قوله تعالى
{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس: 49]
*قوله [ما ينظرون]:* ينظرون": معناه: ينتظرون.
قاله ابن جزي الغرناطي في التسهيل لعلوم التنزيل، وابن عطية في المحرر الوجيز، وابن كثير في تفسيره، والقرطبي في تفسيره، وبه قال البغوي في تفسيره، والواحدي في الوجيز، والجلال المحلي في الجلالين، وهو قول الطبري في تفسيره، وابن أبي زمنين في تفسيره، ومكي في الهداية إلى بلوغ النهاية، والنسفي في مدارك التنزيل.
قلت (عبدالرحيم): قوله تعالى ( مَا يَنْظُرُونَ ): أي ما ينتظرون.
ونظيره في التنزيل كثير؛ فمن ذلك قوله تعالى ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ): (هَلْ يَنْظُرُونَ): أي هل*ينتظرون إلا أن يأتيهم الله؛ وهو إتيان على الحقيقة فيما يشاء وكيف يشاء؛ على ما يليق به سبحانه وتعالى، كما أنه يجيء قال تعالى (وجاء ربك والملك صفا صفا): كل هذا على ما يليق بذاته -* جل ذكره - وليس المقام مقام تفصيل، وسيأتي لاحقا إن شاء.
ومنه ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ): قال الطبري في تفسيره: هل*ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه "إلا*تأويله"، يقول:*إلا*ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على عذاب الله، وصليهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به.*
ومنه ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ): فَهَلْ يَنْظُرُون: أي فهل ينتظرون إلا سنتنا في الأولين، وهي اهلاكهم.
فقوله تعالى (فهل*ينظرون):*ينت رون.
قاله البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، والبغوي في تفسيره، وابن أبي زمنين في تفسيره، والقرطبي في تفسيره، وهو قول الواحدي في الوسيط، وإلايجي الشافعي في جامع البيان.
ومنه قوله تعالى ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ): قال الألوسي*في روح المعاني:
أي انتظرونا*نقتبس*م ن نوركم نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به.
انتهى كلامه
ونحوه قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ): نَاظِرِينَ إِنَاه: منتظرين إلى وقت نضجه، ومنه (آناء الليل):*قال صديق حسن خان في فتح البيان في مقاصد القرآن: ساعاته*وأوقاته.
فمعنى قوله تعالى ( نَاظِرِينَ ):* منتظرين.
قاله غلام ثعلب في ياقوتة الصراط، وابن قتيبة في غريب القرآن.
زاد غلام ثعلب: إناه، أي بلوغه وإنضاجه.
زاد ابن قتيبة: وقت إدراكه.
انتهى
*قوله [إلا صيحة واحدة]:* نفخة الفزع.
قال ابن عطية في المحرر: وهذه الصيحة*هي*صيحة*ا قيامة والنفخة*الأولى في الصور.*
وقال يحيى بن سلام في تفسيره، وابن أبي زمنين في تفسيره: يعني: النفخة*الأولى من إسرافيل.
زاد ابن أبي زمني: بها يكون هلاكهم.
قال الجلال المحلي: وهي نفخة إسرافيل الأولى.
قال الطبري في تفسيره: ما*ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله إياهم،*إلا*صيحة* احدة تأخذهم، وذلك نفخة الفزع عند قيام الساعة.
*قوله [تأخذهم]:* تهلكهم.
قاله البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، والطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير.
زاد ابن عاشور: فجأة.
قلت (عبدالرحيم) : ومعنى الأخذ في قوله تعالى ( تأخذهم ): أي تهلكهم. ونظيره في التنزيل كثير؛
ومنه قوله تعالى كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمِْ ) [آل عمران]: أي فأهلكهم الله بذنوبهم.
قال*السمرقندي في بحر العلوم: أي*أهلكهم*وعاقبه م بشركهم.
ونظيرتها في الأنفال ( كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ): قال ابن عطية في المحرر الوجيز: وقوله*(فَأَخَذَه ُمُ)*معناه*أهلكه .
ونظيرتها ( فَأَخَذَهُمُ*ال َّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ): "فَأَخَذَهُمُ*ال لَّهُ" قال ابن كثير في تفسيره: أي*أهلكهم*ودمر عليهم وللكافرين أمثالها.
ومنه ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ):*قال الطبري في تفسيره: أو*يهلكهم في تصرّفهم في البلاد، وتردّدهم في أسفارهم.*
قال مكي في الهداية إلى بلوغ النهاية: على*تنقص. أي ينقص من أموالهم وزروعهم حتى*يهلكهم.
ومنه ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ): قال مكي في الهداية إلى بلوغ النهاية: أي*أهلكهم*الماء الكثير في حال كفرهم وظلمهم لأنفسهم.
انتهى.
*قوله [وهم]:* وحالهم.
*قوله [يخصمون]:* يختصمون.
يعني: يخاصم بعضهم بعضا في أمور دنياهم كالبيع والشراء، وما يكون من البائع والمشتري من جدال في الثمن -* مثلا، أو تأتيهم وهم يخاصمون في أمر الساعة فتبهتهم فلا يستطيعون صرفها.
قال ابن جزي الغرناطي في التسهيل: أي يتكلمون في أمورهم وأصل يخصمون يختصمون، ثم أدغم.
قال السمرقندي في بحر العلوم: فالأصل فيه يختصمون فأدغمت التاء في الصاد، وشددت.
قال الجلال المحلي في الجلالين: بالتشديد أصله يختصمون نقلت حركة التاء إلى الخاء وادغمت في الصاد أي وهم في غفلة عنها بتخاصم وتبايع وأكل وشرب وغير ذلك وفي قراءة يخصمون كيضربون أي يخصم بعضهم بعضا.
قال البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: أي يختصمون أي يتخاصمون في معاملاتهم على غاية من الغفلة...
ولكلام البقاعي - رحمه الله - تتمة قيمة، مؤثرة نافعة (أحسب) فاطلع عليه إن شئت.
قال ابن أبي زمنين في تفسيره: أي يختصمون في أسواقهم وحوائجهم.
قال القرطبي في تفسيره: أي يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم، وهذه نفخة الصعق.*
قال السمعاني في تفسيره: أي: يختصمون، وهكذا في قراءة أبي بن كعب.
*
قال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: وقرئت يختصمون، وهي جيدة أيضا ومعناها يأخذهم وبعضهم يخصم بعضا، ويجوز أن يكون تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون
في الحجة في أنهم لا يبعثون، فتقوم الساعة وهم متشاغلون في متصرفاتهم.
قال في الوجيز: يختصمون يُخاصم بعضهم بعضاً يعني: يوم تقوم الساعة وهم في غفلةٍ عنها.
قال يحيى بن سلام في تفسيره: في أسواقهم، يتبايعون، يذرعون الثياب ويخفض أحدهم ميزانه ويرفعه، ويحلبون اللقاح وغير ذلك من حوائجهم.
قال النسفي في مدارك التنزيل: والمعنى تأخذهم وبعضهم يخصم بعضا في معاملاتهم.
*
قلت (عبدالرحيم): وهذه الآية مصداقا للحديث المرفوع؛ وفيه:
«تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ اللِّقْحَةَ(1)، فَمَا يَصِلُ الْإِنَاءُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْبَ، فَمَا يَتَبَايَعَانِه ِ حَتَّى تَقُومَ، وَالرَّجُلُ*يَل طُ(2)*فِي حَوْضِهِ، فَمَا يَصْدُرُ حَتَّى تَقُومَ». رواه مسلم (٢٩٥٤)*من حديث أبي هريرة.
- اللهم رحماك -.
ولقد سجدت لله شكرا لما اطلعتُ على كلام أبي الليث السمرقندي في بحر العلوم، والماوردي في النكت والعيون، وغيرهما؛ حيث ذكرا - رحمهما الله -* هذا الحديث في هذه الآية.
فلربنا ومعبودنا الحمد الحسن والثناء الجميل.
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره:
وهذه -والله أعلم-نفخة الفزع، ينفخ في الصور نفخة الفزع، والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينماهم كذلك إذ أمر الله تعالى إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يطولها ويمدها، فلا يبقى أحد على وجه*الأرض*إلا*أص ى ليتا، ورفع ليتا -وهي صفحة العنق- يتسمع الصوت من قبل السماء. ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار، تحيط بهم من جوانبهم؛ ولهذا قال: {فلا يستطيعون توصية} أي: على*ما*يملكونه،* لأمر أهم من ذلك، {ولا إلى أهلهم يرجعون} .
.......................
(1): اللِّقْحَةَ: الناقة الحلوب.
قاله الخليل بن أحمد الفراهيدي في العين.
وفي جمهرة اللغة لأبي بكر الأزدي: واللقحة بكسر اللام: الناقة التي لها لبن، والجمع لقاح، ولقح.
(2): يَلِطُ حوضه: أي يطينه.
قاله ابن منظور في لسان العرب.
وقال الفتني الكراتجي في مجمع بحار الأنوار: وفيه " يليط" حوضه، أي يصلحه ويميله ويطينه.
.....................
كتبه: أبو المنذر عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل حمودة المصري المكي.
للاشتراك - للإبلاغ عن خطأ: 00966509006424
كما يمكنكم الوصول إلى كافة الحسابات الاجتماعية الرسمية للتفسير بالبحث في الإنترنت عن " معاني وغريب القرآن 00966509006424 ".