صاحب "الصحاح" ظاهري!
*** أصل الخبر:
جاء في "الصحاح" للجوهري (ط. دار العلم للملايين، ت. أحمد عبد الغفور عطّار، مادة "س ل م"، ص. 1952) :
" ويقال للجلدة التي بين العين والأنف :
سَالِـمٌ . وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في ابنه سالِـمٍ:
يُديرونَني عن سالِـمٍ وأُرِيغُهُ
وجِلْدَةُ بين العينِ والأنفِ سالِـمُ
وهذا الـمعنى أراد عبدُ الملك في جوابه عن كتاب الحجاج : "أنت عندي كسالِـمٍ".
والسَلامُ والسليمُ : اللَدِيغُ". (انتهى النقل عن الصحاح)
*** صدى الخبر:
وقد استوقف الصفديَّ هذا الفهمُ "الظاهري" للبيت، فقال ("الوافي بالوفيات"، ط. الـمعهد الألـمـاني، ج15، ص84):
"وصحّفَ الجوهريُّ بل حَرَّفَ في صحاحه فقال: "ويقال للجلدة التي بين العين والأنف: سَالِـمٌ." وأوْرَد البيتَ! وأنا شديدُ التَعَجُّب من صاحب "الصحاح" كونَه ما فَهِمَ الـمعني مِن البيت، وأنّ سالـمـًا عند أبيه بمنزلة هذه الـجِلدة في الـمكان الـمذكور! وقال التبريزيُّ الـخطيبُ: "تَبِعَ الـجوهريُّ خالَه إبراهيمَ الفارابـيَّ صاحبَ "ديوان الأدب" في غَلَطِ هذا الـموضع". انتهى".
وقبْلَه قال ابن برّي: "هذا وَهْمٌ قبيح!" (نقلا عن "تاج العروس").
والخطيب صادق في نقله، مصيبٌ في تفسيره لـمنشأ الخطأ. جاء في "ديوان الأدب" (تح. أحمد مختار عمر، ج1، ص360):
"وقال بعضُهم: يقال لِلجِلدة الَّتي بَيْن العَين والأنفِ: سالِـمٌ."
قال الصغاني في "التكملة" (تح. محمد أبو الفضل إبراهيم، ج6، ص56):
"وهذا غلط، وقد تبع خالَه الفارابيَّ في أخذِه اللغةَ مِن معنى الشعر".
*** فوائد متعلِّقة بالخبر:
وكان لصاحب "خزانة الأدب" وقفة طويلة مع هفوة الجوهري هذه، جلبت لنا جملة استدراكات تتعلّق بالبيت الـمذكور. وهذا كلامه ننقله بنصّه لـمـا فيه من الفوائد. قال البغدادي (تح. عبد السلام هارون، ج5، 273-274):
"وقد أخطأ صاحب "الصحاح" خطأ فاحشًا في قوله: "يقال للجلدة التي بين العين والأنف: سَالِـمٌ".
* وأخطأ ابنُ خلَف في "شرح أبيات سيبويه" في نِسبة هذا البيت لعبد الله بن عمر، قاله في ابنه سالـم. والصوابُ أنّه تَـمَثَّل به، لا أنَّه قاله.
* وأخطأ صاحب "العباب" أيضاً في زعمه أنّ هذا البيت لدارة أبي سالـم. والصوابُ أنّه تَـمَثَّل به أيضا.
فإنّ البيت مِن أبياتٍ لزهير بن أبي سلمى ثابتةٍ في ديوانه. قال شارح ديوانه: "كان لزهير ابنٌ يقال له: "سالـم"، جـميلُ الوجهِ، حَسَن الشَّعر. وبَعَث إليه رجُلٌ بِبُرْدَيْن، فلبسهمـا الفتى، وركب فرسًا له جيِّدًا، وهو بمـاء يقال لها "النُّتاءة"(1)؛ بضَمِّ النُّون، بَعْدَها مثنّاةٌ فوقيّةٌ، بَعْدَها ألِفٌ مـمدودةٌ. فمَرَّ بامرأةٍ مِن العرب، فقالت: "ما رأيتُ كاليوم رجُلاً ولا بُردين ولا فرسًا!"(2) فعثرَتْ به الفرَسُ(3)، فاندقَّت عُنقُه وعُنقُ الفرَس، وانشقَّ البُـرْدان. فقال زهير يرثي ابنه سالـمـًا:
رأتْ رجلاً لاقَى من العيش غبطةً *** وأخطأَه فيها الأمورُ العظائمُ
وشَبَّ له فيها بَنُونَ وتوبعَتْ *** سلامةُ أعوامٍ له وغنائمُ
فأصبَحَ مَـحْبورًا يُنظِّر حوْلَه *** بمَغْبَطةٍ لو أنَّ ذلك دائمُ
وعندي مِن الأيّام ما ليس عنده *** فقلتُ تعلَّمْ أنّمـا أنت حالِـمُ
لعلّكِ يومًا أنْ تُراعِي بفاجعٍ *** كمـا راعَنِي يومَ النُّتاءةِ سالـمُ
يديرونني عن سالِـمٍ وأُريغُه ... وجِلدةُ بَيْن العَينِ والأنْفِ سالـمُ"
(1) في شرح ثعلب للديوان (تح. فخر الدين قباوة، ص255): "ماءٌ لِغَنِيٍّ".
(2) في شرح الديوان: "ما رأيتُ كاليوم قَطُّ رجُلاً ولا بُردين ولا فرسًا أحْسَنَ!"
(3) في شرح الديوان: "فمـا مضى قليلًا حتّى عثر به الفرس، فاندقَّت عُنقُه..."
*** تذييل على الأصل والصدى:
- أخطأ محقّق "الصحاح" خطأ لا يقل فحشًا عن غلط الجوهري. فقد رقم النص بطريقةٍ خاطئة، انجرّ عنها بتْـرُ كلام عبد الملك ثم تفسير "السلام" بأنّه اللّديغ! وكان الصواب أن يضبط النص على النحو التالي:
"وهذا الـمعنى أراد عبدُ الملك في جوابه عن كتاب الحجّاج : "أنت عندي كسالِـمٍ. والسَّلامُ". والسَّلِيمُ : اللَّدِيغُ".
- قول الصغاني عن الـجوهري: "وقد تبع خالَه الفارابيَّ في أخذِه اللغةَ مِن معنى الشعر"، ليس هذا محلّه. فالفارابي نقَل كلام غيره، ولم يقرِّره. ومن قال إنّ الجلدة التي بين العين والأنف يقال لها "سالـم" لم يأخذ الـمعنى من الشعر، وإنّمـا أخطأ في فهم الشعر. ثم إنّ الشعر الصالح للاحتجاج مصدر من مصادر اللغة...
- "بين" في قوله: "وجِلدةُ بَيْن العَينِ والأنْفِ سالـمُ" يصحّ فيها الخفض والنصب.
ودُمْتم سالـمين...