صرح ابن رشد الحفيد في كتابه منهاج الأدلة بأن المتكلمين مزقوا الشريعة ومذهبهم في نفي الصفات ينبني عليه فساد الشريعة وتمزيقها فهم إما أن يسلطوا التأويل على الصفات كلها وإما أن يقولوا هذه المسائل من المتشابهات فتعطل الشريعة ويؤذن ببطلانها . واعتقاد أبي الوليد أن أخذ الشرع -وبخاصة الصفات -على الظاهر أسلم للجمهور ، فإن الشارع لم ينفي الجسمية ولم يثبتها على زعمه إنما أخبرهم بما يوافق ما يجدونه في نفوسهم من أن كل متخيلٍ فهو محسوس ، وما لا يتخيل فهو معدوم ، فخاطبهم الشرع بمقتضى المصلحة مع نفيه للمماثلة كما في آية الشورى ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .
وهذا قول بعيد عن الحقيقة الشرعية والعقلية ، وإنما هو طريقة التخييل الأرسطية التي تكلم عنها شيخ الإسلام في مقدمة سفره الفذ [درء التعارض ] ، وإن كان لأبي الوليد ردودٌ قوية وإلزامات رصينة على مقدمات وأدلة المتكلمين في نفيهم للصفات وللجهة إلا أنه يظهر بمظهرِ المرائيِ ، أي الذي يظهرُ خلاف ما يبطن - تنزيهاً من لفظةِ منافق - فهو يحسب حسابا للجمهور -أي العامة- أكثر ما يحسبهُ لغيرهم من أصناف الناس ، فهو قد صنف الناس في باب الشريعة إلى ثلاثِ طباق ، طبقة الحكماء وهم المرتبة العليا قاصدا بذلك الفلاسفة ثم جعل بعدهم طبقة المتشككون وصنف هم الجمهور -على الفطرة - والعلماء والجمهور على وفاق بينما أهل الجدل وهم المتكلمون ، ومع ذلك يجعل أهل المتشابهات والجدل فوق الجمهور ودون العلماء -أي الفلاسفة - وفيما تبين لي من كتابه "المنهاج " أنه سلك مسلك التلفيق بين الجمهور والعلماء ، لذا قلما تجده لا يذكر الجمهور ويعتبر بما يعتقدونه ، وكأنهم المعيار الذي ينبغيِ مجاراتهُ لا على أن ما يعتقدهُ صحيح ، إنما لما أخبرهم الشارع بالمسائلِ المبحوثة على غير ما هي عليهِ للمصلحة استوجب الإقتداء بالشارع في ذلك ، ولذلك ذم وشنع على أبي حامد الغزالي في كتابه المقاصد والتهافت والمنقذ وغير ذلك بأنه صرح بأمورٍ لا ينبغي أن يصرّح بها للجمهور ، إذ الجمهور لا يصرف على ظاهرِ النصوصِ إلى النتائجِ البرهانية التي لا يعلم بمقدماتها وأدلتها البرهانية -ويقصد بالبرهانية الطريقة الفلسفية - فهو بذلك جعلهم لا يعتقدون بظاهرِ النص ولا جعلهم يعلمون أدلة النتائج البرهانية التي قدمها لهم ففتح لهم بذلك باب الإلحاد والضلال .
والحق أن كتاب منهاج الأدلة كتاب مهم جدا للذي يريد قراءة كتاب شيخ الإسلام [درء التعارض] فهو المدخل1 ، مع كتابه الآخر [تهافت التهافت ] وكذلك كتاب أبي حامد [ تهافت الفلاسفة ] ، وشيخ الإسلام فيما يبدو ليِ أخذ من أقوال ابن رشد فيِ ردهِ على المتكلمين بينما نصر أبي حامد على أبي الوليد فيما يتعلق في ردهِ على الفلاسفة .
[ مقتضب من مسوداتيِ الخاصة ]
-------
1- بالاضافة لكتابي الرازي وأبي المعالي "أساس التقديس" ونقضه و"الإرشاد" ،