الخطبة الأولى
الحمدُ لله بارِئ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِل القِسَم، أبرمَ فأحكَم، وأجزلَ فأنعَم، ووهَبَ فأكرَم، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له علَّم بالقلَم، علَّم الإنسانَ ما لم يعلَم، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ بالدين الأقوَم، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آلِه وصحبِه ذوِي السَّبقِ الأقدَم صلاةً وسلامًا دائِمَين مُمتدَّين مُتلازِمَين إلى يوم الدين.
أما بعدُ .. فيا أيها المُسلِمون:
اتَّقوا الله الذي لا يخفَى عليه شيءٌ من المقاصِدِ والنوايَا، ولا يستَتِرُ دونَه شيءٌ من الضمائِرِ والخفَايَا، واتَّقُوا الله واعلَمُوا أن الله بكل شيءٍ عليم.
أيها المسلمون:
الأقلامُ مطايَا العقُول، وألسِنةُ الضمائِر، وآلةُ التحرير، وقِوامُ المعرفة. والكتبُ بساتينُ تجلُو البصائرَ، وتُؤنِسُ الوحشَة، وتُزيلُ الهمَّ، وتُبدِّدُ الظُّلمَة.
والقراءةُ عادةُ الألِبَّاء وسجِيَّةُ الفُطنَاء، ومن الكُتَّاب أُدباءُ حُكماء يُراعُون المصلحةَ، وينشُدُون الخيرَ، ويرُومون النُّصحَ، يرقُمُون في الماء، ويُراقِبُون من في السماء.
ومن الكُتَّاب فِئةٌ لا حِذقَ عندهم ولا صَنعَة، ولا حصاةً لهم ولا أصَاة، لطَّخُوا أعناقَ الصُّحف والمواقِع بمقالاتٍ عورَاء طائِشة، تهوِي في غير عقلٍ ولا رُشد، جاؤُوا فيها بالطِّمِّ والرِّمِّ، والدَّنِيءِ والرَّدِيءِ، والمهزُول والغَثِّ.
فمَن للقوافِي شانَها من يحُوكُها إذا ما ثوَى كعبٌ وفوَّزَ جَروَلُ
يقولُ فلا يعيَى بشيءٍ يقولُه ومن قائِلِيها من يُسيءُ ويعمَلُ
أقلامٌ وكُتَّاب يسُوقُون الدَّهماءَ إلى مجهَلة، ومهلَكةٍ ومفسَدة، همُّهم إهاجَةُ الشرِّ، وإيقادُ الفتنة، وإيقاعُ الخُصومة بين الناس، والنَّيلُ من دينِنا، وانتِقاصُ قِيَمنا وأخلاقِنا، والطَّعنُ في بلادِنا وعُلمائِنا ووُلاةِ أمورِنا.
لقد اكتظَّت وسائلُ التواصُل الاجتماعيِّ بالكُتَّاب والقُرَّاء والمُدوِّنين والمُغرِّدين، ولا نرَى إلا العيونَ المُدِّقة، والرؤوسَ المُطرِقة، والهامات الجاثِمة، والوجوهَ المُكِبَّة على تلك الأجهِزة، كلٌّ يقرأ ويكتُب، ويُدوِّنُ ويُغرِّد، وينشُرُ ويُذيعُ.
ويا ليتَ ذلك كان فيما يُوصِلُ نفعًا، ويُثمِرُ خيرًا، ويدفعُ شرًّا، ويكونُ في الآخرة ذُخرًا. إلا من رحِم الله، وقليلٌ ما هُم.
أيها المسلمون:
الحبائِلُ مبثُوثة، والمصايِدُ منشُورة، ويُستدرَجُ الناسُ عبرَ ما يُعرفُ حديثًا بالهاشتَاج إلى زوايَا وقضايَا يُدوِّنُها مجاهِيلُ، قد بدَت من عناوينِها خبايَاهم، وظهرَت من وُسومِها نوايَاهم. ومن وقعَ في الوَهدة والهُوَّة تزاحَمَ عليه وسارَعَ إليها، وشارَكَ فيها بالكتابةِ والتعليقِ بلا تمييزٍ ولا روِيَّة.
فالحذرَ الحذرَ؛ فقد خطَّ القلَم، وكتبَ الملَك، وطاحَ المِرقَم، وأحصَى الكتابُ، قال – جلَّ في عُلاه -: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 52، 53].
فكلُّ صغيرٍ وكبيرٍ من الأعمال مسطُورٌ في الصحائِف، مُكتَتبٌ في الزُّبُر بتفاصِيله. وربُّكم حفيظٌ رقيبٌ، شهيدٌ عليمٌ، لا يخفَى عليه دقيقٌ ولا جليلٌ مما تكتُبُون وتُسطِّرون وتُدوِّنُون.
أيها المسلمون:
ومن عثَرَ في بِساط الخطيئة، فليَطوِ بِساطًا عصَى اللهَ عليه، وليَمحُ ما كتَب، وليُرِق سَجلاً من ماءٍ يُزيلُ به الأذَى والقذَر والخبَث.
يا من تورَّطتُم في إنشاء مواقِع تنشُرُ القبائِحَ والمُنكَرات، وتدعُو إلى الرذائِلِ والمُوبِقات، ستحمِلُون أوزارَكم وأوزارَ من غوَى بغوايتِكم، وضلَّ بضلالِكم. فساءَ ما تزِرُون، وبِئسَ ما تحمِلُون.
عن أبي هُريرة – رضي الله عنه -، أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من دعَا إلى هُدى كان له من الأجرِ مثلُ أُجُور من تبِعَه، لا ينقُصُ ذلك من أُجُورهم شيئًا، ومن دعَا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثمِ مثلُ آثامِ من تبِعَه، لا ينقُصُ ذلك من آثامِهم شيئًا»؛ أخرجه مسلم.
أيها المسلمون:
لتكُن كتاباتُكم ومُشاركاتُكم ومناشِطُكم في تلك الوسائل سببًا يُقرِّبُكم إلى المولَى الكريم، ويُدنِيكم من دار كرامَته، ويُعلِيكم في نعيم جنَّته. وخابَ المُصِرُّ الذي لا يرجِع، وشقِيَ المُسترسِلُ الذي لا يُقلِع، ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11]. والتائِبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ له.
﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
أقولُ ما تسمَعُون، وأستغفِرُ الله فاستغفِرُوه، إنه كان للأوَّابين غفُورًا.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله العلِيِّ الكبير، خلقَ كلَّ شيءٍ فأحسنَ التقدير، ودبَّر الخلائِقَ فأحسنَ التدبير، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجُو بها العفوَ والغُفرانَ والنجاةَ من عذابِ السَّعير، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنَا محمدًا عبدُه ورسولُه البشيرُ النذيرُ، والسراجُ المُنيرُ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ .. فيا أيها المسلمون:
اتَّقُوا الله وراقِبُوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
تذكَّرُوا إخوانَكم اللاجِئين والنازِحين والمُشرَّدين والمُضطهَدين؛ فإنهم يُعانُون نقصًا في الأغذِية والأدوِية، وشُحًّا في الأكسِيَة والأغطِيَة، وقلَّةً في وسائلِ التدفِئة.
الفقيرُ يئِنُّ .. والضعيفُ يستنجِدُ .. والمُضطرُّ يستصرِخُ .. ولا ترَى إلا من ضاقَت يدَاه، وعظُمَت شكوَاه.
والمُؤمنون أقربُ الناس رحمة، وأعظمُهم شفقَة، وأكثرُهم إحسانًا، وأحناهم على فقيرٍ ومِسكينٍ ويتيمٍ، وأحدَبُهم على أرمَلةٍ ومُطلَّقة، وأعطَفُهم على ضعيفٍ وملهُوف، وأنفَعُهم لمُضطرٍّ ومكرُوب.
عن أبي هُريرة – رضي الله عنه -، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الساعِي على الأرمَلَة والمِسكِين كالمُجاهِدِ في سبيل الله، وكالقائِمِ لا يفتُر، وكالصائِمِ لا يُفطِر»؛ متفق عليه.
فتعاهَدُوا الفقراءَ والمساكين، وصِلُوا المحرُومين والمقطُوعين، وأغيثُوا اللاجِئين والمنكُوبين، وأنفِقُوا وتصدَّقُوا، ولا تُحصُوا فيُحصِي الله عليكم، ولا تُوعُوا فيُوعِي الله عليكم، وسارِعُوا بالعطاء، وحاذِرُوا الإبطاء، وأحسِنُوا إن الله يُحبُّ المُحسِنين.
أيها المسلمون:
إن تلك الأحداث تستوجِبُ اليقظَةَ والاعتِبار، وتستدعِي التذكُّرَ والادِّكارَ، وتحمِلُ على التضرُّع والافتِقار. وما هي إلا مِحَنٌ تُمتحَنُ بها القلوبُ، وتُبتلَى بها النفوسُ.
فلا تُعلِّقُوا قلوبَكم بأحمَرَ ولا أسوَدَ؛ فمن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه، ومن توكَّلَ على الله كفَاه، ومن اعتمَدَ عليه وقَاه.
وصلُّوا وسلِّمُوا على أحمدَ الهادِي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعين، والتابعين وتابِعِيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتِك يا أرحمَ الراحِمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، ودمِّر أعداءَ الدين.
اللهم إنا نعوذُ بك من مُضِلاَّت الفتن ونزَغَات الشياطين، وتسلُّط أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم اجعَل أهلَنا في حلَب في ضمانِك وأمانِك وإحسانِك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعَل لهم من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً يا رب العالمين.
أنت إلهُنا، أنت ملاذُنا، أنت عِياذُنا، وعليك اتِّكالُنا، اللهم احفَظ أهلَنا في الشام من بَطش المُلحِدين والوثنيِّين يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك بالمُجرمين المُعتَدين من المُلحِدين والوثنيِّين، اللهم فُلَّ جيوشَهم، ودُكَّ عروشَهم، اللهم اقتُلهم بسلاحِهم، وأحرِقهم بنارِهم، وسلِّط عليهم جُندًا من جُندِك يا قويُّ يا عزيزُ يا رب العالمين.
اللهم لا ترفَع لهم راية، ولا تُحقِّق لهم غاية، واجعَلهم لمن خلفَهم عبرةً وآيةً يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلادِنا أمنَها ورخاءَها واستِقرارَها ووحدتَها، اللهم احفَظ حُدودَنا، واحفَظ جنودَنا يا رب العالمين
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمَين الشريفَين لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصِيتِه للبرِّ والتقوَى، ووفِّق جميعَ وُلاة أُمورِ المُسلمين لتحكيمِ شرعِك، واتِّباعِ سُنَّة نبيِّك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -.
اللهم ارحَم موتانا، واشفِ مرضانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على من عادَانا.
اللهم اجعَل دُعاءَنا مسمُوعًا، ونداءَنا مرفُوعًا، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.
—————————— —————
فضيلة الشيخ صلاح البدير – حفظه الله –