قواعد في علم المناسبات للشيخ جمال القرش
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى أله وأصحابه أجمعين ، أما بعد
إن من يتأمل خصائص المؤمنين والعاصين في هذه السور يلاحظ أن هذه السورة دارت بين الترغيب والترهيب ولكن الترهيب أشد وأكثر لمناسبة الفئة المخاطبة فهي آيات مكية ، وقد خوطب أناس أكثرهم كفار معاندون مستكبرون فكان الردع والترهيب هو الغالب والأنسب لهم، ولتخويفهم وزجرهم عن كفرهم وعنادهم .
أولا : خصائص أهل الإيمان في هذه السور
من يدقق النظر في ترتيب السور ومناسبة السياق لا يملك إلا أن يقول : إنا سمعنا قرأنا عجبا فيلاحظ أن هناك تدرج في الطرح، وتشويق وتحفيز وبداية ونهاية ، وكأن هذه السور قصة واحدة ، فسبحان من هذا كلامه ، أصدق القائلين: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً النساء82)، وقال سبحانه : (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً الإسراء88
وكان عملي في هذا المبحث كما يلي
تفسير السورة المذكورة من كتب التفاسير المطولة
دراسة المناسبات بين السور المذكورة
دراسة الرابط بين أخر السورة وأولها
دراسة المناسبة بين أخر السورة وما بعدها
دراسة المناسبة بين أخر الوحدات الموضوعية وما بعدها
دراسة المناسبات بين القسم وجوابه
حصر الآيات التي تخص المؤمنين
حصر الآيات التي تخص العصاة الفجار
دراسة المناسبات بين كل فريق وعلاقة كل موضع بالأخر
وكان المرجع في ذلك كتب التفاسير المطولة المعروفة، وعلم المناسبات وترتيب السورة ، وعلوم القرآن ، وبعض البرامج الفضائية كالتفسير المباشر للفاضل الدكتور عبد الرحمن الشهري، والدكتور مساعد الطيار ، وغيرهم ودروس الدكتور / خالد السبت، ود ، فاضل السمرائي، وكتاب بهجة القراء في حفظ القرآن على منهج السلف إشراف / د سليمان عبد الله أبا الخيل وتأليف نخبة من أعضاء هئية التدريس وغيرهم.
وقد لخصت هذا المبحث من كتابي فيض الكريم في تدبر القرآن العظيم .
ولم أرغب أن أطيل في هذا المقام ، وإنما رغبت الاختصار ، وبيان الخلاصة بأسلوب ميسر بعد تأمل وتدقيق واطلاع .
سائلا الله تعالى أن يجعل ذلك في رضاه ، وأن ينفع به أهل القرآن ، فإن احسنت فمن الله وحده ، المتفضل المنعم ، وإن قصرت فمن نفسير المقصرة والشيطان ، وأخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين وكتبه أخوكم جمال القرش الرياض / غرة ذي الحجة 1437 هـ
لنوع الأول : المناسبات بين أخر السورة وأول السورة التي بعدها
القاعدة الأولى: أن يذكر في نهاية سورة فعل ثم يبين عاقبة فاعلة في السورة التي تليها.
مثال ذلك : ما ذكر في آخر سورة المرسلات أنه لا مجال للإيمان بدون القرآن قوله :[ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ]المرسلات50 أي : فبأي كلام بعد كلام الله يؤمنون ، لن يؤمنوا. ثم جاءت سورة النبأ لتهدد هؤلاء المكذبون، بقوله :( كلا سيعلمون)، أي سيعلمون عاقبة تكذيبهم بالقرآن والبعث.
القاعدة الثانية : أن يذكر في نهاية سورة صفة مرغوب فيها بإيجاز ثم يوضحها في السورة التي تليها :
مثال ذلك : ما ذكر في سورة النازعات أنه لن ينتفع بالذكرى إلا من يخشى العاقبة إذا الصفة المرغوب فيها هو أن يكون صاحب خشية . قال تعالى : إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا(45) ثم يبين في بداية السورة التي تليها سورة عبس خصائص من رغب في التذكرة وهو السعي والرغبة والحرص والحضور إليها لا مجرد تمني ، فأعطي نموذجا لذلك وهو عبد الله بن أم مكتوم الذي عاتبه الله بشأنه في قوله عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)وَم ا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)
النوع الثاني: المناسبة بين السورة نفسها.
القاعدة الأولى : أن يذكر الجزاء بإيجاز ثم يوضح ذلك الجزاء في نفس السورة
مثال ذلك : تهديد المكذب في بداية سورة النبأ ، بدون ذكر العاقبة ،
قال تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ(1 )عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ(2)الّ ذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ(3) َلَّا سَيَعْلَمُونَ(4) ُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(5) ثم جاء بعدها في نفس سورة النبأ بيان عاقبة تكذبيهم وهو جزاء الطاغين . قال تعالى : إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا(21)لِل طَّاغِينَ مَآبًا(22)لَابِثِ ينَ فِيهَا أَحْقَابًا(23)لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا(24)إِلَّ ا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا(25)جَ زَاءً وِفَاقًا(26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا(27)وَكَذ َّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا(28)وَكُ لَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا(29)فَذُو قُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا(30)
القاعدة الثانية : أن بين أن الجزاء من جنس العمل في نفس السورة
النموذج الأول: في سورة المطففين : ذكر ما يفعله المجرمون من السخرية بالمؤمنين قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29)وَ إِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(3 0)وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ(31)وَإِ ذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ(32)وَ مَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ(33)
وفي آخر سورة المطففين كان الجزاء من جنس العمل ضحك المؤمنون من الكفار قال تعالى : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)عَ لَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ(35)
النموذج الثاني : لما كان المطففون يغشون الناس ويضيقون عليهم معاشهم ويظلمونهم كما ذكر في بداية المطففين : ( ويل للمطففين * ... إلخ ) كان الجزاء في نفس السورة أن يكون كتابهم في سجين مكان ضيق أسفل الأرض قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ(7)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ(8)كِتَا ٌ مَرْقُومٌ(9)وَيْ ٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين َ(10)الَّذِي نَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(11)
النموذج الثالث: لما استغني المكذب بوجه عن ثواب الله وأعرض عن التذكرة ، قال تعالى: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى(5)فَأ نْتَ لَهُ تَصَدَّى(6) سورة عبس
جاء في نهاية نفس السورة ما ينتظر هؤلاء من سواد وجوههم كما كانوا في الدنيا عندما يتلى عليهم آيات الله تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر، فكان الجزء من جنس العمل قال تعالى:وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40)تَرْه َقُهَا قَتَرَةٌ(41)أُولَ ئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)
القاعدة الثالثة : الترهيب ثم الترغيب في نفس السورة
النموذج الأول : في سورة النبأ لما كان المخاطبون هم كفار ومعاندون بدأ بالترهيب قال تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا(21)لِل طَّاغِينَ مَآبًا(22 ... إلخ ثم رغب بعد ذلك في المقابل بذكر جزاء المتقين : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا(31)حَدَا ئِقَ وَأَعْنَابًا(32(
النموذج الثاني : في سورة النازعات لما كان المخاطبون هم كفار ومعاندون بدأ بالترهيب قال تعالى : (فَأَمَّا مَن طَغَى37 وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا38 فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى39... إلخ ثم رغب بعد ذلك في المقابل بذكر جزاء من خاف مقام ربه : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى40 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى41
النموذج الثالث : في سورة المطففين لما كان المخاطبون هم كفار ومعاندون بدأ بالترهيب قال تعالى : (َكلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ7 وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ8 كِتَابٌ مَّرْقُومٌ9 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ10 ا ..إلخ ثم رغب بعد ذلك في المقابل بذكر جزاء الأبرار : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ18 وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ19 كِتَابٌ مَّرْقُومٌ20 يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ 21 إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ22 عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ23 تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ24 .. إلخ
القاعدة الرابعة : الترغيب ثم الترهيب في نفس السورة
النموذج الأول : في سورة عبس لما كان المخاطب في بداية السورة هم من ينتفع بالتذكرة والكلام عن عبد الله ابن أم مكتوم ناسب أن يبدأ بالترغيب قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ38 ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ 39 ثم الترهيب بعد ذلك في المقابل للمعرض عن التذكرة المستغنى عنها : (َوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ40 تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ41 أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ42 )
النموذج الثاني : في سورة الانفطار لما كان المخاطب هم عموم الناس وبعد ذكر أهوال القيامة علمت نفس أي كل نفس ما قدمت وأخرت بدأ بالترغيب بذكر جزاء الأبرار قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ13 ثم الترهيب بذكر جزاء الفجار : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ14 يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ15
النموذج الثالث : في سورة الانشقاق لما كان المخاطب هم عموم الناس وبعد ذكر أهوال القيامة في قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ6 بدأ بالترغيب بذكر أهل اليمين قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ7فَس وْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً8 وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً9 ثم الترهيب بذكر أهل الشمال : (َأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ10 فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً11 وَيَصْلَى سَعِيراً12 إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً13 إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ14
النوع الثالث: المناسبة بين أول السورة وأخرها
القاعدة الأولى : أن يذكر تهديدا ووعيدا في بداية السورة ثم يذكر العاقبة في نهاية السورة
النموذج الأول: تهديد المكذب في بداية سورة النبأ ، بدون ذكر العاقبة ،
في قوله : كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(4) ُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(5) ثم يذكر في نهاية السورة حالته يوم القيامة عندما يرى عاقبة عمله وتكذيبه ( ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا )
النموذج الثاني: تهديد المكذب في بداية سورة النازعات يما ينتظره عند موته في قوله : ( والنازعات غرقا) ، ثم يذكر في نهاية السورة عندما يرى عاقبة عمله من الندم والحسرة ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها)
النموذج الثالث: تهديد الكافر الذي لا يرغب في التذكرة في سورة عبس بأنه مستغنى عن ثواب الله في قوله : ( أما من استغنى فأنت له تصدى) ، ثم يذكر في نهاية السورة عقابهم بقوله تعالى ( ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ) .
النموذج الرابع: تهديد المطففين في بداية سورة المطففين في قوله : ( ويل للمطففين) ، ثم يذكر في نهاية السورة تقريرا لعقابهم بقوله تعالى ( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) .
القاعدة الثانية: أن يذكر الأهوال في بداية السورة ثم يبين في نهاية السورة رسالة العمل
النموذج الأول: في سورة التكوير ذكر أهول القيامة ، من قوله تعالى : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)......... إلى قوله تعالى (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ(13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14( .
والرسالة : أن هذه الجنة التي أزلفت لن تصلوا إليها إلا بمعونة الله وتوفيقه، فاعتصموا بالله وحده هو مولاكم نعم المولى ونعم النصير قال تعالى : ( لمن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ28 وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ29
النموذج الثاني: في سورة الانفطار في قوله : (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ1 وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ2 وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ3 وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ4 عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ5 )
والرسالة في نهاية السورة هو الاستعداد لهذا اليوم الذي لا ينفع أحد ، فاعتصموا بالله وحده هو مولاكم نعم المولى ونعم النصير أحدا بقوله تعالى ( يوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ19
اوأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،
المبحث من كتاب / فيض الكريم في تدبر القرآن الكريم ، جمال القرش
تابع إكمال الموضوع على الرابط التالي :
http://vb.tafsir.net/tafsir48774/#.V88JStQrLeE