تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: الانتصار لابن تيمية فيما رمي به من التهم الردية : لأبي الفضل عبد السلام بن عبد الكريم

  1. #1

    افتراضي الانتصار لابن تيمية فيما رمي به من التهم الردية : لأبي الفضل عبد السلام بن عبد الكريم

    الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور النهار على الليل، ومكور الليل على النهار، خلق الخلق بقدرته، وبسط الرزق برحمته، وقَدَّر بحكمته الأقدار.
    وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من النار، وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى ونبيه المُجْتَبَى ورسوله المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأبرار، وأصحابه المباركين الأطهار.
    .. وبعد: فهاك إحدى وعشرين مسألة في دفع السهام عن شيخ الإسلام، تضمنت -بحمد الله- بحوثًا مُنِيفةً وتحقيقاتٍ شريفةً، نافعة على وجازتها، جامعة مع اختصارها، أردت بها أن أدفع تهمًا وشبهات وإشكالات رُمِي بها شيخ الإسلام $، منها ما رماه بها خصومه، وهو الأكثر، ومنها ما صدر عن بعض محبيه، ولو أن الأمر اقتصر على التخطئة العلمية لما استحق ذلك أن يُصَنَّفَ فِيه كتابٌ، فإنه لا عصمة لمخلوق بعد رسول الله ﷺ، وكل إنسان يُؤْخَذَ من كلامه ويُتْرَك حاشا رسول الله ﷺ، هذا أصل متفق عليه بين الأولين والآخرين، وقد قرره شيخ الإسلام نفسه وَبَيَّنه أعظم البيان.
    ولكن الواقع أن بعض هذه المسائل تُفْضِي -لو صحَّ مضمونها- إلى إخراج شيخ الإسلام من عموم أئمة الهدى فضلًا عن خواصهم، وذلك لكون كثير من تلك المطاعن هادمًا لأصول منهجه؛ ناقضًا لما أُجْمِع عليه من جلالته وإمامته، إذ إن أكثر جهده كان داخلًا فيما أنكروه عليه: كالرد على المتكلمين والفلاسفة والصوفية والشيعة واليهود والنصارى وغيرهم، وكخوضه في بعض المسائل الاعتقادية التي دَقَّ فهمها على بعض الناس كمسألة التوسل والشفاعة ومسألة تسلسل الحوادث ومسألة فناء النار، وغيرها، وكذلك اختياره لبعض الأقوال الفقهية التي ظنوها شاذة كمسائل الطلاق ومسألة زيارة قبر النبي ﷺ، وغير ذلك.

    ولما كان شيخ الإسلام رأسًا في الأمة عديم النظير، حاملًا لواء أهل السنة والجماعة لعدة قرون، قائمًا في المتأخرين مقام أئمة السنة في المتقدمين علمًا وعملًا وخلقًا وأمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر، وقد انتهت إليه إمامة أهل السنة في زمانه كما انتهت من قبل إلى الإمام أحمد بن حنبل $ - لما كان الأمر كذلك لم يكن الأمر مجرد دفاع عن واحد من أئمة الدين وإن حق ذلك، وإنما هو دفاع عن سبيل الأولين، ونهج السلف الصالحين، والأئمة المصلحين، ذلك السبيل الذي كان شيخ الإسلام إمامه غير مُنَازَع شاء مَنْ شاء وأَبَى مَنْ أَبى، فلقد كان بحق قائمًا بجملة الدين العتيق وحده، منفردًا بذلك بين أهل زمانه، قليلًا ناصرُه، كثيرًا خاذلُه وحاسدُه والشامت فيه، وذلك ما وصفه به الإمام الواسطي أحد أئمة الورع من معاصريه([1]).
    ولهذا فلو وقفنا عند دعوى الإمام الصفدي أن شيخ الإسلام قد ضيع الزمان في الرد على أهل الباطل وكان الأولى به أن يشتغل بالقرآن والحديث!!، لوجدنا أن هذه الدعوى رغم أنها هينة بالنسبة إلى غيرها إلا إن الذي يلزم عنها ليس هيِّنًا، فلعمر الله مَنْ ذلكم الإمام الذي حفظ زمانه وكان بركة على المسلمين، فلم يزل أئمة العلم في جميع الأعصار والأمصار ينهلون من غزير علمه إلى يومنا هذا إن لم يكن ذلك هو ابن تيمية $؟!، ولولا أننا قد أبطلنا دعوى الصفدي وغيره بتفصيل في موضعه من هذه الدراسة لسارعنا هنا إلى تفنيدها، ولكن المقصود هنا أن نبين خطورة هذه الدعاوى والتهم التي تصدينا لها في هذا الكتاب، فكيف يتفق كلام الصفدي مع كون شيخ الإسلام من خواص أئمة العلم والتقى المُقْتَدَى بهم الذين عز في الوجود نظيرهم؟! وكيف يشغل جُلَّ عمره في خلاف علوم السلف مَنْ أجمع مترجموه على أنه باعث طريقة السلف، ومجدد علومهم، منفردًا بذلك بين أهل عصره؟! وكيف يُضيع الزمانَ مَنْ وُصِفَ بأنه شيخ الإسلام؟! فلا بد من أحد أمرين: إما أنه ليس إمام أهل السنة ولا هو جدير بلقب شيخ الإسلام، أو أنه كان على الجادة وأن الذين أنكروا عليه لم يفهموا طريقته، وهذا هو الحق كما سنبينه.
    والحق أن شيخ الإسلام فيما رُمِيَ به من تلك التهم قد ابْتُلِيَ بأحد رجلين: حاسد شانئ متعصب، مخالف لشيخ الإسلام في مذهبه في العقيدة والفقه والسلوك، فهو محارب له أبدًا، ليس له غرض إلا في هدم ما شيده، وعالم من أهل السنة مُعَظِّم لشيخ الإسلام في الجملة ولكنه يخالفه في بعض ما سلكه لظنه أنه خلاف طريق الأولين، وهؤلاء مع فضلهم فليس اختيارهم بأولى من اختياره، ولا مسلكهم بأحق من مسلكه، إذ إن الذي بَيْنَه وبينهم الدليل، وقد تبين أن الدليل قد قام على صحة ما قرره، وتبين بمرور الزمان أنه كان على بينة من أمره، وأنه لم يخرج في جُل ما خاض فيه عما دل عليه الكتاب والسنة واحتذاه أئمة السلف خاصة في الأصول والقواعد.
    ولئن خفي بعض ذلك على بعض الفضلاء من أهل عصره وإن شهدوا بإمامته وتقدمه، وذلك لمصادمته للمألوف عندهم وخروجه عن الشائع المعروف لديهم وإن وافق الحق في نفسه، فإنه ما جاء أحد بمثل ما جاء به في زمان غربة الدين وشيوع البدع إلا استغربه أهل عصره - لئن خفي ذلك عليهم فلا وجه لاضطراب بعض أهل العلم فيه من أهل زماننا بعد أن تبين الرشد من الغي وظهر فضله وصحة مسلكه، وهذا من أكبر ما استنهضني إلى وضع هذا الكتاب.
    والحق أن معظم ما انتقده هؤلاء وهؤلاء إنما هو في حقيقته وفي التحليل الأخير محاسن ومزايا لو أعطوها حقها من النظر لوجب عليهم أن يحمدوا ما ذموا وأن يُكبروه على ما عليه أنكروه، وقد بينا ذلك في كل مسألة من مسائل هذا الكتاب، وأنه لم يكن في جُلِّ ما أخذ عليه حقيقًا بالعذر فحسب، وإنما كان جديرًا بالثناء والشكر لعظم ما شيده من أصول، وجلَّاه من حقائق ، ووضحه من براهين، فتح الله بها أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفًا، فكم من قتيل لإبليس قد أحياه، وكم من ضالٍّ تائه قد هداه، فما أجمل أثره على الناس، وما أقبح أثرهم عليه([2]).

    o لـماذا تمالأ عليه الخصوم مع إمامته وجلالته؟
    أما أن له خصومًا بهذه الضراوة مع كل ما آتاه الله من العلم والفهم والتقوى والورع - فهذا مما ابتلاه الله به ليرفع درجته، وإن كانت أحقادهم قد تجاوزت المعقول، فإن جزءًا كبيرًا من الشبهات والإشكالات التي أثاروها حوله إنما هو نتيجة متوقعة، وذلك لعدة أسباب:
    أولها: أن اتساع دائرته في العلوم مكَّنه من الخوض في كل مسائل الدين مُبْديًا فيها ما أدَّاه الدليل وإن خالف بعض ما اشتهر عند المقلدين، فلا عجب أن يلتقي في طريقه بأضداد ومخالفين كُثُر لكثرة ما حققه من مسائل وتنوع العلوم التي خاض فيها، وتلك طبيعة الأشياء.
    الثاني: أن ابن تيمية بهدمه لبدع الزمان التي غلبت على كثير من علماء عصره فضلًا عن العامة، وسعيه في إصلاح الفساد الذي استشرى في المسلمين -شأنه في ذلك شأن المجددين والمصلحين من أئمة الدين- قد أثار حفيظة المقلدين من أصحاب الرتب العلمية الزائفة كما أنه حاجَّ أصحاب التعبدات البدعية، ولما لم يكونوا له أكفاء في الحجة والدليل فقد عمدوا إلى إشاعة الأكاذيب بغير حق، فكثيرًا ما زوَّروا عليه وحرَّفوا قوله كما في مسألة التجسيم والزيارة كما سنبينه في موضعه، بل إنهم زادوا على ذلك بأن ألَّبوا عليه الحكام حتى حبسوه مرات كما هو معروف.
    الثالث: أنه $ لم يتركهم يَهْنَئُون بباطلهم، وإنما أضَجَّ مضاجعهم بما أشاعه في أقطار المسلمين من ردود على أهل البدع ومخالفي السنة من أشاعرة وصوفية وفقهاء ومقلدين، فلم يكن يسعه كتمان العلم وإن أفضى إلى حبسه، بل إن كلامه في ضلالات ابن عربي الاتحادي قد طار من الشام إلى مصر ليتلقفه شيخ أتباع ابن عربي وهو نصر المنبجي الذي كان له كلمة نافذة عند الأمراء، فكان أول من مشى في حبسه، ولعله أراد قتله فلم يُمَكَّن.
    لقد أعيا خصومَه وأعجزهم أن يَحُلُّوا ما عقده أو يهدموا ما شَيَّدَه من أصول جليلة محكمة رَدَّ فيها أباطيلهم وكشف ضلالاتهم، فتركوا الرد على المسائل وخاضوا في عرض القائل.
    وقد كان هذا البحث في أصله فصلًا من فصول كثيرة من كتاب جامع في سيرة شيخ الإسلام لم أفرغ منه بعدُ، وقد سلكت فيه مسلكًا جديدًا يجمع بين جمال السرد لسيرته وبين حسن الانتفاع بها والاقتداء به، حيث جعلته فصولًا مبوبة يتناول كل منها جانبًا من جوانب حياته، وجمعت ما تفرق عنه في الكتب التي ترجمت له. وقد رأيت أن أَفْصِل منه هذا الفصل لما في ذلك من عظيم المصلحة، لما له من خصوصية وتميز ولما يُرْجَى منه من نفع كبير، فضلًا عن سعة مادته بالنسبة إلى غيره من الفصول، لهذا كله أفرغت له مزيدًا من العناية حتى منَّ الله تعالى بإخراجه بحثًا مفردًا.
    وقد صدَّرت الكتاب بترجمة وافية بمقصود الكتاب وإن لم تكن موفية بحقه، وقد استللتها أيضًا من الكتاب الأم الذي أعده عن شيخ الإسلام، وهذه الترجمة جزء أصيل من الكتاب، لأنها تبين مَنْ ذلكم الإمام الذي دارت عليه تلك الطواحين، ومِنْ جهة أخرى فإن سيرته هي في ذاتها تذكرة للذاكرين ومَثَلٌ للمقتدين في العلم والعمل والصبر والجهاد والزهد والصدع بالحق فهي مطلوبة لذاتها وليس لمجرد التمهيد للكتاب.
    وقد بلغت المسائل التي تضمنها الكتاب إحدى وعشرين مسألة ضمنتها أهم ما رُمِيَ به شيخ الإسلام، واقتصرت على ما هو أهم وأوقع ليكون مغنيًا عما دونه من السفاسف وصغائر التهم والشبهات التي لم ينفك خصومه عن التشنيع عليه بها.
    وقد تنوعت تلك التهم والافتراءات، فمنها ما يتعلق بمنهجه وطريقته العامة، ومنها ما يتعلق بالعقيدة وعلم الكلام، ومنها ما يدخل في المسائل الفقهية، ومنها ما هو من باب السلوك القلبي، ومنها ما يتعلق بطبع الإمام وخلقه $.
    ولا بد أن يُعْلَم أن هذا الكتاب ليس مجرد دفاع عن شخصية بقدر ما هو تأصيل لقضايا كلية، وتفتيق لمسائل علمية، وحل لمشكلات بحثية ومنهجية، يتأسس عليها تحقيق التصور الكلي لحقائق الدين، وتحصيل البصر الصحيح بسياسة العلم، ومعرفة الموازين والمعايير التي يُدْرَك بها أصول الأشياء، فلا يبقى في القلب رِيبة في التمييز بين الحق والباطل.

    وقد اقتضى ذلك كلَّه طبيعةُ المسائل المطروحة، والإشكالات المُلْقَاة: فثمة مسألة حول حكم مجادلة المبطلين بالبراهين العقلية، وأخرى عن التصوف، وثالثة عن التوسل، ورابعة عن الاستغاثة، وخامسة عن الطلاق، وأخرى عن زيارة قبر النبي ﷺ... إلخ.
    على أنني قد وقفت عند مسألتين بعينهما فأطلت عما سواهما، وهما: مسألة «فناء النار» ومسألة: «قِدَم العالم»، وذلك لأن أكثر من خطؤوه فيها إنما أُتُوا من سوء التصور، وذلك أنهما مسألتان دقيقتان فيهما كثير من الغموض والخفاء، وقد أشكلتا على أكثر الناس، فكان جلاؤهما وتحقيق الحق فيهما وحسم النزاع من أهم ما حواه هذا الكتاب، ولما كانت كل منهما حقيقة ببحث مستقل فقد حرصت أن أوفي بذلك دون إخلال أو إملال، مع تحري أيسر العبارات وتتبع ما حوته كل مسألة من شبهات واعتراضات.
    أسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأسأله النجاة من الزلل، وصلاح القول والعمل، وشفاء ما في القلب من علل، وجبر ما في عملي هذا من الخلل، وأن ينفع به كاتبه وقارئه ومن أعان على نشره؛ وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


    ([1]) وقد أفاض الواسطي $ في الثناء على شيخ الإسلام ثناء لا يصدق إلا عليه $، في رسالة ماتعة كتبها إلى أصحاب شيخ الإسلام يوصيهم به، وقد أوردها الإمام ابن عبد الهادي في العقود الدرية، وقد أوردها مؤلفا كتاب: «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» في الصفحات (109-131).

    ([2]) هذا الوصف الأخير مقتبس من مقدمة الإمام أحمد بن حنبل $ لكتابه: «الرد على الجهمية».
    الصور المرفقة الصور المرفقة

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •