تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً

  1. #1

    افتراضي وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً

    بسم الله الرحم الرحيمالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعل صحبه الكرام .أما بعد
    يقول الله تعالي ({وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }طه124) هذا كلام الله تعالي ومن أصدق من الله قيلاً كلنا يحفظها لكن هل كل المسلمين يعرفون فعلاً أن الكفار في هذا العصر يعيشون معيشة ضنكا؟ أم ما نعرفة من كلام الله تعالي في واد وما نراه في واد فلا نربط بينهما ؟ أن كان الجواب بنعم فأقول لا شك أن من حاله هكذا ليس نتاج تكذيب بكلام الله تعالي ولكنة الجهل فالجهل يفعل بأهله أكثر من ذلك وأنا الأن أحاول الى أزالة شئ من ذا الجهل لعلنا نعلم أن من أعراض عن ذكر الله فان له معيشة ضنكا .............. أن الحياة الطبية التي وعدها الله تعالي عبادة المؤمنين هي السعادة ( علي قول ) لكننا لا نعرف أنة ثم فرق بين السعادة واللذة وذكر الفرق بينهما الدكتور عبد الكريم بكار في الشريط الأول والثاني في سلسلة الحياة الطبية فان الأنسان قد يلتذ بشهوة ما لكنه في ذات الوقت ليس سعيد والعكس صحيح .0
    بعض المجاهدين حكي للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق أنهم لا يكونون في أعلي درجات السعادة إلا والرصاص يمر بجوار أذنيهم وهم ينتظرون القتل فأي لذة ! في ذلك ! ومنا اليوم يعيش حياة رغيدة لكن ليس سعيد
    أن أبي هريرة لما سأل كيف صبرت علي هذا التعذيب الشديد فأجاب قائلا اختلطت حلاوة الأيمان بشدة التعذيب فغلبت حلاوة الأيمان . فهو كان سعيد وهو يعذب أذ حلاوة الأيمان نقتضي السعادة لكنة ما كان ملتذا بالتعذيب .

    إن سلطان العلماء العز بن عبد السلام لما سجن أرسل له السلطان من يقول له قبل يد السلطان فيفرج عنك فقال له ( والله ما أرضي أنة يأتي هنا يقبل قدمي والله ياقوم لأنتم في واد وأنا في واد دعوني وما أنا فيه ) أي حال السعادة التي هو فيها


    قرأت كلام ( لصباح الممثلة ) وهي تسأل ماذا تتمنين اليوم ؟ قالت أتمني الموت وهي من. صاحبة الأموال والنتاج الفن والشهرة إلي الأن تلتذ بها !

    أن الغرب الكافر الان يلتذ بجميع الملذات لكنه غير سعيد فهم ( كطفل بني جبل من رمل وينتظر السقوط فوقة في أي وقت (1) فهل ذا الطفل يسعد يوما ما ؟ ( إنهم أنشأوا جمعيات لتعليم كيفية الأنتحار ) (2) فهل هؤلاء سعداء (واذا نظرنا الى الوجه الأخر للحضارة العصرية # فى غرب اوربا وأمريكا لاحظنا مع غيرنا أنه كلما زاد الرخاء المادى وبدا العلم متقدما محققا المعجزات فى دولة ما زاد فيها عدد الجرائم وعلى سبيل المثال ففى احصائية حديثة بالسويد ظهر ان 35% من السكان يعانون من امراض عصبية ونفسية وان 30% من النفقات الطبية مخصةة لعلاج هذه الامراض وان نسبة حالات الانتحار بين الشباب تزداد ويعقب المراقبون على هذه الاحصائية بقولهم :انها تدعو الى الذهول لأن السويد تعتبر من أغنى أربع دول فى العالم )3ويرى هذا جليا أهل الأيمان أما عامة المسلمين وطلبة العلم وحديثي العهد بتقوي لا يرون ذلك فهؤلاء عليهم أن يعلموا ( في هذه المرحلة ) قبل المراحل القادمة في الهداية أن ( عدم الوجدان لا يدل علي عدم الوجود ) الله تعالي يقول ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) التغابن 2
    فلا بد إذاً وجود الكفار وأن كان الحق واضحا جليا لهم إذ الله تعالي قدر ذلك تقدير كوني .................
    قد يكون الشئ موجود
    وأنت لا تجدة وهذا معناه أنك غير قادر روئيه لقصور ما عندك لكن هذا الشئ موجود فعلا وحق فلا تكذب بمالم تحط بعلمه (أن السعادة شئ باطن لا يري بالعين) (4 )
    -----------
    1-سماعا من الشيخ محمد اسماعيل
    2- سماعا من محمد لطفى الصباغ
    #(( ينظر كتابنا حضارة العصر الوجه الأخر دار الدعوة 1422ه \2000م ) منقول من الحاشية
    3- المخاطر التى تواجه الشباب المسلم ص 53 للدكتور مصطفى حلمى
    4- سماعا من محمد لطفى الصباغ
    يتبع ان شاء الله

  2. #2

    افتراضي رد: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً

    اليكم مقدمة بين يدى عرضى لشبهة من شبهات الناس (بلسان الحال والعقل الباطن لا القال ) فى موضوع السعادة وجوابها ان شاء الله تعالى
    قال الشيخ سعيد عبد العظيم فى أول دقيقة من شريط الرد على الكاتب أسامة أنور عكاشة بعد أن قرأ أول سطر من كلام المذكور فقال الشيخ سعيد حفظه الله (ان السلوك مرآة الفكر فان معرفة التصورات والأفكار وتحليل الأوضاع يتطلب معرفة بالسنن . أنت فعلا قد تستغرق وقت فى التحليل والقراءة والاطلاع لكن المسألة مهمة خصوصا لمن يتصدر لأمر الدعوة وبالتالى فمعرفة دواعى السلوك والتصرف مطلوبة . كيف يفكر الناس ؟لماذا يقفون هذه المواقف؟ . لابد من معرفة شبهات الناس حتى لاتحرت فى البحر. حيث ما تكلمت يكون فى الكلام نوع من المعالجة لشبهات موجودة فى عقول البشر والا فالكلام قد يكون ضعيف أو عديم الجدوى . الناس فى واد وأنت فى واد أنت تظن أنك أحققت الحق وانك جاهدت الجهاد الكبير والكلام واضح وبين . والناس فى واد أخر)انتهى
    قال الأستاذ العظيم أنور الجندى رحمه الله تعالى أن التغريب هو خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربى ومقاييسه لتحاكم الفكر الاسلامى والمجتمع الاسلامى من خلالها بهدف سيادة الحضارة الغربية وتسييدها على حضارات الأمم ولاسيما الحضارة الاسلامية ) (1)ثم أشار الى (خطأ البعض حين يظن أن التغريب هو حمل المسلمين والعرب على قبول ذهنية الغرب , وانما الحقيقة أن التغريب هو محاولة خلق (دائرة فكر)تهدم ارادة المسلمين والعرب وتنتقص فكرهم وتشيع فيه الشبهات والمثالب , ثم لاتدفعهم الى أى جانب من جوانب البناء أو النهضة مستمدة من أى فكر أخر .(2)
    وقال أيضا فى سياق كلامه على مشروع الغرب المتمثل فى فتح العالم الاسلامى أى استخرابه واحتلاله فان القضية أكيدة واضحة وأن مخططاتها منسقة وموزعة على المؤسسات . مؤسسة المدرسة والجامعة عن طريق الارساليات ومؤسسة الصحافة والثقافة عن طريق الصحيفة والمجلة والكتاب , ( وانتبه الى الكلام الاتى فهو الشاهد مما أنقل لكم ) ثم هناك مؤسسة أخرى أشد خطرا ظهرت من بعد هى مؤسسة القصة والمسرحية والشاشة والاذاعة المسموعة والمرئية .(3)
    يقول الشيخ عائض بن سعد الدوسرى تحت عنوان ثالثا . المعركة اليوم هى معركة عقول وأفكار
    بعد كلام قال ( وتكمن خطورة حرب الأفكار فى أنها تهدف الى اخضاع الانسان من خلال السيطرة على تفكيره والوصول به الى النتائج التى يريدها الخصم , دون الحاجة الى استخدام القوة وانما من خلال بناء ادراكات وايحاءات اليه توصله الى مرحلة التسليم لارادة الآخر والقبول بها وكأنها الحل الأمثل (4)
    وقال أيضا ناقلا عن المفكر الألمانى (هاينة )محذرا من مغبة الاستخفاف بسيادة الأفكار وتأثيرها .(ان الأفكار الفلسفية التى يطرحها أستاذ من مكتبه الهادئ قادرة على ابادة حضارة بكاملها )!
    ومن جهة أخرى فيما يتعلق بموضوعنا هو أن أكثر المؤسسات على الاطلاق التى توزع السعادة على الناس هى مؤسسة القصة والمسرحية والشاشة والاذاعة المسموعة والمرئية .(3)
    وعليه فسوف أعرض شبهة وأجيب عنها ان شاء الله تعالى
    (1) رسالة (التغريب أخطر التحديات فى وجه الاسلام ) ص6
    (2) نفس المصدر ص8
    (3) نفس المصدر ص5
    (4) مقال (عقول تحت القصف !) مجلة المنار الجديد عدد شوال 1429
    (5) نفس المصدر

  3. #3

    افتراضي رد: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً

    أملات حول قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) كتبه/ ياسر برهامي
    تأملات حول قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    فإن التوسلَ إلى الله -عز وجل- بأنه سريعُ الحساب، واستحضارَ هذا المعنى لهو من أعظم ما يداوي أمراض القلوب؛ التي تحصل بسبب الظلم الذي كثر وانتشر في المشارق والمغارب، في الشمال والجنوب، من مخالفة لأمر الله -عز وجل- بالشرك والكفر، والنفاق والعصيان، ومن مخالفةٍ لشرع الله -عز وجل- بفعل الفواحش وارتكاب المحرماتِ، وارتكاب المعاصي والمنكرات، ومن مخالفةٍ لشرع الله -عز وجل- بالبغي والإفساد في الأرض: من سفكٍ للدماء وانتهاك للأعراض، وقتلٍ للأطفال، وتهديم للبيوت، واغتصاب للأموال، وسلب للأراضي والبلاد، فما أكثرَ الظلم الواقع في هذه الأرض، وخصوصًا على عباد الله المؤمنين الموحدين.
    مع أن الله -عز وجل- حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرمًا، وقال لهم: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا) (رواه مسلم)، وجعل الله -تعالى- الظلمَ سببًا لخراب الأرض وفسادِها، وشقاء أهلها، وإن كان قلب كل مؤمن ليتألم من الظلم الواقع في هذه الأرض، ويجد فيه غصة ومرضًا يحتاج إلى شفاء.
    فإن لم يتدارك الإنسان هذا المرض ويعالجه يوشك أن يوقعه في اليأس والإحباط، وترك العمل الواجب في ذلك الوقت أو سوء الظن بالله -عز وجل-، أو التخلف عن رفقة الصالحين الذين ساروا في الأرض؛ ليصلحوا ما وقع فيها من ظلم وجور، وعلى رأسهم أنبياء الله -تعالى- الذين أصلح الله -تعالى- بهم الأرض.
    وهذا أمر لابد أن يعلمه المسلم؛ لينتفع بفترات انتشار الظلم والظلام في نفسه، ولطائفته المؤمنة كذلك.
    وإن مما يداوي قلب المؤمن ويشفي صدره: ما أعده الله -تعالى- للكافرين والظالمين من عذاب في الدنيا من: ضنك وشقاء، وألم وحسرة؛ قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124)، وقال -تعالى-: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء:104).
    وكذلك مما يداوي قلب المؤمن ويشفي صدره: ما أعده الله -تعالى- للكافرين والظالمين من حساب في الآخرة، وما ينتظرهم يوم القيامة من عذاب أليم، قال الله -تعالى-: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ . عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ . هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المطففين:34-36).
    وكذلك مما يداوي قلب المؤمن ويشفي صدره: أن يتدبر كتاب الله -تعالى- فإن فيه الشفاء؛ قال الله -تعالى-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء:82)، فيشهد ما فيه من أخبار هلاك الظالمين، قال -تعالى-: (فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت:40).
    وكذلك مما يداوي قلب المؤمن ويشفي صدره: أن يشهد أسماء الله -تعالى- وصفاته، وأن يتعبد لله -عز وجل- بمقتضاها، فيشهد إهلاك الله -تعالى- للظالمين بيقين قلبه قبل أن يرى بعينه؛ فيدعو الله -تعالى- بها، كما علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (اللَّهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ، مُجْرِيَ السَّحَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، هَازِمَ الأَحْزَابِ... ) (متفق عليه)، فيشفي الله -تعالى- بذلك ما في الصدور ما لا يعلمه إلا الله، فيشهد عدله وسرعة حسابه.
    وإن شهود عدل الله -عز وجل- وسرعة حسابه؛ لهو من أعظم الأمور التي تجعل العبد -وإن كان مظلومًا في أشد درجات الظلم وهو يرى أهله وإخوانه والمسلمين من حوله يتعرضون لأنواع الظلم- يرى أن الله -تعالى- لا يظلم الناس شيئًا، وأنه سريع الحساب، وأنه -عز وجل- هو العليم الحكيم.
    فعند ذلك؛ ينزِلُ البَردُ على قلبه، ويحصل له من أنواع الخيرات ما يستمد بها طاقة يسير بها على الطريق، مع بقاء كراهيته للظلم والظالمين، ومع استمرار دعائه وتضرعه وانكساره لله -عز وجل-.
    وقد يملي الله -عز وجل- للظالمين ويؤخرهم فترة -مدة من الزمن- حتى يظنَّ أكثر الناس أنهم لن يُعاقبوا، مع أن الله -تعالى- سريعُ الحساب، فكيف ذلك وقد تمر على الناس قرون يزداد فيها الظلم والعدوان؟! هذا لنعلم أن الله -عز وجل- قد قسَّم الأخلاق والأعمال، والأحوال بين الناس قسمة عدل، وهو -عز وجل- حكم قسط، سريع الحساب.
    عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ). قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) (رواه البخاري ومسلم).
    ومن سرعة حسابه -عز وجل- بالظالمين:
    ما يلقيه الله في قلوبهم من الرعب، والقلق والاضطراب والخوف وعدم السكون؛ جزاء لهم على ظلمهم، وهذا لا يراه كثير من الناس! وإنما يعلمه المؤمنون من أحوال الظالمين، كما أنهم يرون قطرة منه إذا عرَّضوا أنفسهم للظلم، فيجدون انقباضًا وضيقـًا في الصدور، ويجدون ألمًا وهمًا وغمًا وكربًا بما قصروا في الواجب وبما ظلموا أنفسهم فضلاً عن أن يظلموا غيرهم، ويعرفون ذلك بهذه القرينة، وبمقارنة حال الظالمين الأشد ظلمًا كيف أن الله -عز وجل- يجمع على الظالمين الآلام والشقاء والتعب!
    وهم وإن كانوا يملكون الدنيا بمالها، وسلطانها، وشهواتها المختلفة ويملكون الأمر والنهي، ويظنون أن الأمور بأيديهم، فمع ذلك تجد في قلوبهم فزعًا عجيبًا، واضطرابًا وقلقـًا شديدًا، كما قال -تعالى-: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (آل عمران:151)، وكما قال الله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:81-82).
    ويبقى على الكافر والظالم من الألم ما لا تذهبه حلاوة الشهوات، ولا لذاتها، التي هي من جنس اللذة التي يجدها الخنزيرُ في أكل الروث! والتي هي من جنس حَكَّة الجربان إذا حك جلده ومزقه؛ ليحصل على شيء من اللذة أثناء الحك، وهو يؤذي نفسه ويدميها ويضرها أعظم الضرر! ولا يجد شيئًا يسكِّن الألم والمرارة والضيق الذي يجده في صدره -وإن كان يضحك كثيرًا فإنه يضحك وقلبه يتمزق- فأكثر الناس مغرورون بالشهوات غارقون في بحارها، وهم في سكرتهم يعمهون، وهم لا يدرون أنهم يزدادون ألمًا فوق ألم، كما قال الله -تعالى-: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء:104).
    ومن سرعة حسابه -عز وجل- لعبده المؤمن:
    أنه إذا ظـُلم وتعبد لله -عز وجل- بالعبوديات الواجبة -حال تعرضه للظلم- يجد من الأمن والطمأنينة والسكينة، والهدوء والراحة والسعادة ما لا يجده غيره، حتى ولو كان في أشد لحظات البأساء والألم.
    ولكن ألمه قد زال بالصبر واليقين، واستحضار معية الله -عز وجل- للصابرين كما قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249)، فهذه المعية التي تجعل المؤمن في حال آخر، في حلاوة تذوب معها مرارة الألم، فلو أذن للمؤمن -حينئذ- أن يتمنى مزيدًا من البلاء لفعل، لكنه يسأل الله العافية، فإنه يجد اطمئنانـًا وسكينة، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28).
    فهذه الحلاوة تذهب مرارة الألم؛ فمرُّكُم أيها المؤمنون معه عسلٌ تـُذْهِبُ مرارتَه، وأما مرُّهم فلا حلاوة معه، بل تبقى معه المرارة دائمًا.
    فرجاء الله -عز وجل- يبدد ظلمات اليأس، والله -عز وجل- يجعل في قلب عبده المؤمن من محبته وتعظيمه واستحضار معيته، ورجاء فضله ويقينه بوعده وثقته بما أعده الله -تعالى- له في الدنيا والآخرة ما يذهب معه كل مرارة وألم، ويستعذب في سبيل الله كل ما يصيبه ويرى أنه -بفضل الله- في أحسن حال.
    كما كانت أيام إبراهيم -عليه السلام- عندما ألقي في النار خير أيامه، قال -تعالى-: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (إبراهيم:69)، وأعلى الله -تعالى- بذلك منزلته، وأظهر الله -تعالى- فضله بتلك المحنة، وجعله إمامًا للناس، قال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120).
    وكذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حين اجتمعَ المشركون على قتله في يوم الهجرة، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30)، ولكن مع صبره واحتسابه -صلى الله عليه وسلم- أنزل الله -تعالى- عليه السكينة والطمأنينة، قال -تعالى-: (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40).
    وكذا يوم بدر لما أراد المشركون إهلاك هذه العصابة المؤمنة أنزل الله -تعالى- عليه -صلى الله عليه وسلم- السكينةَ والرحمة والنصرَ، قال الله -تعالى-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ . وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ . إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال:9-12)، وروى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ). فَمَازَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ... ".
    وكذا يوم أحد، يوم قتل سبعون من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- وكسرت رباعيتُهُ -صلى الله عليه وسلم-، وهشمت البيضة على رأسه -صلى الله عليه وسلم-، وسال الدم على وجهه -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه صبر واحتسب؛ فكان النصرُ في الدنيا والثوابُ في الآخرة، قال الله -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:146-148).
    وكذا يوم الأحزاب، حين اجتمع الأحزاب لاستئصال دعوته -صلى الله عليه وسلم-، فصبرَ وثبتَ واحتسبَ -صلى الله عليه وسلم-؛ فجعله الله -تعالى- قدوة وأسوة للعالمين، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا . وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب:21-22).
    فبهذه المواقفِ وغيرِها أظهر الله -تعالى- قدرَ رسولهِ -صلى الله عليه وسلم-، وأعلى شأنهُ وجعله إمامًا للمرسلين، وجعله خيْرَ خلقِ الله أجمعين.
    ومن سرعة حسابه -عز وجل-:
    أنه يجعل الكافرين والمنافقين والظالمين يعذبون بلذاتهم، قال الله -تعالى-: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:55)، فالأموال والأولادُ من أسبابِ السعادةِ للإنسانِ، ولكن يجعلها الله -تعالى- سببًا لعذاب الظالمين: فأما الأموالُ؛ فيعذبون بها في الدنيا وعند الموتِ، وفي القبرِ وفي القيامة.
    ففي الدنيا: من يجمع المالَ من حرامٍ فإنه يشقى به؛ يشقى بطلبهِ، ثم بعد ذلك يشقى بحبسهِ والحرص عليه، والقلقِ على نفاده -فالبخلٌ داءٌ يجعل الإنسان شقيًا في حياته متألمًا في جميع لحظاته-، ويشقى بإنفاقِ ما ينفق بلا سماحةٍ، ولا رضا، ولا رغبةٍ فيما عند الله -عز وجل-، ويتألم في المصائبِ التي تصيبه حين يفقد ما يتمنى تحقيقَهُ؛ فيزداد ألمًا بعد ألم.
    حتى إذا جاء الموتُ كان ذلك أعظمَ الألم الذي يلقاه في دنياه، ويشتد عليه عندما يعاين السكرات، فهذه شدة عظيمةٌ إلا أنها لا تزال بدايةَ الشدائد.
    فإذا مات كان كنزه وماله ضجيعًا له في قبره كثعبانٍ يلدغهُ ويقضم يده، يلتف حول رقبته، ولا يجد منه مهربًا، ويقول له في القيامة: "أنا مالُكَ، أنا كنزُكَ"، ثم يطوقه الشجاعُ الأسود ذو الزبيبتين -النقطتين-.
    عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْه ِ -يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ). ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران:180)، (رواه البخاري).
    فإذا جاءت القيامة: فإنهم يعذبون بما اكتنزوه من أموالهم ولم يؤدوا حقها، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة:34-35)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) (رواه مسلم).
    وأما الأولادُ؛ فإنهم يعذبون بهم في الدنيا وفي القيامة:
    في الدنيا: بمنازعتهم لهم دائمًا، وبمخالفتهم إياهم، فيحرمون برَّهم، وبشقائهم بهم عند فقدهم، حتى ربما تهلكُ نفسُ أحدِهم بسبب ابنه إذا فقِد، أو مَرِِضَ أو أصابه ما أصابه، فيعذَّب به، ثم بعد ذلك بالفراق الذي لا التقاء بعده إلا في النار، والذي يزيد الشقاء شقاءً.
    وفي القيامة: يفر أحدُهم من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته، وبنيه، قال الله -تعالى-: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ . وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ . وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) (المعارج:11-14)، فعندما يَصلَى النارَ يعرف الألم والعذابَ بالأولاد والأموالِ -نعوذ بالله من ذلك-.
    ومن سرعة حسابه -عز وجل-:
    أنه يحيي المؤمنَ الحياة الطيبةَ: فالله -عز وجل- يعدُّ للمؤمنين من الخيرات ما تطمئن به نفوسهم ما يدركون به مآلهم عند الله -تعالى-؛ قال الله -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)، فالمؤمن يسعدُ بالمالِ والولدِ في الدنيا والآخرة.
    فأما سعادتُه بالمال:
    ففي الدنيا: عندما يعمل ويكتسب الرزقَ الحلال فإنه يحتسب ذلك لله -عز وجل-، وعندما ينفق على نفسه وأهله وعياله؛ فإنه يحتسبه عند الله -تعالى-، فيجد في ذلك من السعادة والراحة أضعافـًا مضاعفة، فإن سعادة المعطي بالعطاء أعظمُ من سعادةِ الآخذ بالأخذ -سعادة الآخذ إن لم تكن ضرورة فهي عذاب على صاحبها-.
    وفي الآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ: أَي فُلُ هَلُمَّ) (رواه البخاري). أَي فُلُ: يعني يا فلان، هَلُمَّ: يعني تعال.
    وأما سعادته بالولد:
    ففي الدنيا: هم قرةُ العينِ كما قال الله -تعالى- عنهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74).
    فقرةُ العينِ بالأهل والذريةِ إنما بكونهم على طاعة الله -عز وجل-، وبكونهم على طريق العبودية لله -عز وجل-.
    وبعد موته: يدعو له كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) (رواه مسلم).
    وفي الآخرة: يشفع له إن مات صغيرًا؛ فعن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة -رضي الله عنه-: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ لِيَ ابْنَانِ فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَالَ: قَالَ نَعَمْ. (صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ -أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ- فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ -أَوْ قَالَ بِيَدِهِ- كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنِفَةِ ثَوْبِكَ هَذَا فَلاَ يَتَنَاهَى -أَوْ قَالَ فَلاَ يَنْتَهِي- حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ) (رواه مسلم) -دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ: أي صغار أهلها، وأصل الدعاميص: جمع دعموص وهو دويبة صغيرة تكون في الماء لا تفارقه، أي أن هذا الصغير في لجة لا يفارقها. صَنِفَة الثوب: أي طرفه-.
    وإن مات كبيرًا؛ فقد قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (الطور:21)، قال ابن كثير -رحمه الله-: "يخبر -تعالى- عن فضله وكرمه، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل، بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك؛ ولهذا قال: (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)... هذا فضله -تعالى- على الأبناء ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ فَيَقُولُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)" اهـ بتصرف يسير. ثم عمل الولد الصالح من كسب أبيه وحسناته.
    ومن سرعة حسابه -عز وجل-:
    ما يقدِّره على الكافرين والظالمين وأهل العدوان من: مصائبَ تصيبهم عاجلاً بلا تخفيف لآلامهم، ولا رجاءٍ لثواب الله -عز وجل-؛ ولذا تجدهم يجزعون أشدَّ الجزعِ، ويخافون أشدَّ الخوف؛ فالله -سبحانه- يبتلي عباده جميعًا بالمصائب، وهو -عز وجل- قدَّر وجود الشقاء على كل من على ظهر الأرض كما قال لآدم: (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طه:117)، فلا يزال -سبحانه- يبتلي عباده بأعظم المحن، فأما الكفرة والظلمة فلا يخفف عنهم من تلك المصائب، بل مصيبة واحدة تكاد تذهب نفوسهم بالكلية، وتتضاعف آلامها، ولا يجدون أبدًا سكينة ولا طمأنينة، وأما المؤمنون بصبرهم واحتسابهم يتحول البلاء إلى نعمة، وسعادة وسكينة وطمأنينة.
    وتأمل في حالهم عند خروج أرواحهم وهي من أعظم مصائبهم فإنهم ينازعون أعظمَ النزع، وتضرب الملائكةُ وجوههم وأدبارَهم، كما قال الله -تعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الأنفال:50).
    ومن سرعة حسابه -عز وجل-:
    لعبادِه المؤمنين أنهم عندما تصيبهم المصائبُ يصبرون ويسترجعون؛ فتتنزل عليهم الرحمةُ والهداية، قال الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155-157)، فنعم العَدْلانِِ ونِعمَت العلاوةُ.
    قال ابن كثير -رحمه الله-: "وعلموا أنه لا يضيع لديه مثْقال ذرَّة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة. ولهذا أخبر -تعالى- عما أعطاهم على ذلك فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي: ثناء من الله عليهم ورحمة.
    قال سعيد بن جبير: أي أَمَنَةٌ من العذاب (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: نعم العدْلان ونعمت العلاوة (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) فهذان العدلان، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل، وكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا".
    فالعَدلانِ: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)، ماذا لو تخيلت أن الصالحين يُثنون عليك في مجالسهم؟ وكيف لو كان الأنبياء يُثنون عليك؟! وكيف لو كانت الملائكة المقربون يثنون عليك عند الله -عز وجل-؟ وكيف بصلوات الربِّ -عز وجل-؟! أبعد ذلك تكره المصائب أن تقع عليك؟!
    أنت تتألم منها لكن ترى بالصبر آثار فضل الله عليك، فإن من أثنى الله -عز وجل- عليه، وصلى عليه في الملأ الأعلى، ثم أعطاه رحمةً، فلابد أن يجد أثرها في الدنيا قبل الآخرة.
    فربُّ العالمين يثني على الصابرين الذين شهدوا أنهم ملكٌ لله -عز وجل- (إِنَّا لِلَّهِ)، والذين حققوا الإيمان باليوم الآخر (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، وذلك مما يخفف عنهم ألم المصائب.
    فسرعان ما تمر الدنيا كلها بلذاتها وآلامها، فكم من أناسٍ قَبلَنا قد تألموا أضعافـًا مضاعفة ومات المتألم ومات من يؤلمه، ولم يبقَ إلا خبرٌ، ثم بعد ذلك يزول الخبرُ ولا يبقى إلا الحسابُ عند سريع الحساب -عز وجل-، زالت لذاتُ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، وزال ألمُ المؤمنين والمؤمنات، وبقيت تبعةُ الفتنة التي فتن بها الكفرةُ والظلمة عبادَ الله المؤمنين؛ فالله -عز وجل- قال عن المؤمنين: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)، فهذان عدلان.
    وأما العلاوةُ: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، فهذا فضل الله -عز وجل- على الصابرين، مع زوال الألم في الدنيا، وعند لقائه -عز وجل-.
    ومن سرعة حسابه -عز وجل-:
    بالظالمين الذين ظلموا وأشركوا، وأفسدوا في الأرض أن يضعَ لهم البغضاء في الأرض، وأن ينزع من قلوبهم الرحمةَ، وأن يجعل قلوبَهم قاسية، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضْهُ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِى فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَنًا فَأَبْغِضُوهُ فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ) (رواه مسلم)، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا) (رواه مسلم).
    أتظنون أن قاسيَ القلب الذي يعذب الناسَ ويظلمهم يؤلم الناسَ أكثر مما يتألم هو؟!
    لا والله. بل إن ألمه أشدُّ، يكفي أن السماء تبغضه، وأهل السماء يبغضونه والأرض تبغضه، وأهلَ الأرض يبغضونه، ومن حوله من أهل الأرض جميعًا يلعنونه، والدواب تلعنه، حتى النملة في جحرها تلعنه، والجعلان، وما تبكي عليه السموات والأرض حين موته، كما قال الله -تعالى-: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان:29)، بل نفوسهم تبغضهم، كما قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) (غافر:10).
    تأمل في (إِذْ)؛ أي: حين، فإنما أبغضتهم أنفسهم من حين دُعوا إلى الإيمان فكفروا (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ) ليس فقط تبغضهم نفوسُهم في الآخرة حين يرون العذابَ، وحين يرون ما قدموا لأنفسهم من هلاكٍ أبديّ، وعذاب سرمدي، إنما تبغضهم أنفسُهم حين دُعوا إلى الإيمان فكفروا، ومقتُ الله -عز وجل- أشد من ذلك، وإن كان الناس قد لا يعرفون ما سبب هذه البغضاءِ، وما سبب هذه القسوة.
    ولكن إذا أردتَ أن تعلم أن قسوة القلب عقوبةٌ للعبد يتألم بها أكثرَ من ألم المُعذَّب المُتألم؛ فتدبر قول الله -تعالى- عن اليهود الملاعين: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ) (المائدة:13)، فالله -عز وجل- بيَّن أنه لعنهم؛ أي: أبعدهم، والبعدُ عن الله -عز وجل- سببُ كل ألم، وسببٌ كل شقاءٍ وتعاسةٍ.
    فإذا تعجبت كيف تصل القلوبُ إلى هذه الدرجة من القسوة؟! فاعلم أن ذلك بسبب؛ لعن الله -تعالى-، وبغضه ومقته -تعالى- لهذا العبد، وإلا فالراحمون يرحمهم الرحمن، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
    ولو قدِّر لك أن ترى حياة الظالمين من داخلها وممن يعاملونهم من المقربين منهم من: خدامهم وأعوانهم، وجنودهم؛ لرأيت عجبًا من الشقاءِ المحيط بهم من كل جانب، ولو رأيتهم مع أهليهم وأولادهم وأزواجهم؛ لوجدتَّ من ذلك عجبًا؛ ولذا تجدهم يحاولون الهروب دائمًا بالمسكراتِ، والمخدراتِ والخمر، وأنواع اللذات التي يريدون أن يغيبوا بها عن الوعي؛ لكي لا يدركوا قدرَ الألم الذي هم فيه؛ بسبب بغض الله -عز وجل- لهم، وهذا من سرعة حسابه -عز وجل-.
    ومن سرعة حسابه -سبحانه وتعالى-:
    للمؤمنين ما يقبضونه من الثمن العاجل -فضلاً عن الآجل- من الحبِّ الذي يجدونه ممن حولهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا، فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ) (متفق عليه)، فتجده يشعر بالأنس بينه وبين الأرض، وبينه وبين السماء، وبينه وبين الكائنات المختلفة.
    ما ظنك بعبدٍ يعلم أن الملائكة تستغفر له، وأن حملةّ العرشِ مع تسبيحهم يدعون له ويستغفرون له؟! قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ . رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (غافر:7-9).
    فانظر وتأمل في حال المؤمن: كم يجد من أثر استغفار الملائكة، ومن أثر دعائهم، وكم يجد أُلفـًا وسكينة بينه وبين كل الكائنات، حتى الجمادات؟! قال الله -تعالى-: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء:44).
    فهو يستشعر أن الله -عز وجل- يسبح له من في السموات ومن في الأرض، وأن الله -عز وجل- هو العزيزُ الحكيم؛ فعند ذلك يشعر بأنه ليس غريبًا في هذا الكون، بل مع كونٍ أليفٍ حبيب إليه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
    وأعظمُ من ذلك أنه يعلم ما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -عز وجل-: (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) (رواه البخاري).
    فهو يشعر أن الله -عز وجل- يكره مساءتَه، ويعلم ذلك ويوقن به؛ لأن المؤمن يكره الموتَ، فكيف بكراهية المؤمن لأشياء أشدَّ من الموت: كالفتنة في الدين، ومخالفة ربِّ العالمين، وظلم الظالمين؟! فالله -عز وجل- يكره هذا أعظم كراهية، ويكره أن يسوءَ المؤمن.
    ولولا أن الله -عز وجل- جعل في هذه المساءات من الخيرات ما فيها لما قدَّرها -عز وجل-.
    ولولا أن الله -عز وجل- جعلَ من سعادة المؤمنين ما يصيبهم من المساءات المكروهة؛ لعصمهم الله -تعالى- من كل ما يسوؤهم.
    ولولا أن المؤمنَ لا يَقْدُمُ على الله -تعالى- إلا بالموت؛ لما قبضه الله -عز وجل-، لكنه يحبه -عز وجل- فيدنيه ويقربه ويعدُّ له من أنواعِ الخيرات ما لا يعلمه إلا هو -عز وجل-؛ لأجل ذلك لابد له من الموت.
    فضلاً عما ينال المؤمن من إجابة لدعائه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول هذا الحديث: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ) (رواه البخاري)، وكلُّ واحدةٍ من هذه تدل على سرعة حسابه -عز وجل-، فالله -عز وجل- يعطي المؤمنين عاجلاً، فضلاً عما يدخره آجلاً.
    ويكفي من ذلك معيته -عز وجل-، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -عز وجل-: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِى بِهَا)، فهذه معيةُ الحبِّ والتقريب والتكريم؛ حتى يوفقَ العبد في سمعه وبصره، ويده ورجله ما لا يقدر عليه غيره من الناس، فيوفقه الله -تعالى- لاستعمال هذه الجوارحِ في عبوديته، والتي تجلب له كلَّ أنواع السعادة، وبها يزول كل شقاء وألم.
    ومن سرعة حسابه -عز وجل-:
    أنه إذا أخذ الظالمين لم يفلتهم كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ). قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) (رواه البخاري ومسلم).
    تأمل كيف أهلك الله قومَ نوحٍ -عليه السلام- في أيام معدودات.. !! بعد تسعمائة وخمسين عامًا من الطغيان والجبروت والعدوان على المؤمنين، والاستهزاء بنبي الله نوح -عليه السلام-؛ إذا بالتنور يفور، وإذا بالسماء تمطر، وإذا بالأرض تفور بالماء، وإذا بالموج يكون كالجبال، وإذا بالكفرة الظلمة ينتهون في لحظات، وإن كانت هذه اللحظاتُ تَبقى آلامًا مستمرة عليهم أبد الآبدين كما قال الله -تعالى-: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا) (نوح:25)، وقال الله -تعالى-: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ . وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (القمر:11-12)، ثم بعد ذلك: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: 44).
    سبحان الله! بقي نوح -عليه السلام- يدعو إلى الله -تعالى- ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عامًا، وهم يصدون عن سبيل الله -عز وجل-، ويكفرون به طوال هذه المدة، ثم في أيام معدودة تغيَّر الأمرُ.
    وتأمل كيف أهلكَ الله -تعالى- قوم ثمود بصيحةٍ واحدةٍ.. ! بعد طول مُلكٍ، وسلطانٍ، بعد ما كانوا ينحتون من الجبال قصورًا، ويبنون في الأودية والسهول، ولكن في لحظة ينتهي كل شيء، قال الله -تعالى-: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (فصلت:17).
    وتأمل فيما أصاب قوم عاد.. وكيف سلَّط الله -عز وجل- عليهم الريح الباردة في سبع ليالٍ وثمانية أيام حسومًا، قال الله -تعالى-: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ . فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) (الحاقة:6-8).
    وتأمل فيما أصاب قوم لوط.. في صبيحةِ يوم عذابِهم أخذتهم الصيحةُ، وجعلَ الله -تعالى- عاليها سافلَها، كما قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ . مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ)؛ أي: مُعَدَّةٌ، وما زالت موجودة (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود:82-83).
    سبحانَ الله وبحمده، إذا نفذ الأمرُ، قال -تعالى-: (وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ . وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:50-51).
    وتأمل المدة التي ظلمَ فيها فرعون وتجبَّر، وقتلَ من قتل من الرجال، والنساء، والأطفال، وبقي الفراعنةُ ينحتون انتصاراتهم على المخالفين لهم على جدران معابدهم الزائفة، وما زالت تشهدُ على ظلمهم وجورهم، وتقطيعهم للأعضاء وتمزيقهم للأجسام، وظلَّ فرعونُ يظلم ويتجبر على لحظاته الأخيرة، حتى قبل الوفاة يقول كما حكى الله -عز وجل- عنه: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) (الشعراء:54-56).
    ويدخلُ البحرَ بغروره وطغيانه، وفي لحظة تأتي سرعة الحساب من سريع الحساب -عز وجل-: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس:90-92).
    فلنوقن إذن أن الله -تعالى- سريعُ الحساب يغيِّر موازين الأرض في لحظات، ويمكِّن لعباده المؤمنين، ويفتح لهم من أنواع الخير ما يثبِّت به أفئدتهم، وما يقوي قلوبهم؛ فلا نستعجل: (خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (الأنبياء:37).

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •