يقول شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله فى الفتاوى -الجزء الثامن والعشرون ص -349- أصل القتال هو جهاد الكفار، أعداء اللّه ورسوله، فكل من بلغته دعوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إلى دين اللّه الذي بعثه به فلم يستجب له؛ فإنه يجب قتاله {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] .ولأن اللّه لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلق إلى دينه، لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله، حتى هاجر إلى المدينة، فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ الحج : 39 : 41 ] ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله تعالى : {كُتِبَ عليكم الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَي أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَي أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ } [ البقرة : 216 ] .
وأكد الإيجاب، وعظم أمر الجهاد، في عامة السور المدنية، وذم التاركين له، ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب، فقال تعالى : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إليكم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] ، وقال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] . وقال تعالى : {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إليكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عليه مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَي لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ً } [ محمد : 20 - 22 ] . فهذا كثير في القرآن . وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في [ سورة الصف ] التي يقول فيها : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ إلىمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَي تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ الصف : 10 : 13 ] . وقوله تعالى : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوم الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 19 - 22 ] . وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عليمٌ } [ المائدة : 54 ] ؛ وقال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ التوبة : 120، 121 ] . فذكر ما يتولد من أعمالهم، وما يباشرونه من الأعمال .
والأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة، أكثر من أن يحصر .
ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع . كما دل عليه الكتاب والسنة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوَة سَنَامه الجهاد " ، وقال : " إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، أعدها اللّه للمجاهدين في سبيله " متفق عليه، وقال : " من اغبَرَّت قدماه في سبيل اللّه حَرَّمَه اللّه على النار " رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم : " رباط يوم وليلة في سبيل اللّه خير من صيام شهر وقيامه . وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفَتَّان " رواه مسلم، وفي السنن : " رباط يوم في سبيل اللّه، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " عينان لا تمسهما النار : عين بَكَتْ من خشية اللّه، وعين باتت تحرس في سبيل اللّه " قال الترمذي : حديث حسن . وفي مسند الإمام أحمد : " حرس ليلة في سبيل اللّه، أفضل من ألف ليلة يقام ليلها، ويصام نهارها " ، وفي الصحيحين : أن رجلا قال : يارسول اللّه، أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل اللّه ؟ قال : " لا تستطيع " . قال : أخبرني به ؟ قال : " هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر، وتقوم لا تفتر ؟ " . قال : لا . قال : " فذلك الذي يعدل الجهاد " . وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن لكل أمة سياحة، وسياحة أمتى الجهاد في سبيل اللّه " .
وهذا باب واسع، لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه .
وهو ظاهر عند الاعتبار؛ فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل من محبة اللّه تعالى والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر اللّه، وسائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر .
والقائم به من الشخص والأمة بين إحدي الحسنيين دائماً؛ إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة .
فإن الخلق لابد لهم من محيا وممات، ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما؛ فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتها، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة، وهي أفضل الميتات .
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله للّه، وأن تكون كلمة اللّه هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين . وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة، كالنساء والصبيان، والراهب، والشيخ الكبير، والأعمي، والزمن ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يري إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والصبيان؛ لكونهم مالا للمسلمين . والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين اللّه، كما قال اللّه تعالى : {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [ البقرة : 190 ] ، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم : أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه، قد وقف عليها الناس . فقال : " ما كانت هذه لتقاتل " ، وقال لأحدهم : " الحق خالداً فقل له : لا تقتلوا ذرية ولا عَسِيفاً " . وفيها أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " لا تقتلوا شيخاً فانياً،ولا طفلا صغيراً، ولا امرأة " .
وذلك أن اللّه تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى : {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [ البقرة : 217 ] أي : أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه؛ ولهذا قال الفقهاء : إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، يعاقب بما لا يعاقب به الساكت .
وجاء في الحديث : " إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضَرَّت العامة " .
ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أسر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال، مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة، فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله، أو استعباده، أو المن عليه، أو مفاداته، بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة،