بسم الله الرحمن الرحيم

المقالة الثامنة عشرة بعنوان
{مَنْ هُمْ أَهْلُ السُّنّةِ والجَمَاعَةِ}

الحمد لله الذي أنزل القرآن ومجَّدَه، وأعلى رتبته وعظَّمَه، والصلاة والسلام على من بعثه الله تعالى بالهدى وشرَّفَه، وأنزل عليه القرآن ومثله مَعَه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:

فإن مما قضاه الله كونا وقدّره، وعلمه وكتبه، وقوع الاختلاف بين الملل، بل وفي الملّة الواحدة كذلك، قال تعالى ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود/117-118]، وقد أشار النبيّ ﷺ إلى هذا الاختلاف في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه حيث قال فيه " ... فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها، من بعدي عضّوا عليها بالنّواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإن كلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"[1].

ففي هذا الحديث ذكر النبيّ ﷺ الداء وهو الاختلاف، كما ذكر الدواء وهو ملازمة سنته ﷺ وسنّة الخلفاء الراشدين عليهم الرضوان، وشدّة التمسّك بها.

وهذا المعنى جاءت نصوص أخرى كثيرة تدلّ عليه من الكتاب والسنة.

فأما الكتاب فآيات كثيرة تأمر بالأخذ بما جاء به النبيّ ﷺ، منها قوله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر/7]وقوله ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء/65] وقوله ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب/36] وقوله ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء/115]، والآيات في هذا الباب كثيرة جدا، كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أن آيات الأمر بطاعة الرسول ﷺ تزيد على الأربعين الآية.

أما ما جاء في السنة من الأحاديث في هذا المعنى، فنكتفي بذكر بعضها.

فمنها حديث " لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرّهم من خذلهم ولا خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك"، وعند مسلم " وهم ظاهرون على الناس"[2]، وكذا حديث الافتراق وجاء من طرق كثيرة، منها ما جاء عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:" إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة ـ يعني الأهواء ـ كلّها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة ..."[3] ، وجاء هذا الحديث من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ:" ليأتينّ على أمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمّه علانية لكان في أمّتي من يصنع ذلك، وأن بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين وسبعين ملّة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال:" ما أنا عليه وأصحابي"[4].

فيظهر من هذه الأحاديث أن السبيل الذي يلزم التمسّك به هو سبيل السنة والجماعة، ومن ثم جاء إطلاق العلماء لقب (أهل السنة والجماعة) وهذا من العهد الأوّل، فهو لفظ شرعيّ ولقب شرعيّ، دلّت عليه النصوص من الكتاب عموما ومن السنة كذلك تنصيصا، وهذا كاف في تقديمه على غيره من الألقاب التي تسمّى بها أصحابها، انتسابا لأمور معيّنة، تختلف من حال لآخر.

وإذ الأمر كذلك، وهو أن هذا اللقب شرعيّ، قد نصّ عليه، فلا شكّ أن معناه مضمّن في النصوص بلا شكّ ولا ريب، ولذلك فمعرفة من هم أهل السنة والجماعة مربوط بمعرفة كلٍّ من معنى السنة، ومعنى الجماعة، وإنما يعرف هذا باستقراء نصوص الكتاب والسنة.

أما السنة فمعناها اللغوي هو الطريقة والعادة، أما في الشرع فجاءت بالمعنى اللغوي كما جاءت بمعنى شرعيٍّ كذلك، قال تعالى ﴿ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ [الإسراء/77] وقال تعالى ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح /23]فهنا المراد هو الطريقة والعادة، وفي الحديث " فمن رغب عن سنتي فليس منّي" أي عن طريقتي.

والطريقة هنا يدخل فيها المعنى الشرعي ولا بد.

والمعنى الشرعي له اعتبارات، فعند علماء العقيدة يقولون السنة هي ما كان عليه النبيّ ﷺ وما كان عليه الصحابة الكرام من بعده.

وعند أهل الحديث ما أضيف للنبيّ ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو ما همّ بفعله أو صفة خَلقية أو خُلُقية أو سيرة، وعند أهل الأصول ما أضيف للنبيّ ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، وعند الفقهاء ما ليس فرضا ولا واجبا.

فهذا في الجملة إطلاقات السنة عند العلماء، ومن خلال هذه التعاريف نجد أن معنى السنة يدور حول الطريقة والمسلك والسّبيل والمنهج الذي ساره النبيّ ﷺ، وذلك يشمل الطريقة العامة والخاصّة، فالخاصّة ما ورد في المسائل المعيّنة، فيقال السنة في المسألة الفلانية كذا، وأما المعنى العام فهو الطريقة والسّبيل في العقائد والأحكام، وهذا ـ أي المنهج والسبيل ـ يعرف بالاستقراء، و ذلك بالأخذ بما ذكره الصحابة الكرام عليهم الرضوان، وكذا بما نصّ عليه أئمة الإسلام الذين عرفوا بالاستقراء والتمسّك بالسنة، ولما كان المعنى العام يشمل المعنى الخاص، لأنه الأخذ بطريقة النبيّ ﷺ وما كان عليه أصحابه عليهم الرضوان، لما كان الأمر كذلك، نجد أن العلماء يذكرون هذا المعنى العام في كتب العقائد لضرورته وأهمّيّته، ولقوله ﷺ :"من رغب عن سنّتي فليس منّي"[5].

وأما معنى الجماعة، فهو من الاجتماع ضد الفرقة، يقال للقوم المجتمعين: جماعة، وأما المراد بها شرعا، فقد ذكر لها العلماء عدّة تعريفات، حاصلها يجتمع في أمرين، زهما:
ـ الجماعة هم الذين اجتمعوا على إمام على مقتضى الشريعة.

ـ الجماعة هم الذين على الحق من موافقة الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، سواء قلّوا أم كثروا.

والملحظ الذي يجب ملاحظته هنا هو أن السنة ملازمة للجماعة، كما أن الجماعة ملازمة للسنة، ولذلك قال الطحاويّ: [ ونرى الجماعة حقا وصوابا والفرقة زيغا وعذابا]، وسئل شيخنا عبد المحسن العباد في شرحه على سنن أبي داود على صحة مقولةالسلفيون في هذا الزمان هم أهل سنة ولبسوا أهل جماعة لأنهم من أشدّ الناس تفرّقا) فقال :[ هذا كلام متناقض؛ لأن أهل السنة هم الجماعة، والسنة والجماعة متلازمتان، وكتب العقائد فيها عقيدة أهل السنة والجماعة، مثل العقيدة الطحاوية، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل: من يا رسول الله؟ قال: الجماعة) وفي لفظ: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي).
فقوله: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) يدل على اتباع السنة، واتباع ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصفهم بأنهم جماعة ثم كونه يقول: إنهم أهل سنة وإنهم ليسوا جماعة هذا كلام غير صحيح؛ لأن أهل السنة هم الجماعة، والجماعة وأهل السنة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ كل هذه الصفات لفرقة واحدة، وهم من هم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكونه يصير هناك شيء من الاختلاف والتنافر لأمور دنيوية أو لأمور أخرى هذا لا يؤثر على الاتفاق في العقيدة وعلى ما كان عليه سلف الأمة، فإذا وجد شيء من ذلك لا يقال: إن هذا يقتضي أن يفرق بين السنة والجماعة، وأن السنة شيء والجماعة شيء، بل أهل السنة هم الجماعة، والجماعة هم أهل السنة، وعقائد أهل السنة فيها ذكر السنة والجماعة معاً فلا يقال: إن هذا شيء وهذا شيء آخر
].
وبهذا يتبيّن أن حقيقة أهل السنة والجماعة هم سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين الذين اجتمعوا على الحقّ الصريح من الكتاب والسنة[6]، وهم كما قال أبو شامة: [ حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد الحقّ واتّباعه، وإن كان المتمسّك بالحقّ قليلا والمخالف كثيرا، لأن الحقّ الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبيّ ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم][7]. قال مالك :[ أهل السنة ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا قدري ولا رافضي][8]
قال ابن حزم:[ أهل السّنة الَّذين نذكرهم أهل الْحق وَمن عداهم فَأهل الْبِدْعَة فَإِنَّهُم الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وكل من سلك نهجهم من خِيَار التَّابِعين رَحْمَة الله عَلَيْهِم ثمَّ أَصْحَاب الحَدِيث وَمن اتبعهم من الْفُقَهَاء جيلاً فجيلاً إِلَى يَوْمنَا هَذَا أَو من اقْتدى بهم من الْعَوام فِي شَرق الأَرْض وغربها رَحْمَة الله عَلَيْهِم][9].
وقال ابن الجوزي:[ فصل: فَإِن قَالَ قائل قد مدحت السنة وذممت الْبِدْعَة فما السنة وما الْبِدْعَة فانا نرى أن كل مبتدع فِي زعمنا يزعم أنه من أهل السنة2 فالجواب أن السنة فِي اللغة الطريق ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآثار أصحابه هم أهل السنة لأنهم عَلَى تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه][10].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فَمَنْ قَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ][11]. ثم ذكر رحمه الله تعالى وسطية أهل السنة والجماعة في بعض أبواب الدين، ثو قال: [وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ " أَبْوَابِ السُّنَّةِ " هُمْ وَسَطٌ، لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ][12].وهذا فيه تعريف لأهل السنة والجماعة.

من خلال النصوص التي أوردناها، وما سقناه من كلام العلماء يظهر جليا أن المراد من أهل السنة والجماعة هو ما كان عليه النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال والاجتماع على ذلك، فهو في الحقيقة دين الإسلام الذي جاء به النبي ﷺ، وعليه فهو قديم مرتبط ببداية هذا الدين، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف، قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة، فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم][13]. ويبيّن كذلك رحمه الله تعالى أن ما اشتهر به الإمام أحمد من أنه إمام أهل السنة والجماعة، ليس لأنه جاء بأمر جديد، بل أهل السنة والجماعة نشأتها مع البعثة المحمدية، إذ حقيقتها ما كان عليه النبي ﷺ والصحابة الكرام عليهم الرضوان، ولذلك قال: [وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتُهِرَ بِإِمَامَةِ السُّنَّةِ وَالصَّبْرِ فِي الْمِحْنَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِقَوْلٍ أَوِ ابْتَدَعَ قَوْلًا، بَلْ لِأَنَّ السُّنَّةَ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً مَعْرُوفَةً قَبْلَهُ عَلِمَهَا وَدَعَا إِلَيْهَا وَصَبَرَ عَلَى مَنِ امْتَحَنَهُ لِيُفَارِقَهَا، وَكَانَ الْأَئِمَّةُ قَبْلَهُ قَدْ مَاتُوا قَبْلَ الْمِحْنَةِ...][14] ، وقال كذلك: [ ... وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مَا زَالُوا يَعْرِفُونَ فَسَادَ مَذْهَبِ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّة ِ وَالْجَهْمِيَّة ِ وَالْمُرْجِئَةِ ، وَلَكِنْ بِسَبَبِ الْمِحْنَةِ كَثُرَ الْكَلَامُ، وَرَفَعَ اللَّهُ قَدْرَ هَذَا الْإِمَامِ، فَصَارَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَعَلَمًا مِنْ أَعْلَامِهَا لِقِيَامِهِ بِإِعْلَامِهَا وَإِظْهَارِهَا، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى نُصُوصِهَا وَآثَارِهَا، وَبَيَانِهِ لِخَفِيِّ أَسْرَارِهَا، لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَ مَقَالَةً أَوِ ابْتَدَعَ رَأْيًا. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَغْرِب: الْمَذْهَبُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَالظُّهُورُ لِأَحْمَدَ ; يَعْنِي أَنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ مَذْهَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ، ...][15].

فتأمّل رحمك الله تعالى هذه التسمية، تجدها دالة على الإسلام، إذ هي تسمية قد نص عليها في النصوص إما تصريحا أو تلويحا، وقد سبق سرد بعض منها، وبذلك فهي تخالف غيرها من التسميات التي تنسب لأشخاص أو ألقاب أو صفات وأحوال وغيرها، فأين هذه التسميات من التسميّ بأهل السنة والجماعة، هذا الاسم الذي ذكرته النصوص.

وقد يقول قائل: أليس قد قال مالك أهل السنة ليس لهم لقب يعرفون به
فالجواب: بلى، هو كما قال رحمه الله تعالى، لكن هو نفسه في جوابه قد سمّاهم بأهل السنة، ثم هذه التسمية قد جاءت بها نصوص، لا يماري في ذلك إلا معاند.

وأمر آخر يفهم من الحديث، ألا وهو أن الأحاديث جاء فيها ذكر هذه التسمية عند معرض الكلام على الاختلاف الذي يقع في هذه الملة، وما هو السبيل الذي يجب التمسك به للنجاة من الهلاك، ولذلك انتشر ذكر هذا اللقب لما وقع هذا الاختلاف، كما سبقت الإشارة إليه عند نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

أما غير أهل السنة فتجدهم ينتسبون إلى الجهمية أو الكرامية أو الكلابية أو الأشعرية أو المعتزلة أو غير ذلك من التسميات. فهل جاءت هذه في النصوص، وكيف يترك ما جاء النص عليه إلى غيره.

وهذه التسميات تنسب لأصحابها، وقد كانت بعد الأئمة المشهورين بالسنة والجماعة، فلم لم يبقوا على التسمية التي كانت من قبل؟ بل تسمّوا بغيرها، هل هم موافقون لمن قبلهم؟ إن كانوا كذلك كان يكفيهم البقاء على تسمية من قبلهم، ففيها غنية وكفاية، أم أنهم مخالفون لمن قبلهم، فما الذي كان عليه من قبلهم؟ أعلى السنة أم على البدعة؟ إن كانوا على السنة، فهؤلاء على البدعة، وإن قالوا: بل كانوا على البدعة، فهذا لا يقوله إلا مخالف للسنة مبتدع، لأن الجميع يتفق على أن الرّعيل الأول كانوا على السنة، ثم نقول لهم: كان يكفيكم أن تتسمّوا بالسنة، التي تدّعونها، ولا حاجة لتسمية غير منصوص عليها.

والحاصل أن أهل السنة والجماعة هم من كان على مثل ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه عليهم الرضوان، ومن تبعهم بإحسان من السلف الصالح من عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم وأتباعهم وهلمّ جرّا، وأما غيرهم فقد رضوا لأنفسهم الانتساب لغير ما أمر به النبي ﷺ أن ننتسب إليه، ألا وهي السنة والجماعة، والأحاديث في ذلك صريحة.

وليس ينفع الواحد أن يدّعي أنه من أهل السنة والجماعة، ثم هو لا يسير على طريقهم، فالدعوى لا بد لها من بيّنة، كما قيل:
والدّعاوى إن لم تقيموا عليها *** بيّنات فأصحابها أدعياء

هذا ما أردت تحريره في هذه العجالة، وإن كان هذا الموضوع البحث فيه يطول، لكن فيما ذكرته ما يكفي، ومن طلب الحق يجد فيه ما يشفي، والله تعالى أسأل الإصابة فيما كتبه كفّي، وما كان من خطأ فليوفّه من وجده بميزان يفي.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.

كتبه بيده الفقير إلى عفو ربّه وجميل ستره
أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر بن خدة

آخره ليلة الإثنين الثاني محرم من عام ثمان وثلاثين بعد الأربعمئة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
الموافق 2016/10/03.

****************************** *****************

[1] رواه أحمد (4/126 ـ 127) ومن طريقه أبو داود(5/192 ـ 193 رقم 4599) والترمذي (4/408 رقم 2676)، وقال الترمذي: [ هذا حديث حسن صحيح]، وللحديث طرق يصحّ بها.
[2] رواه البخاري [ كتاب المناقب ـ باب 28] (رقم 3641) ومسلم [كتاب الإمارة ـ باب قوله ﷺ "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم" [رقم(174) 1037]، واللفظ للبخاري.
[3] رواه أحمد (4/101) ومن طريقه أبوداود [ أوّل كتاب السنة ـ شرح السنة ] (7/6 رقم 4597) والحاكم [ كتاب العلم 1/218 رقم 443]، وقال: [ هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث] ووافقه الإمام الذهبي، وقد صحّحه جمع من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير والحافظ العراقي والحافظ ابن حجر ، وغيرهم، وانظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/1/404 رقم 204).
[4] رواه الترمذي [ كتاب الإيمان ـ باب افتراق هذه الأمة] (4/586 رقم 2832) وقال : [ هذا حديث حسن غريب مفسّر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه]، ورواه الحاكم [ كتاب العلم 1/218 ـ 219 رقم 444]، وقال: [ لا تقوم به الحجة]، وذلك من أجل عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، فهو ضعيف في حفظه كما في التقريب، ولهذه الرواية شاهد من طريق وهب بن بقية عن عبد الله بن سفيان عن يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه نحوه، رواه الطبراني في معجمه "الصغير " (1/256) و"الأوسط" (8/408 ـ 409 رقم 7836) ومن طريقه الضياء في "الأحاديث المختارة" (7/277)، ورواه كذلك بحشل في "تاريخ واسط" (196)، وفي سنده عبد الله بن سفيان الواسطي، قال العقيلي: [عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ سُفْيَانَ الْخُزَاعِيُّ وَاسِطِيٌّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَلَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ ] ثم أسند الحديث وقال: [ لَيْسَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَصْلٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَدِيثِ الْأَفْرِيقِيِّ حَدَّثَنَاهُ ...] ثم أسنده. والحديث حسنه الترمذي كما سبق نقل كلامه، وذكره غير واحد من أهل العلم محتجا به، مما يدل على ثبوته عندهم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع، وحسنه الشيخ الألباني " صحيح سنن الترمذي" (3/ 53 ـ 54)، وانظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/1/407) و(3/334 ـ 335 رقم 1348). والحديث من حيث المعنى له ما يشهد له في جملة من النصوص النبوية، ولذلك اعتمده الأئمة فيذكرونه اعتمادا في كتب الاعتقاد في باب الأمر بالالتزام بالسنة والجماعة، انظر لذلك "كتاب الشريعة" للإمام الآجرّي (1/307 ـ 309) وغيره.
[5] رواه البخاري (رقم 5063) ومسلم (رقم1401).
[6] "شرح الواسطية للشيخ الهراس (61).
[7] " الباعث على إنكار البدع والحوادث" (22).
[8] "الانتقاء في فضل الثلاثة الأئمة الفقهاء" (72).
[9] "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (2/90).
[10] "تلبيس إبليس" (17).
[11] "مجموع الفتاوى"(3/346).
[12] "مجموع الفتاوى"(3/375).
[13] "منهاج السنة النبوية" (2/601).
[14] " منهاج السنة" (2/ 601 ـ 602).
[15] " منهاج السنة" (2/ 605 ـ 606).