عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((وعظنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم موعظةً ذَرَفتْ منها العيونُ ووجلت منها القلوبُ, فقلنا يا رسولَ اللهِ إن هذه لموعظةُ مودَّعٍ فماذا تعهد إلينا؟ قال قد تركتكم على البيضاءِ ليلُها كنهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ من يعشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرفتُم من سنتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديِّين, عَضُّوا عليها بالنواجذِ وعليكم بالطاعةِ وإن عبدًا حبشيًا ,فإنما المؤمنُ كالجملِ الأنِفِ حيثما قِيدَ انقادَ.))، صحيح ابن ماجة والترمذي وأبي داوود.

ومن الأمور المحدثة التي لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاوة القرآن بصوت عال وفي الميكروفونات في المساجد قبل خطبة الجمعة، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أحسن من يستمع للقرآن وأحسن من يتلوا القرآن وأحرص على مجالس القرآن وتدبره وتلاوته، وكانوا حريصين على تعليم الناس واسماعهم القرآن ونشر كتاب الله، وكانت الأمية والجل منتشرة بين الذين أسلموا حديثا، ومع ذلك لم يكن من سنتهم أن يجمعوا الناس قبل الخطبة يعلمونهم ويسمعونهم القرآن الكريم.

فإذا بحثنا في السنة وفي هدي الصحابة والتابعين في القرون المفضلة نجد الآتي:

1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة، فتؤذوا المؤمنين))، صححه الألباني في السلسلة.

2- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ اغْتَسَلَ يومَ الجمعةِ ، و مَسَّ من طِيبٍ إنْ كان عندَهُ ، و لَبِسَ من أَحْسَنِ ثِيابِه ، ثُمَّ خرجَ حتى يأتِيَ المسجدَ ، فَيَرْكَعَ ما بَدَا لهُ ، و لمْ يُؤْذِ أحدًا ، ثُمَّ أنْصَتَ حتى يصليَ ، كان كَفَّارَةً لمَّا بينَها وبينَ الجمعةِ الأُخْرَى))، الحديث صححه الألباني في أكثر من موضع، ومروي عن أكثر من صحابي بألفاظ مختلفة وأصلة في الصحيحين، وفي رواية صلى ما كتب الله له، فسن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النافلة المطلقة قبل خروج الإمام يوم الجمعة، فمن فعل ذلك كان له أجرا عظيما، ومن شوش على المصلين والذاكرين الذين يأتون مبكرين منتظرين الخطبة من شوش عليهم متعمدا في هذا الوقت فقد آذاهم، وصد عن سنة رسوله الكريم، صلى الله عليه وسلم.

3- وكتب مركز الفتوى في موقع إسلام ويب قال: ((روي أن الصحابة والتابعين كانوا يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمرللخطبة، فقد روى مالك عن ابن شهاب، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنه أخبره: أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر،...وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه حول التنفل بعد أذان الجمعة: بل ألفاظه فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت كقوله: من بكر وابتكر ومشى ولم يركب وصلى ما كتب له ـ الحديث، وهذا المأثور عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر، منهم من يصلي ثماني ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك، ولهذا كان جمهور الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد، ثم قال: وهذا مذهب مالك ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور من مذهب أحمد)).


بل ورد النهي عن ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وعن الحلق
[1] يوم الجمعة قبل الصلاة))[2]، وفي رواية: (عن التحلق للحديث).
وقد أكثر العلماء في ذكر العلة من هذا النهي مع اتفاق أكثر العلماء على صحة الحديث، فقيل النهي لأجل عدم تقطيع الصفوف، وقيل النهي لعدم التشويش على الذاكرين والمصلين، وقيل النهي لعدم التثقيل على الناس بالموعظة والتكاليف، فالواجب هو الخطبة والصلاة فلا نزيد عليهم فينسي بعض الكلام بعضه، وقيل غير ذلك.

وأيا كانت العلة فإن الشارع الحكيم الذي فرض هذه الخطبة وهذه الصلاة مرة واحدة في الأسبوع حريص كل الحرص على التجهز لها وأن تكون النفس مشغوفة بها وإلا يتعلق القلب بشيء قبلها وأثنائها، فرغب في الاغتسال والتغسيل حتى لا تتعلق النفس بأي شهوة أثناء هذه الخطبة، فينشغل المسلم عنها، ورغب في التبكير إليها حتى تشتاق النفس لها، فمن بكر لا شك أنه في انتظار الجائزة والأجر الجزيل من الله، ورغب في الذكر في هذا اليوم وأفضل الذكر الصلاة على رسول الله، وينبغي على المسلمين أن يجعلوا لأنفسهم ورد ثابت للصلاة على رسول الله في هذا اليوم وأفضل وقت لذلك قبل الصلاة عند انتظار الإمام، ورغب في التعطر لها حتى لا تنشغل النفس برائحة نفسه أو غيره فينشغل أثناء الخطبة والصلاة بغير المناجاة والانصات، ومن هذا كله يتبين لنا أن النهي عن التحلق في هذا الوقت حتى لا تنشغل النفس بدرس أو حديث فينسي الكلام بعضه بعضا، فلا شك إذا كان هناك درس علم قبل الخطبة أو قراءة ثابتة قبل الخطبة فإن النفس لا تكون خالصة للخطبة بل تنشغل بغير انتظار الخطبة، لكن مقصود الشارع هو انتظار الخطبة، وهذا معلوم في علم النفس، أن طول الانتظار والتأمل فترة طويلة قبل اللقاء له أثر نفسي فتقع الكلمات في النفس موقعا قويا ومؤثرا.

ثم إننا لو فرضنا أن في المسجد شخصا واحدا فقط يريد أن يعمل بالسنة عند التبكير وقال سأفعل مثل ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم، الذين كانوا يتنفلون حتى يخرج الإمام، وشخصا آخرا بكر ونوى أن يقرأ جزءا من القرآن قبل الخطبة أو شخصا ثالثا نوى أن يصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت مائة مرة أو أكثر، ثم جلس في المسجد قوم يتذاكرون الدنيا بصوت عال، أو جلس مدرس يدرس القرآن ويتلوه بصوت عال، فبالله عليك هل نلزم هؤلاء المتنفلين في هذا الوقت الذي ندب له الشارع نلزمهم بترك هذه العبادات والسنن التي حرص عليها الصحابة، ونقول لهم تابعوا هذا الدرس أم نلزم أصحاب الدرس لتأجيل درسه بعد الخطبة فمن شاء حضر ومن شاء تنفل في مكان مناسب، فلا شك أن قراءة القرآن وتدريس العلم إذا شوش على المتنفلين المبكرين يوم الجمعة مكروه مكروه مكروه وقيل أنه حرام حرام حرام، والله أعلى وأعلم وأحكم.






[1] ) الحلق بكسر الحاء وفتح اللام ومن نقول العلماء الأفاضل رحمهم الله في ذلك:
أ*- إصلاح غلط المحدّثين (ص63 - 64 رقم 20): قالَ أبو سُليمان: وإنَّما هو الحِلَقُ - مكسورة الحاءِ مفتوحة اللاّمِ - جمعُ حَلْقَة، يَقالُ: حَلْقَةٌ وحِلَقٌ مِثْلُ بَدْرَةٍ وبِدَرٍ، وقَصْعَةٍ وقِصَعٍ...).
ب*- معالم السّنن (2 /13 /1038): (" الحِلَق " مكسورةُ الحاء مفتوحةُ اللّام: جماعةُ الحَلْقَة...).
ت*- اللِّسان (10 /62): (وفي الحديث: أَنّه نَهى عن الحِلَقِ قبل الصَّلاةِ، وفي رواية: عن التَّحَلُّقِ، أَراد قبل صلاة الجُمعة. الحِلَقُ بكسر الحاء وفتح اللاّم جمع الحَلْقَة مثل قَصْعَة وقِصَعٍ، وهي الجماعةُ مِن النّاس مستديرون كحَلْقَةِ البابِ وغيرِها، والتَّحَلُّقُ تَفَعُّلٌ مِنها، وهو أَن يتَعمَّدوا ذلك...).
ث*- غريب الحديث لابن الجوزيّ (1 /236): (ونهى عن الحِلَقِ قبل الصّلاة، وهي جمعُ حَلْقَة).
ج*- النّهاية (1 /426): (وفيه أنّه نهى عن الحِلَقِ قبل الصّلاة، وفي رواية: عن التَّحَلُّق. أراد قبل صلاة الجمعة.
الحِلَق بكسر الحاء وفتح اللاّم: جمع الحَلْقَة مثل قَصْعَة وقِصَع، وهي الجماعة من النّاس مستديرون كحَلْقَة الباب وغيره. والتَّحَلُّق تَفَعُّلٌ منها، وهو أن يَتَعمَّدوا ذلك...).
ح*- فيض القدير (4 /23) قال المُناويّ: (ورَوَى بعضُ المُحدِّثين أنّ المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم نَهَى عن الحَلْقِ يومَ الجمعة قبل الصّلاة، بسكون اللاّم، ثمّ قال مخاطبا بعضَ العلماء: لي منذ عشرين سنةً ما حَلَقْتُ رأسي قبلَها؛ لهذا النّهي. فقال: هذا تصحيف، والحَلَق مُحَرَّكًا أي نهى أن يَتَحَلَّقَ النّاس قبل الجمعة...
رابط التعريف اللغوي
: http://www.alukah.net/literature_language/0/82202/#ixzz4Rx5OzOof




[2] ) الحديث مخرَّجٌ في:
أ*- صحيح ابن خزيمة (3 /158 - 159 رقم 1816)، قال الألبانيّ في هامش (1816) من (ص159): (إسناده حسن).
ب*- مسند أحمد (2 /179).
ت*- سنن أبي داود (2 /3 /293 عون المعبود).
ث*- سنن النَّسائيّ (1 /2 /47 - 48 السّيوطيّ والسّنديّ).
ج*- سنن التّرمذيّ (2 /139 رقم 322 شاكر)، وتخريج أحمد شاكر في (2 /140 الهامش 3).
رابط العزو
: http://www.alukah.net/literature_language/0/82202/#ixzz4Rx4ZMeNw









من كتاباتي/ أبو مالك المعتز بالله محمد جمعة عبد الصمد