دعوة جادة للحفاظ على الوقت لكل صادق
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنَّ مما يتفطَّرُ له قلبُ المؤمنِ وتتحسرُ له نفسهُ، أن يرى كثيرًا من الخلق قد شُغلوا عَمَّا هُيُؤا له، وتَنافسوا فيما وُعِدوا به، وضاعتْ عنهم أكثرُ أنفاسهم فيما لا نفعَ فيه، خاصةً إذا وافق هذا الوصفُ المريرُ حَالَ ثُلةٍ ممن يُنسبون إلى الخير، ويُرجى منهم الصَّلاحُ والإِصلاحُ ، الَّذين يُنتظر منهم الكثير والكثير.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ ” [رواه البخاري]
قال الشَّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
” نعم، هذا حديث صحيح يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ” نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَةُ، وَالفَرَاغُ” ، يعني كثيرٌ من النَّاس تضيع صحَّتُه، وفراغه بغير فائدة، صحِيحُ الجسم، معافى في بدنه، وعنده فراغٌ، ولكنْ لا يَستعملُ ذلك فيما ينفعه، وفيما يقرِّبه من الله، وفيما ينفعه في الدُّنيا، فهذا مغبونٌ في هاتين النِّعمتين، وإنَّما ينبغي للمؤمن أن يستغلَّ هذه النِّعمة فيما يرضي الله، وفيما ينفعه كالتِّجارة، وأنواع الكسب الحلال، والاستكثار من الصَّوم والصَّلاة، والذِّكر والطَّاعات، وعيادة المرضى، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والدَّعوة إلى الله -عزَّ وجلَّ- إلى غير هذا من وجوه الخير،،
قال ابن القيم -رحمه الله في كتابه " إغاثة اللهفان ":
” فكل نَفَس من أنفاسٍ العُمر جوهرةٌ نفيسةٌ لا حظَّ لها، يمكن أن يشترى بها كنزٌ من الكنوز لا يتناهى نعيمه أَبَدَ الآباد!، فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكَهُ خسرانٌ عظيمٌ لا يَسمحُ بمثله إلاَّ أجهل النَّاس وأحمقهم وأقلُّهم عقلًا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}
وقال أيضا رحمه الله في كتابه الفوائد :
“ إضاعة الوقت أشد من الموت لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها ”انتهى
فمكمن الداء، وطريق الدواء..
أَلاَ وإنَّ مِمَّا شَاع في هذا الزَّمان، انتشار آلات قتل الأوقات والفتك به، وخاصة مِمَا عرف بما يُسمى بمواقع التَّواصل الاجتماعي (كالفيس بوك، وتويتر، واتساب،، وغيرها) حيث أضحت هذه من أضَرِّ الوسائل على شباب المسلمين حالًا ومآلًا، لتمويهها الكبير، وشرِّها المستطير خاصة على الدَّعوة والاستقامة.
فمنهم من يقضُون السَّاعات! أمام الشَّاشات ظانِّين أنهم قد أصبحوا داعاةً من دعاة الإسلام، وما علم هاؤلاء أن للدَّعوة شُروطًا -ومن أهمِّها العِلْمُ- وأولويات-ومن أهمِّها العَمَلُ- ولهَا أهلها المختَّصُون بِها العالمون بالمصالح والمفاسد وبما ينفع مما يضر، فهذا يَنشُر حديثًا ضعيفًا وذاكَ ينشر قاعدةً باطلةً، والآخر يروجُ لسلعة كاسدة..(من غير أن يشعر لفرط جهله)..
ومنهم من فتحَ في تلك الشبكاتِ مجموعاتٍ وحساباتٍ لاهم لهم فيها إلا الجِدال ـ ولو بالبَاطِل ـ ظانِّين أنَّهم بذلك أهلٌ للنَّظَر والمُناظَرة، والذَّكاءِ والمُساجلةِ، وما علم هاؤلاء أنَّهم كسابقيهم ليسوا لذلك أهلا، فبسببهم انتشرت الشبه، وتغلغلت الشكوك، وراجت البدع، وأصبح لأهلِ الباطل صوتٌ مسموعٌ..فلا هم استفادوا (أولًا) مما ينشر، ولا بلغوا دين الله بأمانة..
وآخرون (وليْسُوا بآخرهم لا كثَّرهم الله) لابُدَّ أن نذكرهُم، قومٌ خاضوا في الفتن والدِّماء، وشَجَّعُوا الأغمَار والدَّهماء، نذوقُ اليوم بسببهم ويلات الدمار، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله..
يقول الحسن البصري رحمه الله:
“أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم“
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
” ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي “.
وقال بعضهم يُوبخُ نفسه ويحثها على حفظ الوقت:
مَا بالُ قَلْبَكَ قَدْ ألْهاهُ عاجله مِنْ أمرِ دُنياه حَتَّى فَاتَ آجِلُهُ
يَا غَافِلاً وَالمنايا غِيرُ غافلةٍ هَل رَدَّ حَتْفَ امرئٍ عَنْه تَغَافُلُهُ
دُنْيَاَك والنَّفْسُ والشَّيطانُ قَدْ نَصَبُوا لَكَ الحَبَائِل فَانْظُرُ مَن تقاتِلُهُ
يَا عَالماً حُبُّه دُنْياهُ يُذهلُهُ عن رُشْدِه فَهْو بَالتَّحقِيق جاهِلُهُ
أُعْطيْتَ مُلْكَاً فَسُسْ مَا أَنْتَ مالِكُهُ مَنْ لَم يَسُسْ مُلْكَهُ فالمُلكُ قَاتِلُهُ
وَبَادِرِ العُمْرَ فَالسَّاعَاتُ تَنْهَبُهُ وَمَا انقْضَى بَعضُه لَم يَبْقَ كَامِلُهُ
ولَيْسَ يَنْفَعُ بعدَ المَوتِ عَضُّ يَدٍ مِن نَادِمٍ وَلَوَ انْبَتَّتْ أنَامِلُهُ