شبهات من قال بحلّ الصدقة للآل وجوابها
الشبهة الأولى : استدل من قال بجواز أخذ آل البيت للصدقة عند منعهم من الخمس بما رواه ابن أبي حاتم في (تفسيره) قال: حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس t قال: قال رسول الله r: "رغبت لكم عن غسالة الأيدي؛ لأن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم".
وقال ابن كثير رحمه الله في (تفسيره): هذا حديث حسن الإسناد، وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم، وقال يحيى بن معين يأتي بمناكير.
قال أبو أيوب عفا الله عنه: إبراهيم بن مهدي المصيصي مختلف فيه وقد قال عنه الحافظ في التقريب "مقبول" وهو إنما جاء في طريق ابن أبي حاتم فقط وقد تابعه غير واحد عند الطبراني في (المعجم الكبير) وأبي نعيم في (معرفة الصحابة) وعنه البخاري في (تاريخه) كما في (المطالب العالية) وبهذا يتبين ألا ضرر منه في صحة الحديث.
لكن في إسناد هذا الحديث طامة أخرى وداهية عظمى ذلك أن مدار إسناده عند جميع من أخرجوه على (حنش) شيخ سليمان التيمي والراوي عن عكرمة، وحنش هذا لقب واسمه الحسين بن قيس الرحبي وهو تالف بالمره قال عنه البخاري: أحاديثه منكرة ولا يكتب حديثه.
و قال عنه الحافظ في (التقريب): متروك. فمثل هذا حديثه ضعيف جدا.
قال الصنعاني رحمه الله في (منحة الغفار) :" واعلم أن حنشا الرحبي اسمه الحسين بن قيس ولقبه حنش كما صرّح به الذهبي في (الميزان) وترجم له في حسين، فلا يتوهم أنهما اثنان بل منهم من يعبر عنه بلقبه كما في (التلخيص) ومنهم من يعبر عنه باسمه كما في (الميزان)".أهـ
وعليه: فقول ابن كثير أنه حسن الإسناد ليس بحسن، وظهر أن هذا الحديث لا يحتج به ولا يحل أن تبنى عليه الأحكام فضلا عن أن تخصص به تلك النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة.
قال صديق خان رحمه الله في (الروضة الندية):"واحتج لعدم التحريم بحديث:"إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم"، قال: فإذا منعوا ذلك حلت لهم الزكاة، وفي إسناده حسين بن قيس الرحبي؛ الملقب بحنش. قال الهيثمي: وفيه كلام كثير، وقد وثقه أبو محصن. وقال في "خلاصة البدر المنير": ضعفوه. وليس في هذا ــــ مع كونه أشف ما جاء به هو وغيره ممن ترخص في هذا الأمر ـــ ما يدلُّ على الحل؛ لأنهم إذا منعوا ما يحلّ لهم؛ لم يحلّ لهم ما حرم عليهم، فما وزان هذا إلا وزان قول القائل: لا يحلّ الزنا لأن في النكاح ما يغني عنه، فهل يقول من له أدنى تمسك بالعلم: إنه إذا لم يقدر على النكاح حل له الزنا؟"أهـ
وهذا كلام سديد في غاية التحقيق والإنصاف ظاهر بيّن لمن تأمله بتجرد عن التعصب والهوى.
فهل يا ترى يستقيم القول بحل الصدقة لآل البيت إذا لم يعطوا الخمس بعد هذا البيان؟!
الجواب : اللهم لا، لا سيما وقد أخبرنا r أنه سيكون في آخر الزمن أثرة وأمور منكرة ومنع لجميع الأمة من الحقوق الواجبة لها، ثم أوصى r بتأدية ما عليهم وسؤال الله ما لهم ولم يقل: فخذوا مما حرم الله عليكم عوضا عن حقكم الذي أخذ عنكم!.
قال الصنعاني رحمه الله في (سبل السلام):" ولا يلزم من منعهم عن الخمس أن تحل لهم فإن من منع الإنسان عن ماله وحقه لا يكون منعه له محللا ما حرم عليه وقد بسطنا القول في رسالة مستقلة".أهـ
وقال رحمه الله في (منحة الغفار) في تعقبه لما حكاه الجلال من استدلال بعضهم بأنه r لم يحلها لآله لغناهم بالأخماس فقالوا: هي علّة صريحة يجب قصر الحكم على محلها". فقال الصنعاني رحمه الله:"لا يخفى أنه قد علّل في حديث مسلم بأنها غسالة فالتعليل بها وإدارة الحكم عليها هو المتعين لأنها علة ملازمة تتحقق كل ما يتحقق الحكم خلاف الغنى بخمس الخمس فإنما هو مانع عن الصرف فلا ينته به التعليل لو سلّم بثبوته مع وجود هذه المنصوصة، على أن التعليل بخمس الخمس لم يأت في حديث الإنكاح بل علل فيه بأنها لا تحل وإنما أمر بإنكاحهما من مال الخمس والحديث رواه مسلم في صحيحه..".
ثم ذكر حديث الفضل وصاحبه ثم اتبع قائلا :" فلو كانت العلة الغنى بخمس الخمس كما قاله الشارح وقد طلبا العمالة على الزكاة وقد صرح r بحلها للعامل عليها إذا كان غنيا فإنه أحد الخمسة في حديث أبي سعيد كما عرفت، فما منعهما إلا للعلة التي صرح بها بقوله :"إنما هي غسالة".أهـ
قال أبو أيوب عفا الله عنه: وهذا بيان شافٍ كافٍ في بابه وحديث الخمسة الذي أشار إليه هو ما جاء عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r :"لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها, أو رجل اشتراها بماله, أو غارم, أو غاز في سبيل الله, أو مسكين تصدق عليه منها, فأهدى منها لغني". رواه أحمد, وأبو داود, وابن ماجه.
فأفاد هذا الحديث أن الغني يجوز له أن يكون عاملا على الصدقة ويأخذ منها عمالته، فدلّ أن منعه r لآل بيته من أن يكونوا عمالا عليها ليس لغناهم بخمس الخمس إذ لو كان الغنى هو السبب في منعهم لكان الغني من غيرهم ممنوع من العمالة عليها، وقد نص هذا الحديث على جواز أخذه منها بالعمالة، وتبين من هذا أن علة منع آل البيت من الزكاة إنما هو أن الزكاة أوساخ الناس وهم قوم قد طهرهم الله وشرفهم بقرب نسبهم من رسول الله r .
مع ملاحظة أن قول الصنعاني رحمه الله أن كلمة غسالة وردت في صحيح مسلم هذا ذهول منه أو سبق قلم فإن هذه اللفظة لم ترد في مسلم ولا في غيره من الكتب الستة، وإنما ورد فيه كلمة "أوساخ" وهي بمعناها، وإنما وردت لفظة الغسالة في ذلك الحديث الذي لا يثبت وقد سبق الكلام عليه.
الشبهة الثانية : حكى الحسن بن أحمد الجلال رحمه الله في (ضوء النهار) استدلال بعضهم على حلّ الصدقة للهاشميين بما جاء من التعبير بلفظ "لا تنبغي" قالوا: تلك عبارة في اللغة عن اتباع الأولى، والنزاع في الحرمة المستلزمة للعقاب وترك الأولى لا عقاب عليه اتفاقا، ويشهد لذلك ما أخرجه أبو داود من طريقين عن ابن عباس t قال بعثني أبي إلى النبي r في إبل أعطاها إياه من الصدقة" زاد في أحد الطريقين:" أن يبدلها". قلنا فعل لا ظاهر له فيجوز أن تكون قضاء عن قرض فقد كان يقترض منه r ".أهـ .
وقد ردّ ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين) على من قال: بأن "لا تنبغي" لا تفيد التحريم بقوله:" وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال لا ينبغي في المحظور شرعا أو قدرا في المستحيل الممتنع كقول الله تعالى "وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا" وقوله "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" وقوله "وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم" وقوله على لسان نبيه r:"كذبني ابن آدم وما ينبغي له وشتمني ابن آدم وما ينبغي له". وقوله r :"إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام". وقوله r :"في لباس الحرير لا ينبغي هذا للمتقين". وأمثال ذلك".أهـ .
وقد تعقب الصنعاني رحمه الله في (منحة الغفار) من استدل على عدم التحريم بحديث ابن عباس السابق بقوله:" أقول: فاعل أعطى يحتمل أنه العباس وأنه بعث ابنه بصدقته إلى النبي r فلا حجة، إلا أن في رواية "أن يبدلها" فربما دل على أن المعطي الرسول r وأنه طلب العباس إبدالها منه، إلا أن طلب الإبدال يدل أنها قضاء قرض لا أنها صرف فيه، لأن الغالب أن القضاء هو الذي يتخير فيه لا الصدقة، وقد حمله الخطابي على أنها قضاء، وقال الحافظ البيهقي في (السنن الكبرى) بعد سياقه للحديث ما لفظه :"فهذا لا يحتمل ألا معنيين : أحدهما أن يكون قبل تحريم الصدقة على بني هاشم ثم صار منسوخا بما مضى ـ يريد بأحاديث التحريم ـ ، والآخر أن يكون استسلف من العباس إبلا للمساكين ثم ردها عليه من إبل الصدقة فقد روينا في كتاب الزكاة ما دل على ذلك". انتهى يعني كلام البيهقي.
ثم اتبع الصنعاني رحمه الله قائلا:" قلت: ثم في العباس مانع من صرف الزكاة فيه محقق غير كونه من آل محمد وهو الغِنى فإنه كان غنيا في الجاهلية اتفاقا وما زاده الإسلام إلا غنى كما هو معروف فلا يتم انه r أعطاه من الزكاة". أهـ.
وهذا رد واضح في غاية البيان، وبنحوه قال ابن حزم رحمه الله في (المحلى) .
الشبهة الثالثة : أورد الجلال رحمه الله في (ضوء النهار) شبهة أخرى استدل بها القائلون بعدم الحرمة فقال:" ولأن الحديث بلفظ "لا تحل" قالوا: نفي الحل لا يستلزم الحرمة أيضا، لأن الحل الإباحة ونفي الإباحة أعمّ من التحريم لأنه يشمل المكروه، وحصول الأعمّ لا يستلزم حصول الأخص بخصوصه والقرينة قد قامت على إرادة الكراهة".أهـ.
فتعقبه الصنعاني رحمه الله في (المنحة) بقوله:" أقول: لا يخفى أن الاستعمال القرآني أن نفي الحل يفيد التحريم "لا يحل لك النساء من بعد" "لا تحلوا شعائر الله" وفي السنة "لا يحل مال امرئ مسلم" "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر" وغير ذلك "لا تحل المسالة الا لأحد ثلاثة". أهـ .
وعلى التحريم بصيغة "لا يحل" نص ابن القيم رحمه الله في (بدائع الفوائد) فقال:" ويستفاد التحريم من النهي والتصريح بالتحريم والحظر والوعيد على الفعل وذم الفاعل وإيجاب الكفارة بالفعل وقوله (لا ينبغي) فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع عقلا أو شرعا ولفظة (ما كان لهم كذا ولم يكن لهم) وترتيب الحد على الفعل ولفظة (لا يحل، ولا يصلح) ووصف الفعل بأنه فساد وأنه من تزيين الشيطان وعمله وإن الله لا يحبه وأنه لا يرضاه لعباده ولا يزكي فاعله ولا يكلمه ولا ينظر إليه ونحو ذلك". أهـ
الشبهة الرابعة: ومما علّل به القائلون بالجواز أن التحريم إنما كان دفعا للتهمة لأنه r لو أخذها منهم لطعنوا فيه وفي نبوته ولذا أمره ربه جل وعلا أن يقول لهم:"قل ما أسألكم عليه من أجر"، فلما مات r حلّت الزكاة لآله لانتفاء تلك التهمة، حكى هذا الجلال في (ضوء النهار) عن أبي حنيفة وقال:"فإذا كانت العلة هي التهمة فقد زالت بموته r ولم يبق مقتض للتحريم لزوال المانع ووجود المقتضى وهو الفقر ونحوه".أهـ
وهذا تكلف بعيد واستدراك على رسول الله r غير سديد وقد بين عواره وكشف فساده الصنعاني رحمه الله في (منحة الغفار) فقال:" لو كانت التهمة ملاحظة له r لكان الخمس أدخل في حرمته عليه والصفي وإن كان مال المشركين، لكن الاختصاص به مظنة التهمة وغير ذلك مما اختص به r مما ينادي أن التهمة لا مدخل لها في علية التحريم.
وياللعجب أتهجر العلة المنصوصة بأنها غسالة وتعلل بالتهمة التي لا ينتهض على عليتها دليل وإنما هي أخالة، والتعليل بالغسالة علة منصوصة بكلمة إنّ، فياللعجب حيث قدّم ما لا دليل على أنه العلة على العلة المنصوصة كما أنه لو قيل سلم التعليل بالتهمة لم يسلم انتفاؤها بعد الموت فإن الإنسان حريص على جر النفع إلى أولاده وقرابته بعد وفاته".
ثم قال :" ثم لا أدري من هم المتهمون في ذلك الجناب العلي والغضب النبوي أهم المؤمنون فحاشاهم عن هذه الرذيلة وهم أجلّ من أن يلم بساحة قلوبهم هذا الوهم الباطل المنافي للإيمان، أم هم الكافرون والمنافقون فهم أسوأ اعتقادا من ذلك وأخبث مقالة، وهم الرامون لجنابه المنزه بالكذب والسحر والجنون، فأعجب لهذه العلة التي ادعاها الشارح التي لا يتم التعليل بها على رأي صالح ولا طالح".أهـ
وقد أوجز هذا الرد صديق خان رحمه الله في (الروضة الندية) فقال:" وأما التعليل للتحريم بالتهمة له r وقد زالت بموته، فحلّت لقرابته، كما رواه عن أبي حنيفة رحمه الله: فمجرد تخمين لا مستند له، وتخيل لا مرشد إليه، ولو كان الأمر كذلك؛ لكانت التهمة في الخمس وصفي الغنيمة أدخل وأشد؛ والله المستعان".أهـ.
الشبهة الخامسة: وعلى ما تقدم ذكره في الشبهة الرابعة من نفي التهمة بنى من قال بأن التحريم خاص بزمنه r وأما بعد ذلك فتحلّ الصدقة لآله كما يحلّ لبقية المسلمين.
قال الجلال رحمه الله في (ضوء النهار) :"ومن ذلك يلزم بأن المراد "بآل محمد" في الحديث من في عصره r منهم كما هو أيضا مدلول الإضافة إذ هي للعهد ولا عهد لغير الموجود".
وتعقبه الصنعاني رحمه الله في (منحة الغفار) بقوله:" أقول: أي لزم من القول بأنها إزالة التهمة وقد زالت بموته r أن المراد بآله من في عصره لأنها إذا حلت لهم لزمت التهمة له في حياته، وبعد موته لا تهمة فتباح لآله من بعده هذا تقرير مراده، ومع معرفتك بطلان التهمة كما قدمناه لا تحتاج إلى بيان اختلال ما قاله وإلا فإنه مختل فالإنسان حريص على نفع أولاده من بعده ولهذا يقف الآباء للأبناء الأطيان وغيره فالتهمة لا تبطل بالموت لو صح التعبير بها".أهـ
ثم تعقبه على زعم أن مدلول الإضافة للعهد ولا عهد لغير الموجود فقال:" الدعوى صحيحة والتعليل عليل.
أما صحة الدعوى: فقد صرحت أئمة النحو والبيان بأن الأصل في الإضافة العهد الخارجي ويجيء لغيره بالقرينة.
وأما بطلان الدليل وهو قوله:"إذ لا عهد لغير موجود" فلأن المعتبر في العهد سبق الذكر لفظا نحو قوله "كما أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول" أو كناية بنحو:" وليس الذكر كالأنثى" او نحوهما، ولا يشترط وجود المعهود ولا عدمه كما في الآية الأولى ...".
ثم قال :" ولو كان ما ذكره الشارح صحيحا لزم ألا يستحق الخمس من ذوي القربى إلا من كان موجودا عند نزول قوله تعالى:" ولذي القربى" وأن كل ما ورد من فضائل آل محمد وممادحهم والحث على حبهم لا يكون إلا للموجودين منهم لا غير وهذا معلوم خلافه من ضرورة أقوال العلماء وأئمة الدين وسائر المسلمين، وإذا عرفت هذا فلك أن تقول الإضافة في آل محمد ليست للعهد بل للجنس الشامل لكل من يصدق عليه اللفظ موجودا كان أو غير موجود، وهذا وإن كان خلاف الأصل إلا أن الإجماع على عموم التشريع قرينة على إرادة ذلك، وعلى كل تقدير فالحكم وهو تحريم الزكاة على آل محمد عام لمن وجد حال التكلم ومن سيوجد كعموم أحكام التكاليف للأمة إلى يوم القيامة لا فرق في ذلك".أهـ
قال أبو أيوب عفا الله عنه : لا شك أن الإضافة في آل محمد للجنس الشامل للسابق واللاحق من آل البيت، وعلى ذلك دلّ إطلاق الأحاديث الواردة عن رسول الله r، وما نقل عن عائشة رضي الله عنها من عدم قبولها للصدقة بعد موته r كما تقدم وما اشتهر واستفاض عن آل البيت من عهد رسول الله r وإلى عصرنا هذا وما نقل عن علماء الأمة السابقين واللاحقين ولم يخالف في هذا منهم إلا النادر الشاذ.
الشبهة السادسة: ما تعلّل به بعض ذوي الأهواء من حلّ الزكاة لآل البيت إذا كان أصحابها الذين يؤدونها من أهل الفسوق والعصيان وربما كفروهم بما لا يوجب التكفير، وقد أطال في الرد ّ عليهم الشوكاني رحمه الله في (الفتح الرباني) فقال :" اعلم أن كون من عليه الزكاة مخلا بشيء مما أوجب الله عليه، أو تاركا لفرض من فرائض الإسلام، أو لركن من أركانه لا يوجب تحويل المصرف الذي جعل صرف الزكاة إليه إلى مصرف آخر، ولا يحلل الزكاة لمن حرمها الله عليه؛ فإن الله - سبحانه - قد أوجب على من عصاه بذنب عقوبات معروفات، منها ما هي دنيوية، ومنها ما هي أخروية، فمن مثلا كان متساهلا في الصلاة فالواجب على كل مسلم أن يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويحمله على القيام بما أوجب الله عليه طوعا أو كرها، وليس لمن كان غير مصرف للزكاة كالأغنياء، وبني هاشم أن يقولوا هذا الذي وجبت عليه الزكاة قد خان الله في بعض ما أوجب عليه فتعالوا نقتدي به ونخون الله في بعض ما حرمه علينا، فنأكل زكاة هذا المتساهل في الصلاة، فإن هذا من تشفيع معصية بمعصية، وذنب بذنب، وبلية ببلية.
وما مثل هذا الغني أو الهاشمي الذي أقدم على أكل زكاة من عصى الله بذنب أو ذنوب إلا مثل بعض أعوان سلاطين الدنيا إذا عثر على خيانة للسلطان من بعض الأعوان فخانه مثل تلك الخيانة قائلا: قد سبقه إلى الخيانة فلان فاقتدى به، والكل معصية للسلطان، وخيانة له، وجناية عليه، وهكذا ما نحن بصدده هو خيانة لله، ومعصية له، وتعد لحدوده، فإن زكاة ذلك العاصي قد جعلها الله لمصارف معروفة معينة، فهي حق لهم، وليست بحق للعاصي، فمن أكلها ممن لا تحل له فقد أكل أموال مصارف الزكاة وظلمهم، وجنى عليهم، ولم يأكل مال ذلك العاصي التارك لبعض ما أوجبه الله عليه، فما ذنب هؤلاء المصارف حتى يأكل أموالهم مَن منعَه إليه من أكلها، فإن قال من حرم الله عليه الزكاة: أنه استحل هذه الزكاة عقوبة لمعصية المزكي، فيقال له: هذا باطل من وجوه:
الأول: إن هذه العقوبة بالمال واردة على خلاف الأصول الشرعية، فتُقرّ حيث وردت، وذلك في جزئيات معروفة.
الوجه الثاني: أن المعاقبة بالمال ليست إلى كل فرد من أفراد المسلمين، بل هي إلى أئمة المسلمين، ولو كانت مفوضة لكل فرد لأكل الناس أموال بعضهم البعض بهذه الذريعة، وهتكوا حرمة الأملاك المملوكة بهذه الوسيلة الشيطانية.
الوجه الثالث: أن هذا الذي لا تحل له الزكاة لو فرضنا أن له ولاية تسوغ التأديب بالمال, وفرضنا أن الذي عليه الزكاة قد اقترف ذنبا من الذنوب التي جاءت الشريعة بجواز التأديب فيها بالمال، فغاية ما هناك أن له تأديب العاصي على تلك المعصية بأخذ شيء من ماله، وأما تأديبه بأخذ مال غيره، وهم المصارف الذين جعل الله هذه الزكاة لهم فليس ذلك من هذا الباب، بل من باب الظلم البحت، والطاغوت المتيقن.
فإن قال المستحل لهذه الزكاة: إن صاحبها لما عصى الله بذنب أو ذنوب صارت زكاته غير زكاة شرعية، فيقال له: ليس هذا إليك ولا أمرك الله به، بل الذي أمرك الله به هو أن تأخذ على يد هذا العاصي وتحول بينه وبين معصية الله، وتأمره بالقيام بما أوجب الله عليه وفاء بما أوجبه الله عليك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعمد إلى ما قد قام به مما أوجبه الله عليه فتضعه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه وتصرفه في غير مصرفه الذي صرفه الله إليه، فإن هذا منكر، ومعاونة للشيطان، لأنه أوقعه في بعض الذنوب ففعلها، أو سول له ترك بعض الواجبات فتركها، وأنت عمدت إلى ما قد قام به مما أوجبه الله عليه فوضعته في غير موضعه، فظلمته بوضع زكاته في غير موضعها، وظلمت المصارف وحُلْتَ بينهم وبين ما جعله الله لهم، فكنت عاصيا من جهات:
الأولى: بمخالفة التحريم القطعي.
الثانية: بظلم المزكي.
الثالثة: بظلم المصارف.
فانظر ما صنعت بنفسك، وفي أي هوة وقعت يا مسكين، فإن كنت تظن أن الله إنما حرم عليك أوساخ المؤمنين ولم يحرم عليك أوساخ الفسقة والعصاة المتلوثين بالذنوب، فقد ركبت شططا، وسلكت غلطا.
ولو فرضنا أن هذا الذي أخرج الزكاة قد ارتكب من المعاصي ما يوجب انسلاخه عن الدين بإجماع المسلمين، وصار في عداد المرتدين، فالذي يجب علينا حينئذ أن نعامله معاملة المرتدين في النفس والمال، فنطالبه بالإسلام، فإن قبل فذاك، وإن أبى فالسيف هو الحكم العدل، وهذا هو الذي أوجبه الله علينا وطلبه منا، وليس لنا أن نعمد إلى ما قد أخرجه من ماله باسم الزكاة فنأخذه ونقرره على كفره، ونوهمه أن ذلك الذي أخرجه زكاة، وأنه من المسلمين، فإن هذا الذي أخرجه على فرض أنه ليس بزكاة شرعية هو تمليك منه لمصارف الزكاة، أو إباحة لهم، والتمليك من الكافر والإباحة صحيحان بإجماع المسلمين، فكيف يحل لنا أن نظلمهم بأخذ ما قد استحقوه بالتمليك أو الإباحة، وهذا إنما هو على طريقة التنزل، وإرخاء العنان في المناظرة وإلا فنحن نعلم أن هؤلاء العصاة لو خبطوا بأسواط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقاموا بجميع ما أخلوا به، فضلا عن أن يمدوا أعناقهم للسيف ويصروا على الكفر بعد الاستتابة، بل لو وجدوا من يعلمهم معالم الدين ويبذل نفسه للهداية، ويصبر نفسه معهم، ويقرعهم بالقوارع التي في كتاب الله وسنة رسوله ويرغبهم برغائب الوعد للمطيعين، ويرهبهم بالترهيبات التي رهب الله بها العصاة لما شذ عن الإجابة إلا القليل، لأنهم يثبتون لأنفسهم الإسلام، وينفون عنها الكفر من نسبة ذلك إليهم وينفرون عنه، فليسوا ممن شرح بالكفر صدرا، بل لو قيل لأحدهم إنه كافر لقامت عليه القيامة، وقابل من رماه بذلك بكل حجر ومدر".
ثم قال رحمه الله:"وإذا تبين لك صعوبة مسلك الكفر، وحزونة أسبابه , واشتراط العلم الذي لا يكون شرح الصدر بدونه ولا يتحقق إلا بعد وجوده لاح لك أن أولئك المسئول عن حكم زكاتهم ليسوا إلا من عصاة المسلمين، ولكن معاصيهم مختلفة في كون بعضها أشد من بعض، وكل شيء مما يفعلونه من أسباب الكفر على فرض مباشرتهم لشيء منها ليس من الكفر المتفق عليه، بل من قال إنه سبب يوجب الكفر فهو يشرطه بشروط يبعد كل البعد وجودها في من ينتمي إلى الإسلام، ويدعي أنه من أهله، فإن من خالف قطعيا من قطعيات الشريعة كقطع ميراث بعض من ثبت توريثه بدليل قطعي لا يكفر عند من قال بكفره إلا بعد أن يعلم تلك القطعية، ويصر على مخالفتها، إما استحلالا أو استخفافا. وأين من يعلم قطعية الدليل من هؤلاء البدوان فضلا عن ما وراء ذلك؟!.
فتلخص من هذا أن المزكي من أهل المعاصي يجب صرف زكاته إلى المصارف الشرعية، ولا يحل لأحد ممن لا تحل له أن يتناول شيئا منها. وهكذا من فعل سببا من أسباب الكفر المختلف فيها لا يحل لأحد أن يحكم بكفره إلا بعد قيام البرهان على الكفر، ولا بد بعد قيام البرهان على أن ذلك سبب من أسباب الكفر أن يكون المرتكب له عالما بأنه كفر، شارحا به صدره، مصرا على البقاء عليه غير راجع عنه، وبعد أن يتقرر كفره لا يحل لأحد أن يعمد إلى ما قد أخرجه من ماله وخرج ملكه إلى مصارفه الشرعية، فإن تلك القطعة من ماله قد أخرجها باسم الزكاة لمصارفها، فإذا لم يكن زكاة لمانع فيه كانت إباحة لمصارف الزكاة دون غيرهم، وذلك منه صحيح لا مانع عنه، فمن أخذها فقد ظلم المصارف، لأن الإباحة لهم لا لغيرهم. وقد خرجت عن ملك مالكها.
وعلى فرض أنه يصح الرجوع عن الإباحة فالذي يجوز له الرجوع فيها هو مخرجها لا غيره.
ولا يقدح في ذلك كون الذي أخرجها إنما أخرجها لغرض دنيوي كاعتقاده أنه لا يأتي له ثمرة كاملة في ماله إلا بإخراج الزكاة، فإنه إنما أخرجها هاهنا إلى قوم هم أهلها ومصارفها، لأن ما يعتقده من كمال الثمرة وحصول البركة إنما يكون بالصرف إلى المصارف لا إلى غيرهم, وهذا أعني: التعويل على أنها كالإباحة لقوم معينين إنما هو بعد تسليم الكفر الصراح والردة البحت، وانتفاء الشبهة، وارتفاع حكم الإسلام بالمرة.
وأما مع عدم كذلك فهي زكاة بلا شك ولا شبهة، وإن كان كثير المعاصي مسرفا على نفسه كلية الإسراف.
ثم قال رحمه الله:" وبالجملة فجميع ما قدمنا من الكلام ليس بخاص ببعض من تحرم عليه الزكاة دون بعض، بل هو كلام في كل من تحرم عليه الزكاة.
وقد حاول جماعة من علماء السوء وشياطين المتفيهقين تحليل هذه الصدقة التي تولى الله سبحانه تعيين مصارفها؛ فجعلوا فيها نصيبا لغير من عينه الله بدسائس إبليسية، ووسائل طاغوتية، والكل من التقول على الله بما لم يقل , وحسبنا الله ونعم الوكيل". أهـ.
وقد عاب ــ رحمه الله ـــ على من تكلف التماس المخارج وأرهق فكره بجلب ما ليس بطائل من الشبه والاستدلالات لتبرير أكل الهاشميين للصدقات فقال في (نيل الأوطار):" ولكثرة أكلة الزكاة من آل هاشم في بلاد اليمن خصوصا أرباب الرياسة، قام بعض العلماء منهم في الذب عنهم وتحليل ما حرم الله عليهم مقاما لا يرضاه الله ولا نقاد العلماء، فألف في ذلك رسالة هي في الحقيقة كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وصار يتسلى بها في أرباب النباهة منهم.
وقد يتعلل بعضهم بما قاله البعض منهم: إن أرض اليمن خراجية، وهو لا يشعر أن هذه المقالة مع كونها من أبطل الباطلات ليست مما يجوز التقليد فيه على مقتضى أصولهم ــ فالله المستعان ـــ ما أسرع الناس إلى متابعة الهوى وإن خالف ما هو معلوم من الشريعة المطهرة". أهـ .
وقال رحمه الله في (السيل الجرار) :"وقد تكلم الجلال ــ يعني الحسن بن أحمد الجلال المتوفى 1084هـ ـــ في شرحه ــ يعني (ضوء النهار على صفحات الأزهار) ــــ في هذا الموضع بما يضحك منه تارة ويبكى له أخرى وجمع بين المتردية والنطيحة وما أكل السبع، وبحثه في رسالته التي أشار إليها من جنس كلامه الذي أورده هنا، وكل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع وهو رحمه الله من بني هاشم فلا جرم". أهـ.
وقال رحمه الله في (الفتح الرباني) : "وقد أطال العلامة الجلال في رسالته (المقال)، ولكنه في غير طائل، وهكذا جاء في شرحه للأزهار بطرف من ذلك، والكل منهار، وليس هذا موضع بيان تزييفه.
وقد تعقبه في ذلك من تعقبه من المعاصرين له، فمن بعدهم بما فيه كفاية، مع احتمال تلك المقامات والمقالات التي أدخل نفسه في مضايقها الرد عليه، وتزييف كلامه، وتبيين فساده". أهـ .
قال أبو أيوب عفا الله عنه: قول الشوكاني رحمه الله وقد تعقبه من تعقبه من المعاصرين يريد بذلك الصنعاني رحمه الله إذ تعقب الجلال في (منحة الغفار على ضوء النهار) وفي (حَلّ العقال عما في رسالة الجلال من الاشكال) وله (ذيل حل العقال)، وبالله التوفيق.

من بحثي (تحرير القول في بيان حكم الصدقة على آل الرسول)