رد قواعد أحمد سالم في الحب:
اطلعت على مقال لأحمد سالم بعنون: (قواعد الحب)، نسجه كاتبه على منوال مقال لحاتم العوني، قديم؛ لكنه راعى العنوان عن صاحبه فقد سمى الثاني موضوعه: (باب في العشق)، ولا يخفى الفرق بين المسميين، وكلاهما نسج الموضوع لتقعيد مسألة هي للفجر أقرب منها للطهر والعفاف، إلا وهي الحب بين رجل وامرأة في غير إطارها الشرعي وهو: (الزواج)، وفي الحقيقة لا يهمني كثيرًا كلامه أكثر مما يهمني استشهاداته واستدلالته الشرعية.
فقد استدل بقصة مغيث مع بريرة، وخلاصتها أن مغيثًا كان متزوجًا من بريرة وهما عبيد فلما اعتقت بربرة رفضت استمرار زواجهما، وكان مغيثًا يسير خلفها في الطرقات يبكي، فعلق عليها أحمد سالم بقوله: (قلت: وفي هذا الحديث أصل عظيم من أصول مراعاة هذا الدين الحق للجبلة الإنسانية فهو يهذبها ولا يعاندها. فهذا رجل يحب امرأة لا تحل له، وأنت ترى حبها وقد ملك عليه قلبه وشارف به على الهذيان؛ فبينا كانت أمس زوجته، إذا هي اليوم امرأة أجنبية عنه، فأضحى ماء قلبه ورواء روحه سراباً كأن لم يكن.
فهل رأيت نبي الرحمة ينهاه، ويقول له حبك لها حرام؟ لا. فهذا الحب من قول القلب وعمله لا سلطان للرجل عليه، ولا يحاسبه الشرع عليه، ولا على لوعة نفسه وبكائه، فتلك لواعج النفس لا يعاندها الشرع، لكن الشرع ينظر: هل تقول حراماً أو تفعل حراماً؟ أما هاهنا = فلا).
قلت: (أبو البراء): رجل يستعطف امرأة كانت له زوجة في روجعها إليه، فكيف يستدل بهذا على حب رجل لمرأة لا تحل له ولا تربطه بها صلة من ذي قبل، لذا هي حالة خاصة بها ونظائرها لا ينبغي التعميم، قال ابن القيم في: (روضة المحبين) (صـ 147): (إذا حصل العشق بسبب غير محظور لم يُلَم عليه صاحبه، كمن كان يعشق امرأته أو جاريته ثم فارقها وبقي عشقها غير مفارق له، فهذا لا يلام على ذلك، وكذلك إذا نظر نظرة فجاءة ثم صرف بصره وقد تمكن العشق من قلبه بغير اختياره، على أن عليه مدافعته وصرفه).
ثم عقب كلامه هذا بنقلٍ عن مغلطاي يدلل به على جواز ما سماه حبًا، حيث قال: (يقول الحافظ مغلطاي "وقد أجمع العلماء: أن الحب ليس بمستنكر في التنزيل، ولا بمحظور في الشرع).
قلت: (أبو البراء): العجيب أنه لم يذكر مصدره في هذا النقل وعلَّه لم يذكره خوفًا من اسمه، فهو في كتاب: (الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين)، وهذا الكتاب استنكره علماء عصره، لذا قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: (6: 115)، في ترجمة الحافظ مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري الحنفي: (وقف له العلائي لما رحل إلى القاهرة بابنه شيخنا أبي الخير ليسمعه على شيوخ العصر وهو بسوق الكتب على كتاب جمعه في العشق تعرض فيه لذكر الصديقة عائشة فأنكر عليه ذلك ورفع أمره إلى الموفق الحنبلي فاعتقله بعد أن عزره فانتصر له جنكلي بن البابا وخلصه).
وقال الحافظ أيضًا: (وأنشدني لنفسه في: (الواضح المبين) شعرًا يدل على استهتار وضعف في الدين).
وكفي باسم الكتاب قبحًا؛ فأي شهادة ينالها العاشق بالنساء !!! بل والله هو محض مزلة.
ثم ذكر كلامًا لابن بطال، حيث قال: (وفي شرح البخاري لابن بطال "لا حرج على مسلم في هوى امرأة مسلمة وحبه لها ظهر ذلك منه أو خفي، ولا إثم عليه في ذلك، وإن أفرط فيه ما لم يأت محرمًا).
قلت: (أبو البراء): كيف وإن أفرط في حبه ومع ذلك لم يأتي محرمًا، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذم هوى القلب وتمنيه، حيث قال في الحديث: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه). رواه مسلم: (2657).
فتأمل قوله: (والقلب يهوى ويتمنى)، وفي رواية عند أحمد: (8356): (العين تزني، والقلب يزني، فزنا العين النظر، وزنا القلب التمني، والفرج يصدق ما هنالك أو يكذبه).
إلا أن يقال أن هذا من فعل القلب دون عزم؛ فله مسوغ قد لا ينكر.
كما أن كلام ابن بطال عن قصة بريرة مع زوجها - مغيث - وكانت زوجته وكان قلبه محبًا لها متعلقًا بها فهناك قرائن تدل على واقع الرجل مع المرأة والتي كانت زوجته منذ فترة يسيرة، فقلبه متعلق بها يحبها، فإذا دخل على قلب الرجل أو المرأة الحب دون تسبب له ولا سعي لذلك ما هو إلا أمر قلبي، ليس فيه تعد لحرمات الله، ولا وقوع في حرام من نظرة أو خلوة ونحو ذلك، وهذا لم يحدث لزوج بريرة، فهذا يقال: لا حرج فيه إن اتقى صاحبه ربه والتزم حدوده سبحانه واجتهد في دفع هذا عن قلبه بكل سبيل، وقد سلك مغيث السبل المرضية وهو الطريق المنجي من هلاك العشق، وهو الزواج منها فأراد أن يراجعها، فهو هنا سلك الطريقة المرضية ولم يسلك طريقًا آخر معوجًا.
أما إن كان الرجل أو المرأة هو - أو هي - من أدخل هذا الحب على نفسه بالنظر المحرم، أو اللقاءات ونحو ذلك، فهو آثم في حبه هذا؛ لأنه هو المتسبب فيه والساعي إليه، فهو بذلك غير معذور ولو كان بنية الزواج، قال ابن القيم رحمه الله في: (روضة المحبين): (صـ 147): (فمتى كان السبب واقعًا باختياره لم يكن معذورًا فيما تولد عنه بغير اختياره، فمتى كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا ، ولا ريب أن متابعة النظر واستدامة الفكر بمنزلة شرب المسكر، فهو يلام على السبب).
وقال ابن تيمية في: (مجموع الفتاوى): (11/10): (فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه).
ومن أعجب كلامه هذه القاعدة التي قال فيها: (القاعدة الثامنة: اشفع في المحبة واسلك بها طريق الخير.
بوب ابن القيم في كتابه روضة المحبين بابًا في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين. وقال "وهي من أفضل الشفاعات وأعظمها أجرا عند الله فإنها تتضمن اجتماع محبوبين على ما يحبه الله ورسوله ولهذا كان أحب ما لإبليس وجنوده التفريق بين هذين المحبوبين").
قلت: (أبو البراء): سبحان الله وكلام ابن القيم يرد فكرة مقاله ويأتي عليها من أصلها، إذا قال: (فإنها تتضمن اجتماع محبوبين على ما يحبه الله ورسوله)، أي ما أحله الله ورسوله وهو الزواج.
ثم استشهد بحب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، ولا أدري هل يصح أن يستدل بحب رجل لزوجته، على حب رجل أجنبي لمرأة لا تحل له، وهل لو قيل له: أن رجلًا يحب ابنتك أو زوجتك حب عفيف شريف، هل هذا يفرحه أو يغضبه.
ومع هذا لابد من مراعاة السياسة الشرعية للناس وفقه الدعوة، فالناس الذين يطالعون ما تكتب أكثرهم من العامة وإن كان عند بعضهم بعضًا من المعرفة، وفي هذا الكلام تغرير بهم وليس عندهم هذا النفس العلمي وقد يفهم الكثير غير ما أردت، وقد أمرنا أن نسد عن الناس كل ذريعة للفساد والشر، وقد قال ابن مسعود: (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة). مسلم في مقدمته.
كما لا يغفل في هذا الباب ذكر أضرار تعلق القلب بما ليس في إمكانه الوصول إليه، قال ابن تيمية في: (مجموع الفتاوى): (10/132): (عشق الأجنبية فيه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو من الأمراض التي تفسد دين صاحبها، ثم قد تفسد عقله ثم جسمه).
والتعلق بالجنس الآخر لا يصيب قلبًا ملأه حب الله تعالى، إنما يصيب قلبًا فارغًا ضعيفًا مستسلمًا فيتمكن منه، فإذا قوي واشتد فقد يغلب على حب الله ويخرج بصاحبه إلى الشرك، ولهذا قيل: (إن الهوى حركة قلب فارغ).
فالقلب إذا فرغ من محبة الرحمن عز وجل وذكره، والتنعم بمناجاته وكلامه سبحانه، امتلأ بمحبة النساء، والتعلق بالصور، وسماع الغناء، يقول شيخ الإٍسلام ابن تيمية في: (مجموع الفتاوى): (10/135): (إذا كان القلب محبًا لله وحده مخلصا له الدين، لم يبتل بحب غيره أصلًا، فضلًا أن يبتلى بالعشق، وحيث ابتُلي بالعشق، فلنقص محبته لله وحده؛ ولهذا لما كان يوسف محبًا لله مخلصًا له الدين، لم يبتل بذلك، بل قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ، إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُخلَصِينَ)، وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها، فلهذا ابتليت بالعشق).
ومن ابتلي بمثل هذا يطالب بتقوى الله والحث على العفة وكتمان ما ابتلي به، لا أن يبرر له ويفت من عزيمته وينخر في قوته وإرادته ويقعد له قواعد تبرر له فعله، يقول ابن تيمية: (مجموع الفتاوى): (10/133): (فأما إذا ابتُلى بالعشق وعف وصبر، فإنه يثاب على تقواه لله، فمن المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرًا وقولًا وعملًا، وكتم ذلك فلم يتكلم به، حتى لا يكون في ذلك كلام محرم، إما شكوى إلى المخلوق، وإما إظهار فاحشة، وإما نوع طلب للمعشوق، وَصَبر على طاعة الله وعن معصيته، وعلى ما فى قلبه من ألم العشق، كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة، فان هذا يكون ممن اتقى الله وصبر، (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ).
نسأل الله عز وجل أن يطهر قلوبنا، ويحفظ فروجنا، ويرفع عنا البلاء، ويردنا إليه ردًا جميلًا.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.