السؤال


ملخص السؤال:
فتاة تسأل عن شُبهات تثار حول قصص الأنبياء والمعجزات النبوية

تفاصيل السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هناك بعضُ الأسئلة التي تدور في رأسي ولا أجد لها ردًّا مثل: لماذا نصدق القصص النبوي وقصص القرآن؟!


فقد وجدتُ كثيرين يُنكرون القصص بحجة عدم رُؤيتها، وأنه لا يُوجَد شاهد عيان لها، حاولتُ أن أذكرَ أنه لماذا إذًا نُصَدِّق الحضارة الفرعونية والبابلية، ولم نرها؟


فكان الرد: توجد حفريات وكتب ودلالات لا يُنكرها عاقلٌ على وجود هذه الحضارات، بينما مثلًا قصة أصحاب الفيل لا يوجد لها دليلٌ، وكذا قصة يوسف و غيرها، ولا أعرف بماذا أُجيب؟!


كذلك حصل حوار عن المعجزات النبوية، والسؤال: لماذا نُصدقها؛ سواء كانتْ عن نبينا محمدٍ، أو عن عيسى أو عن موسى عليهم الصلاة والسلام؟!


الجواب

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فالمتأمِّلُ في قصص القرآن الكريم أيتها الابنة الكريمة يتعجَّب غاية العجب كيف أتتْ مُفصَّلة على جزئياتها، كأنَّ النبي كان بمرأى ومسمعٍ مِن أحداثها، ولم يستطع أحد من أعداء الرسل ومنكري النبوة أن ينكرَها أو يعارضها مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة، فقصص القرآن معجزة كُبرى، وطريقةٌ مُثلى، وآية بينةٌ لإثبات الرسالة، فهي تشتمل على كثير مِن العجائب والعبر والعظات والأحكام والأخلاق وألوان الابتلاء والامتحان والفضل والإحسان، وتلك القصص لم تشتهر قبل وُرودها في القرآن الكريم في المجتمعات العربية، وكانت غيبًا بالنسبة إليهم، لم يَشهدْها رسولُ الله، ولذلك قال تعالى لنبيه في ختام قصة يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 102].


كما لا يسع أحدًا أن يقول: إنه عرف القصة من اليهود؛ لأنَّ كثيرًا ِمن تلك القصص نزلتْ في سور مكية كسورة يوسف، واليهودُ كانوا يعيشون بالشام والمدينة وما حولها، ولم يعرفْ عن رسول الله أنه اتصل بهم قبل الهجرة، ولا دارسهم شيئًا مِن العلوم، ولو احتمل شيء مِن هذا لأظهره خصوم الرسالة؛ لحرصهم الشديد للقضاء على دعوته.


ومن كان له خبرة بالكتب السابقة أَيْقَنَ أن قصص القرآن وأخباره مهيمنة على قصص أهل الكتاب وتحمل إعجازًا تاريخيًّا مُذهلًا، أخبرت بأخبار صحيحة عن وقائع مجهولة، وصححت أخبارًا وردت مُحرَّفة في التوراة والإنجيل من تاريخ بعض الأنبياء، والرد على دعاوى أهل الكتاب كقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102]، ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67]، و كشفت انحرافات أهل الكتاب وجرائمهم وتحريفهم لكتبهم؛ كقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30]، ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116]، ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 72]، و﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 155]، ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13]، ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]، ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 78].


وذكرت جوانب مِن تاريخ نشأة العالم والإنسان؛ كقوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 59]، و﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]، ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]، ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77].


"ولما قَصَّ قصة نوح مِن سورة هود، وهي أطول ما قصه في قصة نوح؛ ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]، ذكر سبحانه أن هذا الذي أوحاه إليه مِن أنباء الغيب ما كان يعلمه هو ولا قومه مِن قبل هذا، فإذا لم يكن قومه يعلمون ذلك لا من أهل الكتاب ولا من غيرهم وهو لم يعاشرْ إلا قومه، وقومه يعلمون ذلك منه ويعلمون أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك، ويعلمون أيضًا أنه هو لم يكن تعلم ذلك، وأنه لم يكن يعاشر غيرهم وهم لا يعلمون ذلك، صار هذا حجة على قومه وعلى مَن بلغه خبر قومه، ومثل ما أخبرهم عن قصة آدم وسجود الملائكة له، وتزيين إبليس له، حتى أكل من الشجرة وهبط هو وزوجه.


وأخبَرهم عن قصة نوح ومكثه فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهذا في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب مقدار لبثه في قومه قبل الغرق وبعده.


وأخبرهم عن قصة الخليل، وما جرى له مع قومه، وإلقائه في النار وذبح ولده، ومجيء الملائكة إليه في صورة ضيفان، وتبشيره بإسحاق ويعقوب، وذهاب الملائكة إلى لوط وما جرى للوط مع قومه، وإهلاك الله مدائن قوم لوط، وقصة إسرائيل مع بنيه؛ كقصة يوسف وما جرى له بمصر، وقصة موسى مع فرعون، وتكليم الله إياه مرة بعد مرة، وآياته؛ كالعصا، واليد البيضاء، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وتظليل الغمام على بني إسرائيل، وإطعامهم المن والسلوى، وانفجار الماء من الحجر اثنتي عشرة عينًا لسقيهم، وعبادتهم العجل، وقتل بعضهم بعضًا لما تاب الله عليهم، وقصة البقرة، ونتق الجبل فوقهم، وقصة داود وقتله لجالوت، وقصة الذين خرجوا مِن ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا ثم أحياهم، وقصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، وغير ذلك مِن أحوال بني إسرائيل.


إلى أن ذَكَر قصة زكريا وابنه يحيى، وعيسى ابن مريم وأحوال المسيح وآياته ودعائه لقومه، والآيات التي بُعث بها، وتفاصيل ذلك، وذكر قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين، وغير ذلك مِن قصص الأنبياء والصالحين والكفار مُفَصَّلة مبينة بأحسن بيان، وأتم معرفة، مع علم قومه الذين يعرفون أحواله مِن صغره إلى أن ادعى النبوة أنه لم يتعلم هذا من بشرٍ، بل لم يجتمعْ هو بأحد من البشر يعرف ذلك، ولا كان عندهم بمكة من يعرف ذلك؛ لا يهودي ولا نصراني ولا غيرهم.


فكان هذا مِن أعظم الآيات والبراهين لقومه، بأنَّ هذا إنما أعلمه به وأنبأه به الله، ومثل هذا الغيب لا يَعلمُه إلا نبي، أو مَن أخذ عن نبي، فإذا لم يكن هو أخذه عن نبي، تعيَّن أن يكون نبيًّا.


ثم سائر أهل الأرض يعلمون أنه لم يتعلم ذلك مِن بَشَرٍ مِن طرُق:
• أحدها: أن قومه المعادين له الذين هم مِن أحرص الناس على القدح في نبوته مع كمال علمهم، لو علموا أنه تعلَّم ذلك مِن بشَرٍ لطعنوا عليه بذلك، وأظهروه، فإنهم مع علمهم بحاله يمتنع ألا يعلموا ذلك لو كان، ومع حرصهم على القدح فيه يمتنع ألا يقدحوا فيه ويمتنع ألا يظهر ذلك.


• الثاني: أنه قد تواتَر عن قومه أنهم كانوا يقولون: إنه لم يكن يجتمع به مَن يُعلِّمه ذلك.


• الثالث: أنه لو كانتْ هذه القصص المتنوعة قد تعلَّمها من أهل الكتاب مع عداوته لهم، لكانوا يخبرون بذلك ويظهرونه، ولو أظْهَروا ذلك لنُقل ذلك وعُرف، فإن هذا من الحوادث التي تتوفر الهمم والدواعي على نقْلِه.


• الرابع: أنه حيث بُعث كان الناس إما مشركًا وإما كتابيًّا، فلم يكن هناك أحدٌ على الدين الذي دعا إليه، وقد علم الناس بالتواتر أن المشركين من قريش وغيرهم لم يكونوا يعرفون هذه القصص، ولو قدر أنهم كانوا يعرفونها فهم أول من دعاهم إلى دينه فعادوه وكذبوه، فلو كان فيهم مَن علمه أو يعلم أنه تعلم من غيره لأَظْهَرَ ذلك.


• الخامس: أن مثل هذا لو كان، فلا بد أن يعرفه ولو خواص الناس، وكان في أصحابه الذين آمنوا به مَن يعرف ذلك، وكان ذلك يشيع ولو تواصوا بكتمانه كما شاع، ما كتم مِن أمر الدول الباطنية، ولكان خواصه في الباطن يعلمون كذبه، وكان علمهم بذلك يُناقض تصديقه في الباطن كما عرف في مثل ذلك.


فكيف وكان أخص أصحابه وأعلمهم بحاله أعظمهم محبة وموالاة، بخلاف حال مَن يبطن خلاف ما يظهر، فإنَّ خواص أصحابه لا يُعظِّمونه في الباطن.


فإنه علَّم الناس أن قومه الذين كانوا معادين له غاية العداوة وكانوا يطلبون القدح في نبوته بكل طريق يعلمون أنه لم يكن عندهم بشر يُعلمه مثل هذا، وأنه لم يكن في قومه ولا بلده من يعرف هذا.


علم الناس ما علمه قومه أن هذا أنبأه به الله، وكان هذا مِن أعلامه وآياته وبراهينه، وهذا مما يُبين الله في القرآن أنه مِن آياته وأنه حين أخبر قومه بهذا مع تكذيبهم وفرط عداوتهم له، لم يمكن أحدًا منهم أن يقولَ له: بل فينا مَن كان يَعلَم ذلك، وأنت كنت تعلَم ذلك، وقد تعلَّمتَه منا أو مِن غيرنا، فكان إقرارهم بعدم علمه وعلمهم، ومع فرط عداوتهم له آية بينة لجميع الأمم أنه لم يكن هو ولا هم يعلمون ذلك.


ولهذا لما كان بعضُهم يفتري عليه فريةً ظاهرة، كانوا كلهم يعلمون كذبه، وإذا اجتمعوا وتشاوروا في أمره يعرفون أن هذا كذب ظاهر عليه، كما كان بعضهم يقول: إنه مجنون، وبعضهم يقول: إنه كاهن، وبعضهم يقول: إنه ساحر، وبعضهم يقول: إنه تعلمه من بشر، وبعضهم يقول: أضغاث أحلام.


فحكى الله أقوالهم مبينًا لظهور كذب مَن قال ذلك، وأنه قول ضال حائر قد بهره حالُ الرسول فحار، فلم يدرِ ما يقول؛ كما قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 1 - 6]، فأخبر عمن قال ذلك وهم يعلمون أن هذا مِن أظهر الكذب، فإن هذه القصص المذكورة في القرآن لم يكن بمكة مَن يعرفها، فضلًا عن أن يُمليها، كما قال: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ [العنكبوت: 48]، وقال: ﴿ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ﴾ [هود: 49]، ولهذا قال: ﴿ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾[الفرقان: 6].


فأخبَر أن هذا مِن عِلْم مَن يَعلَم السر؛ إذ كان البشر لا يعلمون ذلك، إلا من جهة إخبار الأنبياء، وليس بمكة مَن يعلم ما أخبرت به الأنبياء...، فتَبَيَّنَ أنه لم يُمكنهم أن يقولوا: إنه تعلَّم أخبار الغيوب من أحد، وهذه القصةُ قصة نوح، لا سيما قصته في سورة هود كما تقدَّم لا يعلمها إلا نبي، أو مَن تلقَّاها عن نبي، فإذا عرف أنه لم يتلقاها عن أحد علم أنه نبي، ولهذا قال تعالى في آخرها: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 49]، والقول في سائر القصص كالقول فيها.


وكما قال في سورة يوسف: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 102]، وقال في سورة آل عمران لما ذكر قصة زكريا ومريم: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، وقال في قصة موسى: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ [القصص: 44 - 46].


والإنسانُ إنما يَعلَم مثل هذا بمشاهدة أو خبر فَنَّبه بقوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ ﴾على أنه إنما علمت ذلك بإخبارنا وإيحائنا إليك، وإعلامنا لك بذلك؛ إذ كان معلومًا عند كلِّ مَن عرفه أنه لم يسمع ذلك من بشر، وأنه لم يكن هو ولا قومه يعلمون ذلك.


وقد قال تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: 16]، بَيَّن بذلك أن تلاوته عليهم هذا الكتاب وإدراءهم - أي: إعلامهم - به هو بمشيئة الله وقدرته لا من تلقاء نفسه، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ ﴾ [يونس: 15، 16]


فبَيَّن أنه لبث فيهم عُمُرًا مِن قبله، وهو لا يتلو شيئًا من ذلك ولا يعلمه، ولا يُعلِمهم به، فليس الأمر من جهته، ولكن مِن جهة الله الذي لو شاء ما تلاه عليهم ولا أدراهم به وتلاوته عليهم وإدراؤهم به هو مِن الإعلام بالغيوب الذي لا يَعلمها إلا نبي، وبَيَّن أن ذلك من الإرسال الذي يحبه الله ويرضاه"؛ قاله شيخ الإسلام ابن تيمية الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (دار الفضيلة) (6/ 206-215) مختصرًا.


وقال أديب الإسلام وهو يُبيِّن إعجاز قصص القرآن الكريم في معرض كلامه عن قصة ذي القرنين "فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود، إنما المقصودُ هو العبرةُ المستفادة مِن القصة، والعبرةُ تتحقق بدون حاجةٍ إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان، والتاريخ المدوَّن يعرف ملكًا اسمه الإسكندر ذو القرنين، ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن، فالإسكندر الإغريقي كان وثنيًّا، وهذا الذي يتحدث عنه القرآنُ مؤمن بالله، مُوحِّد معتقد بالبعث والآخرة.


ويقول أبو الريحان البيروني المنجم في كتاب "الآثار الباقية عن القرون الخالية": إن ذا القرنين المذكور في القرآن كان مِن حِمْيَر مستدلًّا باسمه، فملوكُ حمير كانوا يلقبون بذي؛ كذي نواس، وذي يزن، وكان يسمى أبا بكر بن أفريقش، وأنه رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فمر بتونس ومراكش وغيرهما، وبَنَى مدينة إفريقية فسُميت القارة كلها باسمه، وسُمِّي ذا القرنين لأنه بلَغ قرني الشمس.


وقد يكون هذا القولُ صحيحًا، ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه؛ ذلك أنه لا يمكن البحث في التاريخ المدون عن ذي القرنين الذي يقصُّ القرآنُ طرفًا مِن سيرته، شأنُه شأن كثير مِن القصص الوارد في القرآن؛ كقصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وغيرهم، فالتاريخُ مولودٌ حديثُ العهد جدًّا بالقياس إلى عمر البشرية.


وقد جَرَتْ قبل هذا التاريخ المدون أحداثٌ كثيرة، لا يُعرَف عنها شيء، فليس هو الذي يستفتى فيها، ولو قد سَلِمَت التوراةُ من التحريف والزيادات لكانتْ مرجعًا يُعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث، ولكن التوراة أُحيطتْ بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير، وشحنتْ كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحى به من الله، فلم تَعُد التوراة مصدرًا مُستيقنًا لما ورد فيها مِن القصص التاريخي، وإذًا فلم يبق إلا القرآن الذي حُفظ من التحريف والتبديل هو المصدر الوحيد لما ورَد فيه من القصص التاريخي.


ومِن البدهي أنه لا تجوز محاكمة القرآن الكريم إلى التاريخ لسببين واضحين:
• أولهما: أن التاريخ مولود حديث العهد، فاتته أحداث لا تُحصى في تاريخ البشرية، لم يُعلم عنها شيءٌ، والقرآنُ يَروي بعضَ هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علمٌ عنها!


• وثانيهما: أنَّ التاريخ - وإن وعى بعض هذه الأحداث - هو عملٌ مِن أعمال البشر القاصرة، يُصيبه ما يُصيب جميع أعمال البشر مِن القصور والخطأ والتحريف، ونحن نشهد في زماننا هذا - الذي تَيَسَّرَتْ فيه أسباب الاتصال ووسائل الفحص - أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يُروى على أوجه شتى، ويُنظر إليه من زوايا مختلفة، ويُفسر تفسيرات متناقضة، ومِن مثل هذا الركام يُصنع التاريخ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق! فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص كلام تُنكره القواعدُ العلمية المقررة التي ارتضاها البشر، قبل أن تُنكره العقيدة التي تُقرر أن القرآن هو القول الفصل، وهو كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن، ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي على السواء، إنما هو مراء".


وأخيرًا أنقُل لك كلامًا نفيسًا لشيخ الإسلام ابن تيمية من كتابه العظيم الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (6/ 279)؛ حيث قال في معرض كلامه عن أوجه إعجاز القرآن الكريم: "... ولو قُدِّر أنَّ واحدًا صنَّف كتابًا يقدر أمثاله على تصنيف مثله، أو قال شعرًا يقدر أمثاله أن يقولوا مثله، وتحدَّاهم كلهم، فقال: عارضوني، وإن لم تعارضوني فأنتم كفَّار، مأواكم النار، ودماؤكم لي حلالٌ - امتنع في العادة ألَّا يعارضه أحدٌ، فإذا لم يعارضوه كان هذا مِن أبلغ العجائب الخارقة للعادة!


والذي جاء بالقرآن قال للخلقِ كلِّهم: أنا رسولُ الله إليكم جميعًا، ومَن آمن بي دخل الجنة، ومن لم يؤمن بي دخل النار، وقد أُبيحَ لي قتلُ رجالكم، وسَبْيُ ذراريكم، وغنيمةُ أموالِكم، ووجب عليكم كلكم طاعتي، ومَن لم يطعني كان من أشقى الخلق، ومن آياتي هذا القرآنُ، فإنه لا يقدرُ أحدٌ على أن يأتيَ بمثله، وأنا أخبركم أن أحدًا لا يأتي بمثلِه.


فيقال: لا يخلو إما أن يكون الناسُ قادرين على المعارضة أو عاجزين، فإن كانوا قادرين ولم يُعارِضوه، بل صرف اللهُ دواعي قلوبهم، ومنعها أن تريدَ معارضتَه مع هذا التحدِّي العظيم، أو سلبهم القدرة التي كانت فيهم قبلَ تحدِّيه، فإن سلب القدرة المعتادة أن يقول رجل: معجزتي أنَّكم كلكم لا يَقدرُ أحدٌ منكم على الكلام، ولا على الأكل والشرب؛ فإن المنع من المعتاد كإحداث غير المعتاد - فهذا من أبلغ الخوارق.


وإن كانوا عاجزين ثبَت أنه خارقٌ للعادة، فثبت كونه خارقًا على تقدير النقيضَيْنِ: النفي، والإثبات؛ فثبت أنه مِن العجائب الناقضة للعادة في نفس الأمر.


فهذا غاية التنَزُّل، وإلا فالصوابُ المقطوعُ به أن الخلقَ كلَّهم عاجزون عن معارضته، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمدٌ صلى الله عليه وسلم نفسُه مِن تلقاء نفسه على أن يُبدِّل سورة مِن القرآن، بل يظهرُ الفرق بين القرآن وبينَ سائر كلامِه لكل مَن له أدنى تدبُّر، وأيضًا فالناسُ يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة، لكنهم يحسُّون مِن أنفسهم العجزَ عن المعارضة، ولو كانوا قادرين لعارضوه، وقد انتدب غيرُ واحد لمعارضته، لكن جاء بكلام فضَح به نفسه، وظهَر به تحقيق ما أخبر به القرآن مِن عَجْز الخلق عن الإتيان بمثله؛ مثل: قرآن مسيلمة الكذاب، كقوله: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء، وذنبك في الطين!


وكذلك أيضًا يعرفون أنه لم يختلف حالُ قدرتهم قبل سماعه وبعد سماعه، فلا يجدون أنفسهم عاجزين عما كانوا قادرين عليه، كما وجد زكريا عجزه عن الكلام بعد قُدرته عليه.


وأيضًا فلا نزاعَ بين العُقلاء المؤمنين بمحمدٍ والمكذِّبين له أنه كان قصدُه أن يُصدِّقه الناس ولا يكذِّبوه، وكان - مع ذلك - من أعقلِ الناسِ وأخبرِهم وأعرفهم بما جاء به، ينالُ مقصوده، سواء قيل: إنه صادقٌ أو كاذب؛ فإن مَن دعا الناس إلى مثل هذا الأمر العظيم، ولم يَزَلْ حتى استجابوا له طوعًا وكرهًا، وظهرت دعوتُه وانتشرت ملَّتُه هذا الانتشار، هو من عظماء الرجال على أيِّ حال كان؛ فإقدامه - مع هذا القصد - في أول الأمر وهو بمكةَ، وأتباعه قليل، على أن يقول خبرًا يقطع به أنه لو اجتمع الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، لا في ذلك العصر، ولا في سائر الأعصار المتأخرة، لا يكون إلا مع جزمه بذلك، وتيقُّنه له، وإلا فمع الشكِّ والظنِّ لا يقول ذلك مَن يخافُ أن يظهرَ كذبه؛ فيفتضح فيرجع الناس عن تصديقِه، وإذا كان جازمًا بذلك، متيقِّنًا له، لم يكن ذلك إلا عن إعلام الله له بذلك، وليس في العلوم المعتادة أن يعلم الإنسان أن جميع الخلق لا يقدرون أن يأتوا بمثل كلامه، إلا إذا علم العالم أنه خارج عن قدرة البشر والعلم، بهذا يستلزم كونه معجزًا، فإنا نعلم ذلك، وإن لم يكن علمنا بذلك خارقًا للعادة، ولكن يلزم من العلم ثبوت المعلوم، وإلا كان العلم جهلًا، فثبت أنه على كل تقدير يستلزم كونه خارقًا للعادة.


وأما التفصيلُ، فيقال: نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيبٌ بديعٌ ليس مِن جنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأتِ أحدٌ بنظير هذا الأسلوب، فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرَّجَز ولا الخطابة ولا الرسائل، ولا نظمه نظم شيء مِن كلام الناس عربِهم وعجمِهم، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته، هذا عجيبٌ خارقٌ للعادة، ليس له نظير في كلام جميع الخلق، وبسط هذا وتفصيله طويل، يَعرفُه مَن له نظر وتدبُّر.


ونفس ما أخبر به القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته أمرٌ عجيب خارقٌ للعادة، لم يُوجَدْ مثل ذلك في كلام بشر، لا نبي ولا غير نبي.


وكذلك ما أخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والجن وخلق آدم، وغير ذلك، ونفس ما أمر به القرآن من الدين، والشرائع كذلك، ونفس ما أخبر به من الأمثال، وبيَّنه من الدلائل هو أيضًا كذلك.


ومَن تدبَّر ما صنَّفه جميعُ العقلاء في العلوم الإلهية والخلقيَّة والسياسية، وجد بينه وبين ما جاء في الكتب الإلهية - التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء - وجد بين ذلك وبين القرآن من التفاوت أعظم مما بين لفظِه ونظمِه، وبين سائرِ ألفاظ العرب ونظمِهم.


فالإعجاز في معناه أعظمُ وأكثر مِن الإعجاز في لفظِه، وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثلِ معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثلِ لفظِه.


وما في التوراة والإنجيل ولو قدر أنه مثل القرآن، لا يقدح في المقصود، فإن تلك كتب الله أيضًا ولا يمتنع أن يأتي نبي بنظير آية نبي، كما أتى المسيح بإحياء الموتى، وقد وقع إحياء الموتى على يد غيره؛ فكيف وليس ما في التوراة والإنجيل مماثلًا لمعاني القرآن؛ لا في الحقيقة ولا في الكيفية ولا الكمية، بل يظهر التفاوت لكل مَن تدبَّر القرآن وتدبر الكتب.


وهذه الأمور من ظهرت له من أهل العلم والمعرفة ظهر له إعجازه من هذا الوجه، ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله؛ كعجز جميع الخلق عن الإتيان بمثله مع تحدي النبي وإخباره بعجزهم، فإن هذا أمر ظاهر لكلِّ أحدٍ.


ودلائلُ النبوة من جنس دلائل الربوبية، فيها الظاهر البَيِّن لكل أحد، كالحوادث المشهودة؛ مثل: خلق الحيوان والنبات والسحاب وإنزال المطر وغير ذلك، وفيها ما يختص به من عرفه؛ مثل: دقائق التشريح، ومقادير الكواكب وحركاتها وغير ذلك، فإن الخلق كلهم محتاجون إلى الإقرار بالخالق والإقرار برسله، وما اشتدت الحاجة إليه في الدين والدنيا، فإن الله يجود به على عباده جودًا عامًّا ميسرًا.


فلما كانتْ حاجتهم إلى النفس أكثر من حاجتهم إلى الماء، وحاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى الأكل، كان سبحانه قد جاء بالهواء جودًا عامًّا في كل مكان وزمان لضرورة الحيوان إليه، ثم الماء دونه، ولكنه يوجد أكثر مما يوجد القوت وأيسر؛ لأن الحاجة إليه أشد.


فكذلك دلائل الربوبية حاجة الخلق إليها في دينهم أشد الحاجات، ثم دلائل النبوة، فلهذا يسَّرَها الله وسهَّلها.


وسيرةُ الرسول وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته ودينهم من آياته، وكرامات صالح أمته مِن آياته.


وذلك يَظهر بتدبُّر سيرته من حين وُلِد وإلى أن بُعِث، ومن حيث بُعِث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنه كان مِن أشرف أهل الأرض نسبًا، من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريتِه النبوة والكتاب، فلم يأتِ نبيٌّ بعد إبراهيم إلا من ذريته، ونجعل له ابنين: إسماعيل، وإسحاق، وذكر في التوراة هذا وهذا، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيلَ، ولم يكن في ولد إسماعيل مَن ظهر فيما بشَّرت به النبوَّات غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعثَ فيهم رسولًا منهم، ثم من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكةَ أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم، ودعا الناس إلى حجِّه، ولم يزل محجوجًا من عهد إبراهيم، مذكورًا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.


كان مِن أكمل الناس تربيةً ونشأة، لم يَزَلْ معروفًا بالصدق والبرِّ والعدل ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهودًا له بذلك عند جميع من يعرفُه قبل النبوة، وممن آمن به، وممن كفر بعدَ النبوُّة لا يعرف له شيء يُعاب به؛ لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقِه، ولا جُرِّب عليه كَذبةٌ قط، ولا ظلمٌ ولا فاحشة، وكان خلقُه وصورته من أكمل الصور وأتمِّها وأجمعها للمحاسِن الدالَّة على كماله، وكان أميًّا مِن قومٍ أُميِّين لا يعرف، لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب: التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئًا عن علوم الناس، ولا جالس أهلَها، ولم يَدَّعِ نبوةً إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلامٍ لم يسمع الأولون والآخرون بنظيرِه، وأخبرنا بأمرٍ لم يكن في بلده وقومه من يعرفُ مثلَه.


ثم اتَّبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاءُ الناس، وكذَّبه أهل الرياسة وعادوه، وسعوا في هلاكه وهلاك من اتَّبعه بكل طريق، كما كان الكفارُ يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة؛ فإنه لم يكن عنده مالٌ يعطيهم، ولا جهات يُولِّيهم إيَّاها، ولا كان له سيف، بل كان السيفُ والمال والجاه مع أعدائه، وقد آذوا أتباعَه بأنواع الأذى، وهم صابرون مُحتَسبُون لا يرتَدُّون عن دينِهم؛ لِمَا خالط قلوبَهم من حلاوة الإيمان والمعرفة، وكانت مكة يحجُّها العرب من عهد إبراهيم، فتجتَمِعُ في الموسم قبائل العرب؛ فيخرجُ إليهم يبلِّغُهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرًا على ما يلقاه من تكذيب المكذِّب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخبارَه منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبيُّ المنتظر الذي تخبرُهم به اليهود، وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانتَه، فإن أمره كان قد انتشر، وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به، وبايعوه على هجرتِه وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهادِ معه، فهاجر هو ومَن اتَّبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم مَن آمن برغبةٍ دنيوية، ولا برهبةٍ إلا قليلًا من الأنصار أسلموا في الظاهر، ثم حَسُن إسلام بعضِهم، ثم أُذِن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائمًا بأمر الله على أكمل طريقة، وأتمِّها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظُ له كذبة واحدة ولا ظلم لأحدٍ ولا غدر بأحد، بل كان أصدقَ الناس وأعدلَهم، وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال عليه من حربٍ وسلم وأمنٍ وخوف وغنًى وفقرٍ وقلة وكثرةٍ، وظهوره على العدوِّ تارة، وظهور العدو عليه تارة، وهو - على ذلك - لازمٌ لأكملِ الطرقِ وأتمِّها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانتْ مملوءةً من عبادة الأوثانِ، ومن أخبار الكهَّان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرَّمة، وقطيعة الأرحام، لا يعرفون آخرة ولا معادًا، فصاروا أعلمَ أهل الأرض وأدينهم وأعدلَهم وأفضلَهم، حتى إن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام، قالوا: ما كان الذين صَحِبوا المسيح بأفضلَ من هؤلاء، وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض، وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرقَ ما بين الأمرين.


وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمرِه، وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على الأنفس والأموال، مات صلى الله عليه وسلم ولم يخلف درهمًا ولا دينارًا، ولا شاة ولا بعيرًا له، إلا بغلتَه وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ على ثلاثين صاعًا من شعير ابتاعَها لأهلِه، وكان بيده عقارٌ ينفق منه على أهلِه، والباقي يصرفُه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يُورَث، ولا يأخذ ورثتُه شيئًا من ذلك.


وهو في كل وقتٍ يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطولُ وصفه، ويخبرهم بخبرِ ما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحلُّ لهم الطيبات، ويُحرِّم عليهم الخبائث، ويشرع الشريعة شيئًا بعد شيء، حتى أكمل الله دينه الذي بعث به، وجاءت شريعتُه أكمل شريعة، لم يبقَ معروف تَعرفُ العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكرٌ تَعرفُ العقول أنه منكرٌ إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل: ليتَه لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل: ليتَه لم يَنهَ عنه، وأحلَّ الطيبات، لم يُحرِّم شيئًا منها كما حرم في شرع غيره، وحرم الخبائث لم يحلَّ منها شيئًا كما استحله غيره، وجمع محاسنَ ما عليه الأمم، فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزَّبور نوعٌ من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجهٍ، وأخبر بأشياء ليست في الكتب.


فليس في الكتُب إيجابٌ لعدل وقضاء بفضل وندب إلى الفضائل وترغيب في الحسنات، إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه.


وإذا نظَر اللبيبُ في العبادات التي شرعها، وعبادات غيره من الأمم ظهَر فضلُها ورجحانها، وكذلك في الحدود والأحكام، وسائر الشرائع". اهـ مختصرًا.


هذا؛ ونحن دائمًا يَسُرُّنا معاونتك على دحض أي شبهة ترد إليك، والله المستعان وعليه التكلان


ثبتنا الله وإياك على الصراط المستقيم




http://www.alukah.net/fatawa_counsel...#ixzz4NjlPXu7e