قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ((مجموعالفتاوى)) (2/ 313، 314):
وَالْفَنَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: فَنَاءٌ عَنْ وُجُودِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ شُهُودِ السِّوَى وَفَنَاءٌ عَنْ عِبَادَةِ السِّوَى.
فَالْأَوَّلُ: هُوَ فَنَاءُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْمَلَاحِدَةِ كَمَا فَسَّرُوا بِهِ كَلَامَ الْحَلَّاجِ - وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْوُجُودَ وُجُودًا وَاحِدًا -.
وَأَمَّا الثَّانِي: - وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى - فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ السَّالِكِينَ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ مَقَامُ الِاصْطِلَامِ وَهُوَ أَنْ يَغِيبَ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ وَبِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شَهَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ فَيَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ؛ وَهَذَا كَمَا يُحْكَى أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُحِبُّ آخَرَ فَأَلْقَى الْمَحْبُوبُ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ: أَنَا وَقَعْت فَلِمَ وَقَعْت أَنْتَ؟ فَقَالَ: غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي. فَهَذَا حَالُ مَنْ عَجَزَ عَنْ شُهُودِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إذَا شَهِدَ قَلْبُهُ وُجُودَ الْخَالِقِ وَهُوَ أَمْرٌ يَعْرِضُ لِطَائِفَةِ مِنْ السَّالِكِينَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا مِنْ السُّلُوكِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ غَايَةَ السُّلُوكِ حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هُوَ الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ. وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ غَلِطُوا فِيهِ بِشُهُودِ الْقَدَرِ وَأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْ شُهُودِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْي وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ طَلَبَ رَفْعَ إنيته بِهَذَا الِاعْتِبَارِ: لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ عِبَادَةِ السِّوَى - فَهَذَا حَالُ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ وَبِخَشْيَتِهِ عَنْ خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ وَطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِالتَّوَكُّل ِ عَلَيْهِ عَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ؛ فَهَذَا تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا: أَنْ يَفْنَى عَنْ اتِّبَاعِ هَوَاهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضُ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ فَهَذَا هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ))اهـ.