تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: قصة الحضارة المؤمنة ( أعظم الحضارات ) تأليف : أبي الفضل عبد السلام بن عبد الكريم

  1. #1

    افتراضي قصة الحضارة المؤمنة ( أعظم الحضارات ) تأليف : أبي الفضل عبد السلام بن عبد الكريم

    إن مسألة الحضارية عند المسلمين هي من أخطر المسائل الحادثة إن لم تكن أخطر ما حل بالمسلمين من نوازل في تاريخهم الطويل، ومن الضروري أن تُفْهَم على وجهها الصحيح، وأن تُعْطَى حقها من النظر المتحري والبحث الصادق، وأن يُسْلَكَ بها سبيلُ أهل الإيمان، وألا يُتَهَاون بخطورتها وما ينبني على الخطأ في فهمها وتقديرها من آثار جسام.
    فلا ريب أن الحضارة الغربية على صورتها القائمة قد غَدَتْ فتنة أعمت كثيرًا من المسلمين، فظنوا أن أهل الكفر قد عَلَوا على أهل الإسلام بسبب تقدمهم التِّقْني والتنظيمي، وربط آخرون بين تأخر المسلمين في الحضارة المادية وبين دينهم نفسه، وآخرون أعرضوا عن المسألة بالكلية متوهمين أن الخوض في مسألة التقدم التقني والنهوض الحضاري مذموم لكونها افتتانًا بزخرف الحياة الدنيا وزينتها، فكأنهم استبدلوا صَمَمًا بعَمًى، وآخرون انصرفوا إلى محاولة تطويع الإسلام وتكييفه ليناسب الحضارة الغربية المتغلبة، وكأن ما معهم من الدين هو بضاعة مزجاة لا قَدْر لها إلا بمقدار ما يُقَدِّرها الغرب، وسنتكلم عن كل فريق من هؤلاء في محله من البحث.
    والحق أن المشكلة الحضارية لا تنفك عن المشكلة الثقافية والمشكلة التعليمية والمشكلة التربوية وغيرها من مشكلات حديثة تمددت في الفراغ الذي أحدثه ضعف سلطان الدين على نفوس المسلمين وحياتهم، ولم تزل هذه المشكلات تُعَالَج في إطار علماني بعيدًا عن الصبغة الإسلامية، حتى أصبحت مصطلحات مثل الحضارة والثقافة والأدب والفن والتربية والاجتماع وعلم النفس بمضامينها العلمانية الناقضة لعقائد الإسلام وشرائعه نوعًا من الجاهلية الحديثة سيطرت على قلوب أكثر المسلمين وعقولهم، وإن كانت جاهلية أنيقة مُهَنْدَمة.
    إن حضارة تقوم على عمارة الدنيا وخراب الآخرة هي ليست حضارة خاسرة بائرة فحسب، ولكنها أيضًا حضارة غير إنسانية وغير عقلانية وغير مُسْعِدة، لأنها تحرم الإنسان من أشرف خصاله وتصرفه عن سبيل السعادة الأعظم والرفاهية الأبقى، ولماذا تُخَرَّب إحدى الدارين لعمارة الأخرى؟! لأنهم أَبَوْا إلا أن يحوزوا كل شهوات الدنيا ولم يصبروا على ترك ما حَرَّم الله منها ابتغاء الآخرة.
    لماذا تُجبرنا الثقافةُ الغازية على تسمية هذا الشيء حضارة؟ ولِمَ لا نختار نحن الصيغة الحضارية التي تلائمنا وتنبع من عقيدتنا وإيماننا بالله تعالى؟!
    إن الشرك والإلحاد والإباحية لا يمكن أن يوصف أصحابها عندنا بأنهم متحضرون، بل هذا في ديننا هو التخلف الحقيقي، وما أصدق تسمية الله له بالجاهلية ونسبة صاحبها إلى الجهل، فالذي يعصي الله تعالى ويكفر به هو أجهل الجهلاء ولو أحاط بكل علوم الدنيا، قال تعالى: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [الروم: 6-7]، وقال تعالى: ﴿ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ﴾ [النجم: 29-30].
    إن التقدم الحق هو التقدم إلى الله، قال تعالى: ﴿ﰃ ﰄ ﰅ﴾ [الذاريات: 50]، وكم من قوم يتقدمون إلى النار ولا يبالون، قال تعالى بعد أن ذكر النار: ﴿ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾ [المدثر: 37]. نعم يحسن بنا أن نعمِّر الدنيا وأن نتقن عملنا فيها فإن الله تعالى قد استعمرنا فيها، قال تعالى: ﴿ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [هود: 61]، ولكن هل رَضِي لنا سبحانه أن نُفَرِّط في الإيمان، ونُسرف في العصيان، ونجعل كل همنا تجميل البنيان وتحسين العمران؟!
    إن حاصل ما ينتهي إليه النظر الصحيح فيما قررناه هنا من فقدان الحضارة الغربية لحقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر - هو أن لفظة «الحضارة الغربية» تسمية غير مطابقة لمُسَمَّاها؛ لأن الشيء يسمَّى بما يوافقه من كل وجه أو من أغلب الوجوه، وهنا نجد أن الجوهر الحضاري الأعلى وهو الإيمان والأخلاق شحيح جدًّا في النموذج الحضاري الغربي، ولو وازنَّا بين الموجود والمفقود من العناصر الحضارية لوجدنا أن المفقود هو الأعظم قيمة، فكيف يسمى الشيء بما هو فقير فيه؟! أليس هذا عكسًا لحقائق الأشياء؟!
    .. ولتكن تلك الجاهلية ما شاءت أن تكون، وليتعاظم أولئك المنتفخون بمدنية الغرب ونموذجهم الحضاري الأخَّاذ، فما ثَمَّ إلا غِلَالة([1]) رقيقة بيضاء تغطي جسدًا قبيحًا شائهًا، وتَشِفّ عما تحتها بحيث لا يراها إلا المستبصرون، إن المسألة الحضارية لا تُعْجِز أهل الدين الحق ولا تَعْضُل إلا بمن في قلبه مرض ومن كان جاهلًا بما في دين الإسلام وتاريخ المسلمين من الشرف والرفعة والمكارم، وبما عند خصومهم من سقوط وسفول، بل وبما يستطيعه هو نفسه ويقدر أن ينجزه مما يدخل في مسمى الحضارة، ولو علم ما يجب عليه علمه من ذلك لتبين له أن الحضارة الإسلامية هي أعظم الحضارات على وجه الأرض في جانبها المادي والروحي معًا، وليس في الجانب الروحي وحده كما يظن الجاهلون، وهذا من أعظم المقاصد التي توخيناها في بحثنا هذا، وبالله التوفيق.
    إن عملنا في هذا الكتاب هو مداواة هذا المرض كله، وإزاحة الجهل الذي تعددت جوانبه، حتى نرى الحق حقًّا والباطل باطلًا، ونعرف الضوابط الكلية التي تضبط الفهم وتصحح المسار في هذه القضية الشائكة، وقد هممت أن أسميه: أخطاء شائعة في المسألة الحضارية، وتكاد تكون كل مسألة من المسائل العشر التي احتواها الكتاب تصحيحًا لمفهوم كلي شائع تتخلله جملة من القواعد الكلية والمفاهيم الجزئية التي تتفرع عنه.
    وقد أردت بهذا العمل قبل كل شيء أن يكون عملًا تَوْعَوِيًّا إصلاحيًّا وليس تعليميًّا وتثقيفيًّا فحسب، ولهذا أكثرت من اللجوء إلى التاريخ، وأكثرت من القصص الحقيقية والمواقف الحية التي توقظ الوعي وتستحث السعي.
    ولم أقصد باللجوء إلى التاريخ ما تقصده النفوس الخائرة من الهروب من الحاضر إلى الماضي، وإنما أردت عكس ذلك، وهو استجلاب ماضينا المجيد إلى حاضرنا، لنجدد الهمم، ونشحذ الطاقات، ونستفز النفوس الأبية لبلوغ الغايات العلية، فليس كالتاريخ باعثًا للروح في الرِّمم ومُنهِضًا رواكد الهمم، ولو لم يكن في التاريخ -وأَخُصُّ تاريخَنا- تلك الطاقة الكامنة ما أنفق أعداء الإسلام كل ما أنفقوا من أجل أن يزيفوه ويشوهوه حتى يصدونا عنه وينفرونا منه.
    ولست بحاجة أن أبين هنا محتوى فصول الكتاب، فإن المسائل العشر التي سكبت فيها مادته قد وَفَّتْ عنواناتها بذلك، حيث جاءت كل منها في صيغة سؤال أو تساؤل واضح مُفَصَّل، وهي تتكامل في مادتها وترتيبها لتحقيق الغاية من هذا العمل، وهي التي بينتها هنا، وسأزيدها بيانًا في التمهيد التالي.
    وأخيرًا فإني أحمد الله على إتمام هذا العمل الذي كانَتْ بَذْرَتُه أسطرًا معدودة كتبتها حاشية على هامش إحدى صفحات كتاب الشيخ الدكتور/ مصطفى السباعي $ في كتابه: «من روائع حضارتنا»، ثم فتح الله سبحانه وتفتقت المسائل بعضها من بعض، وما زالت الأفكار ينسلُّ بعضها من بعض حتى انقضى ما يزيد على عامين ونصف العام في البحث والاطلاع، إلى أن صارت الأسطر كتابًا لم يخطر ببالي يومًا أن أكتبه في غمرة ما أنا فيه من مشروعات علمية أخرى.
    فالحمد لله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، وأسأل الله الكريم بفضله وكرمه أن يتقبل مني كل حرف كتبته، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، نافعًا لعباده الصالحين، وأن يهيئ لي من القراء الكرام من يعفو عن الزلل ويجبر الخلل، فما كتب كاتب كتابًا إلا وقد جعل نفسه هدفًا لقرائه يصوبون إليه سهامهم، اللهم اجعلني هدفًا لسهام دعائهم ونصحهم، وجميل ظنهم، وتمام ثوابي وثوابهم، بفضلك ومَنِّك ورحمتك يا أرحم الراحمين
    المؤلف

    ([1]) الغِلالة: ثوب رقيق يُلْبَس تحت الدِّثار.
    الصور المرفقة الصور المرفقة

  2. #2

    افتراضي

    وقد حرصنا أن نأخذ بزمام المبادرة مُؤْثِرين الهجوم على الدفاع والفعلَ على رد الفعل، لنبدد الركام الهائل من التزييف والخداع وقلب الحقائق الذي جعل كثيرًا من المسلمين يستحيي من ماضيه وحاضره، ويستجدي أي عبارة عابرة تتضمن تقديرًا للمسلمين من أحد المفكرين الغربيين، غافلًا عن أن حقائق الأمور تقضي بأن من يعظمهم كانوا أحق بالاحتقار، وأنه بوصفه مسلمًا كان أجدر به الافتخار، فقد عظمت مِنَّةُ الله على أمة الإسلام حتى إنها في أسوأ أحوالها أفضل مما سواها من الأمم في أحسن أحوالها([1])، عَلِمَ ذلك مَنْ عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، وإن كان من مقاصدنا هنا أن نُعَلِّم مَنْ جَهِلَه أو أن نقيم الحجة عليه، ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ﴾ فقد أردنا أن نجيب في هذا البحث عن هذا السؤال:
    لماذا يخشى الغرب نهضةَ المسلمين؟ وما هو السبيل الصحيح إلى تلك النهضة التي ضلت في فهمها أوهام وزلت في طلبها أقدام؟
    وفي سياق البيان الشافي وتحقيق الحق في هذا الباب، وفي سبيل المدافعة الواجبة لرفع الآثار المشؤومة للانهزام الفكري والانكسار النفسي الذي غلب على المسلمين، ومن أجل استعادة الهوية الإسلامية الصافية العالية الغالية - لذلك كله ولأمور تتصل به فإننا نَعْرض لعشر مسائل ضَمَّنَّاها الجواب عن أهم المشكلات والشبهات التي تتعلق بالباب، لنزيل العوائق التي تحول بيننا وبين التمكين الحق في الدين والدنيا، ومن العجيب في مقام الاستهلال أنني لم أجد عبارة تؤدي ما تؤديه هذه الكلمة المنصفة لباحث أكاديمي نصراني معروف:
    «إننا نبحث عن ذاتنا الحضارية حتى نعرف الحلم الذي يلائمنا، حتى وإن كان لا يلائم غيرنا، وحتى إن اختلف عن الأحلام التي تُفْرَض علينا، فلا توجد أمة تغير حالها دون أن يكون لها حلمها في مستقبل تنشده، ولا يمكن أن نناضل من أجل أحلام الآخرين، ولن نموت في سبيل حماية قيم الآخرين، بل نُسْتَشْهَد لحماية قيمنا»([2]).
    إنه يتكلم من منطلق حضاري دنيوي بحت، ولكنه سَلِمَ -رغم أنه غير مسلم- من حماقة من يُحْسَبُون على الإسلام ممن يُسَمَّوْن بالنخبة المثقفة، وعوفي من استكانة من يحسبون على الدعوة الإسلامية، حيث أدرك الخصوصية الحضارية لهذه الأمة التي ينتسب إليها هو بحكم اللغة والتاريخ والعادات، وعرف أن مثل هؤلاء المثقفين الممسوخين الذين يوجهون الفكر والثقافة في بلادنا إنما هم نموذج فريد من العنصرية ضد.. الذات!! يقول في كتابه: «تفكيك الديمقراطية»:
    «المشكلة في ظني تكمن في الاعتقاد بأن تراثنا يميل إلى تعسف «غير إنساني»، ولذلك لا يجوز أن نلجأ له إلا بعد أن نجعله «إنسانيًّا»، وهذا الاعتقاد على درجة كبيرة من الخطورة، لأنه اتهام يُوَجَّه أساسًا إلى صلب انتمائنا الحضاري، ويمكن أن يشوه رؤيتنا لذاتنا تمامًا، الأمر الآخر الأكثر أهمية: أن هذه الرؤية عنصرية سافرة، والأعجب أن تأتي العنصرية من «عربي» ضد «العروبة» ومن «إسلامي» ضد «الإسلامية»، نعم! الأعجب أن نكون أصحاب رؤية عنصرية ضد أنفسنا، فهو أمر قد يكون جديدًا وفريدًا في تاريخ البشرية»([3]).


    ([1]) هذه الجزئية هي موضوع مسألة كاملة من مسائل البحث، وهي المسألة السادسة.

    ([2]) «في فقه الحضارة الإسلامية: إحياء التقاليد العربية» للدكتور رفيق حبيب (ص233).

    ([3]) «تفكيك الديمقراطية» (ص25).

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •