كتبه العلامة ابن باز رحمه الله:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: أيها الإخوان الفضلاء، أيها الأبناء الأعزاء، هذه المحاضرة الموجزة أتقدم بها بين أيديكم تنويرًا للأفكار، وإيضاحًا للحقائق، ونصحًا لله ولعباده، وأداءً لبعض ما يجب عليَّ من الحق نحو المحاضَر عنه، وهذه المحاضرة عنوانها: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته.
لما كان الحديث عن المصلحين والدعاة والمجددين، والتذكير بأحوالهم وخصالهم الحميدة، وأعمالهم المجيدة، وشرح سيرتهم التي دلت على إخلاصهم، وعلى صدقهم في دعوتهم وإصلاحهم وأعمالهم وسيرتهم مما تشتاق إليه النفوس الطيبة، وترتاح له القلوب، ويود سماعه كل غيور على الدين، وكل راغب في الإصلاح، والدعوة إلى سبيل الحق رأيت أن أتحدث إليكم عن رجل عظيم ومصلح كبير وداعية غيور، ألا وهو الشيخ الإمام المجدد للإسلام في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية.
هو: الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي النجدي، لقد عَرف الناس هذا الإمام ولا سيما علماؤهم ورؤساؤهم وكبراؤهم وأعيانهم في الجزيرة العربية وفي خارجها، ولقد كتب الناس عنه كتابات كثيرة ما بين مُوجِز وما بين مطوِّل، ولقد أفرده كثير من الناس بكتابات حتى المستشرقون كتبوا عنه كتابات كثيرة، وكتب عنه آخرون في أثناء كتاباتهم عن المصلحين وفي أثناء كتاباتهم في التاريخ، وصفه المنصفون منهم بأنه مصلح عظيم، وبأنه مجدد للإسلام، وبأنه على هدى ونور من ربه، وتعدادهم يشق كثيرًا، من جملتهم المؤلف الكبير أبو بكر الشيخ حسين بن غنام الأحسائي؛ فقد كتب عن هذا الشيخ فأجاد وأفاد وذكر دعوته، وذكر سيرته وذكر غزواته، وأطنب في ذلك وكتب كثيرًا من رسائله واستنباطاته من كتاب الله عز وجل، ومنهم الشيخ الإمام عثمان بن بشر في كتابه: «عنوان المجد»، فقد كتب عن هذا الشيخ، وعن دعوته، وعن سيرته، وعن تاريخ حياته، وعن غزواته وجهاده، ومنهم خارج الجزيرة الدكتور أحمد أمين في كتابه: «زعماء الإصلاح»، فقد كتب عنه وأنصفه، ومنهم الشيخ الكبير مسعود عالم الندوي، فقد كتب عنه وسماه: (المصلح المظلوم)، وكتب عن سيرته وأجاد في ذلك، وكتب عنه أيضًا آخرون، منهم الشيخ الكبير الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني، فقد كان في زمانه وقد كان على دعوته، فلما بلغه دعوة الشيخ سُرَّ بها وحمد الله عليها.
وكذلك كتب عنه العلامة الكبير الشيخ محمد بن علي الشوكاني صاحب «نيل الأوطار» ورثاه بمرثية عظيمة، وكتب عنه جمع غفير غير هؤلاء يعرفهم القراء والعلماء، ولأجل كون كثير من الناس قد يخفى عليه حال هذا الإمام وسيرته ودعوته رأيت أن أساهم في بيان حاله وما كان عليه من سيرة حسنة، ودعوة صالحة، وجهاد صادق وأن أشرح قليلًا مما أعرفه عن هذا الإمام حتى يتبصر في أمره من كان عنده شيء من لبس، أو شيء من شك في حاله ودعوته، وما كان عليه.
ولد هذا الإمام في عام (1115) هجرية هذا هو المشهور في مولده $، وقيل في عام (1111) هجرية، والمعروف الأول أنه ولد في عام (1115) هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية.
وتعلم على أبيه في بلدة «العيينة» وهذه البلدة هي مسقط رأسه $، وهي قرية معلومة في اليمامة في نجد شمال غرب مدينة الرياض بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو مترًا تقريبًا، أو ما يقارب ذلك من جهة الغرب، ولد فيها $ ونشأ نشأة صالحة، وقرأ القرآن مبكرًا.
واجتهد في الدراسة والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان، وكان فقيها كبيرًا، وعالمًا قديرًا، وكان قاضيًا في بلدة «العيينة»، ثم بعد بلوغ الحُلُم حج وقصد بيت الله الحرام وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف.
ثم توجه إلى «المدينة» على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فاجتمع بعلمائها، وأقام فيها مدة، وأخذ من عالمين كبيرين مشهورين في «المدينة» ذلك الوقت؛ وهما: الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي، أصله من «المجمعة»، وهو والد الشيخ إبراهيم بن عبد الله صاحب «العذب الفائض في علم الفرائض»، وأخذ أيضًا عن الشيخ الكبير محمد حياة السندي بـ«المدينة»، هذان العالمان ممن اشتهر أخذ الشيخ عنهما بـ«المدينة»، ولعله أخذ عن غيرهما ممن لا نعرف.
ورحل الشيخ لطلب العلم إلى «العراق» فقصد «البصرة» واجتمع بعلمائها، وأخذ عنهم ما شاء الله من العلم، وأظهر الدعوة هناك إلى توحيد الله ودعا الناس إلى السُّنة، وأظهر للناس أن الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم عن كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، وناقش وذاكر في ذلك، وناظر هنالك من العلماء، واشتهر من مشايخه هناك شخص يقال له: الشيخ محمد المجموعي، وقد ثار عليه بعض علماء السوء بـ«البصرة» وحصل عليه وعلى شيخه المذكور بعضُ الأذى، فخرج من أجل ذلك وكان من نيته أن يقصد الشام فلم يقدر على ذلك لعدم وجود النفقة الكافية، فخرج من «البصرة» إلى «الزبير» وتوجه من «الزبير» إلى «الأحساء» واجتمع بعلمائها، وذاكرهم في أشياء من أصول الدين ثم توجه إلى بلاد «حريملاء» وذلك - والله أعلم - في العقد الخامس من القرن الثاني عشر؛ لأن أباه كان قاضيًا في «العيينة» وصار بينه وبين أميرها نزاع، فانتقل عنها إلى «حريملاء» سنة (1139) هجرية، فقدم الشيخ محمد على أبيه في «حريملاء» بعد انتقاله إليها سنة (1139) هجرية، فيكون قدومه «حريملاء» في عام (1140) أو بعدها، واستقر هناك ولم يزل مشتغلًا بالعلم والتعليم والدعوة في «حريملاء» حتى مات والده في عام (1153) هجرية فحصل من بعض أهل «حريملاء» شر عليه، وَهَمَّ بعض السفلة بها أن يفتك به.
وقيل: إنَّ بعضهم تسور عليه الجدار فعلم بهم بعض الناس فهربوا، وبعد ذلك ارتحل الشيخ إلى «العيينة».
وأسباب غضب هؤلاء السفلة عليه أنه كان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، وكان يحث الأمراء على تعزير المجرمين الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب والإيذاء، ومن جملتهم هؤلاء السفلة الذين يقال لهم: العبيد هناك، ولما عرفوا من الشيخ أنه ضدهم وأنه لا يرضى بأفعالهم، وأنه يحرض الأمراء على عقوباتهم، والحد من شرهم غضبوا وهموا أن يفتكوا به، فصانه الله وحماه.
ثم انتقل إلى بلدة «العيينة» وأميرها إذ ذاك عثمان بن محمد بن معمر، فنزل عليه ورحب به الأمير، وقال: قم بالدعوة إلى الله ونحن معك وناصروك، وأظهر له الخير والمحبة والموافقة على ما هو عليه، فاشتغل الشيخ بالتعليم والإرشاد والدعوة إلى الله عز وجل، وتوجيه الناس إلى الخير، والمحبة في الله، رجالهم ونساؤهم، واشتهر أمره في «العيينة» وعظم صيته وجاء إليها الناس من القرى المجاورة.
وفي يوم من الأيام قال الشيخ للأمير عثمان: دعنا نهدم قبة زيد بن الخطاب ﭬ فإنها أُسِّست على غير هدى، وأن الله جل وعلا لا يرضى بهذا العمل، والرسول ﷺ نهى عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، وهذه القبة فتنت الناس وغيرت العقائد، وحصل بها الشرك فيجب هدمها، فقال الأمير عثمان: لا مانع من ذلك، فقال الشيخ: إني أخشى أن يثور لها أهل «الجبيلة»، و«الجبيلة» قرية هناك قريبة من القبر، فخرج عثمان ومعه جيش يبلغون 600 مقاتل لهدم القبة، ومعهم الشيخ $ فلما قربوا من القبة خرج أهل الجبيلة لما سمعوا بذلك لينصروها ويحموها.
فلما رأوا الأمير عثمان ومن معه كفوا ورجعوا عن ذلك، فباشر الشيخ هدمها لإزالتها فأزالها الله عز وجل على يديه رحمه الله.