يقول شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله -فصل جامع في تعارض الحسنات، أو السيئات، أو هما جميعا. إذا اجتمعا ولم يمكن التفريق بينهما،بل الممكن إما فعلهما جميعا وإما تركهما جميعا. وقد كتبت ما يشبه هذا في قاعدة الإمارة والخلافة وفي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما فنقول: قد أمر الله ورسوله بأفعال واجبة ومستحبة، وإن كان الواجب مستحبا وزيادة. ونهى عن أفعال محرمة أو مكروهة والدين هو طاعته وطاعة رسوله وهو الدين والتقوى، والبر والعمل الصالح، والشرعة والمنهاج وإن كان بين هذه الأسماء فروق. وكذلك حمد أفعالا هي الحسنات ووعد عليها وذم أفعالا هي السيئات وأوعد عليها وقيد الأمور بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة فقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وقال تعالى: { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }وقال تعالى: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } وكل من الآيتين وإن كانت عامة فسبب الأولى المحاسبة على ما في النفوس وهو من جنس أعمال القلوب وسبب الثانية الإعطاء الواجب. وقال: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } وقال: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }وقال: { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } وقال: { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ }وقال: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } الآية وقال: { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } وقال: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } وقال: { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ } وقد ذكر في الصيام والإحرام والطهارة والصلاة والجهاد من هذا أنواعا. وقال في المنهيات: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } وقال: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا } { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ }{ وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ } وقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } الآية. وقال في المتعارض: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } وقال: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وقال: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وقال: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } وقال: { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } إلى قوله: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } وقال: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ } إلى قوله: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ } . ونقول: إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة: كان في تركها مضار والسيئات فيها مضار وفي المكروه بعض حسنات. فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما. وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة. فالأول كالواجب والمستحب، وكفرض العين وفرض الكفاية، مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع. والثاني كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه كما في الحديث الصحيح: { أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين قلت. ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر وهذا باب واسع. والثالث كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } وكتقديم قتل النفس على الكفر كما قال تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب وكذلك سائر العقوبات المأمور بها فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر، لدفع ما هو أعظم ضررا منها، وهي جرائمها، إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير. وكذلك في " باب الجهاد " وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل: الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل جاز ذلك كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق وفي أهل الدار من المشركين يبيتون وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله. وكذلك مسألة التترس التي ذكرها الفقهاء، فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك، وإن لم يخف الضرر لكن لم يمكن الجهاد إلا بما يفضي إلى قتلهم ففيه قولان. ومن يسوغ ذلك يقول: قتلهم لأجل مصلحة الجلاد مثل قتل المسلمين المقاتلين يكونون شهداء ومثل ذلك إقامة الحد على المباذل، وقتال البغاة وغير ذلك ومن ذلك إباحة نكاح الأمة خشية العنت. وهذا باب واسع أيضا. وأما الرابع: فمثل أكل الميتة عند المخمصة، فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة وعكسه الدواء الخبيث، فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه، ولأن البرء لا يتيقن به وكذلك شرب الخمر للدواء. فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها والحسنة تترك في موضعين إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة. هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية. وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا، وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا، كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع، بخلاف الباب الأول، فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيانه بل ذلك ثابت في العقل كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين وينشد:

إن اللبيب إذا بدا من جسمه ** مرضان مختلفان داوى الأخطرا

وهذا ثابت في سائر الأمور، فإن الطبيب مثلا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض، والفساد أداة تزيدهما معا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافا للمرض وعند ضعف القوة فعله لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولى من إذهابهما جميعا، فإن ذهاب القوة مستلزم للهلاك ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم لكن عدمه أشد ضررا عليهم ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان كما قال بعض العقلاء ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان. ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن لكن أقول هنا، إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدا وقدرة: جازت له الولاية وربما وجبت وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن السبيل: كان فعلها واجبا فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق وأخذ بعض ما لا يحل وإعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك: صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به فيكون واجبا أو مستحبا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها. ودفع أكثره باحتمال أيسره: كان ذلك حسنا مع هذه النية وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا. وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسنا ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا. وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل أما النية فبقصده. السلطان والمال وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح. ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب. أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى: { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ } الآية وقال تعالى عنه: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم } الآية ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله فإن القوم لم يستجيبوا له لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل في قوله: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. هذا وقد قال النبي «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك». وهذا باب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء ولهذا جاء في الحديث: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات». فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها - كما بينته فيما تقدم -: العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط. مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر. فالعالم تارة يأمر وتارة ينهى وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح وعند التعارض يرجح الراجح - كما تقدم - بحسب الإمكان فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله تسليما إلى بيانها. يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلا وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبالغ إلا ما أمكن علمه والعمل به كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل والله أعلم. ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علما وعملا أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد فإذا لم ير العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر به أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة ولا ينهى عنه إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده ولا أن يوجب عليه اتباعه فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها بل هي بين الإباحة والعفو. وهذا باب واسع جدا فتدبره.[مجموع الفتاوى المجلد 20]