبِّ)، فإن الرّب في كلام العرب منصرفٌ على معان:
    1) فالسيد المطاع فيها يدعَى ربًّا.
    2) والرجل المصلح للشيء يُدعى ربًّا .
    3) والمالك للشيء يدعى رَبَّه.
    وقد يتصرف أيضًا معنى " الربّ " في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة .
    فربّنا جلّ ثناؤه: السيد الذي لا شِبْه لهُ، ولا مثل في سُؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر
    " (تفسير الطبري بتصرف).

    في الشرع :

    الرب : هو الله – تبارك وتعالى - .


    وحقيقة معناه ما أجاب به موسى - عليه السلام – على سؤال فرعون ، كما قال – تعالى - :
    { قَال فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَال رَبُّنَا الذِي أَعْطَى كُل شَيْءٍ خَلقَهُ ثُمَّ هَدَى }

    فحصر معاني الربوبية في أمرين جامعين :
    الأول/ { الذِي أَعْطَى كُل شَيْءٍ خَلقَهُ } إفراده (بالخلق) المتضمن للملك .
    الثاني/ { ثُمَّ هَدَى } إفراده (بالتدبير) المتضمن للسيادة والإصلاح .

    فالرب : هو الله الخالق المدبر لأمر ملكه لما فيه صلاحهم .
    كما قال – تعالى -
    : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54] .

    فمرجع الربوبية إلى صفتين : (الخلق)، و(التدبير) .

    ولا مانع من بسطها أكثر فنضيف (الملك) الذي أجمل ضمن معنى الخلق،
    فإن من خلق شيئاً فهو مالكه بلا ريب .
    فتكون معاني الربوبية راجعة إلى (الخلق) ، و(الملك) ، و(التدبير) .

    فقد جاء هذا المعنى في قوله - تعالى - :{ اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ وَكِيل لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الزمر :63] .
    فالله – تبارك وتعالى – له الصفات الكاملة من :
    1) الخلق، لقوله : { اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ } .
    2) والملك، لقوله : { لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } .
    3) والتدبير، لقوله : { وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ وَكِيل } .

    فهذه الأوصاف الثلاثة ترجع إليها كل معاني الربوبية الدالة على كمال الله – تعالى -
    الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بأي وجه من الوجوه؛
    لذلك استحق أن يعبد وحده لا شريك له ؛ لكماله ونقص من سواه .

    ثم بعد ذلك يمكن من باب كمال البيان وتوضيح المعنى وتمام الحمد والثناء على الله – تعالى –
    أن يبين العبد معنى الربوبية بعَدِّ ما يستطيع عدَّه من أفعال الله – تبارك وتعالى –
    الدالة على كمال ربوبيته – تعالى – على خلقه، والتي لا يشاركه فيها غيره .


    كما قال – تعالى - :
    {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم ْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 17- 27] . وغيرها من الآيات .

    [إفراد الله] أي: اعتقاد كونه واحداً في كل أفعاله التي تجب له وتختص به
    لكماله ونقص من سواه ومرجعها إلى : (الخلق)، (والملك)، (والتدبير) .

    [بأفعاله] أي : أفعال الله : وهي أوصافه التي تجب له وتختص به لكماله فيما يتعلق بتفرده بالخلق والتدبير .



  5. افتراضي



    الدرس الرابع


    المعنى العام :


    هذا هو النوع الأول من أنواع التوحيد الدال على أوصاف تجب لله
    أي : يلزم اتصافه بها لكماله ويمتنع عدمها لأنه ينافي كمال الله المطلق التام الشامل .

    وتختص به لأنها لا تكون إلا له – سبحانه - فلا يشاركه فيها غيره – أبداً –
    لا من الملائكة العظام ولا من الرسل الكرام فضلاً عن غيرهما .


    والضابط لهذا النوع من الأوصاف : أنها راجعة إلى أفعاله – تعالى – ومرجع الأفعال إلى وصفين جامعين :

    1) الخلق .
    2) والتدبير .

    كما سبق بيان ذلك ، فعندنا – هنا – مسائل :

    المسألة الأولى/
    لماذا وجب هذا النوع من الأوصاف لله ؟

    إن المتأمل في حال العالَم – من جهة إحكامه وإتقانه - يجزم بأنه لا بد له من خالق :
    (حي عليم قادر . . .) أوجده، وخلقه بعد أن لم يكن . فيمتنع:

    1) أن يوجد العالَم صدفة بلا خالق؛ لأنه لا يمكن أن يكون فعل بلا فاعل .
    2) أو أن يوجد نفسه؛ لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه .

    فتعين أن يكون له خالق متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها أبداً .

    وقد جاء هذا المعنى في قوله – تعالى - : {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] .
    ففي هذه الآية طريقة فطرية عقلية في إثبات الربوبية لله – تعالى – وحده،
    تقوم على قاعدة : ( السبر والتقسيم ) .

    فالتقسيم: يعني ذكر الأقسام الممكنة للمسألة المبحوثة .
    والسبر : يعني اختبار هذه الأقسام وإخراج ما لا يصلح؛ لبطلانه، وإبقاء الصالح .

    وفي مسألتنا: التقسيم العقلي المحتمل هو ثلاثة احتمالات لا رابع لها :

    1) الاحتمال الأول/ أن يخلقوا من غير خالق .
    2) الاحتمال الثاني/ أن يخلقوا أنفسهم .
    3) الاحتمال الثالث / أن يكون لهم خالق أوجدهم .

    فإذا اختبرنا هذه الاحتمالات العقلية الواردة سنخرج بالنتائج التالية :

    1. النتيجة الأولى/ {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ} .
    • { خُلِقُواْ } تدل على أنهم مخلوقون ، والمخلوق له صفات، منها : الحياة والعلم والقدرة . . .
    • { مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ } أي : من غير خالق .

    فهذا الاحتمال العقلي عند النظر الصحيح يظهر بطلانه؛
    لأنه لا فعل إلا بفاعل، ولا أثر إلا بمؤثر وهكذا . . .


    ولهذا لما قيل لأعرابي بم عرفت ربك ؟
    قال: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير؛
    فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير .


    2. النتيجة الثانية/ { هُمُ الْخَالِقُونَ } .

    يعني هم خلقوا أنفسهم ، وهذا باطل لأنهم لم يكونوا شيئاً ( أي: كانوا عدماً) ،
    والعدم هو الذي لا صفة له . ثم خُلِقوا متصفين بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر . . . وهكذا .


    فهذا الاحتمال عند النظر العقلي غير صحيح ؛ لأن ( فاقد الشيء لا يعطيه )
    فالعدم الذي لا صفة له لا يمكن أن يوجد المخلوق المتصف بالحياة والعلم والقدرة وغيرها .

    3. النتيجة الثالثة/ ( أن يكون لهم خالق خلقهم ) وهي المفهومة من التقسيم .

    فإن هذا القسم دل عليه اللزوم البديهي فإن هذه المحدثات والمخلوقات لا تكون إلا بخالق موجد لها،
    فإذا لم تكن بغير خالق؛ لامتناع فعل بلا فاعل، ولم تكن هي الخالقه لنفسها؛
    لأن فاقد الشيء لا يعطيه تعين أن يكون لها خالق أوجدها .


    وتعين كونه (الله
    لأنه لم يدع أحد خلق السموات والأرض والعالم العلوي والسفلي إلا هو - سبحانه –
    فلزم ثبوت ذلك له .

    ثم التسليم بهذا الطريق الفطري العقلي نصل إلى أن لله أفعالاً (تجب له)
    أي يلزم اتصافه بها، ويمتنع عدمها لكماله ، كما قال – تعالى - :
    {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق:12) .

    فتسليمهم بأن الله هو الخالق للسموات السبع ومن الأرض مثلهن
    يقودهم إلى معرفة أوصافه – سبحانه – الواجبة له ، ومنها :


    1) أن الله على كل شيء قدير .
    2) وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً .

    ولذلك قال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}.



  6. افتراضي


    الدرس الخامس

    المسألة الثانية/
    اختصاص هذه الأوصاف به سبحانه .

    لا زلنا في بيان معنى النوع الأول من التوحيد، وهو (توحيد الربوبية)، وقلنا أنه:
    إفراد الله – تعالى – بأفعاله .

    وأفعاله – سبحانه – كما سبق هي أوصافه التي تجب له وتختص به؛ لكماله فيما يتعلق بتفرده بالخلق والتدبير،
    { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54] .

    وتبين لنا كيف أن أفعاله الراجعة إلى
    : (خلقه، وأمره) واجبة له يمتنع عدمها بدلالة الفطرة العقلية والشرعة النبوية .

    ونبين – هنا – كيف أنها (مختصة به – سبحانه - ) لا يشاركه فيها أحد من خلقه .

    دليل التمانع :


    قال ابن أبي العز الحنفي – رحمه الله -:
    "وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ إِثْبَاتُهُ بِدَلِيلِ التَّمَانُعِ، وَهُوَ:
    أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ فَعِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا مِثْلَ:
    أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَآخَرُ تَسْكِينَهُ، أَوْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَهُ وَالْآخَرُ إِمَاتَتَهُ:

    1) فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مُرَادُهُمَا،
    2) أَوْ مُرَادُ أَحَدِهِمَا،
    3) أَوْ لَا يَحْصُلُ مُرَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

    وَالْأَوَّلُ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ،
    وَالثَّالِثُ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ خُلُوُّ الْجِسْمِ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُوَ مُمْتَنَعٌ،
    وَيَسْتَلْزِمُ أَيْضًا عَجْزَ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَهًا،

    وَإِذَا حَصَلَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَانَ هَذَا هُوَ الْإِلَهَ الْقَادِرَ، وَالْآخَرُ عَاجِزًا لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ " أهـ .

    فظهر بهذا الدليل اختصاص (الخلق والتدبير) بالله – تعالى – فلا شريك له – سبحانه – في خلقه ولا في تدبيره .

    فالله – سبحانه - منفرد بأفعاله الواجبة له والمختصة به – خلقاً وتدبيراً – وهو حقيقة توحيد الربوبية،
    فمن اعتقد ذلك لزمه أن لا يعبد الله –تعالى-
    .

    المسألة الثالثة/ إقرار المشركين بتوحيد الربوبية .

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
    "والمشركون كانوا يقرون بهذا التوحيد الذي هو (نفي خالقين) لم يكن مشركو العرب تنازع فيه،
    ولهذا قال الله لهم
    : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل: 17]."
    (منهاج السنة النبوية : 3/199) .

    الأدلة على ذلك :

    1) قال – تعالى - :{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }[سورة الزمر: 38].
    2) وقال – تعالى - :{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.[سورة لقمان:25].
    3) قال – تعالى - :{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}[العنكبوت:61].
    4) قال – تعالى - :{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}[الزخرف:9].
    5) قال – تعالى - :{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}. [سورة الزخرف: 87].
    6) قال – تعالى - :{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106]
    قال ابن عباس -رضي الله عنهما-:
    "من إيمانهم، إذا قيل لهم: مَن خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟
    قالوا: الله . وهم مشركون.
    "(تفسير الطبري:16/286).
    7) قال – تعالى - :{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}[العنكبوت:63].
    8) قال – تعالى - :{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:22].
    قال ابن عباس – رضي الله عنهما - :"لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ،
    وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه.
    "
    (تفسير الطبري:1/370).
    9) قال – تعالى - :{ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)}[سورة المؤمنون].
    10) قال – تعالى - :{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت:65].
    فكونهم يدعون الله في الشدة دليل على اعترافهم بربوبيته في الخلق والتدبير .

    ملاحظة مهمة :

    اعلم أنه يرد في عبارات بعض العلماء أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية أو أنهم يقرون أن الله هو الخالق المدبر،
    فليس هو الإيمان الكامل لأنه ليس إقراراً بالربوبية الكاملة، وإنما هو إقرار بمطلق الربوبية، أي: بشيء منها،
    ومن الأدلة على ذلك :


    أ*- أنهم لو كان إيمانهم بالربوبية إيماناً كاملاً للزم منه أنهم لا يعبدون إلا الله،
    فلما وقعوا في الشرك دل على أن إقرارهم بالربوبية فيه نقص
    .

    ب*- أنهم ينكرون بعض خصائص الربوبية فليس إيمانهم بها كاملاً، كإنكارهم البعث بعد الموت،
    قال الله – تعالى -
    :{فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق:2-3].وغيرها من الآيات .

    حقيقة ثابتة :

    لقد تبين مما سبق أن المشركين الذين أرسل إليهم النبي – صلى الله عليه وسلم –
    كانوا يقرون بأن الله – عز وجل – هو الذي خلقهم ورزقهم ويدبر أمورهم ،
    ومع هذا الإقرار فقد قاتلهم النبي – صلى الله عليه وسلم - ؛
    وذلك لأن التوحيد الذي بعثه الله به هو توحيد العبادة ، وهذا من المعلوم من دين المسلمين بالضرورة .


    فهذا النوع من التوحيد هو الذي انكروه ولم يقروا به كما قال الله – تعالى – عنهم :
    {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}[الصافات : 35] .

    فلا يكفي لدخول الاسلام مجرد الإقرار بتوحيد الربوبية حتى يقر معه بتوحيد الإلهية والعبادة ، وينقاد للخالق سبحانه :
    {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23].

    وسيأتي زيادة بيان للمسألة عند شرح توحيد العبادة – إن شاء الله – تعالى - .

    تنبيه :

    مما يستفاد من هذه الحقيقة الثابتة، والمعلومة من الإسلام بالضرورة
    أنه لا يحكم بإسلام من تلفظ بما يدل على الربوبية،
    كإقراره بوجود الله – تعالى - ،
    أو نسبة وقوع الأشياء إلى قدر الله،
    أو أن الخالق هو الله ،
    حتى يضم إلى ذلك توحيد العبادة بأن لا يعبد إلا الله – سبحانه - .

    الفوائد المنتقاة :

    1) أن الرب هو الله – تعالى - الخالق المدبر لأمر ملكه لما فيه صلاحهم .
    2) وتوحيد الربوبية من الحقوق الواجبة لله .
    3) وإفراده به يعني : اعتقاد كونه واحداً في كل أفعاله التي تجب له وتختص به لكماله ونقص من سواه ومرجعها إلى:
    (الخلق)، (والملك)، (والتدبير) .
    4) وأفعاله : هي أوصافه التي تجب له وتختص به لكماله فيما يتعلق بتفرده بالخلق والتدبير .
    5) والدليل على أنها واجبة لله : أن المخلوقات
    إما أنها خلقت من غير خالق، وهذا ممتنع ؛ لأنه لا فعل إلا بفاعل .
    وإما أنها خلقت أنفسها، وهذا ممتنع ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه .
    فتعين أن لها خالقاً، ولم يدع أحد خلق العالم إلا الله فتعين – سبحانه – رب العالمين .
    6) والدليل على أنها مختصة بالله وحده احكام العالم وإتقانه وتناسقه وانتظامه وإليه الإشارة بدليل التمانع .
    7) اقرار المشركين بهذا النوع من التوحيد ، فلم يكونوا ينكرون أن لا خالق لهم ولا رازق ولا مدبر للأمر إلا الله .
    8) اقرارهم كان فيه نقص من جهة إنكارهم بعض معاني الربوبية كالبعث بعد الموت،
    ومن جهة أنهم لو اعتقدوا في الله الكمال المطلق لما عبدوا غيره
    .
    9) هذا الإقرار لا يكفي في دخول الإسلام حتى يضم له العبد الإيمان بتوحيد الإلهية والعبادة،
    فلا يصرف شيء من عباداته إلى الله وحده لا شريك له
    .



  7. افتراضي


    الدرس السادس

    (5)

    توحيد الإلهية : إفراد الله بالعبادة .

    معاني المفردات :

    [الإلهية] في اللغة : مأخوذة من ( الإله ) .

    و ( إله ) بمعنى : ( مألوه ، أي: معبود ) .

    فهي على وزن ( فِعَال ) بمعنى : ( مفعول ) . مثل : ( كتاب ) بمعنى : ( مكتوب ) .

    و ( المألوه ) بحق : هو الذي يستحق أن يعبد .

    قال ابن فارس – رحمه الله - :
    " (ألَه) الهمزة واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبُّد. (فالإله) : ( الله – تعالى - )، وسمّيَ بذلك لأنّه معبود .
    ويقال تألّه الرجُل، إذا تعبّد. قال رؤبة:

    للهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ *** سَبَّحْنَ واستَرْجَعْنَ مِن تَأَلُّهِي
    "
    (معجم مقاييس اللغة: 1/132) .

    ولما كان المعبود بحق هو رب العالمين وحده لا شريك له تعين له – سبحانه - اسم يدل على هذا المعنى وهو : ( الله ).
    فالله : اسم علم على المعبود بحق .

    فالإلهية : صفة الله – تعالى – دالة على استحقاقه العبادة وحده .

    فتوحيد الإلهية هو اعتقاد انفراد الله – تعالى – باستحقاق العبادة ،
    فكل من سواه لا يستحق العبادة، وإن عبد بسبب جهل عابديه وظلمهم .

    قال ابن منظور – رحمه الله - : " ( الإلَهُ ) : ( الله - عز وجل - ) .
    وكل ما اتخذ من دونه معبوداً ( إلَهٌ ) عند متخذه ، والجمع آلِهَةٌ .
    (والآلِهَةُ) : ( الأَصنام ) سموا بذلك لاعتقادهم أَن العبادة تَحُقُّ لها ، وأَسماؤُهم تَتْبَعُ اعتقاداتهم لا ما عليه الشيء في نفسه
    "
    (لسان العرب:13/476) .

    والكلمة الدالة على هذا النوع من التوحيد هي : ( لا إله إلا الله ) ، فهي تعني : لا معبود بحق إلا الله .

    ولما كان ( الإله ) هو ( المعبود ) تعين علينا معرفة التعبد كي لا نصرف منه شيء لغير الله – تعالى - .

    وهو ما نبيته في المفردة التالية :


    [العبادة] : اسم يدل على تذلل ومحبة لمعظم أوجبه جلاله وجماله .

    فيشترط في العبادة أمران :

    الأول/ غاية المحبة : وهي ما امتزجت بجمال المحبوب مثمرة رجاءه وطاعته .
    الثاني/ غاية الذل : وهو ما امتزج بإجلال المخضوع له مثمراً خوفه والكف عن نواهيه .

    ولهذا قال ابن القيم – رحمه الله - :

    وعبادة الرحمن غايةُ حبه *** مع ذل عابده هما قطبان
    وعليهما فلك العبادة دائرٌ *** ما دار حتى قامت القطبان


    فالمحبة التي هي ركن العبادة هي التي أوجبها جمال المحبوب المثمر لطاعته ورجائه .
    والذل الذي هو ركن العبادة هو ما أوجبه جلال المخضوع له المثمر لتعظيمه وخوفه .

    فكل من تعظمه القلوب : (محبة لجماله) ، (وخضوعاً لجلاله) وتصرف له الأقوال والأعمال؛
    فهو إله معبود يُرجى رغبةً ويُخاف رهبةً .

    فإن كان أهلاً للجمال الموجب للمحبة تعظيماً ، وأهلاً للجلال الموجب للخضوع ذلاً فهو:
    ( الإله الحق ) الذي تقصده القلوب عند الرغبة والرهبة .

    وإن لم يكن أهلاً لذلك فهي : ( الآلهة الباطلة ) التي لا تضر ولا تنفع .

    ***


  8. افتراضي


    الدرس السابع

    وهنا سؤال عظيم من أهم ما يكون :

    قال السعدي – رحمه الله - : " سؤال مهم :
    إذا كانت حقيقة العبادة ولبها مبنية على غاية الحب مع غاية الذل،
    وقد يوجد من المخلوق للمخلوق حب وذل ، أو يوجد أحدهما
    .

    فما الفرق بين ما يتعلق بالمخلوق ولم يبلغ رتبة العبادة وبين حقيقة العبادة المبنية على الأصلين المذكورين ؟

    الجواب :

    - وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب - :
    اعلم أن هذا سؤال عظيم ، له شأن عظيم ، ولا يُعرف سر العبودية وحقيقتها ،
    بل لا يُعرف التوحيد كله إلا بمعرفة الفرق بين الحب والذل الذي هو عبادة ، وبين الحب والذل الذي ليس بعبادة،
    ومعرفة الفرق بين الأمرين:
    هو أعظم فرقان يفرق به بين الأمور المتباينة والألفاظ المتشابهة والمعاني التي بينها من الفرق أعظم مما بين السماء والأرض
    .

    وبيان ذلك أن الحب والذل لله – تعالى – هو عبادته وكل قول وفعل واعتقاد اشتمل عليه الدين ،
    فالتعبد به لله – تعالى – مقرون بحب الله – تعالى – والذل له ، الذي حقيقته :
    الانقياد لشرع الله ، تصديقاً لأخباره ، وتقرباً إلى الله بذلك التصديق المشتمل على العلم والمعرفة ،
    النافع للقلوب الموصل لها إلى أجل غاية ، وأعظم مطلوب، وامتثالاً لأمره ، واجتناباً لنهيه،
    تقرباً إلى الله وطلباً لمرضاته ونيل ثوابه العاجل والآجل بفعل المأمور ، واجتناب المحظور .

    فطلب التقرب إلى الله في ذلك هو حقيقة الحب ،
    بل هو ثمرة الحب؛ لأن العابد لله لما أحب ربه طلب السعي بكل ما يقربه إليه ، ويدنيه منه .
    وذلك السعي والعمل هو الانقياد الذي هو ثمرة الذل والتعظيم للرب،
    بل هو القوة المعنوية التي عزم عليها المؤمن ، وهي التزامه العام لطاعة الله ورسوله ، بتصديق الخبر
    .

    وطاعة الأمر ، هي : حقيقة الحب والذل ، حيث قال المؤمنون : {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} .

    فكل ما قاموا به من الدين وما عزموا عليه والتزموه منه فإنه من آثار الحب والذل ، فهذه آثار العبودية .

    وثمرتها : القيام بالدين كله ، علماً وعزماً وعملاً ونيةً .

    ولا بد أن يكون هذا الحب والذل ناشئين عن معرفة بأسماء الله وصفاته ، وأن له كمال الأسماء ،
    وعظيم الصفات التي هي جميع صفات الكمال ، ونهاية الجلال والجمال ، وهي صفات الإلهية ونعوتها .
    فالله هو المألوه ذلاً وحباً ، وتوابع ذلك لما له من هذا الكمال الذي يختص به ، فلا يشاركه في ذلك مشارك .

    فجميع محامده التي ذكرها في كتبه ، ونطقت بها رسله هي صفات ألوهيته ، التي ألهه المحبون المتذللون لأجلها ، وعبدوه بسببها .
    فعرفوا ما له من العظمة والكبرياء ، والمجد والجلال ، فخضعوا وذلوا . وما له من الجمال والكرم والرحمة والجود والإحسان ؛
    فامتلأت قلوبهم من محبته ، وفاضت ألسنتهم بالثناء عليه ، وانقادت جوارحهم طلباً لقربه ورضاه وثوابه .


    وعرفوا ما له من العدل والحكم ، ووضع الأشياء في مواضعها وإيقاع العقوبات المتنوعة بأنواع المخالفين ؛
    فخافوا ورهبوا وحذروا من معاصيه . وحيث وقعت منهم على وجه الغلبة ، بادروا بالتوبة ، والخروج من تبعتها
    .

    وعرفوا ما له من الفضل العظيم والرحمة السابغة ، وأنواع الألطاف . فاشتاقوا إلى كرمه ، وسعوا لتحصيل ثوابه وجوده ،
    وهانت عليهم المشقات ، لما عرفوا أنها تفضي بهم إلى أجل الكرامات ، وأفضل الثواب
    .

    وعرفوا – مع ذلك – أنه لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يدفع السيئات إلا هو ،
    وأن جميع النعم الظاهرة والباطنة كلها منه ، وأن كل شر وعقوبة اندفعت عنهم فبدفعه وحفظه وأنه الرب على الحقيقة ،
    كما أنهم هم العبيد المماليك على الحقيقة ، ليس لهم من أنفسهم إيجاد ، ولا إمداد ، ولا إعداد .

    فهم الفقراء إليه في جميع أمورهم في خلقهم وخلق جوارحهم الظاهرة والباطنة ، وفي رزقهم وتدبيرهم ،
    وأنهم مماليك محض ، وليس لهم شيء ، ولا منهم شيء ، بل كل ما حصل لهم من منافع أو دفع مضار ، فمن الله .

    فلما عرفوا ربهم وعرفوا أنفسهم ذلوا وخضعوا لله واشتاقوا إلى كل ما يقربهم منه ،
    وما يسترحمون به إلههم ومعبودهم في حوائجهم المضطرين إليها في جميع اللحظات
    .

    فتبين وظهر أن الحب والذل الذي هو عبودية لله ، وتأليه له ، لا يشابهه غيره ، ولا يلتبس بسواه ، في أسبابه وموجباته.
    فإنه حب وذل ، اقترن بالقيام بالدين ، وبحسب حال صاحبه ،
    واقترن بمعرفة الله وما له من النعوت العظيمة ، التي اختص بها ، وتوحد بها ،
    واقترن بمعرفة العبد بنفسه ، وأنه عبد مملوك مضطر غاية الاضطرار إلى عبودية ربه ، وإلى تأليهه لشدة ضرورته ،
    وتوقف سعادته على ذلك ، ولكونه مستحقاً عليه لازماً له ، من حيث إنه عبد مملوك ، مأمور منهي
    .

    فكما أن المعبود المألوه ، ليس كمثله شيء في جميع أوصافه ، وكماله ، فالعبادة المتعلقة به لا يشبهها شيء .

    ولهذا كلما قويت هذه الأمرو في العبد ، وكان أكمل لتوحيده ، وأبلغ في عبوديته لله .

    فتمام التوحيد بتمام الإخلاص لله في الاعتقاد والقول والعمل ، وبتمام معرفته لله – تعالى – إجمالاً وتفصيلاً ، وتأصيلاً وتفريعاً .
    وكلما ضعفت منه هذه الأمور ، ضعف توحيده .


    ولهذا كان الشرك في الربوبية ، والشرك في الإلهية ، والشرك في العبودية ، والشرك في أسماء الله وصفاته وأفعاله ،
    منافياً كل المنافاة للعبودية التي هي غاية الحب ، مع غاية الذل ؛
    لأن من زعم أن لله شريكاً في ربوبيته وتدبيره ، أو أنه له سمي أو مثيل في صفات كماله ،
    فقد أشرك بربوبية الله ، وساوى غير الله بالله ، بل ساوى المخلوق بالخالق ، والمُعَبَّد المدبَّر ، بالرب المدبر .
    ونفى خصائص ألوهية الله – تعالى – التي حقيقتها تفرده بجميع الكمال .


    ومن أشرك في عبوديته وإخلاصه ، بأن صرف نوعاً من عبوديته لغير الله – تعالى - ،
    فقد نقص توحيده ، وأفسد دينه الذي هو الإخلاص المحض {ألا لله الدين الخالص} [الزمر:3] .

    فأي حب وأي ذل يشتبه بهذا أو يقاربه ، إلا حب وذل هو عبودية لغير الله ، وشرك به ؟

    وهي المحبة الشركية الصادرة من المشركين التي مضمونها تسوية آلهتهم برب العالمين ، في الذل والتعظيم والحب .

    ولهذا يقولون في وسط جهنم ، معترفين بشركهم ، نادمين أشد الندم ، شاهدين بغاية ضلالهم :
    {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:97-98] .

    ومع أن هذا شرك في توحيدهم ، فإنهم لا يساوون المؤمنين في حبهم وتعظيمهم ؛ قال الله – تعالى - :
    {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }[البقرة: 165] .

    فظهر ببيان حقيقة العبودية الفرق العظيم بين حب العبادة وتعظيمها ، وبين الحب الطبيعي وتوابعه .

    والحب الطبيعي تابع لبعض مراد النفس والشهوات المتباينة التي تبقى ببقاء ذلك المراد ، وتزول بزواله .

    وأما الذل الطبيعي فهو ناشئ عن خوف من عقوبة مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة .
    وقد يجتمع الأمران في تعلقهما بالمخلوق ، فيحب غيره ويعظمه ويذل له لما يرى له عليه من حق أبوة أو إحسان أو نحوهما
    .

    وذلك الحب والذل تابع لذلك الحق الذي فعلهما لأجله ،
    مع علمه أن المعظم المحبوب له مخلوق مثله ، ناقص مثله ، فقير مثله في جميع أحواله ،
    وأنه لا يملك له نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً .

    وأما حبه لأولياء الله وأصفيائه ، فهو حب تابع لحبه لله ، لأنه لما رأى محبة محبوبه لهم ، لما قاموا به من مراضيه – أحبهم لله ،
    ولهذا تقوى هذه المحبة بسبب قوة العبودية والتوحيد
    .

    فنسألك – اللهم – حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يبلغنا إلى حبك ،
    ونعوذ بوجهك الكريم أن نشرك مخلوقاً في الحب معك ،
    وأن نساويه فيك في شيء من الأمور التي اختصصت بها ، وانفردت باستحقاقها
    .

    ونسألك – اللهم – أن تجعل جميع ما أحببناه من قوة وصحة وعافية وأهل ومال وولد وأصحاب وغيرهم
    معيناً لنا على محابك ومقويا لنا على طاعتك وأن ترزقنا من الإخلاص الكامل
    ما يأتي على ذلك أجمع بأن تجعل نياتنا وسعينا في عباداتنا وعاداتنا طريقاً لنا إلى الوصول إليك
    وأن تعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنك جواد كريم
    "

    (الفتاوى السعدية : 22-29) .

    ***


  9. افتراضي


    الدرس الثامن

    العبادة لها اطلاقان :

    تطلق ( العبادة ) ، ويراد بها معنيان :

    المعنى الأول/ ( التعبد ) : - وهو فعل العبد - ، فنعرفها بأنها :
    تعظيم الله محبة وذلاً بفعل أوامره، واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه .

    المعنى الثاني/ ( المتعبد به ) : - وهو اسم ذات العبادة - ، فنعرفها بأنها :
    " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " .

    ففي الإطلاق الأول ( التعبد )
    يقصد به الوصف الذي يقوم بالعبد فيسمى تلبسه به عبادة؛
    فكونه يعظم الله محبةً وذلاً بالشريعة التي جاءت بها الرسل فهو في عبادة .

    وفي الإطلاق الثاني ( المتعبد به )
    يقصد به اسم ذات الشيء الذي شرع الله للعباد تعظيمه به من الأقوال والأعمال ، كالصلاة والصيام .

    وسيأتي – إن شاء الله – مزيد تفصيل له في التعاريف القادمة .

    المعنى العام :

    هذا هو النوع الثاني من أنواع التوحيد، وهو إفراد الله بما يجب له ويختص به من حقوق الإلهية ؛
    لكمال أوصاف ربوبيته ، وعدم المشارك له – سبحانه - فيها .


    و (حقوق الإلهية) معناها : انفراده – تعالى – بالتعظيم – حباً وذلاً – لكمال جماله وجلاله .

    ونبين حقيقة هذا النوع من التوحيد في مسائل :

    المسألة الأولى/ ( وجوب الإلهية لله – تعالى - ، وانفراده بها ).

    إن لله – تعالى – الجمال المطلق ، والجلال التام اللذان يبعثان القلوب على حبه – تعالى – ورجائه وخوفه .

    وصفات الجمال : هي كل صفة تبعث في القلب محبة الموصوف بها ورجائه ،
    كالرحمة ، والمغفرة ، والبر ، والكرم . . . إلخ .

    وصفات الجلال : هي كل صفة تبعث في القلب الخضوع للموصوف بها وخوفه ،
    كالكبرياء ، والعظمة ، والجبروت ، والقهر . . . إلخ .


    وهذه الأوصاف واجبة لله – تعالى - ؛ لأنها معاني الربوبية،
    وقد سبق بيان وجوبها لله ؛ لضرورة وجوب الخالق لهذا العالم،
    وسبق بيان اختصاصه بها ؛ لضرورة الواقع الذي له نظام متسق واحد دال على مدبر واحد،
    فكذلك ما يلزم من هذه الأوصاف يكون واجباً له – سبحانه - ، ومختص به .


    فالإيمان بالربوبية الكاملة يلزم منه الإيمان بالإلهية واستحقاقه وحده العبادة
    بتعظيم القلوب له - محبةً وذلاً - بفعل ما شرعه على ألسنة رسله .


    وقد دل على هذا المعنى قوله – تعالى - :
    { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21- 22] .

    فقوله : { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } هو أول أمر صريح في القرآن يأمر ( بعبادة الله ) ، فدل على وجوب عبادته – سبحانه - .

    وقوله :{ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فيه بيان السبب الذي لأجله وجبت عبادة الله ،
    وذلك بذكر الصفة التي كشفت عن هذا المعنى ، وهي
    ( الخالقية ) ، فيكون تقدير الآية :
    وجب عليكم عبادة ربكم؛ لأنه خلقكم وخلق الذين من قبلكم
    .

    وقال السعدي – رحمه الله – في بيان معنى الآية :
    " هذا أمر عام لكل الناس، بأمر عام، وهو العبادة الجامعة، لامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وتصديق خبره،
    فأمرهم - تعالى - بما خلقهم له، قال تعالى
    : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } .

    ثم استدل على وجوب عبادته وحده،
    بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم، فخلقكم بعد العدم، وخلق الذين من قبلكم، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة،
    فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها، وتنتفعون بالأبنية، والزراعة، والحراثة، والسلوك من محل إلى محل،
    وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم، كالشمس، والقمر، والنجوم.


    { وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء : هو كل ما علا فوقك فهو سماء،
    ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا : السحاب، فأنزل منه تعالى ماء،
    { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب، والثمار، من نخيل، وفواكه، [وزروع] وغيرها
    { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون، وتقوتون وتعيشون وتفكهون.

    { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي: نظراء وأشباها من المخلوقين، فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتحبونهم كما تحبون الله،
    وهم مثلكم، مخلوقون، مرزوقون مدبرون، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون،
    { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك، ولا نظير، لا في الخلق، والرزق، والتدبير، ولا في العبادة
    فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب، وأسفه السفه
    .

    وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه،
    وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته، وبطلان عبادة من سواه،
    وهو ذكر توحيد الربوبية، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير،
    فإذا كان كل أحد مقراً بأنه ليس له شريك في ذلك،
    فكذلك فليكن إقراره بأن الله لا شريك له في العبادة، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك
    "
    (التفسير : 44) .

    المسألة الثانية / ( إن هذا النوع من التوحيد هو الذي جاءت به الرسل ) .

    إن الله – تعالى – خلق العباد لغاية عظيمة، وهي : ( عبادته وحده لا شريك له ) . كما قال – سبحانه - :
    {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات : 56] .

    وخلق داراً يحققون فيها هذه الغاية – ابتلاء واختباراً - فيعبدون الله – تعالى – فيها ، وهي: (الدار الدنيا) .
    ورتب ما في الكون من المنافع والنعم على هذه الغاية التي خلق لها العباد .

    فخلق آدم – عليه السلام – وخلق منه زوجه ، ثم بث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، فعبدوا الله – تعالى – وحده لا شريك له .

    ولم يزل بنوه على هذا العهد مدة عشرة قرون – أي: ألف سنة – لا يعبدون إلا الله وحده لا شريك له ،
    حتى كان زمان قوم نوح – عليه السلام - ، أحكم الشيطان الرجيم شباكه فيهم وجعلهم يعبدون غير الله .

    فقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما – أنه قال : " كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام " .

    وذلك أنه كان في قوم نوح – عليه السلام – رجال صالحون ، وهم :
    ( ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر )،
    فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا لهم انصاباً وسموها بأسمائهم ،
    لأجل أن يتذكروهم بها وينشطوا للعبادة ، ويتأسوا بهم في ذلك ،
    وليكونوا قدوة للمجتمع كلما ضعفت همم أبنائه حفزتهم انصاب الصالحين إلى الاقتداء بهم في الصلاح والطاعة ،
    وبقوا على ذلك فترة .


    ثم صاروا يعبدون الله عندها ، لطهارة المكان ، ونزاهته ؛ ولأن القرب منهم يبعث في النفس طلب التأسي والاقتداء .

    ثم بعد ذهاب أهل ذلك الزمان وذهاب العلماء ونسيان العلم جاءت أجيال جديدة، وجدت أنصاباً معظمة
    تحبها القلوب وتذل لها النفوس ، وزين لهم الشيطان أن آباءهم ما فعلوا ذلك إلا لأنها تقرب إلى الله – تعالى - .


    فصرفوا لها العبادة من : المحبة والخوف والرجاء والدعاء . . . إلى غير ذلك من العبادات زاعمين أنها تقربهم إلى الله .

    وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما - :
    " قال صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد :
    أما (ودٌّ): فكانت لكلب بدومة الجندل.
    وأما (سواعٌ) فكانت لهذيل .
    وأما (يغوث) فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ .
    وأما (يعوق) فكانت لهمدان .
    وأما (نسرٌ) فكانت لحمير لآل ذي الكلاع .
    أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم:
    أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم؛
    فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت
    " .

    فأرسل الله – تعالى – إليهم نوحاً – عليه السلام – يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة من سواه،
    وأنه لا يستحق العبادة إلا رب العالمين .


    قال – تعالى - : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] .
    فكان جواب قومه : {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح : 23] .

    فأنت تلحظ أن الصراع الدائر بين نوح وقومه هو في حقوق الإلهية ، نوح – عليه السلام – يقول لهم :
    { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } فحق الإلهية والعبادة لا يكون إلا لله – تعالى – وحده .

    وهم يرون تعدد الآلهة – لقولهم - : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ }
    فيعتقدون أن غير الله – تعالى – يستحق التعظيم – محبة وذلاً – مع الله .

    وهنا أمر ينبغي التنبه له : أن قوم نوح لم يكونوا ينكرون الله.
    بل كانوا يعرفونه ، لكنهم لم يكونوا يوحدونه. بل يشركون معه غيره .


    وذلك أن نوحاً – عليه السلام – خاطبهم بعبادة من يعرفونه ، كما قال – تعالى - :
    {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ }[نوح : 1-3] .

    وأراد منهم افراده – سبحانه – بالعبادة ، كما قال:
    {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ }[هود: 25-26].

    فخطابه لهم يدور على التوحيد : { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ }.

    واستمر على ذلك مدداً متطاولة من الزمان ، كما قال – تعالى - :
    {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}[العنكبوت:14] .

    وصفهم بالظالمين ؛ لأنهم أعطوا حق الله المحض الذي لا شريك له فيه، ولا يتصور العقل له مشارك فيه،
    اعطوه لعبيد ضعفاء مثلهم ، وصرفوا لهم العبادات
    ، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ }[الأعراف: 194] .

    فلا ريب أن يكون الشرك ظلما ؛ لأنه وضع للشيء في غير محله ، كما قال لقمان – العبد الصالح – لابنه :
    { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان : 13] .

    ***


  10. افتراضي


    الدرس التاسع

    وبعد ذلك توالت الرسل – عليهم السلام – يعقب بعضهم بعضاً بالدعوة إلى إفراد الله بالعبادة،
    وتنزل عليهم الكتب مشتملة على الأدلة والبراهين الموضحة لذلك .


    ونبين ذلك في توضيح حقيقتين :

    الحقيقة الأولى/ أن تعلم أن الغاية من إنزال الكتب على الرسل والأنبياء كان لأجل إفراد الله – تعالى – بالعبادة،
    ودلالة هذه النصوص على نوعين:

    أ*- الدلالة المجملة .
    منها: قوله – تعالى - :{ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل:2].

    ب*- الدلالة التفصيلية .

    - منها: قوله – تعالى – عن القرآن -:{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}[هود:1].

    - ومنها: قوله – تعالى – عن التوراة - :{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}[الإسراء:2].

    الحقيقة الثانية/ أن تعلم أن الغاية من إرسال الرسل والأنبياء كان لأجل إفراد الله – تعالى – بالعبادة،
    ودلالة هذه النصوص على نوعين:

    أ*- الدلالة المجملة .

    - منها: قوله – تعالى - :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25].
    - ومنها: قوله – تعالى - :{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36].

    ب*- الدلالة التفصيلية .

    - منها: قوله – تعالى – عن إبراهيم الخليل - عليه السلام - : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:26-28].
    - ومنها: قوله – تعالى عن هود – عليه السلام - :{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}[الأعراف:65].
    - ومنها: قوله – تعالى – عن صالح – عليه السلام - :{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف:73].
    - ومنها: قوله – تعالى – عن شعيب – عليه السلام - :{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف:85].
    - حتى ختموا بنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي جاء بالكلمة السواء ( لا إله إلا الله ) ، كما قال – تعالى - :{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:64].

    خلاصة الدعوة المحمدية :

    فقد كانت دعوة نبينا – صلى الله عليه وسلم – قائمة على:
    بيان حق الله – سبحانه – بالإلهية التامة التي لا يشاركه فيها أحد غيره ،
    وتفنيد الشرك وبيان بطلان عبادة الأوثان ، والأصنام ، والأحجار وغيرها .


    فقد كانت قريش تعبد اللات والعزى ومناة، كما قال – سبحانه - : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:19-20] .

    اللات: صخرة منقوشة، وقيل قبر رجل .
    العزى: ثلاث شجرات .
    مناة: صنم بين مكة والمدينة .

    ومعنى عبادتهم لها : أنهم يصرفون لها بعض أنواع العبادة من :
    المحبة والخوف والرجاء والدعاء والاستعانة والاستعاذة وغيرها
    ؛ لسببين:

    لتقربهم إلى الله .
    • والدليل قوله:{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3] .

    ولتشفع لهم عند الله .
    • والدليل قوله: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [يونس : 18] .

    تنبيه مهم :

    اعلم أن المشركين الذين بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – لدعوتهم يقرون أن الله – تعالى – هو الخالق والرازق والمدبر للأمر .

    • والدليل قوله : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت : 61] .

    سبب وصفهم بالمشركين؛ لأنهم أشركوا مع الله غيره في (العبادة)، مثل: الدعاء.

    • والدليل قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت:65] .

    ولما كانت: لا إله إلا الله تعني: لا معبود بحق إلا الله، انكروها .

    • والدليل قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [الصافات: 35] ؛ لأنهم يعبدون مع الله غيره .

    الفوائد المنتقاة :

    1) (إله) معناه : (مألوه) ، أي : (معبود) .
    2) الله : لفظ الجلاله علم دال على الرب المستحق للعبادة وحده .
    3) الإلهية : صفة لله – عز وجل - .
    4) إن الإلهية حق واجب لله لكمال ربوبيته .
    5) إن توحيد الإلهية حق مختص بالله لتفرده بالربوبية .
    6) و (حقوق الإلهية) معناها : انفراده – تعالى – بالتعظيم – حباً وذلاً – لكمال جماله وجلاله .
    7) الكلمة الدالة على توحيد الإلهية ، هي : لا إله إلا الله ، ومعناها : لامعبود بحق إلا الله .
    8) العبادة : حقيقتها أنها اسم يدل على تذلل ومحبة لمعظم أوجبه جلاله وجماله . فلا بد فيها من توفر شرطين :
    أ*- غاية المحبة : وهي ما امتزجت بجمال المحبوب مثمرة رجاءه وطاعته .
    وصفات الجمال : هي كل صفة تبعث في القلب محبة الموصوف بها ورجائه ،
    كالرحمة ، والمغفرة ، والبر ، والكرم . . . إلخ .

    ب*- غاية الذل : وهو ما امتزج بإجلال المخضوع له مثمراً خوفه والكف عن نواهيه .
    وصفات الجلال : هي كل صفة تبعث في القلب الخضوع للموصوف بها وخوفه ،
    كالكبرياء ، والعظمة ، والجبروت ، والقهر . . . إلخ .

    9) وبمعرفة الوصفين السابقين يظهر الفرق بين اجتماع المحبة والذل على سبيل الطبيعة،
    كاجتماعها في الأب، أو السلطان القوي العادل ،
    وبين المحبة والذل على سبيل الجمال والجلال التي تعبد القلب لمن اعتقد فيه هذه الأوصاف .

    فإن كانت فيه بحق فهو الإله الحق ، وإلا فهي الآلهة الباطلة .
    10) تطلق ( العبادة ) ، ويراد بها معنيان :
    11) المعنى الأول/ ( التعبد ) : - وهو فعل العبد - ، فنعرفها بأنها :
    تعظيم الله محبة وذلاً بفعل أوامره، واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه .

    12) المعنى الثاني/ ( المتعبد به ) : - وهو اسم ذات العبادة - ، فنعرفها بأنها :
    " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " .

    13) إن الغاية التي خلق لأجلها العباد هي افراد الله – تعالى – بالعبادة .
    14) أول ما حصل الشرك في قوم نوح لما عظموا تماثيل ونصب الصالحين بعد ذهاب العلماء ونسيان العلم ،
    وحقيقة الشرك : عبادة غير الله .

    15) كل الأنبياء والرسل من نوح فمن بعده كانت أول دعوتهم لأقوامهم : أن لا يعبدوا إلا الله، وبذلك نزلت عليهم الكتب .
    16) حقيقة شرك قريش كان في صرف العبادة لغير الله طلباً للقربة والشفاعة،
    ولم يكن شركهم في الربوبية ، فهم يعلمون أن الله هو الخالق والرازق والمدبر للأمر وحده .

    ***


  11. افتراضي


    الدرس العاشر

    (6)

    توحيد الأسماء والصفات : إفراد الله بأسمائه وصفاته .


    معاني المفردات :

    • [الأسماء] جمع اسم .

    وهو في اللغة :مأخوذ من :


    1) السمو : وهو العلو .
    2) أو : السمة : وهي العلامة .

    وحقيقته :
    هو عَلَم دل على مسمى يميزه عن غيره .

    وفي الشرع :

    اسماء الله :
    هي كل ما ثبت في الكتاب أو السنة مما يدل على ذات الله متضمناً معنى يقتضي المدح بنفسه .

    والدليل قوله – تعالى - : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الأعراف:180].

    ضابط الأسماء الحسنى :

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (شرح العقيدة الأصفهانية:ص/31) :
    "الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها وهي التي جاءت في الكتاب والسنة وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها".

    في كلام شيخ الإسلام ثلاثة ضوابط للأسماء الحسنى .

    1) أن يثبت في كتاب الله أو سنة الرسول – عليه الصلاة والسلام - .
    2) أن يدل على ذات الله ، ومما يدعى به .
    3) أن يتضمن الكمال المطلق الذي لا نقص فيه لا احتمالاً ولا تقديراً .

    أدلة هذه الضوابط :


    الضابط الأول/ (أن يثبت في كتاب الله أو سنة الرسول – عليه الصلاة والسلام - ) .

    ودليله : قوله – تعالى - : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ].
    وتسمية الله بما لم يسم نفسه به قول عليه بلا علم، كما قال – تعالى - : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }[ طه /110 ].

    الضابط الثاني/ ( أن يدل على ذات الله ، ومما يدعى به ) .

    ودليله قوله : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } فهو يدل على قصد ذاته – سبحانه – في الدعاء ،
    وعلق ذلك بالأسماء الحسنى ؛ لأنها هي التي تدل على ذاته المقدسة ؛
    لأن حقيقة الاسم العلم هو ما يعين مسماه مطلقاً من غير قرينة . كما قال ابن مالك :

    اسم يعين المسمى مطلقا ... علمه كجعفر وخرنقا

    الضابط الثالث/ (أن يتضمن الكمال المطلق الذي لا نقص فيه لا احتمالاً ولا تقديراً ) .

    ودليله قوله : { الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فالحسنى اسم تفضيل تدل على أن الأسماء أكمل ما يكون في الحسن ؛
    لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه لا احتمالاً ولا تقديراً .


    تحرير هذا الضابط :

    اعلم أن الألفاظ أربعة :

    1) ما دل على معنى ناقص لا كمال فيه ، كالعجز والفقر .
    فهذا لا يجوز أن يسمى الله به، فلا يقال : العاجز ، والفقير – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - .


    2) ما دل على النقص في حال وعلى الكمال في حال ، كالمكر والخداع .
    فهذا لا يسمى الله به ؛ لأن اللفظ يحتمل النقص ، فلا يسمى : الماكر والمخادع .

    3) ما دل لفظه على الكمال، لكن معناه يحتمل النقص بالتقدير الذهني ، كالمتكلم والمريد ، فالتكلم صفة كمال ،
    لكنه قد يتكلم بخير وقد يتكلم بشر ، فلا يسمى الله به ؛ لأن المعنى يحتمل النقص تقديراً ، فلا يسمى: المتكلم والمريد .


    4) ما دل على أكمل المعاني مطلقاً، بلا نقص فيها لا احتمالاً ولا تقديراً، وهي : (الحسنى).

    • [الصفات] : جمع صفة .

    وهي في اللغة : مأخوذة من :
    "(وصف) الواو والصاد والفاء: أصلٌ واحد، هو تحْليَةُ الشَّيء والصِّفَة: الأمَارة اللاَّزِمةُ للشّيء "
    (معجم مقاييس اللغة :6/87) .

    وقال ابن منظور : " والصِّفةُ الحِلْية " (لسان العرب: 9/356) .

    وحقيقتها : ما دلت على معنى يقوم بالذات أو دلت على نعت نعتت به .

    وفي الشرع :

    صفات الله : هي كل ما ثبت لله في الكتاب أو السنة من النعوت الخبرية، وأكمل المعاني الذاتية أو الفعلية .

    والدليل قوله – تعالى - :{ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ }[النحل: 60] .

    والمثل الأعلى : أي الوصف الأعلى .

    توضيح التعريف :

    1) الصفات توقيفية فلا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه .
    2) صفات الله الثابتة له متضمنة أقصى ما يمكن من الأكملية .
    3) صفات الله تنقسم إلى ثبوتية وسلبية ، والسلبية متضمنة ثبوت كمال ضد الصفة المنفية؛
    فعاد الأمر إلى الكمال المطلق الثابت له – تعالى - .

    4) الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين :

    أ*- ذاتية : وهي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها، كالحياة والعلم والقدرة .
    ب*- فعلية : وهي التي تتعلق بمشيئة الله فإن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها ،
    كالاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا .


    5) الصفات الذاتية تنقسم إلى قسمين :

    أ*- خبرية : وهي ما تثبت عن طريق الخبر فقط ، كاليد والعين والوجه .
    ب*- معنوية : وهي ما تثبت عن طريق الخبر مع دلالة العقل ، كالحياة والعلم .

    فائدة : الفرق بين الأسماء والصفات .

    أولاً/ الأسماء تدل على ذات الله – تعالى – وعلى صفات الكمال التي يتضمنها .
    فالعليم : يدل على ذات الله ، ويدل على صفة العلم الكامل الذي لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان الذي يشمل السر وأخفى .

    ثانياً/ الصفات تدل على نعوت الكمال القائمه به – سبحانه - ، كالعلم .

    فالاسم يدل على شيئين والصفة تدل على شيء واحد .

    ***


  12. افتراضي


    الدرس الحادي عشر

    المعنى العام :

    إن هذا النوع من التوحيد هو النوع الثالث والأخير من أنواعه ، وهو من مراتب الإيمان بالله،
    وأصل من أصول العلم به – سبحانه – فحقيقة معرفة الله متوقفة على معرفة ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله،
    فمن عرف ذلك فقد عرف الله على الحقيقة ، ومن لم يعرف ذلك فلم يعرف ربه – تعالى -.


    فالله – تبارك وتعالى – له الأسماء الحسنى ، كما قال – سبحانه : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} التي بلغت في الحسن أكمله،
    فلا نقص فيها لا من جهة لفظها ولا من جهة معناها ؛ ولهذا كانت معانيها التي تضمنتها عليا،
    وهي أوصاف الله – تعالى - كما قال – سبحانه - :{ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ }[النحل: 60] ، أي: الوصف الأعلى.

    وحقيقة هذا النوع من التوحيد :
    هو إفراد الله بما يجب له ويختص به من الأسماء والصفات .

    وبيان ذلك في مسائل :

    المسألة الأولى/
    أدلة وجوب الأسماء الحسنى والصفات العلا لله – تعالى - .

    إن الله – تعالى – له أسماء وصفات ، وهي واجبة في حقه بدلالة صريح العقول وصحيح المنقول ؛ وذلك من طريقين واجبين :

    الطريق الأول / أن نقول : أن الله – تعالى – لما وجب أن تكون له الربوبية الكاملة لزم من ذلك أن تكون له الأسماء الحسنى والصفات العلا.

    فالربوبية مستلزمة للأسماء الحسنى والصفات العلا ، ولما كانت الربوبية واجبة لله يمتنع عدمها وجبت له لوازمها ،
    ومنها الأسماء الحسنى والصفات العلا
    .

    قال – تعالى - :{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } [الزخرف : 9].
    فقد أخبروا عن الله – تعالى – باسمين كريمين : (العزيز) و(العليم) .

    والذي دلهم عليهما إقرارهم بأن الله خالق السموات والأرض ، إذ يلزم الخالق أن يكون عزيزاً عليماً،
    ومما يوضح هذا المعنى قوله – تعالى - :
    { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12].

    قال السعدي – رحمه الله - :
    " ثم أخبر – تعالى - أنه خلق الخلق من السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن، وما بينهن،
    وأنزل الأمر، وهو الشرائع والأحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم،
    وكذلك الأوامر الكونية والقدرية التي يدبر بها الخلق، كل ذلك لأجل: ( أن يعرفه العباد
    ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها، وإحاطة علمه بجميع الأشياء ،
    فإذا عرفوه بأوصافه المقدسة وأسمائه الحسنى وعبدوه وأحبوه وقاموا بحقه،
    فهذه الغاية المقصودة من الخلق والأمر معرفة الله وعبادته،
    فقام بذلك الموفقون من عباد الله الصالحين، وأعرض عن ذلك، الظالمون المعرضون
    "
    ( تيسير الكريم الرحمن ).

    الطريق الثاني/ أن المعبود لا تألهه القلوب محبة وحمداً وتعظيماً إلا إذا كان موصوفاً بصفات الكمال – جمالاً وجلالاً – ،
    فتوحيد الإلهية متضمن للأسماء الحسنى والصفات العلا
    .

    " فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله مع محبته والرضا عنه والخضوع له؛
    فلا يكون حامداً من جحد صفات المحمود ، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له.

    ولهذا ذم الله - تعالى - آلهة الكفار وعابها : بسلب أوصاف الكمال عنها ،
    فعابها بأنها
    (لا تسمع)، (ولا تبصر)، (ولا تتكلم)، (ولا تهدي)، (ولا تنفع)، (ولا تضر) .

    وقال - تعالى - حكاية عن خليله إبراهيم - عليه السلام - في محاجته لأبيه - :
    { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً }[مريم: 42] .

    فلو كان إله إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له آزر وأنت إلهك بهذه المثابة فكيف تنكر علي
    لكن كان مع شركه يعرف أن الله موصوف بصفات الكمال
    .

    وقال - تعالى - : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } [الأعراف : 148] .
    فلو كان (إله الخلق) - سبحانه - كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم واستدلال على بطلان الإلهية بذلك .

    وقال - تعالى - في سورة طه عن السامري - :
    { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89)
    ورجع القول هو التكلم والتكليم .

    وقال – تعالى – :{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [النحل: 76].
    فجعل نفي صفة الكلام موجباً لبطلان الإلهية .

    وهذا أمر معلوم بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلهاً ولا مدبراً ولا رباً .

    بل هو مذموم معيب ناقص ليس له الحمد لا في الأولى ولا في الآخرة،
    وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال ونعوت الجلال التي لأجلها استحق الحمد
    "
    (مدارج السالكين – بتصرف - ) .

    المسألة الثانية /
    أدلة انفراد الله – تعالى - بأسمائه وصفاته ، وأنها مختصة به وحده .

    لقد مر بنا أن الله – تعالى – له الربوبية الواجبة ، التي دلت عليها أدلة الفطر العقلية ، والشرائع الإلهية ،
    وظهر كذلك اختصاصها بالله فلا شريك له في إيجاد المخلوقات ولا في تدبير أمرها ،
    فيلزم من هاتين الحقيقتين وجوب التسليم:
    بأنه – سبحانه – له الأسماء الحسنى والصفات العلا التي لا شريك لها فيها ، ولا مثل له
    ،
    كما قال – تعالى - : {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}، "
    معناه: أنه تعالى ليس له نظير ولا مماثل يساميه في العلو والعظمة والكمال على التحقيق "
    (قاله الشنقيطي في الأضواء) .

    وقال السعدي – رحمه الله - :
    " أي: هل تعلم لله مساميا ومشابها ومماثلا من المخلوقين. وهذا استفهام بمعنى النفي، المعلوم بالعقل.
    أي: لا تعلم له مساميا ولا مشابها، لأنه الرب، وغيره مربوب، الخالق، وغيره مخلوق،
    الغني من جميع الوجوه، وغيره فقير بالذات من كل وجه،
    الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وغيره ناقص ليس فيه من الكمال إلا ما أعطاه الله تعالى،
    فهذا برهان قاطع على أن الله هو المستحق لإفراده بالعبودية، وأن عبادته حق، وعبادة ما سواه باطل،
    فلهذا أمر بعبادته وحده، والاصطبار لها، وعلل ذلك بكماله وانفراده بالعظمة والأسماء الحسنى
    "
    (تيسير الكريم الرحمن) .

    فأسماء الله وصفاته واجبة له لكمال ربوبيته وخاصة به لعدم المماثل له فيها، وقد جاء التصريح بذلك في كتاب الله .

    ومن أدله الاختصاص ، قوله : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، وقوله : { وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ }.

    أولاً/ اختصاص الأسماء الحسنى بالله – تعالى - .

    إن قوله : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} يفيد أن الأسماء الحسنى خاصة بالله ؛
    لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد التخصيص .
    فقدم {لِلَّهِ} على { الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } لإفادة حصر الأسماء الحسنى لله لا لغيره ، فلا يشاركه فيها أحد .

    ومعنى التخصيص : إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه .

    فثبت في الآية : حكم (الحنسى)، وهو بلوغ الشيء أكمل الحسن (لأسماء الله) ، ونُفي هذا الحكم عما عداها من الأسماء .

    فلاشيء مثلها ، ولا يقاربها لا أسماء الملائكة ، ولا الأنبياء والرسل فضلاً عن غيرها .

    وقد جاء التصريح بذلك في آيات منها قوله : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقوله : {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] .

    ثانياً/ اختصاص الصفات العلا بالله – تعالى - .

    ويفيد قوله :{ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ }[النحل: 60] . أن وصف الله الأعلى خاص به ؛
    لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد التخصيص .
    فقدم { لِلّهِ } على { الْمَثَلُ الأَعْلَىَ } لإفادة حصر الوصف الأعلى لله لا لغيره ، فلا يشاركه فيه أحد .

    فظهر بذلك أن أسماء الله – تعالى – ، وصفاته خاصة به لا يشاركه فيها أحد .

    ***


  13. افتراضي


    الدرس الثاني عشر

    المسألة الثالثة / واجب المسلم تجاه الأسماء والصفات .

    نوضح ذلك في القواعد التالية :

    القاعدة الأولى / لا نثبت إلا ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم –
    من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بكماله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل
    .

    الشرح :

    هذه هي القاعدة الأولى وهي: (قاعدة الإثبات) ، ونبينها في نقاط :

    1) النقطة الأولى / قولنا : (لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه)، أي: من الأسماء والصفات ، ونبينها في فرعين :

    الفرع الأول / وفيه مسائل :


    1. صورة المسألة : لا نثبت لله من الأسماء والصفات ما لم يثبته لنفسه .
    2. حكمها : التحريم ، فيحرم على المسلم إن يثبت لله ما لم يثبته لنفسه من الأسماء والصفات .
    3. دليلها : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 33 ] .
    4. وجه الدلالة : أن تسمية الله أو وصفه بما لم يسم أو يصف نفسه به قول عليه بلا علم ، وهو محرم ؛
    لقوله:{ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

    الفرع الثاني / وفيه مسائل :

    أ*- صورة المسألة : نثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات .
    ب*- حكمها : الوجوب ، فيجب أن نثبت الأسماء والصفات التي أثبتها الله لنفسه .
    ت*- دليلها : الآيات والأحاديث التي سمى الله أو وصف فيها نفسه ، ومنها سورة الإخلاص :
    { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } ، وغيرها .
    ث*- وجه الدلالة : أن هذه الآيات والأحاديث التي ورد فيها تسمية الله أو وصفه
    هي خبر من الله في كتابه أو على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم –
    والواجب تجاه خبر الله ورسوله تصديقه ،
    وعدم القول بما جاء في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات تكذيب لله ورسوله وذلك كفر بالله – تعالى -
    .

    2) النقطة الثانية / قولنا : ( في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ) .

    المقصود : أن باب الأسماء والصفات من الأبواب التوقيفية . والتوقيف ، معناه :
    الوقوف على نص الشارع عند إثبات الأسماء والصفات ، فلا يجوز الكلام في هذا الباب بالقياس العقلي .


    فوجب على العبد التوقف عن إثبات الأسماء والصفات لله – تعالى –
    حتى يثبت النص من القرآن الكريم والسنة الصحيحة بذلك
    .

    الأدلة /

    أ*- الدليل النظري : أن نقول أن ما يجب لله ويجوز أو يمتنع في حقه لا يدرك بالعقل
    فوجب سلوك الأدب مع الله – سبحانه – والتوقف عند النص الشرعي
    .

    ب*- الدليل الشرعي ، قوله – تعالى - : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء : 36] .

    وتسمية الله – تعالى أو وصفه بما لم يثبت بالنص اتباع لما ليس للعبد له به علم
    .

    النقطة الثالثة / قولنا : (من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بكماله ) .

    المقصود : أن الأصل في باب الأسماء والصفات هو إجراؤها على ظاهرها؛
    وهو المعنى اللائق بالله – تعالى – الدال عليه كماله المطلق
    .

    ففيه رد على فرقتين ضالتين :

    الفرقة الأولى / (المفوضة) وهم الذين أثبتوا نصوص الأسماء والصفات ألفاظا بلا معاني .
    الفرقة الثانية / (الممثلة) وهم الذين أثبتوا معاني الأسماء والصفات مماثلة لما للمخلوقين .
    ففي إثباتنا معاني الأسماء والصفات رد على (المفوضة) ،
    وفي إثباتها على المعنى اللائق بكمال الله – تعالى – رد على (الممثلة) .

    النقطة الرابعة / قولنا : (من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ) .

    المقصود : أن الواجب على المسلم في باب الأسماء والصفات أن يتجنب أربعة محاذير :

    المحذور الأول / التحريف .

    1) التحريف لغة : التغيير .

    2) اصطلاحاً : تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات أو معانيها عن حقائقها .

    توضيح :

    اعلم – رحمك الله – أن لنصوص الأسماء والصفات معاني وحقائق لائقة بالله – تعالى - ،
    والواجب على المسلم أن يؤمن بها وبما دلت عليه من معاني الكمال ،
    ولا يجوز له تغيير شيء من ألفاظها أو معانيها ؛ لأن هذا تحريف للكلم عن مواضعه
    .

    أنواع التحريف :

    تحريف اللفظ ، مثل : نصب لفظ الجلالة ( الله ) بدل الرفع من قوله – تعالى – :
    { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [النساء : 164] . ليجعل المتكلم موسى – عليه السلام - .
    وقصد هذا المحرف نفي صفة الكلام عن الله – تعالى - .

    تحريف المعنى ، وهو صرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى غيره . مثل :
    قولهم : (استوى) بمعنى : (استولى) في قوله – تعالى - : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}.
    فقصد المحرف تغيير معنى استواء الله على عرشه من العلو والاستقرار إلى الاستيلاء والملك لينتفي عنه معنى الاستواء الحقيقي .

    الحىذور الثاني / التعطيل .

    1) التعطيل لغةً : الترك والتخلية .

    2) اصطلاحاً : انكار ما يجب لله من الأسماء والصفات انكاراً كلياً أو جزئياً .

    التوضيح :

    إن الواجب على المسلم تجاه أسماء الله وصفاته أن يصدق بها ويعتقد معانيها اللائقة بالله – تعالى –؛
    فيؤمن بألفاظها ومعانيها على ما جاء عن الله ورسوله على مراد الله ورسوله ،
    وهو ظاهر النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على ما يليق بالله وحده ؛ لأن الله ليس كمثله شيء لكمال صفاته
    .

    والتعطيل محرم شرعاً ، وقد ضل في هذا الباب طوائف ، منهم :

    1. أهل التعطيل الكلي ، كالجهمية الذين انكروا الأسماء والصفات .

    2. أهل التعطيل الجزئي ، كالمعتزلة الذي أثبتوا الأسماء وأنكروا الصفات ، والأشاعرة الذي أثبتوا الأسماء وسبعاً من الصفات وأنكروا باقي الصفات .

    المحذور الثالث / التكييف .

    1) التكييف لغةً : ذكر كيفية الصفة مقيدة بمماثل أو غير مقيدة .

    2) واصطلاحاً : ذكر كيفية لصفات الله – تعالى - .

    التوضيح :

    اعلم – وفقك الله – أن حكاية كيفية الصفة بذكر هيئة تكون عليها صفات الله – تعالى – من التقول عليه – سبحانه – بلا علم ، كقول القائل : كيفية يد الله كذا وكذا ، أو نزوله إلى السماء الدنيا كذا وكذا .
    وسواء جعل للكيفية مماثل من المخلوقين أم جعل لها كيفية من عند نفسه فكل ذلك باطل محرم .

    ملاحظة :

    ومعنى قولنا : ( من غير تكييف ) أي من غير كيفية يعقلها البشر، ويحيطون بها .
    وليس المراد : من غير كيفية في نفس الأمر ، فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكننا ننفي علمنا بذلك ،
    إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو – سبحانه - .

    المحذور الرابع / التمثيل .

    1) التمثيل لغةً : اثبات مماثل للشيء .

    2) واصطلاحاً : اعتقاد أن صفات الله مماثلة لصفات المخلوقين .

    التوضيح :

    هذا هو المحذور الأخير من قاعدة الإثبات ، وافرد بالذكر وإن كان داخلاً ضمن المنع من التكييف ،
    وذلك ؛ لأن الله تبارك وتعالى قد نص على نفيه في القرآن بصريح اسمه
    ، فقال :
    { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشّورى : 11 ] .

    ولأن طوائف من ضلال بني آدم قد مثلوا الله العظيم بخلقه ،
    فزعموا أن صفات الله – تعالى – مماثلة لصفات المخلوقين – تعالى – الله عن قولهم علواً كثيراً
    .

    ***


  14. افتراضي


    الدرس الثالث عشر

    القاعدة الثانية / لا ننفي عن الله إلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم – مع اثباتنا لكمال ضد المنفي .

    الشرح :

    هذه هي القاعدة الثانية من قواعد الأسماء والصفات ، وهي : ( قاعدة النفي
    وهي قاعدة تتعلق بالصفات السلبية . ونبينها في نقاط :


    النقطة الأولى / قولنا : ( لا ننفي عن الله إلا ما نفاه عن نفسه أي: من الأسماء والصفات ، ونبينها في فرعين :

    الفرع الأول / وفيه مسائل :

    1. صورة المسألة : لا ننفي عن الله من الأسماء والصفات ما لم ينفه عن نفسه .
    2. حكمها : التحريم ، فيحرم على المسلم إن ينفي عن الله ما لم ينفه عن نفسه من الأسماء والصفات .
    3. دليلها : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 33 ] .
    4. وجه الدلالة : أن نفي ما لم ينفه الله عن نفسه قول عليه بلا علم ، وهو محرم؛ لقوله:{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.

    الفرع الثاني / وفيه مسائل :

    - صورة المسألة : ننفي عن الله ما نفاه عن نفسه من الأسماء والصفات .
    - حكمها : الوجوب ، فيجب أن ننفي عن الله كل ما نفاه الله عن نفسه .
    - دليلها : الآيات والأحاديث التي ورد فيها النفي ، ومنها سورة الإخلاص: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وغيرها.
    - وجه الدلالة : أن هذه الآيات والأحاديث التي ورد فيها النفي هي خبر من الله
    في كتابه أو على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم – والواجب تجاه خبر الله ورسوله تصديقه .

    وعدم القول بما جاء في الكتاب والسنة من النفي تكذيب لله ورسوله وذلك كفر بالله – تعالى - .

    النقطة الثانية / قولنا : ( في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ) .

    المقصود :
    أن باب الأسماء والصفات من الأبواب التوقيفية . والتوقيف ، معناه :
    الوقوف على نص الشارع عند نفي الأسماء والصفات ، فلا يجوز الكلام في هذا الباب بالقياس العقلي .

    فوجب على العبد التوقف عن نفي الأسماء والصفات عن الله – تعالى –
    حتى يثبت النص من القرآن الكريم والسنة الصحيحة بنفي ذلك .


    الأدلة /

    - الدليل النظري : أن نقول أن ما يجب لله ويجوز أو يمتنع في حقه لا يدرك بالعقل فوجب سلوك الأدب مع الله – سبحانه – والتوقف عند النص الشرعي .

    - الدليل الشرعي ، قوله – تعالى - : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء : 36] .

    ونفي شيء عن الله – تعالى بما لم ينفه النص اتباع لما ليس للعبد له به علم .

    النقطة الثالثة / قولنا : (مع اثباتنا لكمال ضد المنفي ) .

    اعلم أن النفي لا يكون مدحاً إلا إذا تضمن ما يدل على الكمال من المعاني الثبوتية.
    فالله – تبارك وتعالى – إذا نفى عن نفسه شيئاً فمراده أن انتفائه سببه اتصاف الله – تعالى بكمال ضده؛
    وذلك لأن النفي المجرد عدم والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون كمالاً .

    النفي ثلاثة أنواع :

    النوع الأول : نفي لا يتضمن نقصاً ولا مدحاً .
    وهو النفي لعدم قابلية المحل للصفة ، فلا يتضمن نقصاً ولا مدحاً ، كما لو قيل : ( الجدار لا يظلم ) .
    فنفي الظلم عن الجدار سببه أن الجدار لا يقبل الاتصاف بهذه الصفة ولا بضدها؛
    لذلك فهو نفي لا يتضمن نقصاً في حق الجدار ولا مدحاً .


    النوع الثاني : نفي يتضمن نقصاً .
    وهو النفي لعجز الموصوف عن القيام بالصفة ، فيكون نقصاً . كما في قول الشاعر :

    قبيلة لا يغدرون بذمة **** ولا يظلمون الناس حبة خردل

    فنفى عن قبيلته (الظلم) لا لعدلهم ولكن لعجزهم عن رد خصومهم وأعدائهم ، فهو قصد ذمهم بذلك ليبين عجزهم .

    النوع الثالث :
    نفي يتضمن كمالاً .
    وهو النفي المتضمن لكمال ضد المنفي ، فقصد النافي بيان كمال الموصوف بنفي النقص عنه.
    أي أن كماله يمنع اتصافه بهذا النقص
    ، كما في قوله – تعالى - : { ولا يظلم ربك أحداً } [ الكهف : 49]
    فنفى الظلم عن نفسه لاتصافه بضده وهو العدل . فنفى الظلم ليبين كمال عدله.


    ***


  15. افتراضي


    الدرس الرابع عشر

    القاعدة الثالثة / كل ما لم يرد في الكتاب والسنة إثباته أو نفيه من الأسماء والصفات؛
    فالواجب التوقف في لفظه ، وطلب التفصيل في معناه : فإن كان حقاً أقر بألفاظه الشرعية ، وإن كان باطلاً رد .

    الشرح :

    هذه هي القاعدة الثالثة من قواعد السلف في مسلكهم الشرعي فيما يتعلق بالله - بأسمائه وصفاته -،
    وتتضمن هذه القاعدة حكم (الألفاظ المحدثة) التي اطلقها كثير من الناس في حق الله – تعالى –،
    ولم يرد في الكتاب والسنة إثباتها أو نفيها .


    والواجب تجاه هذه الألفاظ المحدثة كـ( الجسم ، والجهة ، والحيز ) ونحوها أمران :

    الأمر الأول/ بالنسبة للفظها .

    الواجب هو التوقف في الألفاظ التي لم يرد في كتاب الله ولا في سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – إثباتها ولا نفيها .

    ومعنى التوقف أي أننا لا نثبت هذه الألفاظ ولا ننفيها؛
    لأن إثباتها أو نفيها من التقول على الله – عز وجل – بلا علم وقد نهينا عنه .


    الأمر الثاني / بالنسبة لمعناها .

    الواجب هو طلب التفصيل ومعرفة مقصد المتكلم؛
    فننظر إن قصد معنى شرعياً ثابتاً في الكتاب والسنة قبلنا هذا المعنى ، وعبرنا عنه بالعبارة الشرعية الثابتة بالنص الشرعي.


    وإن قصد معنى باطلاً رددناه ، ولم نقبله.

    قال شيخ الإسلام – رحمه الله - :
    "وَبِالْجُمْلَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَلْفَاظَ " نَوْعَانِ " :
    لَفْظٌ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ ؛ فَهَذَا اللَّفْظُ يَجِبُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ سَوَاءٌ فَهِمْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَفْهَمْهُ؛
    لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ .
    وَالثَّانِي : لَفْظٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ :
    هَذَا يَقُولُ: هُوَ مُتَحَيِّزٌ . وَهَذَا يَقُولُ: لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ.
    وَهَذَا يَقُولُ : هُوَ فِي جِهَةٍ . وَهَذَا يَقُولُ : لَيْسَ هُوَ فِي جِهَةٍ.
    وَهَذَا يَقُولُ : هُوَ جِسْمٌ أَوْ جَوْهَرٌ، وَهَذَا يَقُولُ : لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا جَوْهَرٍ.
    فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِيهَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ حَتَّى يَسْتَفْسِرَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ؛
    فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ أَثْبَتَ حَقًّا أَثْبَتَهُ وَإِنْ أَثْبَتَ بَاطِلًا رَدَّهُ وَإِنْ نَفَى بَاطِلًا نَفَاهُ وَإِنْ نَفَى حَقًّا لَمْ يَنْفِهِ
    "
    (مجموع الفتاوى : 5/298) .

    مثال يوضح ذلك :

    " لَفْظُ : ( الْمُتَحَيِّزِ ) يُرَادُ بِهِ :

    1) مَا أَحَاطَ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ } .
    2) وَيُرَادُ بِهِ مَا انْحَازَ عَنْ غَيْرِهِ وَبَايَنَهُ .

    فَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ،
    وَمَنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَات ِ سُلِّمَ لَهُ الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يُطْلِقْ اللَّفْظَ
    "
    (مجموع الفتاوى : 5/298) .

    الفوائد المنتقاة :

    1) اسماء الله : هي كل ما ثبت في الكتاب أو السنة مما يدل على ذات الله متضمناً معنى يقتضي المدح بنفسه .
    2) ضابط الأسماء الحسنى ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في (شرح العقيدة الأصفهانية:ص/31) :
    "الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها وهي التي جاءت في الكتاب والسنة وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها".

    3) صفات الله : هي كل ما ثبت لله في الكتاب أو السنة من النعوت الخبرية، وأكمل المعاني الذاتية أو الفعلية .
    4) صفات الله تنقسم إلى ثبوتية وسلبية ، والسلبية متضمنة ثبوت كمال ضد الصفة المنفية؛
    فعاد الأمر إلى الكمال المطلق الثابت له – تعالى - .

    5) الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين :
    ذاتية : وهي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها، كالحياة والعلم والقدرة.
    فعلية : وهي التي تتعلق بمشيئة الله فإن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها ، الاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا.

    6) الصفات الذاتية تنقسم إلى قسمين:
    خبرية : وهي ما تثبت عن طريق الخبر فقط، كاليد والعين والوجه.
    معنوية : وهي ما تثبت عن طريق الخبر مع دلالة العقل ، كالحياة والعلم.

    7) فائدة : الفرق بين الأسماء والصفات .
    أولاً/ الأسماء تدل على ذات الله – تعالى – وعلى صفات الكمال التي يتضمنها .
    فالعليم : يدل على ذات الله،
    ويدل على صفة العلم الكامل الذي لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان الذي يشمل السر وأخفى .


    ثانياً/ الصفات تدل على نعوت الكمال القائمه به – سبحانه - ، كالعلم .
    فالاسم يدل على شيئين والصفة تدل على شيء واحد .


    8) إن الله – تعالى – له أسماء وصفات ، وهي واجبة في حقه بدلالة صريح العقول وصحيح المنقول؛
    وذلك من طريقين واجبين :
    الطريق الأول / أن نقول : أن الله – تعالى – لما وجب أن تكون له الربوبية الكاملة؛
    لزم من ذلك أن تكون له الأسماء الحسنى والصفات العلا .
    الطريق الثاني/ أن المعبود لا تألهه القلوب محبة وحمداً وتعظيماً إلا إذا كان موصوفاً بصفات الكمال – جمالاً وجلالاً – ،
    فتوحيد الإلهية متضمن للأسماء الحسنى والصفات العلا .


    9) أسماء الله وصفاته واجبة له لكمال ربوبيته وخاصة به لعدم المماثل له فيها، وقد جاء التصريح بذلك في كتاب الله ،
    منها: قوله: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، وقوله : { وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ }.


    10) واجب المسلم تجاه الأسماء والصفات التزام قواعد السلف في هذا الباب وهي :
    القاعدة الأولى / لا نثبت إلا ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم –
    من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بكماله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل .

    القاعدة الثانية / لا ننفي عن الله إلا ما نفاه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم –
    مع اثباتنا لكمال ضد المنفي .

    القاعدة الثالثة / كل ما لم يرد في الكتاب والسنة إثباته أو نفيه من الأسماء والصفات؛
    فالواجب التوقف في لفظه ، وطلب التفصيل في معناه : فإن كان حقاً أقر بألفاظه الشرعية ، وإن كان باطلاً رد.



    ***


  16. افتراضي


    الدرس الخامس عشر

    (7)

    الانقياد : هو خضوع العبد وإذعانه للشرائع النبوية – ظاهراً وباطناً - .


    الشرح :

    معاني المفردات :

    [الانقياد] : لغة : " الخُضوعُ " (لسان العرب :3/370) .
    " ( وانْقَادَ ) الرجلُ : ( خَضع وذَلَّ ) " (تاج العروس : 9/80) .
    " يقال أَذْعَنَ الرَّجُل، إذا انقاد، يُذْعِنُ إِذْعاناً " (معجم مقاييس اللغة :2/293) .

    المعنى العام :

    مقدمة تمهيدية :

    اعلم – وفقك الله لكل خير – أننا لا زلنا في بيان معنى الإسلام ، وقد انتهينا من بيان الأساس الأول منه، وهو:
    ( الاستسلام لله بالتوحيد ).

    وقد وقفنا فيما سبق على أن حقيقة الإسلام تشمل جانب العقيدة وهو العلم ، وجانب العبادة وهي العمل .

    فالاستسلام لله بالتوحيد،
    فيه الاعتقاد الصحيح المشتمل على الإيمان بالله – تعالى - رباً وخالقاً ومعبوداً ومحبوباً لما له من الجلال والجمال .

    وذلك متضمن لجانب العبودية والعمل بطاعة الله – سبحانه - ،
    ودال على نبذ الشرك بأن لا يعبد العبد إلا ربه الذي خلقه ورزقه ويدبر أمره .


    فالأساس الأول دل على الحقائق الثلاثة :

    1) العلم الصحيح .
    2) العمل بذلك العلم .
    3) البراءة مما يناقض العلم الصحيح .

    إلا أن تفصيل هذه الحقوق وعدم إجمالها مما يتعين في هذه الأزمنة لأسباب مهمة ، منها :

    1) كثرة جهل الناس بحقوق الله – تعالى – فيحتاجون إلى البسط والبيان والتفصيل ليؤدوا هذه الحقوق.
    2) تقسيم وتنويع المسائل مما يعين على حفظها وفهمها.
    3) كثرة من يخوضون في هذه الأبواب بالباطل يُعيِّن تمييز المسائل عن بعضها حتى يزال باطلهم وينكشف تلبيسهم.

    الخلاصة :

    نستل مما سبق فائدة مهمة في تقسيم حقوق الله – تعالى – على أسس تعريف الإسلام الثلاثة ويكون ذلك على الصورة التالية :

    الأساس الأول
    / ( الاستسلام لله بالتوحيد ) .
    نجعله في بيان الجانب العلمي من الإسلام المفضي إلى العقيدة الصحيحة
    تحت عنوان التوحيد الذي حقيقته كلمة الإخلاص : ( لا إله إلا الله ) .
    وقد بينا ذلك – حسب طاقتنا – فيما نظن أنه بات واضحاً جلياً .


    الأساس الثاني / ( الانقياد له بالطاعة ) .
    ونجعله في بيان الجانب العملي من الإسلام المفضي إلى الشريعة الصحيحة ت
    حت عنوان السنة التي حقيقتها شهادة ( أن محمداً رسول الله ) .
    وهو ما نبينه – إن شاء الله – تحت هذا التعريف وما يأتي بعده .

    الأساس الثالث / ( والبراءة من الشرك وأهله ) .
    ونجعله في بيان جانب التروك اللازمة لصحة الإسلام المفضية إلى التخلي عن مفسدات الإسلام
    تحت عنوان البراءة التي حقيقتها لوازم الشهادتين .

    توضيح الأساس الثاني :

    إن الانقياد لله – تعالى – بالطاعة هو الأساس العملي من حقيقة الإسلام ، وينبني على تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله؛
    فإن الإيمان بالرسول، أصل مهم في الإسلام ؛ إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه،
    إذ هو الطريق الوحيد إلى الله ـ سبحانه ـ ولهذا كان ركنا الإسلام اللذان لا يصح الإسلام إلا بهما:
    ( أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله ) . ونبين أهمية ذلك في مسائل.


    ***


  17. افتراضي


    الدرس السادس عشر

    المسألة الأولى / الأصول التي ينبني عليها الانقياد .

    الأصل الأول : تعظيم الرسول – صلى الله عليه وسلم – و إجلاله و محبته .

    إن الإيمان وإن كان أصله :( تصديق القلب)، فذلك التصديق لابد أن يوجب (حالاً) في القلب، (وعملاً له) وهو :
    (تعظيم الرسول و إجلاله و محبته ) . . .

    فإذا لم تحصل هذه الحال والعمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ، ولم يغن شيئاً .

    وإنما يمتنع حصوله إذا عارضه (معارض) من:
    (حسد الرسول)، (والتكبر عليه)، أو (الإهمال له)، (وإعراض القلب عنه)، و نحو ذلك .

    ومتى حصل المعارض كان وجود ذلك التصديق كعدمه . . .
    فينقلع الإيمان بالكلية من القلب وهذا هو الموجب لكفر من حسد الأنبياء أو تكبر عليهم
    أو كره فراق الإلف والعادة مع علمه بأنهم صادقون و كفرهم أغلظ من كفر الجهال .

    ( ينظر: الصارم المسلول : 519 )

    ولهذا كان تعظيم الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإجلاله ومحبته أصل في الانقياد والتسليم؛
    لأنه عمل القلب الذي هو أصل الإيمان .

    ومن لازم ذلك:
    أن يعظم ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – من النصوص الشرعية، في ألفاظها ومعانيها ، وذلك من جهتين:


    الجهة الأولى / من جهة نفسه .

    وذلك بأن لا يتهم دليلاً من أدلة الدين بحيث يظنه:
    (فاسد الدلالة) أو (ناقص الدلالة) أو (قاصرها) أو (أن غيره كان أولى منه) .

    ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه وليعلم أن الآفة منه والبلية فيه كما قيل :

    وكم من عائب قولاً صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
    ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والفهوم

    فالآفة من (الذهن العليل) لا في (نفس الدليل)، وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك وينبو فهمك عنه
    فاعلم أنه (لعظمته) (وشرفه) استعصى عليك ، وأن تحته كنزاً من كنوز العلم ، ولم تؤت مفتاحه بعد .

    الجهة الثانية / بالنسبة إلى غيره :

    وذلك بأن يتهم آراء الرجال ، ولا يقدمها على نصوص الوحي ، وليكن ردها أيسر شيء عليه مراعاة للنصوص،
    وهذا لا خلاف فيه بين العلماء .


    قال الإمام أبو حنيفة – رحمه الله - :
    "إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله - تعالى - ، وخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم - فاتركوا قولي"
    (إيقاظ الهمم للفلاني، ص:62) .

    قال الإمام مالك رحمه الله:
    "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا قول صاحب هذا القبر يشير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "
    ( ابن عبد البر في " الجامع " : 2/91).

    قال الشافعي - رحمه الله - :
    "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله : لم يحل له أن يدعها لقول أحد"
    (مفتاح الجنة الاحتجاج بالسنة للسيوطي ص :42).

    قال أحمد - رحمه الله -:
    "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:
    {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور: 63].
    أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك
    "
    (أخرجه ابن بطة في « الإبانة الكبرى» ص: 97) .

    قال أبو بكر بن أبي داود:

    ودع عنك آراء الرجال وقولهم *** فقول رسول الله أزكى وأشرح

    وقال غيره :

    قال أبو حنيـــــفة الإمامُ *** لا ينبغي لمن له إســــــــــلام ُ
    أخذ بأقوالَي حتى تعرضاَ *** على الكتاب والحديث المرتضىَ
    ومالك إمــام دار الهجرةْ *** قال وقد أشار نحــــــــو الحجرةْ
    كل كلام منه ذو قبـــولِ *** ومنه مردود ســــوى الرسولِ
    والشافعي قال إن رأيتموا *** قولي مخـــالفاً لمــــــــا رويتموُا
    من الحديث فاضربوا الجدارا *** بقولي المخـــــالف الأخبـــارا
    وأحمدٌ قال لهم لا تكتبوُا *** ما قلته بل أصـــل ذلك اطلبواُ
    فاسمع مقالات الهداة الأربعة *** واعمل بها فإن فيها منفعة
    لقمعها لكل ذي تعصبِ *** والمنصفون يقتـــــــدون بالنبيِ



    ***


  18. افتراضي



    الدرس السابع عشر

    الأصل الثاني : تصديق الرسول – صلى الله عليه وسلم – في خبره ، وطاعته في أمره .

    إن حقيقة الإيمان هو (الإقرار) ، لا مجرد التصديق .
    والإقرار يشمل أمرين : ( قول القلب ، وهو تصديقه ) ، ( وعمل القلب وهو انقياده ) .

    فالإيمان بالرسول – صلى الله عليه وسلم – ، وهو الإقرار بنبوته ورسالته يتضمن أمرين :

    1) قول القلب ، وهو تصديقه فيما أخبر .
    2) وعمل القلب ، وهو الانقياد له فيما أمر .

    وعدم هذا الإيمان وهو الإقرار برسالة النبي – صلى الله عليه وسلم –
    يكون الكفر المخرج من الملة وإن أتى في الظاهر بشعائر الإسلام ، كحال أهل النفاق الأكبر .

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
    " فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه،
    فألا يرى وجوب تصديق الرسول فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به،
    وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر ـ علماً وعملاً ـ وأنه يجوز تصديقه وطاعته، لكنه يقول:
    إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدًا، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته . . .
    وهذا دين التتار ومن دخل معهم
    "
    (مجموع الفتاوى : 7/639) .

    فظهر لنا أن مجرد تعظيم الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يكفي في صحة الإيمان
    حتى يضاف إليه (التصديق لخبره) ، (والانقياد لأمره).

    فائدة : في بيان الفرق بين العاصي لشهوته فسقاً ، والعاصي لاستكباره كفراً .

    1) اعلم أن العبد إذا (فعل الذنب) مع اعتقاد :

    أ*- أن الله حرمه عليه .
    ب*- واعتقاد انقياده لله فيما حرمه و أوجبه . فهذا (ليس بكافر) .

    2) وإذا فعل الذنب مع اعتقاد :

    أ*- استحلال المحرم : بأن الله لم يحرمه ، أو بعدم اعتقاد أن الله حرمه .
    ب*- أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم و أبى أن يذعن لله و ينقاد . فهو كافر : إما (جاحد) ، (أو معاند) .

    و لهذا قالوا : من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق .
    ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة و الجماعة . وإنما يكفره الخوارج .

    تنبيه [1]: الكفر الأول كفر الاستحلال والجحود ، وصورته :
    " من فعل المحارم مستحلا لها فهو كافر بالاتفاق فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه
    وكذلك لو استحلها من غير فعل و الاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها و تارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها .
    هذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية و لخلل في الإيمان بالرسالة و يكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة
    "
    (الصارم المسلول ص/519) .

    تنبيه [2]: الكفر الثاني كفر الإباء والاستكبار ، وصورته :
    "بأن يعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم فهذا أشد كفراً ممن قبله
    وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبة الله و عذبه
    "
    (الصارم المسلول ص/519).

    الأصل الثالث : أن لا يعارض العبد شيئاً مما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم - بشيء من المعارضات الأربعة المسماة:
    بالمعقول والقياس والذوق والسياسة .


    الأولى : المعارضة بالمعقول الفاسد ،
    وهي معارضة أهل الكلام ومنطق اليونان الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة
    وقالوا : إذا تعارض العقل والنقل : قدمنا العقل وعزلنا النقل إما عزل تفويض وإما عزل تأويل .


    والثانية : المعارضة بالقياس الفاسد ،
    وهي معارضة بعض المنتسبين إلى الفقه قالوا : إذا تعارض القياس والرأي والنصوص : قدمنا القياس على النص ولم نلتفت إليه .

    والثالثة : المعارضة بالذوق الفاسد ،
    وهي معارضة المنتسبين إلى التصوف والزهد
    فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر الشرعي قدموا الذوق والحال ولم يلتفتوا إلى الأمر الشرعي .


    والرابعة : المعارضة بالسياسة الجائرة ،
    وهي معارضة الولاة والأمراء الجائرين فإذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة .


    (ينظر: مدارج السالكين : 2/334) .

    ***


  19. افتراضي



    الدرس الثامن عشر

    المسألة الثانية / الانقياد نوعان :

    إن الانقياد نوعان،
    نوع هو أصل في الانقياد إذا ارتفع ارتفع معه الإيمان من القلب بالكلية.
    ونوع هو واجب في الانقياد إذا لم يوجد في القلب أثم تاركه .


    النوع الأول / هو أصل عمل القلب وخضوعه للأمر الشرعي محبةً وإجلالاً .

    إن الحكم الشرعي حقه أن يتلقى بالانقياد المحض إقراراً وتصديقاً ، وتسليماً بلا منازعة.
    وهو تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد ولا يرى إلى خلافه سبيلا البتة.

    وإنما هو عمل القلب بالانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول.

    والسبب الموجب لهذا الانقياد القلبي هو محبة الآمر وإجلاله الذي ينشأ عنه تعظيم أمره ومحبته والخضوع له.

    وهذا الانقياد أصل في إيمان القلب ، وبزواله يزول الإيمان من القلب.

    النوع الثاني / هو عمل قلبي واجب يلزم منه إرادة الأمر الشرعي والعمل به.

    اعلم أنه يجب أن يتلقى العبد الحكم الشرعي بانقياد آخر وتسليم آخر - إرادةً وتنفيذاً وعملاً -؛
    فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله في تنفيذ حكمه كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره.
    وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأمر.


    وتوضيح ذلك : أن " الاستسلام - وهو عمل في القلب - جماعه الخضوع و الانقياد للأمر ، وإن لم يفعل المأمور به.
    فإذا قوبل الخبر بالتصديق ، والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار؛
    فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار و الطمأنينة و ذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق و الانقياد
    "
    (الصارم المسلول ص/519) .

    " ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَالْمَبَانِي الْخَمْسِ.
    وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا نَقَصَ إسْلَامُهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ:
    ( مَنْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ مِنْ الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ )
    ".
    (مجموع الفتاوى :7/269-270).

    وهذا الانقياد من الواجبات التي ينقص إيمان العبد بحسب نقصها
    "وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَي ْنِ
    وَإِنَّمَا أَضَافَ إلَيْهِمَا الْأَرْبَعَ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَمُعْظَمَهَا وَبِقِيَامِهِ بِهَا يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ
    وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِحَلِّ قَيْدِ انْقِيَادِهِ أَوْ انْحِلَالِهِ
    "
    (مجموع الفتاوى :7/361) .

    المسألة الثالثة : تنبيهات مهمة .

    التنبيه الأول / عموم رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – لكل أهل الأرض من الجن والأنس،
    وأنه لا يجوز لأحد الخروج عنها ، ومن لم يؤمن بها فهو كافر خالد في النار.


    قال عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي أبو منصور – رحمه الله - :
    • " زعم أبو القاسم الكعبى - في مقالاته - :
    أن قول القائل: " أمة الاسلام " تقع على كل مقر بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم -،
    وأن كل ما جاء به حق كائناً قوله بعد ذلك ما كان .

    وزعمت الكرامية - مجسمة خراسان - :
    أن أمة الاسلام جامعة لكل من أقر بشهادتي الإسلام لفظاً ، وقالوا: كل من قال لا اله إلا الله ، محمد رسول الله
    فهو مؤمن حقاً ، وهو من أهل ملة الإسلام سواء كان مخلصاً فيه أو منافقاً مضمر الكفر فيه ، والزندقة .


    ولهذا زعموا أن المنافقين في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كانوا مؤمنين حقاً
    وكان إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل والأنبياء والملائكة مع اعتقادهم النفاق وإظهار الشهادتين .


    وهذا القول مع قول الكعبى في تفسيراته الإسلام ينتقض بقول العيسوية من يهود أصبهان
    فإنهم يقرون بنبوة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - وبأن كل ما جاء به حق ،
    ولكنهم زعموا أنه بعث الى العرب لا الى بنى اسرائيل .


    وقالوا – أيضاً - محمد رسول الله ، وما هم معدودين في فرق الاسلام .

    وقوم من موشكانية اليهود حكوا عن زعيمهم المعروف بموشكان أنه قال :

    1) " إن محمداً رسول الله الى العرب والى سائر الناس ما خلا اليهود .
    2) وأنه قال : إن القرآن حق وكل ما جاء به من الأذان والإقامة والصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج الكعبة
    كل ذلك حق غير أنه مشروع للمسلمين دون اليهود .
    3) وربما فعل ذلك بعض الموشكانية ، قد أقروا بشهادتي أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله ، واقروا بأن دينه حق .

    وما هم مع ذلك من أمة الاسلام لقولهم بأن شريعة الاسلام لا تلزمهم
    "
    (بتصرف يسير من الفرق بين الفرق ص/ 12- 13) .

    ولهذا فقد عد العلماء من نواقض الإسلام :
    " من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -
    كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى - عليه السلام - فهو كافر
    "
    (رسالة نواقض الإسلام) .

    وكون هذا الناقض يوجب كفر معتقده ؛ لأنه يتضمن:
    إنكار نصوص الكتاب والسنة التي دلت على عموم رسالة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - ، فقد أرسله الله للناس كافه.


    الأدلة من القرآن على عموم الرسالة المحمدية :


    1. قال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سَبَإ: 28] .
    2. وقال - تعالى -:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعرَاف: 158].
    3. وقال - تعالى -:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفُرقان: 1].
    4. قال - تعالى -:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلاَمُ} [آل عِمرَان: 19].
    5. قال – تعالى -:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عِمرَان: 85].

    الأدلة من السنة على عموم الرسالة المحمدية:

    1) ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
    " فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ،
    وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ
    " ( رواه مسلم ) .

    2) عن جابر بن عبد الله أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضى الله عنه، أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم
    بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُابِ، فَقَرَأَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ، فَقَالَ:
    "أَمُتَهَوِّكُون َ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لاَ تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَىْءٍ،
    فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَ أَنْ يَتَّبِعَنِى"
    .
    روه أحمد في "مسنده" وحسنه الألباني في الإرواء ، انظر حديث رقم : (1589) .

    3) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:
    «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ،
    إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ
    » ( رواه مسلم ) .


    ***


  20. افتراضي



    الدرس التاسع عشر

    التنبيه الثاني / حكم الإسلام في الدنيا يشمل من أظهر شعائر الإسلام.

    أي أننا نجري حكم الإسلام في الدنيا بحرمة الدم والمال على كل من أظهر الإسلام وذلك:

    - أن ينطق بالشهادتين.
    - ولا يمتنع عن الشعائر الظاهرة.

    ونكل سريرته إلى الله – تعالى – الذي يعلم السر وأخفى، فإن الخلق مجموعون ليوم الحساب؛
    لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:
    (
    أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لاَ إلهَ إلاَّ الله ، وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُول الله ، وَيُقيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ،
    فَإِذَا فَعَلُوا ذلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهُمْ وَأمْوَالَهُمْ إلاَّ بحَقِّ الإسْلاَمِ ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله تَعَالَى
    ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

    فالإسلام يدخل فيه أنواع:

    1) مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ.
    2) وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ التَّصْدِيقِ الْمُجْمَلِ فِي الْبَاطِنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ كُلَّهُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا
    وَهُمْ الْفُسَّاقُ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ.

    3) وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ.
    وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فُسَّاقًا تَارِكِينَ فَرِيضَةً ظَاهِرَةً وَلَا مُرْتَكِبِينَ مُحَرَّمًا ظَاهِرًا
    لَكِنْ تَرَكُوا مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْقَلْبِ يَتَّبِعُهُ بَعْضُ الْجَوَارِحِ مَا كَانُوا بِهِ مَذْمُومِينَ .
    وَهَذَا هُوَ " النِّفَاقُ " الَّذِي كَانَ يَخَافُهُ السَّلَفُ عَلَى نُفُوسِهِمْ . فَإِنَّ صَاحِبَهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ .

    4) الْأَبْرَارُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وهم من أَتَوا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْإِيمَانِ ؛
    وأَتَوا بِتَمَامِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْقَلْبِ.

    5) الْمُقَرَّبِونَ وهم من زادوا على الأبرار في الطاعات مِنْ بَابِ الْمُسْتَحَبَّا تِ.

    التنبيه الثالث : ضابط تحديد دار الإسلام .

    الذي يظهر من كلام المحققين أن الاعتبار بالسيادة والغلبة وظهور شعائر الإسلام ؛
    "لأن بلاد الإسلام لا تصير دار حرب بمجرد استيلائهم عليها . بل حتى تنقطع إقامة شعائر الإسلام عنها،
    وأما مادامت شعائر الإسلام أو غالبها قائمة فلا تصير دار حرب
    " (حاشية الدسوقي : 2/ 188) .

    وقال الشوكاني - رحمه الله -:
    " أقول : الاعتبار بظهور الكلمة ؛ فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام
    بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الإسلام ؛ فهذه دار إسلام.
    ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار, ولا بصولتهم
    كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية,
    وإذا كان الأمر العكس فالدار بالعكس
    " (السيل الجرار: 4/575) .

    التنبيه الرابع : اعلم أنه يمكن أن يجتمع في الدار, وفي الشخص كفر وإيمان وفسق وإسلام،
    كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – في بيان حكم (ماردين) بقوله :
    "الحمد لله دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا فى ماردين أو غيرها.
    وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين
    أو غيرهم والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه وإلا استحبت ولم تجب ...
    وأما كونها دار (
    حرب) أو (سلم) فهي مركبة فيها المعنيان
    ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ,
    ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار.
    بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه , ويقاتل الخارج عن شريعة الاسلام بما يستحقه.

    مجموع الفتاوى (28|240)

    وقال شيخ الإسلام : " الناس قبل مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل؛
    فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جهال, وإنما يفعله جاهل.
    وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون من يهودية ونصرانية فهي جاهلية , وتلك كانت الجاهلية العامة.

    فأما بعد ما بعث الله الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون مصر كما هي في دار الكفار.
    وقد تكون في شخص دون شخص كالرجل قبل أن يسلم فإنه يكون في جاهلية , وإن كان في دار الإسلام؛
    فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛
    فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة.


    والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين , وفي كثير من المسلمين كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
    " أربع في أمتي من أمر الجاهلية", وقال لأبي ذر : " إنك امرؤ فيك جاهلية " ونحو ذلك
    "
    ( اقتضاء الصراط المستقيم : 79) .

    الفوائد المنتقاة :

    1) إن الانقياد التام : هو خضوع العبد وإذعانه للشرائع النبوية – ظاهراً وباطناً - .
    2) إن الانقياد لهد بالطاعة هو الجانب العملي من الإسلام المفضي إلى الشريعة الصحيحة
    تحت عنوان السنة التي حقيقتها شهادة ( أن محمداً رسول الله ).

    3) الأصول التي ينبني عليها الانقياد.
    الأصل الأول : تعظيم الرسول – صلى الله عليه وسلم – و إجلاله و محبته.
    الأصل الثاني : تصديق الرسول – صلى الله عليه وسلم – في خبره ، وطاعته في أمره.
    الأصل الثالث : أن لا يعارض العبد شيئاً مما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم - بشيء من المعارضات الأربعة المسماة:
    بالمعقول والقياس والذوق والسياسة.

    4) إن الانقياد نوعان ، نوع هو أصل في الانقياد إذا ارتفع ارتفع معه الإيمان من القلب بالكلية.
    ونوع هو واجب في الانقياد إذا لم يوجد في القلب أثم تاركه
    .
    النوع الأول / هو أصل عمل القلب وخضوعه للأمر الشرعي محبةً وإجلالاً.
    النوع الثاني / هو عمل قلبي واجب يلزم منه إرادة الأمر الشرعي والعمل به.
    5) عموم رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – لكل أهل الأرض من الجن والأنس ،
    وأنه لا يجوز لأحد الخروج عنها ، ومن لم يؤمن بها فهو كافر خالد في النار .

    6) حكم الإسلام في الدنيا – حرمة المال والدم - يشمل من أظهر شعائر الإسلام.
    7) دار الإسلام هي الدار التي تكون الكلمة النافذة فيها لأهل الإسلام والتي تظهر فيها شعائر الإسلام.
    8) يمكن أن يجتمع في (الدار), وفي (الشخص): كفر وإيمان وفسق وإسلام.


    ***


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •