تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: قاعدة: البقاء أسهل من الابتداء وتطبيقاتها الفقهية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي قاعدة: البقاء أسهل من الابتداء وتطبيقاتها الفقهية




    د. عبدالعزيز بن عبدالرحمن المشعل
    أ

    المبحث الثالث: تأصيل قاعدة: "البقاء أسهل من الابتداء" (صلتها بأصول الفقه وقواعد التشريع


    وفيه خمسة مطالب:
    المطلب الأول: صلتها بالاستصحاب.
    المطلب الثاني: صلتها بمراعاة المآل، والمصالح والمفاسد.
    المطلب الثالث: صلتها بسد الذرائع.
    المطلب الرابع: صلتها بمراعاة الخلاف.
    المطلب الخامس: صلتها بالواقع والحس والمشاهدة والتجربة.
    المبحث الثالث : تأصيل قاعدة: البقاء أسهل من الابتداء (صلتها بأصول الفقه وقواعد التشريع)

    إذا أردنا تأصيل هذه القاعدة وبيان علاقتها بأصول الفقه قواعد التشريع وردها إلى هذه الأصول والقواعد يتبين لنا علاقتها الوثيقة بعدد من هذه الأصول والقواعد، وبيان ذلك على النحو الآتي:

    المطلب الأول: صلتها بالاستصحاب:

    من المعلوم أن الاستصحاب أصل من أصول الفقه، وترجع إليه قواعد أصولية وفقهية لا تحصى، وهذه القاعدة التي بين أيدينا وهي قاعدة البقاء أسهل من الابتداء أو أقوى من الابتداء من جملة هذه القواعد التي ترد إلى الاستصحاب، ووجه ذلك أن من معاني الاستصحاب وتطبيقاته الاستبقاء والتقرير لما كان على ما كان عليه، ومراعاة مقتضى الحال، اعتباراً للمصالح المرجوة من بقائه، والمفاسد المتوقع حدوثها عند إرادة تغييره ورفعه.
    يقول ابن القيم: (وأضعاف أضعاف ذلك من الأحكام التي يفرق فيها بين الابتداء والدوام، فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها، وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه.

    وأيضًا: فهو مستصحب بالأصل... والمستدام تابع لأصله الثابت).[1].

    فأشار رحمه الله إلى أن مستند هذه القاعدة استصحاب الحكم الثابت المستقر بسبب قوة الدوام .

    المطلب الثاني: صلتها بمراعاة المآل والمصالح والمفاسد:

    أشار الشاطبي رحمه الله إلى ارتباط هذه القاعدة بمراعاة المآل والنظر فيما يترتب على الدفع أو الرفع من مفاسد هي أشد ضررًا من مقتضى النهي عن التصرف، فقاعدة المنع أسهل من الرفع تحقق مقاصد الشرع في العدل والرفق بالخلق، والتيسير عليهم.

    يقول الشاطبي في إيضاح ذلك: (وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت فلا يكون إيقاعها من المكلف سببًا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر وغيرها، كالغصب مثلاً إذا وقع فإن المغصوب منه لابد أن يوفى حقه، لكن لا على وجه يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف...)[2] .ثم قال بعد ذلك: (إذا ثبت هذا فمن واقع منهياً عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائدًا على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة، أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي، فيترك وما فعل من ذلك، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل، نظرًا إلى أن ذلك الواقع واقع المكلف فيه دليلاً على الجملة، وإن كان مرجوحاً فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي، فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع، لما اقترن من القرائن المرجحة).[3].

    ثم ضرب الشاطبي أمثلة كثيرة على ذلك ومنها:

    1 – حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم وهو ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدد في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض).[4].

    2 – حديث ترك قتل المنافقين حيث قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لمن أشار عليه بذلك: "دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"[5].

    حيث إن موجب القتل حاصل وهو الكفر بعد الإسلام، والسعي في إفساد حال المسلمين؛ فكانوا بذلك أضر على الإسلام من المشركين فقتلهم درء لمفسدة حياتهم، ولكن المآل الآخر وهو هذه التهمة تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام، وهي أشد ضرراً على الإسلام من بقائهم.
    3 – ولعل من أوضح الأمثلة على القاعدة التي نتكلم عنها حديث البائل في المسجد وهو ما أخرجه البخاري عن أنس قال: (إن أعرابيًا بال في المسجد فقاموا إليه فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "لا تزرموه ثم دعا بدلو من ماء فصُب عليه"[6].

    ووجه الاستدلال به هنا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بتركه حتى يتم بوله، لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه، ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه، فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد[7].
    ثم قال الشاطبي بعد عرض عدد من الأمثلة التطبيقية لذلك في بعض الأحكام الشرعية كإجراء النكاح الفاسد مجرى الصحيح فيما يترتب عليه ... وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقص والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد"[8].

    المطلب الثالث: صلتها بسد الذرائع:

    من القواعد المعتبرة في الشريعة سد الذرائع حيث إن العمل قد يكون مشروعاً بأصله لكن ينهى عنه لما قد يؤول إليه من المفسدة، أو قد يكون ممنوعاً لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وشواهد ذلك في أدلة الشرع، وفتاوى الأئمة المعتبرين كثيرة وظاهرة.
    يقول الشاطبي موضحاً ذلك: "حيث يكون العمل في الأصل مشروعاً لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعاً لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها؛ فإن غالبا تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع.

    والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها ؛ فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع"[9]. ثم بين الشاطبي بعد ذلك أن هذا الأصل الذي ذكره يبني عليه قواعد كثيرة منها قاعدة الذرائع .
    ولعل معظم التطبيقات الفقهية لهذه القاعدة التي بين أيدينا تناسب ما كان ممنوعاً في الأصل ثم يحصل إيقاعه من المكلف عن جهل ونحوه فيكون القول بفساد المعاملة أو التصرف في هذه الحالة مفضياً إلى مفاسد عظيمة أعظم من تركه وإبقائه على ما هو عليه فتقتضي هذه القاعدة تحكيم الأمر الواقع، ويبقى جهد العلماء فيما بعد ذلك منصبًا على التوعية وتوجيه الناس إلى تحريم هذه المعاملة أو هذا التصرف وهذا أسهل وأيسر كثيرًا من رفع الشيء بعد وقوعه وترتب عدد من الآثار عليه، ولذلك يكون منعه قبل الوقوع أسهل وأيسر من رفعه بعد الوقوع، والله أعلم.

    المطلب الرابع: صلتها بمراعاة الخلاف:
    لعل لهذه القاعدة صلة واضحة بمسألة مراعاة الخلاف، وهو أن المسائل المختلف فيها بين العلماء قد يراعى فيها قول المخالف، وإن كان على خلاف الراجح، فليست المسائل المتفق عليها كالمختلف فيها.

    يقول الشاطبي موضحاً ذلك: "ألا تراهم يقولون – ويعني أصحابه المالكية -: كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث، ويفتقر في فسخه إلى الطلاق؛ وإذا دخل مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسياً تكبيرة الإحرام فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول من قال:إن تكبيرة الركوع تجزئ من تكبيرة الإحرام.. ومثله جار في عقود البيع وغيرها، فلا يعاملون الفاسد المختلف في فساده معاملة المتفق على فساده، ويعللون التفرقة بالخلاف فأنت تراهم يعتبرون الخلاف"[10].

    وبالتأمل فيما ذكره الشاطبي وغيره في هذا المقام نجد أن أساس التفرقة عندهم هو اختلاف مآل المسألة قبل وقوعها عن حالها بعد الوقوع وما يترتب على الوقوع عادة من أمور جديدة تستدعي نظراً جديداً، وتنشأ إشكالات لا يحصل الانفكاك عنها إلا بالبناء على الأمر الواقع بالفعل، واعتباره شرعياً بالنظر إلى قول المخالف،وإن كان مرجوحاً في أصل النظر وقبل وقوع المسألة.
    يقول الشاطبي: "وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء، ويكون هو الراجح، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحاً؛ لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف،فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر، فالأول فيما بعد الوقوع والآخر فيما قبله، وهما مسألتان مختلفتان، فليس جمعاً بين متنافيين ولا قولاً بهما معاً"[11].

    وما ذكره الشاطبي في هذا المقام يمكن أن يخرج عليه كثير من المسائل التي ذكرها العلماء من تطبيقات قاعدة الاستدامة أقوى من الابتداء أو المنع أسهل من الرفع كما يعبر بعضهم ، ومن هذه المسائل ما أشار إليه الشاطبي نفسه فيما نقلناه عنه سابقاً من أمثلة عملية تطبيقية[12] ، وسيأتي لبعضها مزيد إيضاح عند الحديث عن التطبيقات الفقهية للقاعدة[13].

    المطلب الخامس: صلتها بالواقع والحس والتجربة والمشاهدة:
    إن لهذه القاعدة المنع أسهل أو أولى من الرفع صلة قوية بالواقع حيث يشهد لها ويؤيد صحتها، ومن ذلك أن مما جرى كالمثل عند العرب قولهم: "إياك وما يعتذر منه" ومعنى هذا المثل أن الشخص ينبغي أن يفكر في الكلمة أو التصرف قبل الإقدام عليه؛ لأنه يسهل عليه جداً الامتناع عن ذلك، لكن إذا تفوه بالكلام، أو أقدم على التصرف ثم حصل منه الندم أو التراجع فإن ذلك يكلفه كثيراً من العناء النفسي، وطلب رضا الطرف الآخر، وتقديم الاعتذار إليه، وقد لا ينفع ذلك أحياناً.
    وممن جرى على ما يفهم من هذه القاعدة: قولهم: "فكر في الصعود قبل النزول" أو "في الخروج قبل الدخول" ونحو ذلك.
    وفي نظري أن المثل المتداول: "الوقاية خير من العلاج" ونحوه لا ينأى كثيرًا عن هذه القاعدة التي بين أيدينا فكم يسهل منع حصول المرض باتباع طرق الوقاية منه بإذن الله وكم يصعب رفعه إذا وقع وما يستدعيه ذلك من الآثار، بل قد تصعب السيطرة عليه وينتشر في الناس إلى أن يكون وباء والعياذ بالله.

    وما أشرت إليه يتوافق تماماً مع قاعدة المنع أسهل أو أولى من الرفع لكنه أيضاً لا يختلف عما يفهم من قاعدة: يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء لكونها متفرعة عنها فبما أن الرفع شاق وصعب جاءت قاعدة يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء حيث يغض الطرف لصعوبة المنع بعد الوقوع، وهذا في الأحكام الشرعية كما سيأتي، وفي غيرها أيضاً كما هو حال الواقع والحس والمشاهدة والتجربة.
    ولو أردنا أن نسترسل في ذكر الشواهد والأدلة لضاق بنا المقام ولكن حسبنا الإشارة إلى شيء من ذلك وقد تقدم ما يكفي إن شاء الله.

    وخلاصة القول:
    أن هذه القاعدة المعمول بها في المذاهب الأربعة كلها مبنية على التيسير ورفع الحرج في الأحكام التي يتلبس المكلفون بها عن جهل ونحوه ثم يعسر الانتزاع منها؛ لأن الشيء بعد بنائه واستدامته يكتسب نوعاً من القوة والثبات بحيث لا يسهل انتزاعه ورفعه، ومن هنا يكون استبقاؤه وتركه على حال أهون وأيسر، ومن القواعد الشرعية المقررة: التيسير ورفع الحرج.


    ويحسن التنبيه هنا إلى أمر مهم وهو أن هذه القاعدة لا ينبغي أن تتخذ وسيلة للإقدام على المناهي الشرعية بقصد فرضها أمراً واقعاً ومن ثم يصعب التخلص منه، فيجب التفريق بين حكم المسألة ابتداء وحكمها دواماً، فمن يعلم بحرمة أمر ثم يقدم عليه فإنه يأثم بهذا الفعل لاقترافه محظوراً شرعياً، لكن يبقى النظر في حكم العبادة أو المعاملة بعد ذلك خاضعاً لنوع المانع من صحتها هل هو من قبيل ما يمنع الابتداء والدوام؟ أو لا؟ فإن كان من النوع الأول فلا كلام لنا فيه هنا.

    وإن كان من النوع الثاني فإن تصحيح العبادة أو المعاملة لا يعني عدم مؤاخذة من أقدم على فعلها على وجه منهي عنه، والله أعلم .

    المبحث الرابع: منزلة قاعدة: "البقاء أسهل من الابتداء" في الفقه، وتطبيقاتها الفقهية

    وفيه مطلبان:

    المطلب الأول: منزلة هذه القاعدة في الفقه.

    المطلب الثاني: تطبيقاتها الفقهية.

    المبحث الرابع

    منزلة قاعدة: "البقاء أسهل من الابتداء" في الفقه، وتطبيقاتها الفقهية

    المطلب الأول: منزلة هذه القاعدة في الفقه:

    ذكر ابن السبكي عند تناوله لهذه القاعدة ما يدل على عظيم منزلتها وأهميتها وكثرة مسائلها في التطبيقات الفقهية العملية.

    يقول ابن السبكي: "لأن للدوام والقوة ما ليس للابتداء، وهذه قاعدة في الفقه عظيمة، كثرت مسائلها، ومن أراد الإحاطة بفروعها فعليه بكتابنا الأشباه والنظائر أتمه الله"[14].

    وبالرجوع إلى الكتاب المذكور تبين أن الفروع الفقهية التي ذكرها تحت هذه القاعدة كثيرة جداً[15].

    كما سبقه إلى ذكر هذه الفروع وغيرها العلامة ابن القيم الذي ذكر ما يصل إلى عشرين فرعاً فقهياً لهذه القاعدة التي عبر عنها غالباً بأن البقاء أو الاستدامة أقوى من الابتداء، فكثيراً ما يكون هناك موانع في الشريعة تمنع الابتداء ولا تمنع البقاء والدوام لقوته، ومقاومته للمنع أو الرفع، فيكون البقاء أسهل من الابتداء أي أن الحكم بالبقاء أسهل من الحكم بالشيء ابتداء"[16].

    وإن الناظر في كتب الفقه والقواعد الفقهية في المذاهب الأربعة يجدها زاخرة بالفروع الفقهية الكثيرة التي كان لهذه القاعدة أثر فيها، مما يدل على أن هذه القاعدة معمول بها في الجملة، وإن حصل هناك خلاف في بعض الفروع الفقهية فإنه خلاف جزئي، لا أثر له على اعتبار هذه القاعدة والعمل بها .

    وسأذكر فيما يأتي عدداً من التطبيقات الفقهية لهذه القاعدة مرتبة حسب أبواب الفقه، مع مراعاة تنوع النقل عن المذاهب المختلفة .

    المطلب الثاني: تطبيقاتها الفقهية:

    أولاً: تطبيقاتها في العبادات:

    1 - أن الذهول عن نية العبادة ينافي ابتداءها دون استدامتها[17].

    2 – أن الماء المستعمل في الطهارة، إذا بلغ قلتين بعد الاستعمال فهل يعود طهوراً؟ فيه خلاف؛ لكن لو استعمل القلتين ابتداء لم يصر مستعملاً بلا خلاف، ذكر ذلك السيوطي وغيره، وعلل ذلك قائلاً: "والفرق أن الكثرة في الابتداء دافعة، وفي الأثناء رافعة، والدفع أقوى من الرفع"[18] ومعنى ذلك: أن الكثرة الطارئة على الماء بعد الاستعمال لا تؤثر فلا يعود طهورًا.

    3 – أن الحدث يمنع ابتداء المسح على الخفين، ولا يمنع استدامة ذلك إذا لبس الخفين على طهارة ثم أحدث بعد ذلك[19].

    4 – أن المتيمم إذا رأى الماء قبل الصلاة لم يتيمم، وإذا رأى الماء في أثناء الصلاة أتمها، فتكون رؤية الماء قبل الصلاة مانعة من التيمم أما رؤيته في أثنائها فهي غير مانعة، لأن البقاء أسهل من الابتداء[20].

    5 – أن حصول الغنى ينافي جواز الأخذ من الزكاة ابتداء، ولا ينافيه دواماً، ذكر ذلك ابن القيم[21].

    6 – أن السفر قبل الشروع في الصيام يبيح الفطر ويمنع وجوب الصوم، وإذا سافر في أثناء يوم من رمضان ففيه خلاف، وهناك من يرى أن ذلك لا يمنع وجوب الصوم عليه[22].

    7 – أن القدرة على التكفير بالمال بوجدان الرقبة في كفارتي الظهار والقتل تمنع التكفير بالصوم ابتداء، ولا تمنع ذلك دواماً[23].

    8 – أن الإحرام ينافي ابتداء النكاح والطيب دون استدامتها[24].

    9 – أن القدرة على هدي التمتع والقران تمنع الانتقال إلى الصوم ابتداء، لا دواماً[25].

    10 – أن نكاح المحرم لا يصح، وتصح رجعته تنزيلاً لها منزلة الدوام[26].

    11 – أن الرجل يملك منع زوجته من حج النذر والنفل، فإن شرعت فيه بدون إذنه، فليس له منعها بعد الشروع والمباشرة؛ لأن الملابسة بالشروع لها اعتبار في نظر الشرع؛ حيث يصير النفل واجباً، وهذا مردود إلى هذه القاعدة[27].

    ثانيًا: تطبيقاتها في المعاملات:

    ذكر الفقهاء عدة تطبيقات لقاعدة البقاء أسهل من الابتداء في مجال المعاملات المالية حيث يمكن اغتفار اختلال بعض شروط العقود في حال استمرارها بعد وجودها في حين أن مثل ذلك لا يغتفر وقت انعقادها، ومن ذلك ما يأتي:

    1- أن البائع يملك الامتناع من تسليم المبيع إلى المشتري حتى يقبض ثمنه، فإن سلمه قبل ذلك لم يملك استرجاعه ومنع المشتري من التصرف فيه والحجر عليه ذكر ذلك ابن رجب نقلاً عن صاحب المغني[28].

    2-أن ابتداء المضاربة أو القراض على العروض لا يصح، ولو فسخ والمال عروض ثم عقد المالك لذلك العامل القراض عليها صح، بخلاف الابتداء، ذكر ذلك الزركشي من الشافعية[29].

    3- أن عقد الإجارة يشترط لصحته أن يكون العين المؤجرة متميزة لا حصة مشاعة، ولكن الفقهاء اغتفروا الشيوع الطارئ دون المقارن للعقد، لأن الطارئ تكون في حال استمرار العقد وبقائه[30].

    4- أنه لا تجوز إجارة العين المغصوبة لمن لا يقدر على تخليصها، ولو غصبها بعد العقد من لا يقدر المستأجر على تخليصها منه لم تنفسخ الإجارة، ويخير المستأجر بين فسخ العقد وإمضائه، ذكر ذلك ابن القيم[31].

    5-أن الوكيل بالبيع لا يملك حق التوكيل به ابتداءً، لكنه يملك إجازة بيع الفضولي، ذكر ذلك ابن نجيم وغيره[32].

    يقول ابن نجيم: "وقريب من هذا الجنس من لا تجوز إجازته ابتداء، وتجوز انتهاء... ومنه: أن الوكيل بالبيع لا يملك التوكيل به، ويملك إجازة بيع بائعه فضولي، والمعنى فيه أنه إذا أجاز يحيط علمه بما أتى به خليفته، ووكيل الوكيل كذلك، فتكون إجازته في الانتهاء عن بصيرة بخلاف الإجازة في الابتداء"[33].

    ثالثًا: تطبيقات القاعدة في فقه الأسرة:

    علل كثير من الفقهاء عند كلامهم على بعض المسائل المتعلقة بالنكاح بهذه القاعدة كثيراً، واستعملوها في توجيه التفريق بين حكم الشيء ابتداء وحكمه انتهاء ومن هذا القبيل ما يأتي:

    1- أن اختلاف الدين يمنع ابتداء النكاح، ولا يرفعه في الأثناء فإذا ارتدت المرأة عن دين الإسلام فيجوز الإبقاء عليها زوجة، رغم أنه لا يجوز العقد عليها وهي كافرة ابتداء[34].

    2- أن العدة تنافي ابتداء النكاح ولا تنافي بقاءه واستمراره إذا طرأت في أثنائه؛ فإن الموطوءة بشبهة ونحوها تعتد وهي باقية على الزوجية[35].

    3- أن توقيت النكاح مانع من ابتدائه، ولا يمنع من دوامه وبقائه، فإذا قال أنت طالق غداً أو بعد شهر صح ذلك عند بعض الفقهاء[36].

    4- أن زوال خوف العنت ينافي ابتداء عقد النكاح على الأمة دون استدامته، فإذا وجد الطول بعد ذلك لم ينفسخ نكاح الأمة[37].

    5- أن المرأة تملك منع نفسها حتى تقبض صداقها، فإن سلمت نفسها ابتداء قبل قبض الصداق فهل تملك الامتناع بعد ذلك حتى تقبضه؟ فيه خلاف، ومن يرى أنها لا تملك ذلك فإنه يعلل بهذه القاعدة[38].

    6-أن المرأة إذا أنكحت نفسها بغير إذن وليها فحكمه المنع عند الجمهور[39]، ولكن إذا وقع هذا النكاح ودخل الزوج بزوجته فإن بعض الفقهاء يرون أنه لا يعامل في آثاره بالمنع؛ لما يؤول إليه من مفاسد بتعطيل الميراث والنسب[40].

    7- أن فقد الكفاءة في النكاح ينافي لزومه ابتداء، لكن لا يمنع صحته دواماً لاعتبار هذه القاعدة [41].

    8- ما ذكره الزركشي نقلاً عن القاضي حسين أنه قال: "قال أصحابنا: كل امرأة جاز له ابتداء نكاحها في الإسلام، جاز للمسلم إمساكها بعقد مضى في الشرك"[42].

    رابعًا: تطبيقاتها في مسائل الجهاد:

    من تطبيقات هذه القاعدة في مسائل الجهاد ما يأتي:

    1- أنه ليس للشخص الخروج إلى الجهاد دون إذن والديه، ولو فعل ذلك كان عاقًا مخالفًا لأمر الله، ولكن إذا انغمس في القتال، والتقى الصفان، فليس له الرجوع حينئذ وإن لم يستأذن في الخروج؛ ذكر ذلك إمام الحرمين الجويني[43].

    2-أنه لو حضر القتال شخص لا يستطيع المشاركة فيه كالمعضوب أو الزمِّن أو الأعمى فإنه لا يسهم لهم، لكن لو حضر أحد منهم صحيحاً ثم عرض له شيء من ذلك في الحرب لم يسقط حقه في السهم، ذكر ذلك الزركشي[44].

    3- أن عقد الذمة لا يعقد مع تهمة الخيانة، لكن لو حصل اتهامهم بعد العقد لم ينبذ عهدهم؛ بخلاف الهدنة فإنه ينبذ فيها العقد بالتهمة[45].

    4- أن أهل الذمة يمنعون من ابتداء إحداث كنيسة ونحوها في دار الإسلام، ولا يمنعون من استدامتها، وإبقائها، إذا دخل ذلك في عهدهم[46].

    خامسًا: من تطبيقاتها المعاصرة:

    لعل من التطبيقات المعاصرة لهذه القاعدة وما يتصل بها من قواعد ما يأتي:

    1- من التطبيقات المعاصرة لقاعدة "المنع أسهل من الرفع" أنه قد يكون من السهل الميسور على أهل الحسبة أن يدفعوا أنواعًا من الشر والفساد عن الناس قبل أن تعم وتنتشر، حيث يتعذر عليهم بعد ذلك رفعها ومنع وقوعها، مما يستدعي أحيانًا ضرورة مسايرة الواقع شيئًا فشيئاً، والإنكار التدريجي خشية من وقوع مفاسد أعظم، وهذا منهج حكيم في سياسة إصلاح الواقع يفرق به بين ما بابه الدفع من القضايا، وما بابه الرفع، كما يفرقون بين معاني النهي والترهيب من المنكرات قبل وقوعها، ومعاني الحكمة والتقريب في تغييرها بعد شيوعها.

    2- لعل من التطبيقات المعاصرة لقاعدة: "المنع أسهل من الرفع" أيضًا ما تقوم به الدول والمنظمات والهيئات الطبية لتفادي انتشار الأوبئة والأمراض من نشر الوعي الصحي بين الناس بخطورتها، واتخاذ كافة الوسائل والتدابير التي تحول بإذن الله دون انتشارها وتحولها إلى وباء يهلك الحرث والنسل، وكما يقال في المثل: درهم وقاية خير من قنطار علاج، وذلك لأن بذل الأسباب لمنعها وانتشارها أسهل من فعل ذلك بعد استفحالها وانتشارها بين الناس.

    3- لعل من تطبيقات هذه القاعدة الحكم باستمرار انعقاد المجالس واللجان المحكومة بحضور عدد معين من أعضائها كالنصف أو الثلثين، وذلك إذا حصل نقص يسير عن هذا العدد في أثنائها لعارض حيث يفتقر في البقاء ما لا يفتقر في الابتداء أو نقول: إن البقاء أسهل من الابتداء في حين أنه لو نقص العدد المشترط في بداية الجلسة لما عدت منعقدة نظاماً.

    4- يمكن أن يخرج على قاعدة "المنع أسهل من الرفع" المثل العربي المشهور: "رب كلمة قالت لصاحبها: دعني" وما في معناه من الأمثال الأخرى كقولهم: "إياك وما يعتذر منه" فإنه بإمكان الشخص أن يدفع عن نفسه كثيراً من الشرور إذا فكر في مآل ما سينطق به من كلامه، ومدى تأثيره على السامعين، فقد يكون غنيا عن سماع ما لا يليق من السب والشتم أو الرد عليه بما هو كوقع السهام عليه، مما يضطره بعد ذلك إلى الاعتذار، أو الدخول في لجاج وخصومة لا تنتهي، وكان مبدأ ذلك كلمة لم يحسب لها المتكلم بها أي حساب، وهذا كثير في الواقع.

    خاتمة البحث

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد،،،

    فقد وقف بنا هذا البحث على عدد من النتائج ومنها ما يأتي:

    1- أن قاعدة البقاء أسهل من الابتداء من القواعد المهمة في الفقه ولها أثر في العديد من المسائل الفقهية المبنية عليها.

    2- أن هذه القاعدة قد نشأت من خلال حديث الفقهاء والأصوليين عن الموانع الشرعية، وعلى ذلك بنى من تحدث عنها وأفردها فيما بعد بلفظ خاص بها.

    3- أن لهذه القاعدة ألفاظا وصيغاً متعددة حيث عبر عنها كثيرون بقولهم: البقاء أسهل من الابتداء وعبر آخرون عن هذا المعنى بصيغ أخرى كقولهم: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.

    وقولهم: الاستدامة أقوى من الابتداء أو الدوام أقوى من الابتداء كما عبر بعضهم عن هذا المعنى بقولهم المنع أو الدفع أسهل من الرفع وقد تبين من خلال البحث أن هذه الصيغ وإن اختلفت في اللفظ إلا أنها متفقة على المعنى المراد في هذا المقام، وقد عالج المبحث الثاني من هذا البحث القواعد ذات الصلة بالقاعدة الأم ومدى علاقتها بهذه القواعد.

    4- تطرق البحث إلى قاعدة مهمة ذات علاقة وثيقة بالقاعدة محل البحث وهي قاعدة يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في ا لدوام وهي عكسها، إلا أنه تبين من خلال البحث أن تطبيقات القاعدة محل البحث أكثر وأوسع من تطبيقات عكسها، إذ أن القاعدة الأخيرة هي بمثابة الاستثناء من القاعدة محل البحث، فلا غرو أن يكون أن المستثنى أقل من المستثنى منه.

    5- تبين أن لهذه القاعدة تطبيقات فقهية لا حصر لها في العبادات والمعاملات وفقه الأسرة بل ولها تطبيقات معاصرة ذكرنا طرفاً منها في المبحث الأخير.

    وفي ختام هذا البحث المتواضع أسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    المصدر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة

    المراجع:







    [1] إعلام الموقعين 2/357 .




    [2] الموافقات 4/202-203 .




    [3] الموافقات 4/203-204 .




    [4] أخرجه البخاري بهذا اللفظ في الصحيح – كتاب الحج – باب فضل مكة وبنيانها 3/439 برقم 1584 كما أخرجه مسلم عنها أيضاً في كتاب الحج – باب نقض الكعبة وبنائها 2/968-969 برقم 1333.




    [5] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في كتاب البر والصلة والآداب باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً 4/1999 برقم: 2584.




    [6] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب – باب الرفق في الأمر كله 10/449 برقم 6025 وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول 1/236 برقم 284.




    [7] الموافقات 4/204 .




    [8] الموافقات 4/205 .




    [9] الموافقات 4/198 .




    [10] الموافقات 4/150 .




    [11] الموافقات 4/151-152 .




    [12] انظر: ص 29 من هذا البحث.




    [13] انظر: ص34 من هذا البحث وما بعدها.




    [14] الإبهاج 3/153 .




    [15] المصدر السابق الصفحة نفسها .




    [16] إعلام الموقعين2/356-357 وانظر: 2/434-435.




    [17] إعلام الموقعين 2/357 .




    [18] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/310.




    [19] إعلام الموقعين 2/357، الأشباه والنظائر للسيوطي 1/310 .




    [20] قواعد الأحكام 2/88، الأشباه والنظائر لابن الوكيل 2/301، إعلام الموقعين 2/357.




    [21] إعلام الموقعين 2/357 .




    [22] القواعد لابن رجب ص300-301 .




    [23] قواعد الأحكام 2/88، إعلام الموقعين 2/357، القواعد لابن رجب ص301 .




    [24] إعلام الموقعين 2/357 .




    [25] المصدر السابق الصفحة نفسها.




    [26] الأشباه والنظائر لابن الوكيل 2/297، الإبهاج 3/153، المنثور 3/374 .




    [27] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/310 .




    [28] القواعد لابن رجب ص301، وانظر: المغني لابن قدامة 6/287-288 .




    [29] المنثور 3/347 .




    [30] شرح المجلة للأتاسي المادة 55، المدخل الفقهي للزرقا ص1017 .




    [31] إعلام الموقعين 2/357 .




    [32] الأشباه والنظائر لابن نجيم ص122، شرح المجلة للأتاسي مادة 55.




    [33] الأشباه والنظائر لابن نجيم ص122 .




    [34] إعلام الموقعين 2/375، الإبهاج 3/153، القواعد لابن رجب ص301 .




    [35] قواعد الأحكام 2/88، إعلام الموقعين 2/375، الإبهاج 3/153 .




    [36] قواعد الأحكام 2/88، الأشباه والنظائر لابن الوكيل 2/302 ، الإبهاج 3/153 .




    [37] قواعد الأحكام 2/88، أعلام الموقعين 2/357، الإبهاج 3/153 .




    [38] القواعد لابن رجب ص301 .




    [39] المغني لابن قدامة 9/345 .




    [40] انظر: المغني 9/346-347 .




    [41] إعلام الموقعين 2/357 .




    [42] المنثور 3/374 .




    [43] الغياثي لإمام الحرمين الجويني ص360 ت: د. عبدالعظيم الديب.




    [44] المنثور 3/374 .





    [45] الأشباه والنظائر لابن الوكيل تحقيق د/ عادل الشويخ 2/296، المنثور للزركشي 3/374.




    [46] مجموع الفتاوى 21/312-313، إعلام الموقعين 2/357.














    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    16,352

    افتراضي

    د. عبدالعزيز بن عبدالرحمن المشعل*
    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

    فإن قواعد الفقه هي الوسيلة التي يتحقق بها ضبط فروعه وجزئياته، وتخريجها على أصولها، وقد أدرك الفقهاء الأوائل هذا المعنى فاعتنوا بها أيما عناية، بل اعتبرها بعضهم أصلاً ثانياً من أصول الشريعة .
    يقول القرافي: "فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله منارها شرفاً وعلواً اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:
    أحدهما: المسمى أصول الفقه ... والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة، كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، ... وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف"[1].
    وقال أيضاً: "ومن ضبط الفقه بقواعده، استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب"[2].
    ولا يخفى ما لهذه القواعد الفقهية من فوائد عديدة ومن أهمها:
    1- تكوين الملكة الفقهية لدى طالب العلم، وهذا يساعد على تنمية تلمس الحكم الشرعي لديه في كثير من المسائل الفقهية.
    2- جمع الجزئيات والفروع الفقهية المتناثرة، وضبطها في لفظ محكم.
    3- إدراك مقاصد الشريعة وحكمها من خلال معرفة وجه الربط بين الفروع المختلفة المندرجة تحت هذه القاعدة أو تلك، فقاعدة: "الضرر يزال" يفهم منها أن رفع الضرر مقصد من مقاصد الشريعة .
    وأخيراً أختم بكلام نفيس ذكره ابن رجب في مقدمة كتابه القواعد مبيناً فيه هذه الفوائد حيث يقول: "فهذه قواعد مهمة، وفوائد جمة، تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه على مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيد له الشوارد وتقرب عليه كل متباعد"[3].

    ولا يخفى على من له أدنى نظر وتأمل في القواعد الفقهية كثرة هذه القواعد، وتنوعها، وتعدد ألفاظ القاعدة الواحدة بحيث يعبر عنها بأكثر من لفظ مع التقارب الواضح في المعنى والمدلول، والتطبيق الفقهي على الفروع، ولعل من بين هذه القواعد التي تعددت ألفاظها وكثرت إلى درجة قد توهم أحياناً بأن هناك فرقاً بينها في المعنى قاعدة البقاء أسهل من الابتداء التي يعبر عنها أحياناً بـيغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء وتارة يعبر عنها بقولهم الاستدامة أقوى من الابتداء وتارة أخرى بقولهم: المنع أسهل من الرفع إلى غير ذلك من العبارات .
    وقد بني على هذه القواعد فروع فقهية كثيرة جداً، فأحببت أن أميط اللثام في هذا البحث عما بين هذه القواعد المختلفة لفظاً من العلاقة في المعنى والمضمون والتطبيق الفقهي، ومن ثم استعنت بالله تعالى ورأيت أن يكون عنوان هذا البحث قاعدة: البقاء أسهل من الابتداء، وتطبيقاتها الفقهية.
    خطة البحث:
    وضعت خطة للكتابة في هذا البحث قوامها مقدمة، وتمهيد، وأربعة مباحث وخاتمة.
    أما المقدمة فتشتمل على ما يأتي:
    1 – الافتتاحية وذكر موضوع البحث.
    2 – أهمية الموضوع وأسباب اختياره.
    3 – الدراسات السابقة.
    4 – خطة البحث.
    5 – منهج البحث.
    وأما التمهيد فهو في نشأة هذه القاعدة والقواعد ذات الصلة في الفقه .
    المبحث الأول: ألفاظ قاعدة البقاء أسهل من الابتداء في كلام العلماء.
    وفيه مطالب:
    المطلب الأول: ألفاظ القاعدة في المذهب الحنفي.
    المطلب الثاني: ألفاظ القاعدة في المذهب المالكي.
    المطلب الثالث: ألفاظ القاعدة في المذهب الشافعي.
    المطلب الرابع: ألفاظ القاعدة في المذهب الحنبلي.
    المبحث الثاني: القواعد ذات الصلة بقاعدة: "البقاء أسهل من الابتداء".
    وفيه ثلاثة مطالب:
    المطلب الأول: قاعدة "المنع أو الدفع أسهل أو أولى من الرفع".
    المطلب الثاني: قاعدة "المانع الطارئ هل هو كالمقارن؟".
    المطلب الثالث: قاعدة "يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام".
    المبحث الثالث: تأصيل قاعدة: البقاء أسهل من الابتداء صلتها بأصول الفقه وقواعد التشريع.
    وفيه خمسة مطالب:
    المطلب الأول: صلتها بالاستصحاب.
    المطلب الثاني: صلتها بمراعاة المآل والمصالح والمفاسد.
    المطلب الثالث: صلتها بسد الذرائع.
    المطلب الرابع: صلتها بمراعاة الخلاف.
    المطلب الخامس: صلتها بالواقع والحس والمشاهدة والتجربة.
    المبحث الرابع: منزلة قاعدة البقاء أسهل من الابتداء في الفقه وتطبيقاتها الفقهية.
    وفيه مطلبان:
    المطلب الأول: منزلة هذه القاعدة في الفقه .
    المطلب الثاني: تطبيقاتها الفقهية .
    خاتمة البحث: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
    منهجي في البحث:
    1 - سلكت في إعداد هذا البحث المنهج الاستقرائي الوصفي التحليلي في جمع المادة العلمية المتعلقة به ودراستها.
    2 - قمت بجمع كلام العلماء حول قاعدة البقاء أسهل من الابتداء والقواعد ذات الصلة بها وتوثيق ذلك توثيقاً علمياً أساسه الاستقراء لمظان وجودها في كتب الفقه والقواعد الفقهية.
    3 - اعتنيت بتحرير اللفظ الذي عبر به كل من تطرق إلى هذه القاعدة مع الموازنة بينه وبين ما عبر به غيره موضحاً من خلال ذلك مدى تأثر علماء كل مذهب بعضهم ببعض وبناء المتأخر منهم على ما ذكره المتقدم، ومراحل تكوين هذه القاعدة وتبلورها في كلام العلماء.
    4 - عنيت بذكر التطبيقات الفقهية لهذه القاعدة وما يتصل بها من قواعد من خلال ذكر عدد من الفروع الفقهية المبنية على هذه القواعد، موضحاً وجه بنائها عند من يرى ذلك من الفقهاء.
    5 - ذكرت جملة من التطبيقات المعاصرة لهذه القاعدة، حيث إنها من القواعد التي تلامس واقع حياة الناس.
    وبعد، فهذه هي الطريقة التي سلكتها في تناول هذا الموضوع على ضوء الخطة التي رسمتها له، وأسأل الله تعالى أن أكون قد تمكنت من تحقيق بعض مقاصد الكتابة فيه فإن كان ذلك فهو المطلوب ولله وحده النعمة والفضل، وإن كانت الأخرى فهو حهد بشر معرض للنقص فالكمال لله وحده سبحانه وتعالى.
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    تمهيد في نشأة قاعدة البقاء أسهل من الابتداء والقواعد ذات الصلة:
    إن المتأمل في نشأة هذه القاعدة يدرك علاقة ذلك بحديث الفقهاء والأصوليين عن الموانع الشرعية لصحة العبادات والمعاملات من حيث النظر إلى الفرق بين حال العبادة أو المعاملة قبل إيقاعها، وحالها بعد الإيقاع والمباشرة.
    ولعل أقدم من أشار إلى ذلك فيما اطلعت عليه – هو السرخسي من الحنفية ت490هـ عندما ذكر جملة من المسائل الفقهية التي يفرق فيها بين الابتداء والبقاء مثل مسألة: موانع صحة النكاح ثم قال معللاً لذلك: "لأن اعتبار البقاء بالابتداء في أصول الشرع ضعيف جداً؛ فإن قيام العدة وعدم الشهود يمنع ابتداء النكاح، ولا يمنع البقاء"[4].
    وبالتأمل فيما ذكره السرخسي نجد أنه قد ربط الحديث عن موضوع هذه القاعدة بالموانع الشرعية وأن منها ما يمنع ابتداء وانتهاء، ومنها ما يمنع ابتداء فقط، ثم جاء العز ابن عبدالسلام ت660هـ فقسم الموانع الشرعية بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:
    القسم الأول: ما يمنع الصحة ابتداء ودواماً، ومن أمثلته: الكفر، فإنه يمنع ابتداء العبادة ودوامها، وكذلك الردة فإنها تمنع صحة النكاح ابتداءً ودواماً إن وقعت قبل الدخول، وإن وقعت بعد الدخول ودامت حتى انقضت العدة فإنها تقطع الدوام[5].
    القسم الثاني: ما يمنع الابتداء ولا يمنع الدوام، وهذا هو الموافق للفظ القاعدة التي نتناولها في هذا البحث، وقد مثل له العز بن عبدالسلام بأمثلة كثيرة منها:
    المثال الأول: الإحرام، فإنه يمنع ابتداء النكاح، ولا يمنع الدوام.
    المثال الثاني: العدة، تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع الدوام.
    المثال الثالث: وجود الطول، يمنع ابتداء نكاح الأمة ولا يمنع الدوام.
    المثال الرابع: أمن العنت، يمنع الابتداء في نكاح الأمة ولا يمنع الدوام[6].
    أما القرافي ت684هـ فيذهب إلى أن الموانع الشرعية ثلاثة أقسام في نظره وهي:
    القسم الأول: ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره، ومثل له بالرضاع يمنع ابتداء حكم النكاح واستمراره إذا طرأ عليه، وذلك كأن يعقد على بنت في المهد فترضعها أمه فتصير أخته من الرضاع فتحرم عليه[7].
    القسم الثاني: ما يمنع ابتداءه فقط دون استمراره ومثل له بالاستبراء؛ فإنه يمنع ابتداء النكاح ولا يبطل استمراره إذا طرأ عليه، وذلك أن المستبرأة كالمعتدة لا يجوز العقد عليها صوناً لماء الغير عن الاختلاط، فإذا غصبت امرأة متزوجة، أو زنت اختياراً، أو وطئت بشبهة فإنها تستبرأ من هذا الماء ليتبين هل منه ولد فيلحق بالغير في وطء الشبهة، أو يلاعن منه في الزنا، ومع ذلك فإن النكاح لا يبطل بهذا الاستبراء، فقد قوي الاستبراء على منع المبادي، وما قوي على قطع التمادي، كما ذكر ذلك القرافي[8].
    القسم الثالث: المختلف فيه هل يلحق بالأول أو بالثاني، ومثل له بالإحرام بالنسبة إلى وضع اليد على الصيد، فالمحرم لا يحل له أن يضع يده على الصيد، فالإحرام يمنع من ذلك، ولكن إذا أحرم والصيد عنده فهل يجب عليه إطلاقه؟ فيه خلاف.
    كما مثل لهذا القسم أيضاً بالطول فإنه يمنع من نكاح الأمة ابتداء، فإن طرأ عليه بأن نكح أمة ثم وجد طول الحرة فهل يبطل نكاحه؟
    ثم ذكر مثالاً ثالثاً، وهو وجود الماء فإنه يمنع من التيمم ابتداءً فإذا طرأ بعد ذلك فهل يبطل التيمم؟ فيه خلاف[9].
    وفي نظري أن ما جعله القرافي قسماً ثالثاً هو بعينه ما ذكره العز ابن عبدالسلام في القسم الثاني إلا أن القرافي نظر إلى ما حصل فيه اتفاق على إعمال هذه القاعدة فجعله في القسم الثاني ، وما جرى فيه خلاف جعله في القسم الثالث.
    أما ما جرى عليه العز بن عبدالسلام فهو النظر إلى ما اختلف فيه حكم الدوام عن حكم الابتداء على أنه قسم واحد بغض النظر عما جرى فيه من الخلاف بين الفقهاء .
    ولعل ما ذهب إليه القرافي مبني على تجريد النظر إلى الخلاف والوفاق عند المالكية، حيث جاء المقري من المالكية ت758هـ فذكر كلام القرافي مختصراً[10]، إلا أنه يفهم من سياق كلامه أن التقسيم الذي ذكره القرافي إنما هو بالنظر إلى الخلاف والوفاق في المذهب المالكي حيث أشار إلى ذلك عند ذكر القسم الثالث وإن لم يصرح بهذا التقسيم فقال: "واختلف المالكية فيمن وجد الطول، والماء بعد التيمم، والإحرام بعد الصيد أهي من الأول أم من الثاني؟"[11].
    أما البيضاوي ت684هـ فقد تكلم عن هذه الموانع بإيجاز شديد حيث قال: "الرابعة: الشيء يدفع الحكم كالعدة، أو يرفعه كالطلاق، أو يدفع ويرفع كالرضاع"[12].
    وظاهر كلامه أن القسم الأول وهي ما يدفع الحكم كالعدة فإنه لا يرفعه، وما يرفعه كالطلاق لا يمنعه أما الثالث فظاهر.
    وفسر ابن السبكي ت771هـ كلام البيضاوي السابق وجعله في الوصف المجعول علة وأنه يكون على ثلاثة أقسام:
    الأول: أن يكون دافعاً للحكم وليس رافعاً، كالعدة فإنها دافعة لحل النكاح، إذا وجدت في ابتداء النكاح، وليست رافعة له إذا وجدت في أثنائه، فإن الموطوءة بشبهة ونحوها تعتد وهي باقية على الزوجية.
    الثاني: أن يكون رافعاً للحكم فقط وليس دافعاً كالطلاق فإنه يرفع حل الاستمتاع، ولكن لا يدفعه، إذ الطلاق لا يمنع وقوع نكاح جديد.
    الثالث: أن يكون دافعاً ورافعاً، كالرضاع فإنه يمنع من ابتداء النكاح ومن دوامه إذا طرأ، وكذا اللعان إذا طرأ قطع ومنع الابتداء وحرم على التأبيد[13].
    ثم قال: "وأقسام هذا النوع كثيرة أعني كون الشيء يمنع من الدوام والابتداء"[14].
    أما القسم الأول وهو محل بحثنا في هذه القاعدة فقال عنه ابن السبكي: "لأن للدوام من القوة ما ليس للابتداء، وهذه قاعدة في الفقه عظيمة كثرت مسائلها"[15].
    ولعل الجديد في تقسيم البيضاوي وبعده ابن السبكي هذا أنهما ذكرا قسماً لم يتعرض له السابقون وهو ما يرفع الدوام دون الابتداء، وهذا عكس القاعدة التي نتكلم عنها وسنفرد ذلك في مبحث مستقل[16] مخصصه للحديث عن القواعد ذات الصلة ومنها قاعدة: يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام وهي قاعدة ترتب عليها عدد من التطبيقات الفقهية.
    ومما تقدم يظهر لنا بجلاء أن قاعدة: البقاء أسهل من الابتداء والقواعد ذات الصلة مبنية على تقسيم الموانع الشرعية.
    ولعل أول من صاغ ذلك على هيئة قاعدة هو المقري من المالكية ت758هـ حيث يقول في القاعدة الحادية والثلاثين بعد المئة: "قاعدة: الموانع منها ما يعتبر في الابتداء والدوام... وفي الابتداء فقط ... واختلف المالكية فيمن وجد الطول، والماء بعد التيمم، والإحرام بعد الصيد أهي من الأول أم من الثاني؟"[17].
    ويلحظ الربط الواضح بين صياغة هذه القاعدة ومسألة الموانع الشرعية حيث إن هذه القاعدة قد بنيت على تقسيم هذه الموانع إلى الأقسام التي ذكرها من قبله من المالكية وغيرهم كما سبقت الإشارة إليه.
    وتابع السيوطي ت911هـ المقري في ذلك فصاغ قاعدة في أشباهه مماثلة لما ذكره المقري إلا أنه أوردها بشكل محكم مختصر كما هو الشأن في القواعد فقال: "القاعدة العشرون: المانع الطارئ هل هو كالمقارن؟"[18].
    ثم ختم حديثه عن هذه القاعدة قائلاً: "خاتمة: يعبر عن أحد شقي هذه القاعدة بقاعدة: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، ولهم قاعدة عكس هذه وهي: يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام"[19].
    ولعله يقصد بأحد شقي القاعدة أن المانع الطارئ ليس كالمقارن.
    وفي ضوء ما تقدم يتضح لنا وجه بناء هذه القاعدة محل البحث وما يرد إليها من القواعد الأخرى على مسألة: الموانع الشرعية، ولعل هذا يقتضي الحديث عن المانع نفسه وذكر تعريفه لغة، واصطلاحاً.
    أما تعريفه لغة فإن مادة الكلمة مكونة من ثلاثة حروف أصول هي الميم والنون والعين منع، وهي تدل على معنى واحد، وهو خلاف الإعطاء[20].
    وأما تعريفه اصطلاحاً فقد تعددت عبارات العلماء في ذلك، ومن أقرب ما قيل في تعريفه أنه ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته"[21].
    وعرفه بعض المتأخرين بأنه وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده عدم السبب أو الحكم"[22].
    المبحث الأول: ألفاظ قاعدة البقاء أسهل من الابتداء في كلام العلماء
    وفيه أربعة مطالب:
    المطلب الأول: ألفاظ القاعدة في المذهب الحنفي .
    المطلب الثاني: ألفاظ القاعدة في المذهب المالكي .
    المطلب الثالث: ألفاظ القاعدة في المذهب الشافعي .
    المطلب الرابع: ألفاظ القاعدة في المذهب الحنبلي .
    المبحث الأول: ألفاظ القاعدة في كلام العلماء
    إن المتأمل لما كتبه العلماء حول هذه القاعدة يجد أن المتقدمين منهم قد تناولوها في ثنايا كلامهم دون أن يصوغو لها لفظاً محدداً، وسنتناول هنا ألفاظ القاعدة من كلام العلماء في كل مذهب من المذاهب الأربعة على حدة .
    المطلب الأول: ألفاظ القاعدة في المذهب الحنفي:
    لعل أول من تطرق إلى هذه القاعدة هو أبو زيد الدبوسي ت430هـ في تأسيس النظر حيث يقول: "الأصل عند محمد أن البقاء على الشيء يجوز أن يعطى له حكم الابتداء، وعند أبي يوسف لا يعطى له حكم الابتداء في بعض المواضع"[23]ثم ذكر بعض الفروع الفقهية الموضحة لذلك.
    ثم جاء السرخسي ت490هـ فزاد ذلك إيضاحاً في تعليله التفريق بين ما يمنع البقاء والابتداء وما يمنع الابتداء فقط دون البقاء حيث يقول: "لأن اعتبار البقاء بالابتداء في نصوص الشرع ضعيف جداً، فإن قيام العدة وعدم الشهود يمنع ابتداء النكاح، ولا يمنع البقاء، والاستغناء عن نكاح الأمة بنكاح الحرة يمنع نكاحها ابتداء ولا يمنع البقاء، إذا تزوج الحرة بعد الأمة"[24].
    كما أكثر السرخسي من ذكر هذه القاعدة والتعليل بها في كثير من الفروع الفقهية المبنية عليها وذلك في كتابه المبسوط .
    يقول معللاً إحدى المسائل في باب الحدث: "لأن البقاء على الشيء أيسر من الابتداء"[25].
    ويقول في موضع آخر: "لأنه لما لم يتناف الإحرامان ابتداء لا يتنافيان بقاء، بل البقاء أسهل من الابتداء"[26].
    كما علل بها في مسألة أخرى في الشروط قائلاً: "إن بقاء الشيء أهون من ابتدائه"[27].
    ثم جاء الكاساني ت587هـ من الحنفية وتابع السرخسي في ذلك وعلل بهذه القاعدة في كثير من الفروع الفقهية، ومنها على سبيل المثال ما ذكره عند كلامه عن مسألة بيع السيف المحلى بفضة أو نحوه بفضة، أو الجارية التي على عنقها طوق فضة بفضة مفردة قال: "ينظر إن كانت الفضة المجموعة مع غيرها يمكن فصلها وتخليصها من غير ضرر كالجارية مع الطوق وغير ذلك فالبيع جائز، وفساد الصرف لا يتعدى إلى البيع؛ لأنه إذا أمكن تخليصها من غير ضرر جاز؛ لأنهما شيئان منفصلان؛ ولهذا جاز بيع أحدهما دون الآخر ابتداء فلأن يبقى جائزاً انتهاء أولى؛ لأن البقاء أسهل من الابتداء"[28].
    كما نقل عن أبي يوسف كلاماً حول تأصيل هذه القاعدة وبناء الأحكام عليها فقال: "وروي عن أبي يوسف أن الشيوع الطارئ على العقد لا يمنع بقاء العقد على الصحة، صورته: إذا رهن شيئاً وسلط المرتهن أو العدل على بيعه كيف شاء مجتمعاً أو متفرقاً فباع نصفه شائعاً أو استحق بعض الرهن شائعاً.
    وجه رواية أبي يوسف: أن حال البقاء لا يقاس على حال الابتداء؛ لأن البقاء أسهل من حكم الابتداء، لهذا فرق الشرع بين الطارئ والمقارن في كثير من الأحكام كالعدة الطارئة، والإباق الطارئ، ونحو ذلك فكون الحيازة شرطاً في ابتداء العقد لا يدل على كونها شرط البقاء على الصحة"[29].
    ويظهر من خلال تعليله لرأي أبي يوسف في المسألة ووجه روايته التعليل بهذه القاعدة العامة وهي أن حال البقاء ليس كحال الابتداء وهو ما أشار إليه الدبوسي فيما نقله من التقعيد عن أبي يوسف في ذلك، ومثله ما أشار إليه السرخسي أيضاً فيما سبق نقله عنهما.
    كما ذكر ابن نجيم ت970هـ هذه القاعدة بلفظ "البقاء أسهل من الابتداء"[30]ولعله أول من صرح بكونها قاعدة من الحنفية .
    أما من سبقه فلم يصرحوا بذلك وإنما عللوا بها ما ذكروه من مسائل مبنية عليها، وهذا ظاهر جداً في اعتبارهم لها.
    وقد أخذت مجلة الأحكام العدلية هذا اللفظ بنصه في المادة السادسة والخمسين حيث ورد فيها في المادة 56 "البقاء أسهل من الابتداء"[31].
    كما ذكرت بلفظ آخر في القاعدة التي قبلها حيث وردت في المادة 55 بلفظ "يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء"[32].
    ومما سبق تبين أنه لا داعي لذكرهما معاً بل كان يكتفي بالمادة 56 أو دمج المادتين معاً بأن تكون الأولى منهما تفسيراً للثانية وتوضيحاً لها، ولذلك عمد بعض شراح المجلة إلى التصرف في الترتيب وقدم الأخيرة على الأولى؛ لأنها الأصل[33].
    المطلب الثاني: ألفاظ القاعدة في المذهب المالكي:
    تطرق القرافي ت684هـ من المالكية إلى هذه القاعدة عند حديثه عن أقسام الموانع الشرعية، فقال: الموانع الشرعية على ثلاثة أقسام: منها ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره، ومنها ما يمنع ابتداءه فقط، ومنها ما اختلف فيه هل يلحق بالأمر الأول أو بالثاني؟
    فالأول: كالرضاع يمنع ابتداء حكم النكاح واستمراره إذا طرأ عليه.
    والثاني : كالاستبراء يمنع ابتداء النكاح ولا يبطل استمراره إذا طرأ عليه.
    والثالث: كالإحرام بالنسبة إلى وضع اليد على الصيد فإنه يمنع من وضع اليد على الصيد ابتداء، فإن طرأ على الصيد فهل تجب إزالة اليد عنه؟ فيه خلاف بين العلماء.
    وكالطول يمنع من نكاح الأمة ابتداء فإن طرأ عليه فهل يبطله؟ خلاف"[34].
    ويلحظ أن القرافي أفرد بعض المسائل المختلف في كون المانع فيها يمنع استمرار الحكم كما منع ابتداءه في قسم خاص بينما لم يفعل السابقون ذلك، ولعله نظر إلى الخلاف في المذهب المالكي نفسه بدليل أن بعض من سبقه كالسرخسي ذكر مسألة الطول ولم يذكر فيها خلافاً .
    أما المقري من المالكية ت758هـ فقد تعرض لذكر مضمون هذه القاعدة في ثلاثة مواضع من كتابه القواعد: الأول: في القاعدة السادسة والخمسين حيث يقول: "قاعدة: اختلف المالكية في التمادي على الشيء هل يكون كابتدائه في الحكم أو لا؟ ... واعلم أن هذا التشبيه وهو قولنا: الدوام كالابتداء أو لا ؟ لا يفيد العكس وهو قولنا: الابتداء هل هو كالدوام أو لا ؟"[35].
    أما الموضع الثاني فهو عند كلامه عن القاعدة التي تليها وهي القاعدة السابعة والخمسون حيث قال: "قاعدة: اختلف العقلاء في افتقار حال بقاء الحادث إلى السبب كحال حدوثه، فإن قلنا بافتقاره فوجوده ملزوم لوجود سببه أبداً، فدوامه كابتدائه، وإلا فهو الآن مستغن، وقد كان مفتقراً، فلا يكون الآن على ما كان، فهذا أصل هذه القاعدة عندي.
    قال ابن العربي: وهي أصل تبنى عليه في الشريعة أحكام في الطهارة والأيمان وغيرهما، واختلف فيه قول مالك وأصحابه"[36].
    أما الموضع الثالث فهو عند حديثه عن أقسام الموانع التي ذكرها القرافي قبله إلا أن المقري أورد ذلك على هيئة قاعدة فقال: "القاعدة الحادية والثلاثون بعد المئة: قاعدة: الموانع منها ما يعتبر في الابتداء والدوام... وفي الابتداء فقط... واختلف المالكية فيمن وجد الطول والماء بعد التيمم والإحرام بعد الصيد أهي من الأول أم من الثاني؟"[37].
    ومما تقدم نقله عن المقري يتبين لنا أنه أول من ساق ذلك ضمن القواعد وعبر عنه بلفظ قاعدة كذا، أما من سبقه من العلماء من المالكية وغيرهم فلم يصرح أحد منهم فيما اطلعت عليه بلفظ القاعدة عند حديثه عن ذلك .
    المطلب الثالث ألفاظ القاعدة في المذهب الشافعي:
    تناول العز بن عبدالسلام ت660هـ جملة من التطبيقات الفقهية العائدة إلى هذه القاعدة، ولم يصغ لها عبارة محددة ولم يسقها مساق القواعد، وذلك عند حديثه عن أقسام الموانع وأن منها ما يمنع الصحة في الابتداء والدوام كالكفر مثلاً، فإنه مانع من ابتداء العبادة ودوامها، ومنها ما يمنع الابتداء ولا يمنع الدوام، وذكر جملة من الأمثلة على هذا القسم .
    يقول في هذا الشأن: "القسم الثاني: ما يمنع الابتداء، ولا يمنع الدوام، وله أمثلة: أحدها: الإحرام فإنه يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع الدوام.
    المثال الثاني: العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع الدوام[38]ثم ذكر جملة من الأمثلة الأخرى[39].
    وبعد العز بن عبدالسلام جاء ابن الوكيل ت716هـ فصاغ هذا المعنى الذي أشار إليه العز في قاعدة من قواعده في الأشباه والنظائر فقال: "قاعدة: يحتمل في الدوام ما لا يحتمل في الابتداء، وقد يحتمل في الابتداء ما لا يحتمل في الدوام"[40].
    كما عبر عنها ابن السبكي ت771هـ بلفظ قريب من ذلك إلا أنه جعلها من فروع قاعدة: الدفع أسهل من الرفع حيث يقول: "قاعدة: الدفع أسهل من الرفع، ومن فروعها: المسائل التي يغتفر فيها في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء"[41].
    وبنحو ذلك عبر الزركشي ت 794هـ فقال: "يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء"[42].
    وبما تقدم نقله يتبين لنا أن ابن الوكيل هو أول من صاغ لفظاً لهذه القاعدة التي بين أيدينا من الشافعية ثم تتابع على ذلك من جاء بعده من الشافعية وغيرهم.
    المطلب الرابع: ألفاظ ا لقاعدة في المذهب الحنبلي:
    تبلورت هذه القاعدة في كلام العلماء بعد ذلك حيث جاء شيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ بصياغة لفظ لها في تعليله لبعض التطبيقات الفقهية السابقة وغيرها فعبر عنها في موضع بقوله "والاستدامة أقوى من الابتداء"[43].
    كما عبر عنها في مواضع أخرى بقوله: "الدوام أقوى من الابتداء"[44].
    يقول شيخ الإسلام: "والدوام أقوى من الابتداء؛ فالعدة والردة والإحرام تمنع ابتداءه – أي النكاح – دون دوامه"[45].
    وقال في موضع آخر عند حديثه عن حكم بناء الحمامات: "وعلى هذا فقد يقال: نحن إنما نكره بناءها ابتداء، فأما إذا بناها غيرنا فلا نأمر بهدمها؛ لما في ذلك من الفساد، وكلام أحمد المتقدم إنما هو في البناء لا في الإبقاء، والاستدامة أقوى من الابتداء، ولهذا كان الإحرام والعدة يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع دوامه"[46].
    ثم جاء تلميذه العلامة ابن القيم ت 751هـ فبين أن أحكام الدوام لا تؤخذ من أحكام الابتداء، وأحكام الابتداء لا تؤخذ من أحكام الدوام في عامة مسائل الشريعة، ثم ضرب أمثلة كثيرة على ذلك ومنها، أن الإحرام ينافي ابتداء النكاح والطيب دون استدامتهما، والنكاح ينافي قيام العدة والردة دون استدامتهما، والحدث ينافي ابتداء المسح على الخفين دون استدامته...[47]إلى أن قال: "وأضعاف أضعاف ذلك من الأحاكم التي يفرق فيها بين الابتداء والدوام، فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها"[48].
    وقال أيضاً: "قال الموقعون عند الأجل – والكلام في مسألة تعليق الطلاق بوقت يجيء لا محالة كرأس السنة والشهر – لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء؛ فإن الشريعة فرقت بينهما في مواضع كثيرة، فإن ابتداء النكاح في الإحرام فاسد، دون دوامه، وابتداء عقده على المعتدة فاسد، دون دوامه"[49].
    وقال في موضع آخر: "وأين أحكام الابتداء من الدوام؟ وقد فرق النص والإجماع والقياس بينهما"[50].
    وبالتأمل في كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم يتبين لنا أنهما قد حاولا صياغة هذه القاعدة في لفظ موجز دون تصريح بأنها قاعدة كذا، وذلك لأنهما لم يتناولا ذلك في كتاب خاص بالقواعد الفقهية إلا أن الذي يظهر بجلاء أنهم أول من أسهم في تحرير لفظها، والتعليل بها حيث يتبين لنا في مثل قول شيخ الإسلام: الاستدامة أقوى من الابتداء وقوله: الدوام أقوى من الابتداء؛ وهذا تصريح بالتعليل بالقاعدة.
    ثم جاء بعد ذلك ابن رجب الحنبلي ت795هـ فظهر تأثره بمن سبقه من علماء الشافعية كابن السبكي وغيره فقال: "القاعدة الرابعة والثلاثون بعد المئة: المنع أسهل من الرفع"[51]ومثل لهذه القاعدة بأمثلة كثيرة جداً ومنها تلك الأمثلة التي ذكرها كل من عبر عن هذه القاعدة بلفظ: الاستدامة أقوى من الابتداء ونحوه[52]إلا أنه يلحظ أن ابن رجب استبدل كلمة الدفع التي عبر بها ابن السبكي بكلمة المنع ، ومؤدى الكلمتين واحد؛ لأن الدفع والمنع بمعنى واحد هنا، فالقصد أن دفع الشيء أو منع وقوعه أولى وهو أيسر بكثير من الرفع، وهو تغيير الشيء بعد وقوعه فعلاً؛ إذ يحتاج من القوة ما لا يحتاج إليه في حالة المنع قبل الوقوع، وهذا شيء ظاهر وملموس ومحسوس سواء كان ذلك في الأمور الحسية المشاهدة، أو في الأحكام الشرعية أيضاً.
    المبحث الثاني: القواعد ذات الصلة بقاعدة: "البقاء أسهل من الابتداء"
    وفيه ثلاثة مطالب:
    المطلب الأول: قاعدة: "المنع أو الدفع أسهل من الرفع".
    المطلب الثاني: قاعدة: "المانع الطارئ هل هو كالمقارن؟".
    المطلب الثالث: قاعدة: "يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام".
    المبحث الثاني : القواعد ذات الصلة بقاعدة "البقاء أسهل من الابتداء"
    المطلب الأول: قاعدة: المنع أو الدفع أسهل أو أولى من الرفع:
    من أهم القواعد ذات الصلة بهذه القاعدة التي بين أيدينا قاعدة المنع أو الدفع أسهل من الرفع التي عبر بها غير واحد من العلماء عند حديثهم عن التطبيقات الفقهية للقاعدة محل بحثنا.
    ولعل أول من عبر عن هذه القاعدة بهذا اللفظ فيما اطلعت عليه هو ابن القيم ت751هـ فيما سبق نقله عنه عندما تحدث عن قاعدة البقاء أسهل من الابتداء حيث علل لها بأن الدافع أسهل من الرافع[53].
    كما عبر بذلك أيضاً المقري من المالكية ت758هـ حيث يقول: "قاعدة: الدفع أولى من الرفع، إياك وما يعتذر منه"[54]، كما عبر ابن السبكي من الشافعية بنحو ذلك أيضاً[55].
    وكذلك فعل ابن رجب الحنبلي ت795هـ حيث صاغها بقوله: "قاعدة: المنع أسهل من الرفع"[56]، ووردت بنحو ذلك عند كل من الزركشي[57]، والسيوطي[58]، ومن جاء بعد ذلك[59].
    علاقة قاعدة: البقاء أسهل من الابتداء بقاعدة: المنع أسهل من الرفع:
    تعد قاعدة البقاء أسهل من الابتداء أو الاستدامة أقوى من الابتداء أو يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء ونحوها من العبارات المؤدية للغرض، يعد ذلك كله فرعاً من فروع قاعدة عظيمة وهي قاعدة: "الدفع أسهل من الرفع"؛ وأول من أشار إلى ذلك فيما اطلعت عليه ابن السبكي من الشافعية حيث يقول: "قاعدة: الدفع أسهل من الرفع.
    ومن فروعها: المسائل التي يغتفر فيها في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء فإنا ندفعه ابتداء، ولا ترفعه دواماً؛ لصعوبة الرفع"[60].
    كما أن العلامة ابن القيم قد ذكر في ثنايا كلامه ما يشير إلى ذلك حيث ذكر جملة من الفروع الفقهية التي يفرق فيها بين الابتداء والدوام ثم قال معقباً على ذلك "وأضعاف أضعاف ذلك من الأحكام التي يفرق فيها بين الابتداء والدوام، فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها؛ وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه .. وأيضاً: فالدافع أسهل من الرافع"[61].حيث علل لصحة قاعدة الاستدامة أقوى من الابتداء بالقاعدة الأم وهي: الدافع أسهل من الرافع.
    كما أورد ابن القيم هذا المعنى بعبارة أخرى تفيد المعنى نفسه فقال: "قالوا: فالكفارة أقوى من الاستثناء ؛ لأنها ترفع حكم اليمين، والاستثناء يمنع عقدها، والرافع أقوى من المانع"[62].
    كما قرن الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقا بين القاعدتين عند حديثه عن ذلك فقال: "القاعدة الرابعة عشرة: البقاء أسهل من الابتداء، كما أن الدفع أسهل من الرفع .
    وعلى هذا يمكن أن يغتفر اختلال بعض شرائط العقود في حال استمرارها بعد وجودها، ولا يغتفر ذلك في حال انعقادها"[63].
    بل أشار صراحة إلى أن قاعدة "يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء" متفرعة عنها فقال: "ويتجلى ذلك في أمثلة القاعدة التالية المتفرعة منها: "يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء وذلك ؛ لأن البقاء أسهل كما أفادته القاعدة السابقة"[64]. كما ذكر ذلك بعض الباحثين المعاصرين[65].
    ومع كل ما تقدم نقله نجد أن كلاً من الزركشي والسيوطي من الشافعية قد أفردا كل واحداة من القاعدتين عن الأخرى وتناولا كلاً منهما بمعزل عن صاحبتها مما يشعر بأنهما قاعدتان لا قاعدة واحدة، فقد تناول الزركشي هذه القاعدة عند حديثه عن القواعد المندرجة تحت حرف الدال فقال: "الدفع أقوى من الرفع"[66]ثم تناول الأخرى في آخر كتابه عند حديثه عن القواعد الموجودة تحت حرف الباء فقال: "يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء"[67].
    وكذلك فعل السيوطي أيضاً فتناول القاعدة باللفظ الأول في القاعدة الثالثة عشرة وعبر عنها بقوله: "الدفع أقوى من الرفع[68].
    كما تناولها باللفظ الثاني في القاعدة العشرين وهي المانع الطارئ هل هو كالمقارن؟ حيث ذكر في خاتمة بعد هذه القاعدة ما نصه: "يعبر عن أحد شقي هذه القاعدة بقاعدة: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء"[69].
    ولعله يقصد بأحد شقي القاعدة تلك المسائل التي يكون المانع الطارئ فيها ليس كالمقارن بل يختلف حكمه، وهو المقصود بقول بعضهم يمنع ابتداء ولا يمنع انتهاء، أو البقاء أسهل من الابتداء.
    ومما يلحظ أن كلاً من الزركشي والسيوطي قد عبر بلفظ "الدفع أقوى من الرفع" وهذا خلاف ما عبر به من قبلهما من الشافعية وغيرهم الذين آثروا التعبير بقولهم "أسهل" أو "أولى" بدلاً من أقوى ويرى بعض الباحثين أن هذه المغايرة في الصياغة لا أثر لها على المعنى والمدلول فلا فرق بين التعبير بلفظ "أسهل" أو "أقوى" وذلك لأن المآل واحد، حيث إن الشيء بعد بقائه واستدامته يكون قوياً بحيث لا يسهل انتزاعه ورفعه، ومن هنا يكون استبقاؤه على ما هو عليه أيسر وأهون، فإن قوة البقاء والدوام تقتضي التيسير والتخفيف في بعض الأحكام[70].
    إلا أنه يمكن أن يناقش ذلك بأن هذا التوجيه لا يظهر فيه معنى التعبير بلفظ أقوى وإنما يظهر فيه معنى التعبير بلفظ "أولى" أو "أسهل" وما ذكر في القاعدة عند الزركشي والسيوطي معناه: أن الدفع أقوى من الرفع فكيف يكون ذلك إذا كان البقاء هو الأقوى؟ الذي يظهر لي أن سر التعبير بلفظ أقوى، هو أن من عبر بذلك نظر إلى موقف الدافع في هذه الصور، فإنه أقوى من موقف الرافع الذي يريد التغيير، ومن هنا عبر بعضهم بأن الدفع أقوى من الرفع يفسر ذلك أن بعضهم قد أضاف ذلك إلى الدافع نفسه فقال: الدافع أسهل من الرافع[71]والله أعلم .
    المطلب الثاني: قاعدة: "المانع الطارئ هل هو كالمقارن؟":
    هذا اللفظ ذكره السيوطي كما سبق التنبيه على ذلك فقال: "القاعدة العشرون: المانع الطارئ هل هو كالمقارن؟[72]، وقال إن فيه خلافاً، وذكر جملة من المسائل المبنية على ذلك وأن منها ما يجزم فيه بأن الطارئ كالمقارن[73].
    ثم أشار إلى العلاقة بين هذه القاعدة والقاعدة التي بين أيدينا فقال إنه يعبر عن أحد شقيها، وهو أن الطارئ ليس كالمقارن بقاعدة "يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء".
    كما تقدم أن أول من حاول صياغة قاعدة من هذا المعنى هو المقري من المالكية إلا أنه أطال في لفظها، ومزجها بالفروع الفقهية مما أخرجها عن طبيعة القاعدة من حيث الإيجاز في اللفظ والجزالة في المعنى فقال: "قاعدة: الموانع منها ما يعتبر في الابتداء والدوم... وفي الابتداء فقط ... واختلف المالكية فيمن وجد الطول والماء بعد التيمم ... أهي من الأول أم من الثاني؟"[74].
    المطلب الثالث: قاعدة: "يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام":
    من القواعد ذات الصلة الوثيقة بالقاعدة محل البحث عكس هذه القاعدة، وهي الأمور التي يغتفر فيها في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام، وقد أشار إلى هذه القاعدة ضمناً عدد من العلماء الذين ذكروا أقسام الموانع الشرعية، حيث ذكروا منها ما يمنع الدوام دون الابتداء، وقد نبه على ذلك غير واحد كالسرخسي[75]، والكاساني[76]، وابن القيم[77]، وغيرهم[78].
    ولعل أول من صرح بذلك في هيئة قاعدة هو ابن الوكيل حيث جمع القاعدتين في لفظ واحد فقال: "قاعدة: يحتمل في الدوام ما لا يحتمل في الابتداء، وقد يحتمل في الابتداء ما لا يحتمل في الدوام"[79].
    ثم جاء ابن السبكي وأشار إلى عكس هذه القاعدة قائلاً: "ويتعرج هذا إلى أنه قد يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام عكس القاعدة الأولى"[80].
    كما ذكر الزركشي هذه القاعدة فقال: "يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام"[81].
    كما أشار إلى ذلك ابن نجيم في موضعين من كتابه الأشباه حيث يقول في الأول: "طفرت بمسألتين يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في البقاء، عكس القاعدة المشهورة.
    الأول: يصح تقليد الفاسق القضاء ابتداء، ولو كان عدلاً ابتداء ففسق انعزل عن بعض المشايخ، وذكر ابن الكمال أن الفتوى عليه.
    الثانية: "لو آبق المأذون انحجر، ولو أذن للآبق صح، كما في قضاء المعراج، وقيده قاضي خان بما في يده"[82].
    وذكر ذلك في موضع آخر بعد ذلك فقال: "البقاء أسهل من الابتداء إلا في مسألتين"[83]وذكر المسألتين السابقتين.
    أما السيوطي فقد أشار إلى ذلك بقوله: "ولهم قاعدة عكس هذه، وهي: يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام"[84].
    وقد ذكر معظم هؤلاء مسائل فقهية مبنية على عكس هذه القاعدة، وهي كما يقول ابن السبكي معدودة غير عديدة بمعنى أنها لا تصل من حيث الكثرة إلى المسائل المبنية على القاعدة الأم محل البحث[85].
    كما أن كلام ابن نجيم المتقدم يوضح أن عكس هذه القاعدة إنما هو بمثابة الاستثناء من القاعدة الأولى.
    *الأستاذ المشارك بقسم أصول الفقه بكلية الشريعة بالرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
    المصدر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة
    المراجع:



    [1] الفروق للقرافي 1/2.

    [2] المصدر السابق 1/3.

    [3] القواعد لابن رجب ص3 .

    [4] أصول السرخسي 2/256 .

    [5] قواعد الأحكام 2/263-264 .

    [6] المصدر السابق 2/264 .

    [7] شرح تنقيح الفصول للقرافي ص84 .

    [8] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

    [9] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

    [10] القواعد للمقري 2/380-381 .

    [11] القواعد للمقري 2/381 .

    [12] المنهاج بشرحه الإبهاج 3/153 .

    [13] الإبهاج 3/153 .

    [14] المصدر السابق 3/153 .

    [15] المصدر السابق 3/153 .

    [16] انظر: المطلب الثالث من المبحث الثاني من هذا البحث.

    [17] القواعد للمقري 2/380 .

    [18] الأشباه والنظائر 1/388 .

    [19] المصدر السابق 1/389 .

    [20] معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة منع.

    [21] انظر: الفروق للقرافي 1/62، شرح مختصر الروضة للطوفي 1/436، شرح الكوكب المنير 1/456 .

    [22] ينظر في هذا التعريف ونحوه من تعريفات المتأخرين: المانع عند الأصولين د/ عبدالعزيز الربيعة ص111-112 .

    [23] تأسيس النظر ص76 .

    [24] أصول السرخسي 2/256 .

    [25] المبسوط 2/118 .

    [26] المصدر السابق 4/116 .

    [27] المصدر السابق 30/197 .

    [28] بدائع الصنائع 5/217، وانظر نحو ذلك في 5/309، 6/131 .

    [29] بدائع الصنائع 6/138، وانظر نحو ذلك في الهداية شرح بداية المبتدي 10/154 .

    [30] الأشباه والنظائر لابن نجيم /226 .

    [31] شرح المجلة لسليم رستم /42 .

    [32] شرح المجلة لسليم رستم /42 .

    [33] انظر: شرح المجلة للأتاسي 1/136، المدخل الفقهي للزرقاء /1016-1017.

    [34] شرح تنقيح الفصول للقرافي ص84 .

    [35] القواعد للمقري 1/278، 279 .

    [36] المصدر السابق 1/279-280 .

    [37] المصدر السابق 2/380-381 .

    [38] قواعد الأحكام 2/88 .

    [39] انظر: قواعد الأحكام 2/88 .

    [40] الأشباه والنظائر لابن الوكيل تحقيق: د/ عادل الشويخ 2/296 .

    [41] الأشباه والنظائر لابن السبكي 1/27وانظر نحوه في الإبهاج 3/164.

    [42] المنثور للزركشي 3/374 .

    [43] مجموع الفتاوى 31/312 .

    [44] مجموع الفتاوى 32/148، 338 .

    [45] مجموع الفتاوى 32/148 .

    [46] مجموع الفتاوى 21/312 .

    [47] إعلام الموقعين 2/356 .

    [48] المصدر السابق 2/357 .

    [49] إغاثة اللهفان لابن القيم 1/173 .

    [50] إعلام الموقعين 2/356 .

    [51] القواعد لابن رجب ص300 .

    [52] انظر ذلك في: القواعد لابن رجب ص300-301 .

    [53] إعلام الموقعين 2/357 .

    [54] القواعد للمقري 2/590.

    [55] الأشباه والنظائر 1/127، وانظر: الإبهاج 2/227 .

    [56] القواعد لابن رجب ص300 .

    [57] المنثور 2/155 .

    [58] الأشباه والنظائر للسيوطي 2/310 .

    [59] انظر: المدخل للزرقا 2/1016، جمهرة القواعد الفقهية للندوي 2/735 .

    [60] الأشباه والنظائر لابن السبكي 1/127 وانظر نحوه في الإبهاج 3/153.

    [61] إعلام الموقعين 2/357 .

    [62] المصدر السابق 4/85، وانظر أيضاً: القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين لعبدالمجيد الجزائري ص468 .

    [63] المدخل الفقهي العام للزرقا / 1066 .

    [64] المصدر السابق / 1016-1017 .

    [65] انظر: القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين ص468 وانظر في ذلك أيضاً: جمهرة القواعد الفقهية للندوي 1/531 .

    [66] المنثور 2/155 .

    [67] المصدر السابق 3/374 .

    [68] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/310 .

    [69] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/388 .

    [70] انظر: جمهرة القواعد الفقهية للندوي 1/531-532 .

    [71] انظر: إعلام الموقعين2/357 .

    [72] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/388 .

    [73] القواعد للمقري 2/380-381 .

    [74] القواعد للمقري 2/380-381 .

    [75] أصول السرخسي 2/256 .

    [76] بدائع الصنائع 6/138 .

    [77] إعلام الموقعين 2/357 .

    [78] ينظر: المنهاج بشرحه الإبهاج 3/153 .


    [79] الأشباه والنظائر لابن الوكيل 2/296 .

    [80] الإبهاج 3/153 .

    [81] المنثور 3/372 .

    [82] الأشباه والنظائر لابن نجيم ص122 .

    [83] المصدر السابق ص226 .

    [84] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/389 .

    [85] انظر: الإبهاج 3/153.




    وأمتثل قول ربي: {فَسَتَذْكُرُون ما أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •