جاء في كتاب "التذكرة في أحوال الموتى والآخرة" للقرطبي ، عند كلامه عن الصراط وحده :
" ومعنى قوله: «وأحد من السيف» : أن الأمر الدقيق الذي يصعد من عند الله تعالى إلى الملائكة ، في إجازة الناس على الصراط ، يكون في نفاذ حد السيف ومضيه ، إسراعاً منهم إلى طاعته وامتثاله.
ولا يكون له مرد ، كما أن السيف إذا نفذ بحدةٍ وقوةٍ ضاربةٍ في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد . " . انتهى ، من "التذكرة" (2/758) ط دار المنهاج ، المحققة .
ولا ريب أن ما جاء في النص من قوله : ( يصعد من عند الله إلى الملائكة ..) : منكر المعنى ، بلا ريب ، لا يستقيم له وجه صحيح ، مهما حاولت أن تقلب وجوه الكلام ، واحتمالاته ؛ فلا وجه للتعبير هنا بأنه : " يصعد من .. إلى " ، على أي وجه حملت الصعود ، أو وجهته ، في حقيقته ، أو مجازه .
وكان ذلك ينبغي أن يدعو الباحث في "تداوله" للنص ، أو المحقق ، وناشر الكتاب : في قراءة للنص وتحريره ، أن يتوقف عند العبارة ، ويقلب وجوهها ، وينبه ـ على أقل تقدير ـ إلى أن ثمة إشكالا في النص ، لم يهتد إلى صوابه ، متى بذل الجهد في قراءته .
ولا يعفيه من هذه المسؤولية : أن تتفق أصول النص الذي ينشره ـ كلها ـ على إثبات هذا "الخطأ" الواضح .
غير أنه ، مع الأسف ، تم مررو النص في طبعات الكتاب .. وفي عدد من الأبحاث ، والكتب المنشورة ، التي استعانت بهذا النص ، دون التأمل في نكارة العبارة ، أو محاولة الاهتداء إلى وجهها الصحيح .
والواقع أن هذا النص ، ليس من إنشاء القرطبي ، بل هو نقله عن غيره، وإن لم يسم مصدره ، لكنه اكتفى بقوله في أول الفقرة :
" ذهب بعض من تكلم على أحاديث هذا الباب ، في وصف الصراط ، بأنه أدق من الشعر ، وأحدّ من السيف = أن ذلك راجع إلى يُسره وعسره ، على قدر الطاعات والمعاصي.
ولا يعلم حدود ذلك إلّا اللّه تعالى لخفائها وغموضها.
وقد جرت العادة بتسمية الغامض الخفي: دقيقا. فضرب المثل له بدقة الشعر. فهذا واللّه أعلم من هذا الباب. " انتهى .
ومن حسن الحظ أنه تم الوقوف على صاحب هذا الكلام ، ومصدره الذي جاء فيه ؛ فصاحبه هو أبو عبد الله الحليمي ، يقول :
" وأما أنه أحد من السيف، فيكون معناه- والله أعلم- أن الأمر الدقيق الذي يصله من عند الله تعالى إلى الملائكة ، في إجازة الناس على الصراط ، يكون في نفاد حدة السيف ومضيه، إسراعا منهم إلى الطاعة ، وامتثالا، ولا يكون له مرد، كما أن السيف إذا نفذ بحدة وقوة ضاربة في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد." . انتهى ، من "المنهاج في شعب الإيمان" (1/463) .
وعلى الرغم من عدة تصيحفات ، لا تخفى على الباحث في هذا النقل الصغير ، هي مرآة للنشرة البائسة، الوحيدة ، لهذا الكتاب النفيس ؛ فحسبنا منه أنه غير لنا قراءة نص التذكرة ، على وجه يزيح النكارة المستشنعة منه ، وإن لم يستقم بعد على وجه اللسان ، ولم يطمئن به المعنى على نظم الكلام العربي .
فذائقة اللسان العربي ، تتأبى على أن تسيغ : " .. يصله من عند الله تعالى إلى الملائكة .. " !!
ولقد يحدونا هذا إلى أن نقترح شيئا أمثل ، وأقرب إلى السَّواغ ، فنقول إن وجه الكلام هو : " .. يصل من عند الله .. " ، على ما فيه إثباته من إغماض ، وتسمُّح !!
ثم انتقلنا خطوة أعلى ، وأسفر الكلام عن وجهه ، وأشرق بيانه ، بنقل الإمام البيهقي ، من حسن الحظ ، للنص ، بلفظه ، وتمامه :
" وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ, فَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ, أَنَّ الأَمْرَ الدَّقِيقَ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ ، فِي إِجَازَةِ النَّاسِ عَلَى الصِّرَاطِ, يَكُونُ فِي نَفَاذِ حَدِّ السَّيْفِ وَمُضِيِّهِ ؛ إِسْرَاعًا مِنْهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَامْتِثَالِهِ, وَلاَ يَكُونُ لَهُ مَرَدٌّ, كَمَا أَنَّ السَّيْفَ إِذَا نَفِذ بِحَدِّهِ ، وَقُوَّةِ ضَارِبِهِ فِي شَيْءٍ : لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَدٌّ." . انتهى .
فصح الكلام ، واستقام السياق .
وانتبه إلى آخر العبارة : " .. إِذَا نَفِذ بِحَدِّهِ ، وَقُوَّةِ ضَارِبِهِ .. " ، فهذا وجهها ، وصوابها .
والحمد لله رب العالمين .